بلاغــــة الصمت د. مصطفى الشاوي أستاذ النقد الحديث مكناس/المغرب
قراءة في ديوان"حين يهدأ الصمت" للشاعر عباس باني المالكي
يحظى الشاعر عباس باني المالكي بمكانة أثيرةبين الشعراء العراقيين، لما يتميز به شعره من عمق ورصانة وتأمل وتوقع، مقارنة بماهو سائد. وقد اختير الشاعر إلى جانب ست شعراء عراقيين ضمن ما سمي ب"جماعةوثيقة في الهواء" و هي حركة مناهضة ورافضة للسائد الشعري المبتذل،و حركة تمثل أحدث تفريعات الشعرية العراقية، وتسعى لطرح البديل الرافض للواقع الثقافي الراهن.
كما اختيرت للشاعر عباس باني المالكي ثلاث قصائد شعرية ضمن أضخم أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر صدرت باللغة الإنجليزيةوتحمل إسم "قلائد الذهب الشعرية" احتوت على 420 قصيدة من مختلف البلدان ومن أجيال مختلفة لأشهر الشعراء العرب التي من المتوقع ترجمتها إلى عدة لغات أجنبية.
بين أيدينا ديوان للشاعر يحمل عنوان"حين يهدا الصمت" الصادر سنة 2008 عن دار الكتب، ديوان يتصفحه القارئ ليقف عند جملة مؤشرات يوظفها الغلاف تساعده على بناء وتأسيس توقع افتراضي يتخذه القارئ منطلقا ليشيد من خلاله وفي مستهل قراءته أهم الأسئلةالتي تطرحها قراءة الإضمامة الشعرية على مستويات مختلفة. من ذلك مثلا اللون الأسود، الذي يخيم على الغلاف، وهو لون مرادف لليل الذي قد يوحي بالتأمل والتفكروالتدبر والرفض والغضب والمعاناة، وقد يؤشر على الكتابة باعتبارها سوداء تقتحم غياهب النفس وأغوارها المظلمة، وباعتبار السواد نطقا والبياض صمتا، بيد أن سوادالكتابة يأخذ معناه في ضوء البياض فإذا كان سواد الليل يدعو إلى التأمل لانتشارالسكينة ولعموم الصمت فإن عنوان المجموعة الشعرية يجعل الصمت يهدأ ليصبح صمتا مننوع خاص وليعمق الإنزياح في متوالية العنوان، فالصمت هدوء أصلا، وهدوء الصمت صمت مضاعف،وحين يهدأ الصمت تتجلى شعرية المخبوء، عن طريق التأمل العميق، والتفكر الرصين،والاستبطان الذاتي، حيث تكشف الرؤيا عن تجليات حقائق الذات الشاعرة، وعن عوالمهاالخفية.
تهتكاللوحة التشكيلية صمت فضاء سواد الغلاف وتكشف عن بعض تجليات الرؤيا الفكريةوالفنية والجمالية التي من المفترض أن تبلورها نصوص الديوان، الثمانية والعشرون،حيث يتراءى جسد رجل، واقفا مجرد الثياب، ملامحه غير واضحة، يمتطي زورقا. وفي أعلى اللوحة ورقة شجر التوت وأشكال هندسية توحي بأن اللوحة متشظية في حاجة إلى إعادةالتشكيل كما هو شأن النصوص الشعرية وكما هو الواقع المرفوض الذي ترتضي نصوصالديوان غيره بديلا وتتوق الذات إلى معانقته بوسائط مختلفة، فاللوحة توظف عدةرموز(المركب، الرجل المجرد، ورقة شجر التوت، شظايا مرآة، باب مشرع..) كل هذهالعناصر التي تبدو صامتة تنم عن الرؤيا التي قد يعكسها الديوان بأبعادها الفكريةالمختلفة.
وبناءاعلى هذه الإشارات سنعمد، في هذه القراءة، إلى رصد تجليات الرؤيا الفنية من حيثعلاقتها بالتجربة الذاتية للشاعر وباللحظات التي تعيشها، أهمها؛ لحظة الصمت
ولحظة السفر ولحظة الحلم، بأبعادهاالدلالية والإيحائية والرمزية التي تبلورها نصوص الديوان في العلاقة الجدلية بين عالم الذات وعالم الواقع وعالم الآخر.
1- عالم الذات :
تجسد الذات الشاعرةوعيا عميقا بما يدور حولها من أحداث، ذات تصدر عن رؤيا فلسفية للوجود وتمتلك القدرة والجرأة على تفسير كل ما يجري حولها، وهي لا تشخص هذا الواقع كما هو كائن فحسب وإنما تستوعبه ثم تتجاوزه كي تسعى إلى تحويله إلى عالم بديل عالم الحلم بكل تجليات وتمظهراته، .
لذا فإن استعمالالشاعر لضمير المتكلم لا يعني مطلقا أن النصوص الشعرية للديوان تصدر عن رؤيةعاطفية أو ذاتية عابرة، كما ينسحب ذلك على كثير من التجارب الشعرية الحديثة، بقدرما يصدر الشاعر عباس باني المالكي عن وعي فكري عميق يستوعب مفارقات العالم من حوله، وفق منظور نقدي عميقلواقع مختل ( حروب، فقر، غدر، كراهية، ضغائن،...) واقع يتبرأ منه الشاعر ويعلن عدم انتسابه له ويبتغي غيره بديلا؛ أنا ليس من هذا العالم/ كي أنتحر/ أنت لحظة/ أبحث عنها/ سأكون لك أبدا/ حتىلو كنت/ لي حلما لا أعرفه "مطرالانتظار" ص59. وهكذا تتبلور الرؤيااستنادا إلى حالات تنخرط فيها الذات بوعي منها، من أجل إعادة ترتيب أوراق الواقع وفق ما ينبغي أن يكون والقبض على الحقيقة لإعادة تشكيل هذا العالم من جديد.
ويسند الشاعر ضميرالمتكلم في الغالب لعناصر ومخلوقات كونية وينطق بلسان حالها على سبيل المجاز إذيحصل نوع من الإبدال والحلول بين الذات والماء، يقول الشاعر: أنا الماء، "أسرة الكف" ص 71 ، وبين الذات والبحر يقول أيضا: أنا البحر، "هروب من التهمة" ص 113، فإذا كان الماء رمز الحياة فإن البحر رمز العطاء يوحي بأشياء كثيرةومتناقضة من قبيل السكون والغضب، وتختزل الذات الشاعرة كينونتها في قولها؛ أنالحظة طين، "قيامة الماء" ص109، وهكذا، فإذا كان الطين يحيل على أصل الإنسان فإنالشاعر يختزل زمن وجوده في لحظة، ولنا أن نلاحظ جمالية الملفوظ الشعري وعمقهالتصويري، وفي حسن تركيب الطرف الثاني من الصورة (لحظة طين) لنستشف دقة التصويراللغوي وعمقه. ويستمر الشاعر في الكشف عن الذات التي تشكل جزءا من الكل إذ لا نشازولا تنافر بين الذات والهواء بين الذات والعالم بين الذات والله، يقول الشاعر:
أنا جزء منوجهي وجهي جزء من الهواء الهواء جزء من العالم العالم جزء من الله "المغادرة" ص 88
هكذا يحصل نوع من الانصهار والتوحد والتكامل بين الذاتوالوجه وبين الوجه والهواء وبين الهواء والعالم وبين العالم والله. في وحدة وجودالكائنات التي تجعل الذات تتراءى في كل المخلوقات التي خلقها الله عز وجل لأنها ذات نبيلة متعالية عن نقائص الواقع الذي ترفضه لأنه لا يحقق أحلامها ورؤاهاالبعيدة. فهلبعد هذا يستطيع القارئ أن يدعي بأن الرؤيا الشعرية ذاتية أوعاطفية معتمدا في ذلك على بعضالمؤشرات اللسانية وبعض الموضوعات المستحضرة في الديوان، وخاصة موضوع الحبيب ؟ لاشك أن قارئ الديوان يهتدي إلى أن الشاعر يتناول موضوع الحبيب كتعويض عن الإحساس باليأس نحو واقع منفك متخم بالحروب والمآسي والخيبات.
2-عالم الحــلم:
يجسد الحلم الواقع الآخر الذي يرتضيه الشاعر والذي يظل دوما حلما قصيالتحقيق، فتغدو الحياة بماضيها وحاضرها ومستشرفها حلما تسعى الذات الشاعرة إلى أنتعيشه، ولو على سبيل التذكر، ذات لا تعيش حاضرها، ولا يد لها فيما يحصل، بل إنهاعاجزة أمام واقع مختل تتبرأ منه عن وعي، وتعيش الهامش والإقصاء خارج الزمنوالتاريخ. وتسكن الأحلام الشاعر فيصبح مهووسا بها وبما ينبغي أن يكون فتغدو الذاتفي حالة عجز مطلق رغم إقرار الشاعر المبدئي برجولته، لكن الأحلام تسرق حاضره،والماضي يكبله، و ينفلت الحاضر عن زمنه الآني ليصبح ماضيا في عالم الروح يبحث عنلغة السديم :
أنا رجلتسرقه الأحلام لا أخذ إلا ما مضى وأمضي وحين أبحث عن ما فيَ أجده قد مضى إلىحلم تركته في ليل دون غطاء يبحثعن لغة السديم في روحي "طرق التعلم"ص13
تتراءى للشاعر بعض تجليات الرؤيا من خلالتأمله في سيرورة الحياة، ففي قصيدة "تجليات" يقيم الشاعر توليفا محكمابين عنصرين أساسين في القصيدة الأنهار والبحر، حيث ترمز الأنهار إلى سيرورة الزمنالتي تستحضر وتؤرخ كل شيء من البداية إلى النهاية، إذ أن الأنهار التي يرمز بها الشاعرإلى الحياة تحمل معها كل ما تجده في طريقها ولا تستثني شيئا، صغيرا كان أو كبيرا،كسجل التاريخ الذي يحصي كل الأحداث التي يعيشها الواقع وتمر على نهر الزمن. الأنهار تؤرخ الحياة حتى انتحار الحيتان على أقداممدن مائية غسلت مواسمها بالمياه الآسنة يرميالبحر أسنانه على الشاطئ ليقضم عفونةالأنين من أرصفتها المبتلة بالخرافة والتعاويذ "تجليات" ص: 7-8
وهكذا فإذا كانت الأنهار في تصور الشاعرتقبل كل شيء عندما تؤرخ للحياة في جزئياتها فإن البحر لا يقبل كل ما تحمله الأنهارإنما يلقي بزبد غير النافع إلى الهامش، يلقي عفونة الأنين والمبتذل من الخرافات والتعاويذ، وما لا ينفع الناس. ولنا أن نلاحظ كيف يصورالشاعر البحر وقد نبتت له أسنان وكأنه وحش بحري يلتهم كل ما لا ينفع يقضم عفونةالأنين ويلقي بالخرافات والتعاويذ وبزبد غير النافع إلى الشاطئ. ووحدها الموسيقىلا تخذل الروح عندما تنفتح أبواب الحلم في زمن القمع والغصب والقهر.
4- عالم الصمـــت:
الصمت حالة وجودية يعيشها الشاعر لها في الديوان تمظهرات دلالية كثيرة إذيطرد استعمال اللفظة (التي تتكرر ست عشر مرة في الديوان) بمشتقاتها المتعددة وبمرادفاتهاالمختلفة، وما حضورها في العنوان إلا دليل على إشعاعها الدلالي المشبع بالإيحاءوالرؤى علاقة بالبوح الشعري الذي يروم التلميح والتشفير والترميز والسؤال بدلالتصريح ؛ في قصيدة "سفر العاصفة" تحضر الذات الشاعرة بقوة عزم راغبة فيأن تجد النهاية وتتعرف على الحقيقة وتضع حدا للتردد الذي يثبط الإرادة رغبة فيتجاوز العجز والتواكل والفشل؛
ويستمرالشاعر في إبراز صور التواكل والتشبث بالغيبيات، وبدل الأخذ بالأسباب الشاخصةلتغيير الوضع وإعادة ترتيب العالم من جديد تراه صامتا يبحث عن آلهة في خرائبالمجرات: الحياةلم تعد تجيء وأنا متوقف كعصفور نسي ذاكرته على أشجار الغروب
صامتيبحث في خرائط المجرات عن بوصلة زمن الغيب لعله يجدآلهة تعيد ترتب العالم من جديد قبلأن يطرق الموت أبواب الماء "سفر العاصفة" ص28 في قصيدة"النبي" يترفع الشاعر عن الآخرين الذين يرضون بالحياة في مدنالواقع التي تعمها الثرثرة، أي مدن لاحياة فيها ميتة خربة يباب، ويوم يأتي النهار تغيب عن ذاكرة أهلها، بينما يبحثالشاعر عن مدن مثالية لا وجود لها في الواقع مدن مترفة بالصمت هناك يحقق الشاعرحلمه ويؤسس لرؤاه الخالدة ويتطهر من خطاياه التي علقت به منذ صباحات البدء ويولدولادة جديدة ويندم على ما اقترفت يمناه من قبل، ويخرج من أناه ليصبح ناطقا بضميرداخلي جمعي، يقول في قصية "النبي" :
أنتم تبحثون/ عن مدن/ غابت عن ذاكرتكم/ يومجاء النهار/ يشتكي عطش الثرثرة/ وأنا أبحث عن مدن/ مترفة بالصمت/ أعلق رؤاي علىزمن/ غادرني دون أطراف/ جاء بيَ/ من رحم ولادتي/ غاسلا رئتي بلون القمر/ لأتناسلفي رحم الهواء/ وأشم رائحة جثة هابيل/ قادمة من صباحات البدء/ فأرمي الأنثىالأولى/ ببرتقال الندم قبل أن تقطع/ رغبتها/ من فاكهة التفاح. "النبي"ص33-34
هاهنا تضمين محكم لقصة آدم ولخطيئة قابيلفي القرآن الكريم لكن الشاعر يعمد إلى تحويرها لتنسجم مع رؤياه الفنية، فالشاعر لايريد السقوط في الخطإ كما سقط أبونا آدموأمنا حواء، في العالم العلوي، إذ أخرجهما الله من الجنة، فقال لهم الله تعالى "اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرضمستقر ومتاع إلى حين" كما لا يريد أنيسقط في خطإ العالم السفلي الذي يرمز إليه بحدث قتل قابيل لهابيل، إنما يريدالشاعر أن يتطهر ويسمو ويرقى إلى عالم الروح متلافيا أخطاء البشرية، وحينذاك تقرعينه ويخلد؛ في وقت يعد العالم/ حروبه مع الغروب.
وفي سبيل كل هذا وذاك تعيش الذات حالة سفرمستمرة بحثا عن الحقيقة الصامتة عبر عوالم الشعر الرؤيوية، مما يتطلب من الذات حركة دؤوبة ومتواصلة للقبض على المنفلت حتى النهاية، فإذا كان السفر، مثلا، يسفرعن المستور من الأشياء فإن السفر في قصيدة"أسفار" لا يعني الإنتقال بين مكانين في زمن ما بل يعني أبعد من ذلكعندما يصبح سفرا داخل فضاء الزمن خارج الإطار المألوف والمتعارف عليه؛
سافر إلى عودته.../ مع همساتالحنين/ هطلت في روحه/ موسيقى/ أعمق من العاصفة/ أعمق من البحر/ بكى منتشيا..،/تاركا أسئلة ذبوله/ على أيقونة الخلق. "أسفار"ص25
خاتمـة: وأخيرا يلاحظ القارئالانسجام التام بين ثلاثة جوانب أساسية ومتداخلة في الكتابة الشعرية عند الشاعرعباس باني المالكي، الجانب الفكري، والجانب الفني، والجانب الجمالي، بحيث لا نشازبين هذه العناصر المكونة لهذه المجالات أو غيرها ويكفي أن يلاحظ القارئ كيف تكسرالنصوص الشعرية في الديوان بنية الجملة الشعرية عندما يوزعها الشاعر بين سطرين شعريين أو أكثر ليؤشر من خلالها على انشطار العالم من حوله، كما تأتي بعض مقاطع القصائد عند الشاعر عباس باني المالكي على شكل ومضات شعرية سريعة، معتمدة التكثيف العميق،مثال ذلك قوله:
أودعك بفرح/ لأجمع حزني الصاخب/ منرفوف الروح "عشب النسيان" ص118
تصدر قصائد ديوان الشاعر عباس بانيالمالكي، إذن، عن رؤيا استبصارية مركبة تستمد جذورها وشرعيتها من الواقع المختل الذي تستوعبه الذات الشاعرة وتحلله، وتتجاوزه إلى عالم بديل، يولد من خلال استبطانها للوعي الناضج، وتجاوزها للوعي الزائف، عبر الانصهار الكلي مع عوالمالطبيعة والمحيط والكون تلك التي تحل بها الذات الشاعرة فتكشف لها عن حقائق خالدةتتخذها عالما خاصا عالم الصمت والحلم والتجلي.. لتمارس فيه لعبة الكشف الاستبصار.
* - عنوان القراءة التي تمت المشاركة بها بمكناس بمناسبة احفاء"جمعية الأفق التربوي" بالشاعر العراقي عباس باني المالكي تحت شعار " الشعر نبضالحياة " يوم 16 أبريل 2012 بغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بشراكة مع أكاديمية التربية والتكوين لجهة مكناس تافيلالت.
قراءة في ديوان"حين يهدأ الصمت" للشاعر عباس باني المالكي
يحظى الشاعر عباس باني المالكي بمكانة أثيرةبين الشعراء العراقيين، لما يتميز به شعره من عمق ورصانة وتأمل وتوقع، مقارنة بماهو سائد. وقد اختير الشاعر إلى جانب ست شعراء عراقيين ضمن ما سمي ب"جماعةوثيقة في الهواء" و هي حركة مناهضة ورافضة للسائد الشعري المبتذل،و حركة تمثل أحدث تفريعات الشعرية العراقية، وتسعى لطرح البديل الرافض للواقع الثقافي الراهن.
كما اختيرت للشاعر عباس باني المالكي ثلاث قصائد شعرية ضمن أضخم أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر صدرت باللغة الإنجليزيةوتحمل إسم "قلائد الذهب الشعرية" احتوت على 420 قصيدة من مختلف البلدان ومن أجيال مختلفة لأشهر الشعراء العرب التي من المتوقع ترجمتها إلى عدة لغات أجنبية.
بين أيدينا ديوان للشاعر يحمل عنوان"حين يهدا الصمت" الصادر سنة 2008 عن دار الكتب، ديوان يتصفحه القارئ ليقف عند جملة مؤشرات يوظفها الغلاف تساعده على بناء وتأسيس توقع افتراضي يتخذه القارئ منطلقا ليشيد من خلاله وفي مستهل قراءته أهم الأسئلةالتي تطرحها قراءة الإضمامة الشعرية على مستويات مختلفة. من ذلك مثلا اللون الأسود، الذي يخيم على الغلاف، وهو لون مرادف لليل الذي قد يوحي بالتأمل والتفكروالتدبر والرفض والغضب والمعاناة، وقد يؤشر على الكتابة باعتبارها سوداء تقتحم غياهب النفس وأغوارها المظلمة، وباعتبار السواد نطقا والبياض صمتا، بيد أن سوادالكتابة يأخذ معناه في ضوء البياض فإذا كان سواد الليل يدعو إلى التأمل لانتشارالسكينة ولعموم الصمت فإن عنوان المجموعة الشعرية يجعل الصمت يهدأ ليصبح صمتا مننوع خاص وليعمق الإنزياح في متوالية العنوان، فالصمت هدوء أصلا، وهدوء الصمت صمت مضاعف،وحين يهدأ الصمت تتجلى شعرية المخبوء، عن طريق التأمل العميق، والتفكر الرصين،والاستبطان الذاتي، حيث تكشف الرؤيا عن تجليات حقائق الذات الشاعرة، وعن عوالمهاالخفية.
تهتكاللوحة التشكيلية صمت فضاء سواد الغلاف وتكشف عن بعض تجليات الرؤيا الفكريةوالفنية والجمالية التي من المفترض أن تبلورها نصوص الديوان، الثمانية والعشرون،حيث يتراءى جسد رجل، واقفا مجرد الثياب، ملامحه غير واضحة، يمتطي زورقا. وفي أعلى اللوحة ورقة شجر التوت وأشكال هندسية توحي بأن اللوحة متشظية في حاجة إلى إعادةالتشكيل كما هو شأن النصوص الشعرية وكما هو الواقع المرفوض الذي ترتضي نصوصالديوان غيره بديلا وتتوق الذات إلى معانقته بوسائط مختلفة، فاللوحة توظف عدةرموز(المركب، الرجل المجرد، ورقة شجر التوت، شظايا مرآة، باب مشرع..) كل هذهالعناصر التي تبدو صامتة تنم عن الرؤيا التي قد يعكسها الديوان بأبعادها الفكريةالمختلفة.
وبناءاعلى هذه الإشارات سنعمد، في هذه القراءة، إلى رصد تجليات الرؤيا الفنية من حيثعلاقتها بالتجربة الذاتية للشاعر وباللحظات التي تعيشها، أهمها؛ لحظة الصمت
ولحظة السفر ولحظة الحلم، بأبعادهاالدلالية والإيحائية والرمزية التي تبلورها نصوص الديوان في العلاقة الجدلية بين عالم الذات وعالم الواقع وعالم الآخر.
1- عالم الذات :
تجسد الذات الشاعرةوعيا عميقا بما يدور حولها من أحداث، ذات تصدر عن رؤيا فلسفية للوجود وتمتلك القدرة والجرأة على تفسير كل ما يجري حولها، وهي لا تشخص هذا الواقع كما هو كائن فحسب وإنما تستوعبه ثم تتجاوزه كي تسعى إلى تحويله إلى عالم بديل عالم الحلم بكل تجليات وتمظهراته، .
لذا فإن استعمالالشاعر لضمير المتكلم لا يعني مطلقا أن النصوص الشعرية للديوان تصدر عن رؤيةعاطفية أو ذاتية عابرة، كما ينسحب ذلك على كثير من التجارب الشعرية الحديثة، بقدرما يصدر الشاعر عباس باني المالكي عن وعي فكري عميق يستوعب مفارقات العالم من حوله، وفق منظور نقدي عميقلواقع مختل ( حروب، فقر، غدر، كراهية، ضغائن،...) واقع يتبرأ منه الشاعر ويعلن عدم انتسابه له ويبتغي غيره بديلا؛ أنا ليس من هذا العالم/ كي أنتحر/ أنت لحظة/ أبحث عنها/ سأكون لك أبدا/ حتىلو كنت/ لي حلما لا أعرفه "مطرالانتظار" ص59. وهكذا تتبلور الرؤيااستنادا إلى حالات تنخرط فيها الذات بوعي منها، من أجل إعادة ترتيب أوراق الواقع وفق ما ينبغي أن يكون والقبض على الحقيقة لإعادة تشكيل هذا العالم من جديد.
ويسند الشاعر ضميرالمتكلم في الغالب لعناصر ومخلوقات كونية وينطق بلسان حالها على سبيل المجاز إذيحصل نوع من الإبدال والحلول بين الذات والماء، يقول الشاعر: أنا الماء، "أسرة الكف" ص 71 ، وبين الذات والبحر يقول أيضا: أنا البحر، "هروب من التهمة" ص 113، فإذا كان الماء رمز الحياة فإن البحر رمز العطاء يوحي بأشياء كثيرةومتناقضة من قبيل السكون والغضب، وتختزل الذات الشاعرة كينونتها في قولها؛ أنالحظة طين، "قيامة الماء" ص109، وهكذا، فإذا كان الطين يحيل على أصل الإنسان فإنالشاعر يختزل زمن وجوده في لحظة، ولنا أن نلاحظ جمالية الملفوظ الشعري وعمقهالتصويري، وفي حسن تركيب الطرف الثاني من الصورة (لحظة طين) لنستشف دقة التصويراللغوي وعمقه. ويستمر الشاعر في الكشف عن الذات التي تشكل جزءا من الكل إذ لا نشازولا تنافر بين الذات والهواء بين الذات والعالم بين الذات والله، يقول الشاعر:
أنا جزء منوجهي وجهي جزء من الهواء الهواء جزء من العالم العالم جزء من الله "المغادرة" ص 88
هكذا يحصل نوع من الانصهار والتوحد والتكامل بين الذاتوالوجه وبين الوجه والهواء وبين الهواء والعالم وبين العالم والله. في وحدة وجودالكائنات التي تجعل الذات تتراءى في كل المخلوقات التي خلقها الله عز وجل لأنها ذات نبيلة متعالية عن نقائص الواقع الذي ترفضه لأنه لا يحقق أحلامها ورؤاهاالبعيدة. فهلبعد هذا يستطيع القارئ أن يدعي بأن الرؤيا الشعرية ذاتية أوعاطفية معتمدا في ذلك على بعضالمؤشرات اللسانية وبعض الموضوعات المستحضرة في الديوان، وخاصة موضوع الحبيب ؟ لاشك أن قارئ الديوان يهتدي إلى أن الشاعر يتناول موضوع الحبيب كتعويض عن الإحساس باليأس نحو واقع منفك متخم بالحروب والمآسي والخيبات.
2-عالم الحــلم:
يجسد الحلم الواقع الآخر الذي يرتضيه الشاعر والذي يظل دوما حلما قصيالتحقيق، فتغدو الحياة بماضيها وحاضرها ومستشرفها حلما تسعى الذات الشاعرة إلى أنتعيشه، ولو على سبيل التذكر، ذات لا تعيش حاضرها، ولا يد لها فيما يحصل، بل إنهاعاجزة أمام واقع مختل تتبرأ منه عن وعي، وتعيش الهامش والإقصاء خارج الزمنوالتاريخ. وتسكن الأحلام الشاعر فيصبح مهووسا بها وبما ينبغي أن يكون فتغدو الذاتفي حالة عجز مطلق رغم إقرار الشاعر المبدئي برجولته، لكن الأحلام تسرق حاضره،والماضي يكبله، و ينفلت الحاضر عن زمنه الآني ليصبح ماضيا في عالم الروح يبحث عنلغة السديم :
أنا رجلتسرقه الأحلام لا أخذ إلا ما مضى وأمضي وحين أبحث عن ما فيَ أجده قد مضى إلىحلم تركته في ليل دون غطاء يبحثعن لغة السديم في روحي "طرق التعلم"ص13
تتراءى للشاعر بعض تجليات الرؤيا من خلالتأمله في سيرورة الحياة، ففي قصيدة "تجليات" يقيم الشاعر توليفا محكمابين عنصرين أساسين في القصيدة الأنهار والبحر، حيث ترمز الأنهار إلى سيرورة الزمنالتي تستحضر وتؤرخ كل شيء من البداية إلى النهاية، إذ أن الأنهار التي يرمز بها الشاعرإلى الحياة تحمل معها كل ما تجده في طريقها ولا تستثني شيئا، صغيرا كان أو كبيرا،كسجل التاريخ الذي يحصي كل الأحداث التي يعيشها الواقع وتمر على نهر الزمن. الأنهار تؤرخ الحياة حتى انتحار الحيتان على أقداممدن مائية غسلت مواسمها بالمياه الآسنة يرميالبحر أسنانه على الشاطئ ليقضم عفونةالأنين من أرصفتها المبتلة بالخرافة والتعاويذ "تجليات" ص: 7-8
وهكذا فإذا كانت الأنهار في تصور الشاعرتقبل كل شيء عندما تؤرخ للحياة في جزئياتها فإن البحر لا يقبل كل ما تحمله الأنهارإنما يلقي بزبد غير النافع إلى الهامش، يلقي عفونة الأنين والمبتذل من الخرافات والتعاويذ، وما لا ينفع الناس. ولنا أن نلاحظ كيف يصورالشاعر البحر وقد نبتت له أسنان وكأنه وحش بحري يلتهم كل ما لا ينفع يقضم عفونةالأنين ويلقي بالخرافات والتعاويذ وبزبد غير النافع إلى الشاطئ. ووحدها الموسيقىلا تخذل الروح عندما تنفتح أبواب الحلم في زمن القمع والغصب والقهر.
4- عالم الصمـــت:
الصمت حالة وجودية يعيشها الشاعر لها في الديوان تمظهرات دلالية كثيرة إذيطرد استعمال اللفظة (التي تتكرر ست عشر مرة في الديوان) بمشتقاتها المتعددة وبمرادفاتهاالمختلفة، وما حضورها في العنوان إلا دليل على إشعاعها الدلالي المشبع بالإيحاءوالرؤى علاقة بالبوح الشعري الذي يروم التلميح والتشفير والترميز والسؤال بدلالتصريح ؛ في قصيدة "سفر العاصفة" تحضر الذات الشاعرة بقوة عزم راغبة فيأن تجد النهاية وتتعرف على الحقيقة وتضع حدا للتردد الذي يثبط الإرادة رغبة فيتجاوز العجز والتواكل والفشل؛
ويستمرالشاعر في إبراز صور التواكل والتشبث بالغيبيات، وبدل الأخذ بالأسباب الشاخصةلتغيير الوضع وإعادة ترتيب العالم من جديد تراه صامتا يبحث عن آلهة في خرائبالمجرات: الحياةلم تعد تجيء وأنا متوقف كعصفور نسي ذاكرته على أشجار الغروب
صامتيبحث في خرائط المجرات عن بوصلة زمن الغيب لعله يجدآلهة تعيد ترتب العالم من جديد قبلأن يطرق الموت أبواب الماء "سفر العاصفة" ص28 في قصيدة"النبي" يترفع الشاعر عن الآخرين الذين يرضون بالحياة في مدنالواقع التي تعمها الثرثرة، أي مدن لاحياة فيها ميتة خربة يباب، ويوم يأتي النهار تغيب عن ذاكرة أهلها، بينما يبحثالشاعر عن مدن مثالية لا وجود لها في الواقع مدن مترفة بالصمت هناك يحقق الشاعرحلمه ويؤسس لرؤاه الخالدة ويتطهر من خطاياه التي علقت به منذ صباحات البدء ويولدولادة جديدة ويندم على ما اقترفت يمناه من قبل، ويخرج من أناه ليصبح ناطقا بضميرداخلي جمعي، يقول في قصية "النبي" :
أنتم تبحثون/ عن مدن/ غابت عن ذاكرتكم/ يومجاء النهار/ يشتكي عطش الثرثرة/ وأنا أبحث عن مدن/ مترفة بالصمت/ أعلق رؤاي علىزمن/ غادرني دون أطراف/ جاء بيَ/ من رحم ولادتي/ غاسلا رئتي بلون القمر/ لأتناسلفي رحم الهواء/ وأشم رائحة جثة هابيل/ قادمة من صباحات البدء/ فأرمي الأنثىالأولى/ ببرتقال الندم قبل أن تقطع/ رغبتها/ من فاكهة التفاح. "النبي"ص33-34
هاهنا تضمين محكم لقصة آدم ولخطيئة قابيلفي القرآن الكريم لكن الشاعر يعمد إلى تحويرها لتنسجم مع رؤياه الفنية، فالشاعر لايريد السقوط في الخطإ كما سقط أبونا آدموأمنا حواء، في العالم العلوي، إذ أخرجهما الله من الجنة، فقال لهم الله تعالى "اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرضمستقر ومتاع إلى حين" كما لا يريد أنيسقط في خطإ العالم السفلي الذي يرمز إليه بحدث قتل قابيل لهابيل، إنما يريدالشاعر أن يتطهر ويسمو ويرقى إلى عالم الروح متلافيا أخطاء البشرية، وحينذاك تقرعينه ويخلد؛ في وقت يعد العالم/ حروبه مع الغروب.
وفي سبيل كل هذا وذاك تعيش الذات حالة سفرمستمرة بحثا عن الحقيقة الصامتة عبر عوالم الشعر الرؤيوية، مما يتطلب من الذات حركة دؤوبة ومتواصلة للقبض على المنفلت حتى النهاية، فإذا كان السفر، مثلا، يسفرعن المستور من الأشياء فإن السفر في قصيدة"أسفار" لا يعني الإنتقال بين مكانين في زمن ما بل يعني أبعد من ذلكعندما يصبح سفرا داخل فضاء الزمن خارج الإطار المألوف والمتعارف عليه؛
سافر إلى عودته.../ مع همساتالحنين/ هطلت في روحه/ موسيقى/ أعمق من العاصفة/ أعمق من البحر/ بكى منتشيا..،/تاركا أسئلة ذبوله/ على أيقونة الخلق. "أسفار"ص25
خاتمـة: وأخيرا يلاحظ القارئالانسجام التام بين ثلاثة جوانب أساسية ومتداخلة في الكتابة الشعرية عند الشاعرعباس باني المالكي، الجانب الفكري، والجانب الفني، والجانب الجمالي، بحيث لا نشازبين هذه العناصر المكونة لهذه المجالات أو غيرها ويكفي أن يلاحظ القارئ كيف تكسرالنصوص الشعرية في الديوان بنية الجملة الشعرية عندما يوزعها الشاعر بين سطرين شعريين أو أكثر ليؤشر من خلالها على انشطار العالم من حوله، كما تأتي بعض مقاطع القصائد عند الشاعر عباس باني المالكي على شكل ومضات شعرية سريعة، معتمدة التكثيف العميق،مثال ذلك قوله:
أودعك بفرح/ لأجمع حزني الصاخب/ منرفوف الروح "عشب النسيان" ص118
تصدر قصائد ديوان الشاعر عباس بانيالمالكي، إذن، عن رؤيا استبصارية مركبة تستمد جذورها وشرعيتها من الواقع المختل الذي تستوعبه الذات الشاعرة وتحلله، وتتجاوزه إلى عالم بديل، يولد من خلال استبطانها للوعي الناضج، وتجاوزها للوعي الزائف، عبر الانصهار الكلي مع عوالمالطبيعة والمحيط والكون تلك التي تحل بها الذات الشاعرة فتكشف لها عن حقائق خالدةتتخذها عالما خاصا عالم الصمت والحلم والتجلي.. لتمارس فيه لعبة الكشف الاستبصار.
* - عنوان القراءة التي تمت المشاركة بها بمكناس بمناسبة احفاء"جمعية الأفق التربوي" بالشاعر العراقي عباس باني المالكي تحت شعار " الشعر نبضالحياة " يوم 16 أبريل 2012 بغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بشراكة مع أكاديمية التربية والتكوين لجهة مكناس تافيلالت.