"أريج البستان في تصاريف العميان" للقاص أنيس الرافعي: القصة بين مفاتيح السماوات وسلطة السحر.

إبراهيم أبويه*
على غير عادة أهل القصص ومؤلفي السرد في المغرب وغيره من بلاد العرب، يستهل القاص أنيس الرافعي دليله الحكائي المتخيل، بإهداء هو فاتحة الحكايات ودليلها المرجعي : اللغة مقابل الصورة ،السرد مقابل التشكيل، الدلالة الخطية مقابل الدلالة الكلية. من هنا يحاول القاص تلمس طريقه نحو دليل حكائي مزدوج للحضرة المراكشية، من حيث كونها حكاية " صوفية " نصفها واقعي والنصف الآخر متخيل، تماما مثل الحصان الأسطوري الذي ينتهي طرفه العلوي على هيئة إنسان.
قسم القاص عمله إلى أبواب سبع، تمثل أبواب مراكش التي تفضي إلى رجالاتها الصالحين . بيد أنه نبّه إلى الاختلاف بينه وبين من سبقوه في التصنيف (محمد بن محمد بن عبد الله الموقت )، فالقاص وإن استنار بالهيكل الأول، فإنه ألبسه من وجدانه وشخوصه وأحداثه ما يجعل التصنيفين على سبيل الاستعارة الشكلية فقط حفاظا على نسق تخييلي يقصده القاص، ويجعل منه أسلوبا قديما / جديدا في تناول المعارف القصصية والحكائية، من حيث كونها متنا لغويا ينتج عن طريق التوليد الذهني، الذي يميز النصوص الحكائية عن بعضها البعض، دون أن يفقدها جوهرها الأصلي الذي خلقت من أجله وتعارف على نمطه العارفون بفن السرد.
قبل أن يركب المتلقي "البراق" الذي يفضي إلى تلك السماوات ، ويتعرف على حكاياتها كما وردت وكما عرفتها الأسناد المساعدة لفتح قبة المعنى، واستجلاء مقاصد السرد وغاياته الجمالية والفنية ، يضع القاص أنيس الرافعي مجموعة شروط مصاحبة وضرورية – حسب قوله – كي لا يتيه المسافر ويفقد طريقه في الفضاء اللامتناهي للحكاية. لمساعدة المتلقي على ذلك، استعان القاص بجداول سحرية وطلاسم وأحراز وغيرها، ضمنها رأس كل حكاية وعلقها على كل باب من أبواب مراكش ، كي تكون تقية تحمي الداخل إلى رحبة الحاضرة من الجن والأرواح الشريرة التي تتربص بالحكاية من جهة، ولتكون رسالة واضحة لعشاق التشكيل مفادها أن اللغة نسق شمولي، وبأن التشكيل لن يستطيع العيش خارج التأويل اللغوي. ويتأكد لنا ذلك من خلال "خطبة الكتاب" التي هي عبارة عن لفة ورق تشبه التميمة البوذية ذات شكل أسطواني يدور على محور متحرك . فقد ميزت الخطبة بين طقسين للكتابة : الأول محوره الجمال ( مداد من المسك والزعفران وماء الورد )، والثاني محوره الشر (مداد من النيلة).
إن "خطبة الكتاب" هي تعبير صريح للكاتب الرافعي عن كثير من المغالطات التي تلتصق بالكتابة وتفقدها جوهرها، تبخسها وتنزع عنها قيمتها الفنية بشكل مزعج . فهو ينبه إلى أن هذا "الدليل الحكائي" ليس صورة لعمل سابق، بل هو نمط جديد يمزج بين المتخيل والواقعي ، بين عالم افتراضي وآخر دونته كتب التاريخ وشهدت على صحته، سواء كان لوحة فنية أو زربية بربرية أو سفرا في الزمان والمكان، أو شخصية تركت بصمتها في الحاضرة المراكشية ذات زيارة . وينتقل القاص الرافعي إلى إشكالية الكتابة في الحقبة المعاصرة داخل المجتمعات العربية من جهة، وباستعمال كل أنماط التواصل من جهة أخرى ، وما تعرفه من انزلاقات خطيرة جعلت هذا الميدان النبيل عرضة للوخز، وقبلة للمتسكعين الذين يعيثون فسادا دونما حسيب أو رقيب " بعد أن ازدحم الميدان، واختل الميزان، وهان الحرف، وعم الرفس، وحاد القوس "، ودليله في ذلك ما قيل حول "تجريبيته " من ادعاءات لا تصمد عند أول تحليل، ولا ترمي من وراء لغطها سوى المس بالشرفاء من الكتاب، فشرط المعرفة كما يبين الكاتب هو محو الكل منك ، أي أن تكون محايدا وتنطلق من المعرفة بالأمر المراد البحث فيه ، وأن تبتعد عن الخلفيات التي تفقدك جوهر الحقيقة، وتزيغ بك إلى مزالق الفساد واتهام الناس بالباطل ، حتى أنك تسيء إلى جوهر الأدب وتبتعد بسلوكك عن كل الآداب. إنها إشارة صريحة إلى ما تعرفه الساحة الأدبية العربية المعاصرة من اختلالات إن على مستوى الإبداع، أو على مستوى النقد والقراءة والتلقي. "اللهم إني أعوذ بك من من حبر لا ينفع ، ومن يراع لا يخشع ".
بعد هذه التطريزات التي جعلها القاص فاتحة ل "دليله الحكائي "، تبدأ الأبواب السبعة في الانفتاح على عوالم حكائية متخيلة تتقدمها عناوين على شكل عتبات تؤرخ لكل باب، وتصحبها تفاصيل فتح أبواب السماوات في رحلة الإسراء والمعراج، كما هي مدونة عند صاحبها الإمام بن عباس . وبعد كل رحلة ، يأتي الكاتب ليضع سندا يكون مرجعا لمن فاته التعرف على شخوص الحكاية وأحوالهم وتواريخ تواجدهم، حتى يحقق الأمانة ويبعد الشبهة عما قد يراه البعض التباسا أو جورا في حق الموتى، وما تضمنته نواياهم قيد حياتهم، خصوصا وأنهم قدموا فاكهة خلقهم قربانا لمدينة جعلوا تفاصيلها ألوانا تزخر بالحياة.
باب القطط، "مينوش" : هي حكاية "عباس" ( الفنان الراحل صلادي ) الذي جعل من القط "مينوش" رفيقه الوحيد " ليس ثمة من سبب معقول لهذا الحلف الوجداني العميق "، فهي علاقة لا منفعة من ورائها ولا هدفا، لكنها أصبحت بالنسبة ل "عباس" شفاء وسبيلا نحو فرشاة أكثر إبداعا وخلقا . ف "مينوش" قد ألهمه وجعل لفنه أرواحا جديدة لم يستطع الأدميون أن يمنحوها له. لكن اختفاء "مينوش " فجأة من ساحة الحكاية، بعدما انتقلا معا للعيش في سماء بيت قديم يملكه أشرار ، حول حياة "عباس " إلى مأساة إنسانية عميقة انتهت بالعمى بعدما اسودت الحياة في عينيه من شدة الأسى على فقدانه "مينوش". لعنة القط لم تفارق ذلك البيت الذي كان سببا في الموت، وحرقة "عباس " أخذته إلى عالم السواد الأبدي الذي لازمه طول حياته.
باب الأكتع : ( الأكتع : من انقبضت أصابعه ورجعت إلى كفه ، ج كتع. مؤنثه كتعاء) ، " سح الرمل ": هي حكاية متخيلة استقى الكاتب بعض معلوماتها من زيارة خورخي لويس بورخيس لحاضرة مراكش 1975 كما روتها زوجته ماريا. لكن أغلب تفاصيلها كانت من نسج فكر القاص، ورؤيته التي جعلته يتنبأ بما دار في مخيلة بورخيس حينها، وما راوده من دهشة واستغراب لحكاية "سح الرمل"، التي كان بطلها رسام مصاب بشلل الساقين يدعى مولاي الحسن. هذا الرجل الذي سكنه وهم عظيم يتمثل في إيقاعات تخترق جمجمته كلما حركت يداه فرشاة الرسم لها هسيس يشبه سح الرمل، وأنها مخلوقات صغيرة استعمرت جمجمته وجعلتها فضاء للتكاثر. لم يستطع مولاي الحسن العيش مع ذلك الصداع الدائم والمنبعث من مكان ما داخل جمجمته، فقرر التخلص منه بعد أن رسم لوحة شهد بفنيتها الداني والبعيد ثم بتر يده ليقبر الألم إلى الأبد. لا يقف السارد عند هذا المستوى من أوج الحكاية، بل يصنع عالما غرائبيا يلبسه لحم مولاي الحسن وروحه وينفذ من خلاله إلى أقصى مناطق التخيل، ليجعل منه كائنا خرافيا يولد الحكاية حسب عولمة ثقافية تمزج بين ثقافات الشعوب ودرجات وعيها بالوجود كما هو كائن، وواقع وكما هو مسطر في الكتب المقدسة والمشترك الجمعي.
باب الحال، ويتضمن قصة " الإزار الأبيض" المهداة إلى الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري ( صديق القاص). وتسرد حكاية وينستون تشرشل الذي أقام فترة بفندق المامونية بمراكش بما يليق بالعظماء من تقدير. وكان همّه أن يكمل لوحته القماشية التي تحتل جانبا من غرفته الفسيحة المطلة على جمال مراكش، لذلك استعان بسلطان "الحال" الذي ينتشر في كل فضاءات مراكش بدءا بجامع الفنا، وانتهاء بالجذبة التي تنتقل ب "الرحالي" إلى عالم مسكون بالأرواح التي لا تفصح عن ملامحها إلا من خلال ما تتركه على جسد "الرحالي" من دماء يلفها إزار أبيض.
باب السماق : ( السماق شجر تتخذ أوراقه للدباغة، وتستعمل حبّاته تابلاً في بعض أنواع الطعام ، والسماق أيضا يعني الصفاء )، ويبدو أن القاص استغل تشارك اللفظ في معنيين يصبان في حقل دلالي واحد. تحمل حكاية "الرجل الذي صدم الموت بسيارته " مأساة رسام فرنسي( هو جاك ماجوريل ) اتخذ مراكش موطنه قبل أن يعود إلى فرنسا بعد حادثة سير ويموت هناك. هي حكاية تكاد تكون جنونية في تفاصيلها التي تنطلق من لوحة معلقة على خارطة الوطن، لتجوب كل أنحاء النفس البشرية وتعذبها وتقض مضجعها تارة ككوابيس، وتارة كانتقام لفضاء منفلت لا يستكين لرغبات آتية من بعيد. الموت تركع للجمال وتزكي خلوده الأبدي.
باب الذباب : قصة "ألبوم الحمى" دليل حكائي يجعل من مراكش فضاء للتصالح مع النفس، واستعادة ما فقده الجسد في بلاد الضباب والحرب. هي رحلة مبهمة تبدأ من صراعات ثنائية خفية بين الحقيقة والخيال ، بين الخير والشر ، بين عالم الصورة وعالم الحكاية، بين الثبات وبين الحركة...أبطالها كاتب انجليزي (جورج أورويل ) ورسام فرنسي (أوجين دولاكروا ) ، ألف القاص بين قلبيهما ، قلب الكاتب وقلب الرسام ، ليأخذنا إلى أبعاد أخرى غير مرئية لكنها متمظهرة من خلال إشارات ورموز تأخذ شكل الحكاية ظاهري، ونمط التحليل النفسي في عمق مجازاتها واستعاراتها.
باب الوشم : "تلبيس الكف"، وأنت تتجول داخل تفاصيل هاته القصة وتربط أجزاءها حسب ما ورد في سندها من إحالات دالة ، تستنتج أن "باب الوشم" ليست متنا عاديا لما احتوته من أحداث ارتكزت على ثلاثة مبادئ : اولا ، مبدأ استكشافي ويتضمن وصول إلياس (كانيتي ) إلى الساحة وانخراطه في عالم خرافي شعبي أصبح حقيقة تركت وشمها على كفه. ثانيا ، مبدأ الألم وهو مرحلة البحث عن سر الوشم الذي التصق بكفه، وجعله يلبس قفازا أحمر. وثالثا مبدأ الخلاص وهي عودة الأحداث إلى بدايتها ، لكن مع ترك الأثر الدال على وقوعها في زمان ما وفي مكان معين هو مراكش.
باب الآخرة : "ميت العصر..."( مهداة الى القاص أبو يوسف طه ) هنا استعمل القاص تقنية الميتاسرد لغاية فنية كشف عنها داخل نسق الحكاية ممهدا الطريق هذه المرة لركوب عالم متخيل، سينطلق من لحظة زمينة حددها ب "آذان العصر" . وسيتدخل القاص هذه المرة بجرأة ليخرج الحكاية إلى عالم مجهول سيطلق عليه "الباب الخاطئ" ، باب الموتى الذي يفضي إلى السكون المشوب بالأسئلة .سيجد "خوان" ( غويتيسولو ) نفسه وجها لوجه مع طقوسه الخاصة ، لكن في غياب كل التوابل الأخرى للساحات والفضاءات التي كان يرتادها بمراكش. كل شيء كان خاطئا، لأن خوان كان عند العصر معتقلا في حكاية يقبض روحها القاص تاركا جسده مترنحا بين الأبواب، وجاعلا من "جامع الفنا" نهاية وفناء للجسد في تاريخ كتب بالدم وغطت صفحاته أشعار المديح.
خاتمة الكتاب : وهما قصتان من آخر "الأريج "مهداتان إلى رسام مغربي (عبد اللطيف حباشي ) صاحب لوحة غلاف المجموعة . تفاصيلهما رجل غريب ينفذ إلى أعماق الشخوص المشكلة لفضاء "جامع الفنا"، وينقل أوج آلامها عبر نسق تخيلي يستمد حمولته التداولية من الخرافة باعتبارها لا معقولا يتأسس على رؤية متشابكة، سمتها متاهات لا متناهية تنتهي عند عالم ماورائي رمزه "باب خاطئ خلفي " وأحداث لم تحصل فعلا أساسها الاحتمال والافتراض الحكائيين .
" أريج البستان في تصاريف العميان "، عمل حكائي يكاد يكون متفردا في شكله كما في مضامينه كما في لغته وأسلوبه، فهو قد زاوج بين نمط الأوائل في ديباجتهم وتناولهم للموضوعات، كما أنه استنار بأسلوبهم السردي في صنع التشبيهات والاستعارات والكنايات والخصائص الفنية الأخرى دون أن ينسحب إلى ثقافتهم ورؤيتهم وتأويلهم.
إن التفرد المشار إليه هو خاصية نستخلصها بعد جمع شتات العمل الحكائي، وليست معطى جاهزا ، لذلك كان لزاما علينا أن نحدد نمطين من الكتابة : -1) كتابة لم تستطع التمييز بين الإقامة داخل اللغة والإقامة داخل العالم، من حيث هو خطاب من الرموز والعلامات التي تحتاج إلى إعادة قراءة وتفسير، وبذلك لم تتمكن من خلق خطاب حكائي متكامل له هوية قادرة على توليد سلسلة من الترميزات المختلفة التي تعيد صياغة الحقل الدلالي الكلي انطلاقا من مشروع سردي حقيقي. 2)- كتابة ترسم معالم السرد انطلاقا من فك شفرة الحقل الدلالي كيفما كانت طبيعتها. هنا نجد القاص يرتكز على هذا النمط الثاني لاعتبارات كثيرة منها أنه حدد طبيعة دليله الحكائي بشكل واضح منذ العتبات الأولى للكتاب القصصي : الحكاية مقابل التشكيل (باعتباره شبكات غير منظورة من الدلالات المرتبطة بالثقافة الشعبية لمراكش، من زاوية رؤية خاصة جدا عالية المعنى ). وتوظيف معطيات مستخلصة من متون عدة ستكون سنده لبناء دليل حكائي متخيل، يكون مفتاحا لولوج مراكش من أبواب جديدة ومتخيلة .
إن اعتماد القاص على لغة تقع بين الفصيحة الكلاسيكية كما نجدها في المقامات، أو كتب الجاحظ أو ألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة أو غيرها من كتب التراث، وبين العربية المعاصرة التي انتقلت إلى صيغ صرفية جديدة نظرا لتأثرها باللغات الأنجلو ساكسونية التي تعيش معها، وتؤثر في بنيتها التركيبية والصرفية والدلالية، وكذلك اللغات الوطنية الأخرى التي تشكل رافدا معجميا غنيا لها، جعل المتن الحكائي مزيجا منسجما في الحاضر دالا ًعلى الماضي وقادرا على نقل أدق اللحظات المتخيلة داخل نسق دلالي، له مولدات ذهنية تعمل تلقائيا على انتقاء المفردات الملائمة لكل حقل دلالي، دونما إخلال بالبنى المنطقية التي تحكم التصورات المفترض أن يصل إليها القارئ المثالي للدليل. فهذا القارئ المثالي المفترض الذي بثه الرافعي وديعته "حسبي اكتساب القربة إلى القارئ..." ، مطالب بفك الرموز وتأويل الأحاديث ، له مفاتيح السماوات وسلطة السحر، قادر على السفر في دهاليز الحلم يفسرها ويضع لها الجداول، له من قدرات التمييز النزر الكثير، عارفا أحوال الكتابة ومداخلها ومخارجها العصية، متمكنا من ربط الفهم بالكتابة، موحدا للمقاصد من وراء النص، وخلافا للصقل لغرض الجمال، هناك قواعد واستراتيجيات لابد للداخل رحبة الحكاية أن يلم بها ويطورها حسب إيقاعات النص وتلميحاته.
إن " أريج البستان..." للرافعي، هو دليل من حيث إنه تأريخ للفضاءات والشخوص الحقيقية والمتخيلة . كتب بمداد مختلف الألوان. فهو من جهة عمل فني إبداعي يتحدث عن نفسه، ومن جهة ثانية يمكن اعتباره تقنية جديدة في الكتابة من حيث العناصر التي استند إليها وجعلها يوتوبيات وجودية داخلية، بعدما انعدمت أسبابها في العالم المادي .إنها كرنافالات هوسية تستدعي طقوسا خاصة كي تحقق لذتها وتفتح مغالقها وأبوابها الصحيحة ، فالقاص أنيس الرافعي قلما تختطفه قوافل الجنوب إذ هو دائم التجوال داخل نسق الحلم ، منفتح على كل الثقافات ، يجلبها طورا ويحتفل بمنجزها أطوارا كثيرة ، كما أنه باستدعائه للمنجز التشكيلي ومحاولة تأويله داخل حكايات مترابطة أبطالها متعددو الجنسيات، مختلفو اللغات ، لكن الجمال هو قاسمهم المشترك، والفضاء هو مسرح إبداعاتهم التي لا تراها الحواس الخارجية وإنما حواس أخرى تقبع في اللاوعي. إن أنيس الرافعي يرى أن الأصل ثابت والفرع دائم التحول، لذلك لا تراه يمجد أعلاما بعينهم على سبيل الانبهار بثقافة الغرب ومنجزهم الفني والجمالي، بل يجعل من اللغة العربية حاملا لموروثات الماضي (معجما وثقافة وفقها ونصا مقدسا وفكرا ...) دون أن يزعج الموتى في قبورهم، ويسبح في ثقافات أخرى ليخلص في النهاية إلى ربح رهان التعدد والانفتاح ،كما أشار لذلك الدكتور حسن جلاب في كتابه "الحركة الصوفية بمراكش وأثرها في الأدب : ظاهرة سبعة رجال ".
( أنيس الرافعي ، أريج البستان في تصاريف العميان ، دليل حكائي متخيل ، دار العين ، القاهرة ، الطبعة 1 ، 2013 ).
* ناقد من المغرب.

إبراهيم أبويه*
على غير عادة أهل القصص ومؤلفي السرد في المغرب وغيره من بلاد العرب، يستهل القاص أنيس الرافعي دليله الحكائي المتخيل، بإهداء هو فاتحة الحكايات ودليلها المرجعي : اللغة مقابل الصورة ،السرد مقابل التشكيل، الدلالة الخطية مقابل الدلالة الكلية. من هنا يحاول القاص تلمس طريقه نحو دليل حكائي مزدوج للحضرة المراكشية، من حيث كونها حكاية " صوفية " نصفها واقعي والنصف الآخر متخيل، تماما مثل الحصان الأسطوري الذي ينتهي طرفه العلوي على هيئة إنسان.
قسم القاص عمله إلى أبواب سبع، تمثل أبواب مراكش التي تفضي إلى رجالاتها الصالحين . بيد أنه نبّه إلى الاختلاف بينه وبين من سبقوه في التصنيف (محمد بن محمد بن عبد الله الموقت )، فالقاص وإن استنار بالهيكل الأول، فإنه ألبسه من وجدانه وشخوصه وأحداثه ما يجعل التصنيفين على سبيل الاستعارة الشكلية فقط حفاظا على نسق تخييلي يقصده القاص، ويجعل منه أسلوبا قديما / جديدا في تناول المعارف القصصية والحكائية، من حيث كونها متنا لغويا ينتج عن طريق التوليد الذهني، الذي يميز النصوص الحكائية عن بعضها البعض، دون أن يفقدها جوهرها الأصلي الذي خلقت من أجله وتعارف على نمطه العارفون بفن السرد.
قبل أن يركب المتلقي "البراق" الذي يفضي إلى تلك السماوات ، ويتعرف على حكاياتها كما وردت وكما عرفتها الأسناد المساعدة لفتح قبة المعنى، واستجلاء مقاصد السرد وغاياته الجمالية والفنية ، يضع القاص أنيس الرافعي مجموعة شروط مصاحبة وضرورية – حسب قوله – كي لا يتيه المسافر ويفقد طريقه في الفضاء اللامتناهي للحكاية. لمساعدة المتلقي على ذلك، استعان القاص بجداول سحرية وطلاسم وأحراز وغيرها، ضمنها رأس كل حكاية وعلقها على كل باب من أبواب مراكش ، كي تكون تقية تحمي الداخل إلى رحبة الحاضرة من الجن والأرواح الشريرة التي تتربص بالحكاية من جهة، ولتكون رسالة واضحة لعشاق التشكيل مفادها أن اللغة نسق شمولي، وبأن التشكيل لن يستطيع العيش خارج التأويل اللغوي. ويتأكد لنا ذلك من خلال "خطبة الكتاب" التي هي عبارة عن لفة ورق تشبه التميمة البوذية ذات شكل أسطواني يدور على محور متحرك . فقد ميزت الخطبة بين طقسين للكتابة : الأول محوره الجمال ( مداد من المسك والزعفران وماء الورد )، والثاني محوره الشر (مداد من النيلة).
إن "خطبة الكتاب" هي تعبير صريح للكاتب الرافعي عن كثير من المغالطات التي تلتصق بالكتابة وتفقدها جوهرها، تبخسها وتنزع عنها قيمتها الفنية بشكل مزعج . فهو ينبه إلى أن هذا "الدليل الحكائي" ليس صورة لعمل سابق، بل هو نمط جديد يمزج بين المتخيل والواقعي ، بين عالم افتراضي وآخر دونته كتب التاريخ وشهدت على صحته، سواء كان لوحة فنية أو زربية بربرية أو سفرا في الزمان والمكان، أو شخصية تركت بصمتها في الحاضرة المراكشية ذات زيارة . وينتقل القاص الرافعي إلى إشكالية الكتابة في الحقبة المعاصرة داخل المجتمعات العربية من جهة، وباستعمال كل أنماط التواصل من جهة أخرى ، وما تعرفه من انزلاقات خطيرة جعلت هذا الميدان النبيل عرضة للوخز، وقبلة للمتسكعين الذين يعيثون فسادا دونما حسيب أو رقيب " بعد أن ازدحم الميدان، واختل الميزان، وهان الحرف، وعم الرفس، وحاد القوس "، ودليله في ذلك ما قيل حول "تجريبيته " من ادعاءات لا تصمد عند أول تحليل، ولا ترمي من وراء لغطها سوى المس بالشرفاء من الكتاب، فشرط المعرفة كما يبين الكاتب هو محو الكل منك ، أي أن تكون محايدا وتنطلق من المعرفة بالأمر المراد البحث فيه ، وأن تبتعد عن الخلفيات التي تفقدك جوهر الحقيقة، وتزيغ بك إلى مزالق الفساد واتهام الناس بالباطل ، حتى أنك تسيء إلى جوهر الأدب وتبتعد بسلوكك عن كل الآداب. إنها إشارة صريحة إلى ما تعرفه الساحة الأدبية العربية المعاصرة من اختلالات إن على مستوى الإبداع، أو على مستوى النقد والقراءة والتلقي. "اللهم إني أعوذ بك من من حبر لا ينفع ، ومن يراع لا يخشع ".
بعد هذه التطريزات التي جعلها القاص فاتحة ل "دليله الحكائي "، تبدأ الأبواب السبعة في الانفتاح على عوالم حكائية متخيلة تتقدمها عناوين على شكل عتبات تؤرخ لكل باب، وتصحبها تفاصيل فتح أبواب السماوات في رحلة الإسراء والمعراج، كما هي مدونة عند صاحبها الإمام بن عباس . وبعد كل رحلة ، يأتي الكاتب ليضع سندا يكون مرجعا لمن فاته التعرف على شخوص الحكاية وأحوالهم وتواريخ تواجدهم، حتى يحقق الأمانة ويبعد الشبهة عما قد يراه البعض التباسا أو جورا في حق الموتى، وما تضمنته نواياهم قيد حياتهم، خصوصا وأنهم قدموا فاكهة خلقهم قربانا لمدينة جعلوا تفاصيلها ألوانا تزخر بالحياة.
باب القطط، "مينوش" : هي حكاية "عباس" ( الفنان الراحل صلادي ) الذي جعل من القط "مينوش" رفيقه الوحيد " ليس ثمة من سبب معقول لهذا الحلف الوجداني العميق "، فهي علاقة لا منفعة من ورائها ولا هدفا، لكنها أصبحت بالنسبة ل "عباس" شفاء وسبيلا نحو فرشاة أكثر إبداعا وخلقا . ف "مينوش" قد ألهمه وجعل لفنه أرواحا جديدة لم يستطع الأدميون أن يمنحوها له. لكن اختفاء "مينوش " فجأة من ساحة الحكاية، بعدما انتقلا معا للعيش في سماء بيت قديم يملكه أشرار ، حول حياة "عباس " إلى مأساة إنسانية عميقة انتهت بالعمى بعدما اسودت الحياة في عينيه من شدة الأسى على فقدانه "مينوش". لعنة القط لم تفارق ذلك البيت الذي كان سببا في الموت، وحرقة "عباس " أخذته إلى عالم السواد الأبدي الذي لازمه طول حياته.
باب الأكتع : ( الأكتع : من انقبضت أصابعه ورجعت إلى كفه ، ج كتع. مؤنثه كتعاء) ، " سح الرمل ": هي حكاية متخيلة استقى الكاتب بعض معلوماتها من زيارة خورخي لويس بورخيس لحاضرة مراكش 1975 كما روتها زوجته ماريا. لكن أغلب تفاصيلها كانت من نسج فكر القاص، ورؤيته التي جعلته يتنبأ بما دار في مخيلة بورخيس حينها، وما راوده من دهشة واستغراب لحكاية "سح الرمل"، التي كان بطلها رسام مصاب بشلل الساقين يدعى مولاي الحسن. هذا الرجل الذي سكنه وهم عظيم يتمثل في إيقاعات تخترق جمجمته كلما حركت يداه فرشاة الرسم لها هسيس يشبه سح الرمل، وأنها مخلوقات صغيرة استعمرت جمجمته وجعلتها فضاء للتكاثر. لم يستطع مولاي الحسن العيش مع ذلك الصداع الدائم والمنبعث من مكان ما داخل جمجمته، فقرر التخلص منه بعد أن رسم لوحة شهد بفنيتها الداني والبعيد ثم بتر يده ليقبر الألم إلى الأبد. لا يقف السارد عند هذا المستوى من أوج الحكاية، بل يصنع عالما غرائبيا يلبسه لحم مولاي الحسن وروحه وينفذ من خلاله إلى أقصى مناطق التخيل، ليجعل منه كائنا خرافيا يولد الحكاية حسب عولمة ثقافية تمزج بين ثقافات الشعوب ودرجات وعيها بالوجود كما هو كائن، وواقع وكما هو مسطر في الكتب المقدسة والمشترك الجمعي.
باب الحال، ويتضمن قصة " الإزار الأبيض" المهداة إلى الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري ( صديق القاص). وتسرد حكاية وينستون تشرشل الذي أقام فترة بفندق المامونية بمراكش بما يليق بالعظماء من تقدير. وكان همّه أن يكمل لوحته القماشية التي تحتل جانبا من غرفته الفسيحة المطلة على جمال مراكش، لذلك استعان بسلطان "الحال" الذي ينتشر في كل فضاءات مراكش بدءا بجامع الفنا، وانتهاء بالجذبة التي تنتقل ب "الرحالي" إلى عالم مسكون بالأرواح التي لا تفصح عن ملامحها إلا من خلال ما تتركه على جسد "الرحالي" من دماء يلفها إزار أبيض.
باب السماق : ( السماق شجر تتخذ أوراقه للدباغة، وتستعمل حبّاته تابلاً في بعض أنواع الطعام ، والسماق أيضا يعني الصفاء )، ويبدو أن القاص استغل تشارك اللفظ في معنيين يصبان في حقل دلالي واحد. تحمل حكاية "الرجل الذي صدم الموت بسيارته " مأساة رسام فرنسي( هو جاك ماجوريل ) اتخذ مراكش موطنه قبل أن يعود إلى فرنسا بعد حادثة سير ويموت هناك. هي حكاية تكاد تكون جنونية في تفاصيلها التي تنطلق من لوحة معلقة على خارطة الوطن، لتجوب كل أنحاء النفس البشرية وتعذبها وتقض مضجعها تارة ككوابيس، وتارة كانتقام لفضاء منفلت لا يستكين لرغبات آتية من بعيد. الموت تركع للجمال وتزكي خلوده الأبدي.
باب الذباب : قصة "ألبوم الحمى" دليل حكائي يجعل من مراكش فضاء للتصالح مع النفس، واستعادة ما فقده الجسد في بلاد الضباب والحرب. هي رحلة مبهمة تبدأ من صراعات ثنائية خفية بين الحقيقة والخيال ، بين الخير والشر ، بين عالم الصورة وعالم الحكاية، بين الثبات وبين الحركة...أبطالها كاتب انجليزي (جورج أورويل ) ورسام فرنسي (أوجين دولاكروا ) ، ألف القاص بين قلبيهما ، قلب الكاتب وقلب الرسام ، ليأخذنا إلى أبعاد أخرى غير مرئية لكنها متمظهرة من خلال إشارات ورموز تأخذ شكل الحكاية ظاهري، ونمط التحليل النفسي في عمق مجازاتها واستعاراتها.
باب الوشم : "تلبيس الكف"، وأنت تتجول داخل تفاصيل هاته القصة وتربط أجزاءها حسب ما ورد في سندها من إحالات دالة ، تستنتج أن "باب الوشم" ليست متنا عاديا لما احتوته من أحداث ارتكزت على ثلاثة مبادئ : اولا ، مبدأ استكشافي ويتضمن وصول إلياس (كانيتي ) إلى الساحة وانخراطه في عالم خرافي شعبي أصبح حقيقة تركت وشمها على كفه. ثانيا ، مبدأ الألم وهو مرحلة البحث عن سر الوشم الذي التصق بكفه، وجعله يلبس قفازا أحمر. وثالثا مبدأ الخلاص وهي عودة الأحداث إلى بدايتها ، لكن مع ترك الأثر الدال على وقوعها في زمان ما وفي مكان معين هو مراكش.
باب الآخرة : "ميت العصر..."( مهداة الى القاص أبو يوسف طه ) هنا استعمل القاص تقنية الميتاسرد لغاية فنية كشف عنها داخل نسق الحكاية ممهدا الطريق هذه المرة لركوب عالم متخيل، سينطلق من لحظة زمينة حددها ب "آذان العصر" . وسيتدخل القاص هذه المرة بجرأة ليخرج الحكاية إلى عالم مجهول سيطلق عليه "الباب الخاطئ" ، باب الموتى الذي يفضي إلى السكون المشوب بالأسئلة .سيجد "خوان" ( غويتيسولو ) نفسه وجها لوجه مع طقوسه الخاصة ، لكن في غياب كل التوابل الأخرى للساحات والفضاءات التي كان يرتادها بمراكش. كل شيء كان خاطئا، لأن خوان كان عند العصر معتقلا في حكاية يقبض روحها القاص تاركا جسده مترنحا بين الأبواب، وجاعلا من "جامع الفنا" نهاية وفناء للجسد في تاريخ كتب بالدم وغطت صفحاته أشعار المديح.
خاتمة الكتاب : وهما قصتان من آخر "الأريج "مهداتان إلى رسام مغربي (عبد اللطيف حباشي ) صاحب لوحة غلاف المجموعة . تفاصيلهما رجل غريب ينفذ إلى أعماق الشخوص المشكلة لفضاء "جامع الفنا"، وينقل أوج آلامها عبر نسق تخيلي يستمد حمولته التداولية من الخرافة باعتبارها لا معقولا يتأسس على رؤية متشابكة، سمتها متاهات لا متناهية تنتهي عند عالم ماورائي رمزه "باب خاطئ خلفي " وأحداث لم تحصل فعلا أساسها الاحتمال والافتراض الحكائيين .
" أريج البستان في تصاريف العميان "، عمل حكائي يكاد يكون متفردا في شكله كما في مضامينه كما في لغته وأسلوبه، فهو قد زاوج بين نمط الأوائل في ديباجتهم وتناولهم للموضوعات، كما أنه استنار بأسلوبهم السردي في صنع التشبيهات والاستعارات والكنايات والخصائص الفنية الأخرى دون أن ينسحب إلى ثقافتهم ورؤيتهم وتأويلهم.
إن التفرد المشار إليه هو خاصية نستخلصها بعد جمع شتات العمل الحكائي، وليست معطى جاهزا ، لذلك كان لزاما علينا أن نحدد نمطين من الكتابة : -1) كتابة لم تستطع التمييز بين الإقامة داخل اللغة والإقامة داخل العالم، من حيث هو خطاب من الرموز والعلامات التي تحتاج إلى إعادة قراءة وتفسير، وبذلك لم تتمكن من خلق خطاب حكائي متكامل له هوية قادرة على توليد سلسلة من الترميزات المختلفة التي تعيد صياغة الحقل الدلالي الكلي انطلاقا من مشروع سردي حقيقي. 2)- كتابة ترسم معالم السرد انطلاقا من فك شفرة الحقل الدلالي كيفما كانت طبيعتها. هنا نجد القاص يرتكز على هذا النمط الثاني لاعتبارات كثيرة منها أنه حدد طبيعة دليله الحكائي بشكل واضح منذ العتبات الأولى للكتاب القصصي : الحكاية مقابل التشكيل (باعتباره شبكات غير منظورة من الدلالات المرتبطة بالثقافة الشعبية لمراكش، من زاوية رؤية خاصة جدا عالية المعنى ). وتوظيف معطيات مستخلصة من متون عدة ستكون سنده لبناء دليل حكائي متخيل، يكون مفتاحا لولوج مراكش من أبواب جديدة ومتخيلة .
إن اعتماد القاص على لغة تقع بين الفصيحة الكلاسيكية كما نجدها في المقامات، أو كتب الجاحظ أو ألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة أو غيرها من كتب التراث، وبين العربية المعاصرة التي انتقلت إلى صيغ صرفية جديدة نظرا لتأثرها باللغات الأنجلو ساكسونية التي تعيش معها، وتؤثر في بنيتها التركيبية والصرفية والدلالية، وكذلك اللغات الوطنية الأخرى التي تشكل رافدا معجميا غنيا لها، جعل المتن الحكائي مزيجا منسجما في الحاضر دالا ًعلى الماضي وقادرا على نقل أدق اللحظات المتخيلة داخل نسق دلالي، له مولدات ذهنية تعمل تلقائيا على انتقاء المفردات الملائمة لكل حقل دلالي، دونما إخلال بالبنى المنطقية التي تحكم التصورات المفترض أن يصل إليها القارئ المثالي للدليل. فهذا القارئ المثالي المفترض الذي بثه الرافعي وديعته "حسبي اكتساب القربة إلى القارئ..." ، مطالب بفك الرموز وتأويل الأحاديث ، له مفاتيح السماوات وسلطة السحر، قادر على السفر في دهاليز الحلم يفسرها ويضع لها الجداول، له من قدرات التمييز النزر الكثير، عارفا أحوال الكتابة ومداخلها ومخارجها العصية، متمكنا من ربط الفهم بالكتابة، موحدا للمقاصد من وراء النص، وخلافا للصقل لغرض الجمال، هناك قواعد واستراتيجيات لابد للداخل رحبة الحكاية أن يلم بها ويطورها حسب إيقاعات النص وتلميحاته.
إن " أريج البستان..." للرافعي، هو دليل من حيث إنه تأريخ للفضاءات والشخوص الحقيقية والمتخيلة . كتب بمداد مختلف الألوان. فهو من جهة عمل فني إبداعي يتحدث عن نفسه، ومن جهة ثانية يمكن اعتباره تقنية جديدة في الكتابة من حيث العناصر التي استند إليها وجعلها يوتوبيات وجودية داخلية، بعدما انعدمت أسبابها في العالم المادي .إنها كرنافالات هوسية تستدعي طقوسا خاصة كي تحقق لذتها وتفتح مغالقها وأبوابها الصحيحة ، فالقاص أنيس الرافعي قلما تختطفه قوافل الجنوب إذ هو دائم التجوال داخل نسق الحلم ، منفتح على كل الثقافات ، يجلبها طورا ويحتفل بمنجزها أطوارا كثيرة ، كما أنه باستدعائه للمنجز التشكيلي ومحاولة تأويله داخل حكايات مترابطة أبطالها متعددو الجنسيات، مختلفو اللغات ، لكن الجمال هو قاسمهم المشترك، والفضاء هو مسرح إبداعاتهم التي لا تراها الحواس الخارجية وإنما حواس أخرى تقبع في اللاوعي. إن أنيس الرافعي يرى أن الأصل ثابت والفرع دائم التحول، لذلك لا تراه يمجد أعلاما بعينهم على سبيل الانبهار بثقافة الغرب ومنجزهم الفني والجمالي، بل يجعل من اللغة العربية حاملا لموروثات الماضي (معجما وثقافة وفقها ونصا مقدسا وفكرا ...) دون أن يزعج الموتى في قبورهم، ويسبح في ثقافات أخرى ليخلص في النهاية إلى ربح رهان التعدد والانفتاح ،كما أشار لذلك الدكتور حسن جلاب في كتابه "الحركة الصوفية بمراكش وأثرها في الأدب : ظاهرة سبعة رجال ".
( أنيس الرافعي ، أريج البستان في تصاريف العميان ، دليل حكائي متخيل ، دار العين ، القاهرة ، الطبعة 1 ، 2013 ).
* ناقد من المغرب.
تعليق