من دفاتر الغربة والضياع...
..................................

شعورٌ لا تترجمه الكلمات...
لأنه أكبرُ من كل الكلمات...
ذاكَ الذي تملَّكَني وأنا أحث الخُطى مبتعداً نحو الحُدود، اُسوةً بمئات الأشخاص، وعشرات العوائل، المضمخة بالبَرْد والأمل، والمسكونة بالجوع والخوف.
وقد اختلط بكاء الأطفال بأزيز الرصاص والقذائف، وضاعت الدموع وسط حبات المطر...
وبعد مسيرة ساعاتٍ طويلة، وصلنا الحدود، وقد توقف المطر وحل المساء وكفَّ الأطفال عن البكاء. حتى مشاعرنا تبلَّدَت، فلم نعد نفكر في شئ إلا في البقاء أحياء...
وفي انتظار المجهول، افترشت العوائل المنهكةُ الأرضَ الموحلةَ لتريح أقدامها وأجسادها من عناء هذه المسيرة الإجبارية...
صمتٌ كصمتِ القبور، وظلامٌ كظلام العَدَم، تقطعه بين الفينة والأخرى نحنحاتُ شيخ يحوقل متوسلاً بقايا حكمة، وإيماناً بربّ رحيم. أو همهمات طفلٍ تذكّر ثدي اُمّه، وغمغمات اُمٍّه نَسِيَتْ ثديَها حِملاً لا قيمة له بعدما جف منه ماء الحياة...
وما إن لاحت السيارات والأضواء في الاُفق الغريب، حتى تفجرت المشاعر مجدداً. مزيجاً من الخوف من الآتي، والفرحة بالخلاص ولوعة الفراق...
أما أنا، فكنتُ عن كل هذا في شُغل...
كنتُ اُراقبُ عَلَمَ بلادي ينتصبُ فوقي شامخاً، يرفرفُ بتثاقُلٍ كأنه جناحُ نَسْرٍ كسير، زاده المطر وَهْناً على وهن...
ولأول مرة، أحُسُّ بي من الشجاعة والتحدي تجاهه ما لم أعهده من قبل!
لأول مرة أحسّني حرّاً خارج قبضته. أنظرُ إليه دون أن أضع يدي على قلبي مخافة أن يفر من صدري في حضرته...
خاطبته بكل جرأة وتحد:
هل أنت حقاً رمزُ وجودي؟!
فلماذا ترفرفُ شامخا ولا تنحني لترى بعض ما بي؟
وهل حقاً ما يقولون عن استحالة فراقك واستبدالك بآخر جديد، قد يكون أجمل منك وأكبر؟
حسنٌ! لنرَى...
هاهي الحدود أمامُك!
خطوات، وأتركُك لمصيرك كما لم يَعْنِكَ مصيري...
وقد لا يصدقني أحد، ما إنْ أدَرْتُ ظهري، وخَطوتُ خطوات، حتى تسارعت أنفاسي، وثقلت خطواتي وخارت قواي. وصرتُ أتلفّتُ ورائي... كنتُ ببساطة، كمن يساق إلى الإعدام، يتلفتُ بحثاً عمن ينقذه...
وكان نصيبي من السيارات، ظَهْرُ إحدى الشاحنات. ما أدام تحديقي في هذا الذي لا يكف يرفرف بعناد...
أحسستُ به يبادلني نظرات وداعٍ حزينة... يمدُ لي يدين حانيتين... ويكلمني بصوت لم يطرق روحي أروع منه... صوت لم يسمعهُ بشر، لأنه أكبر من أسماع البشر...
صوتٌ يقول
قل ما شئتَ... وإذهب حيثُ شِئت... ولكن لا تنسَ إنك عراقي...
ساعتها فقط عرفتُ أني اُحبه بصدق... اُقدسه كأجلّ وأعظم ما يكون من المقدسات، بلا خوف ولا إكراه...
وساعتها فقط، وَدِدْتُ لو أستطيع الوصول إليه... أشمُّه... اُقبّله... أتوشحه وشاح فخر واعتزاز...
ولكن،
هيهات!... بَعُدَت الشقة واتَسَعت المسافات. وراحت السيارات تنهبُ الأرض َ الغريبةَ الموحلة إلى حيث لا يعلم إلا الله...
فتراجعت الرغبات والأمنيات مهزومة، ولم يبقَ إلا الدموع...
ووجدتُني اُطْبِقُ جفنَيَّ على آخر صورة له قبل أن يلفها الظلام،
وأصرُخُ باكياً،
في ذمة الله يا وطني
سالم
1993
..................................

شعورٌ لا تترجمه الكلمات...
لأنه أكبرُ من كل الكلمات...
ذاكَ الذي تملَّكَني وأنا أحث الخُطى مبتعداً نحو الحُدود، اُسوةً بمئات الأشخاص، وعشرات العوائل، المضمخة بالبَرْد والأمل، والمسكونة بالجوع والخوف.
وقد اختلط بكاء الأطفال بأزيز الرصاص والقذائف، وضاعت الدموع وسط حبات المطر...
وبعد مسيرة ساعاتٍ طويلة، وصلنا الحدود، وقد توقف المطر وحل المساء وكفَّ الأطفال عن البكاء. حتى مشاعرنا تبلَّدَت، فلم نعد نفكر في شئ إلا في البقاء أحياء...
وفي انتظار المجهول، افترشت العوائل المنهكةُ الأرضَ الموحلةَ لتريح أقدامها وأجسادها من عناء هذه المسيرة الإجبارية...
صمتٌ كصمتِ القبور، وظلامٌ كظلام العَدَم، تقطعه بين الفينة والأخرى نحنحاتُ شيخ يحوقل متوسلاً بقايا حكمة، وإيماناً بربّ رحيم. أو همهمات طفلٍ تذكّر ثدي اُمّه، وغمغمات اُمٍّه نَسِيَتْ ثديَها حِملاً لا قيمة له بعدما جف منه ماء الحياة...
وما إن لاحت السيارات والأضواء في الاُفق الغريب، حتى تفجرت المشاعر مجدداً. مزيجاً من الخوف من الآتي، والفرحة بالخلاص ولوعة الفراق...
أما أنا، فكنتُ عن كل هذا في شُغل...
كنتُ اُراقبُ عَلَمَ بلادي ينتصبُ فوقي شامخاً، يرفرفُ بتثاقُلٍ كأنه جناحُ نَسْرٍ كسير، زاده المطر وَهْناً على وهن...
ولأول مرة، أحُسُّ بي من الشجاعة والتحدي تجاهه ما لم أعهده من قبل!
لأول مرة أحسّني حرّاً خارج قبضته. أنظرُ إليه دون أن أضع يدي على قلبي مخافة أن يفر من صدري في حضرته...
خاطبته بكل جرأة وتحد:
هل أنت حقاً رمزُ وجودي؟!
فلماذا ترفرفُ شامخا ولا تنحني لترى بعض ما بي؟
وهل حقاً ما يقولون عن استحالة فراقك واستبدالك بآخر جديد، قد يكون أجمل منك وأكبر؟
حسنٌ! لنرَى...
هاهي الحدود أمامُك!
خطوات، وأتركُك لمصيرك كما لم يَعْنِكَ مصيري...
وقد لا يصدقني أحد، ما إنْ أدَرْتُ ظهري، وخَطوتُ خطوات، حتى تسارعت أنفاسي، وثقلت خطواتي وخارت قواي. وصرتُ أتلفّتُ ورائي... كنتُ ببساطة، كمن يساق إلى الإعدام، يتلفتُ بحثاً عمن ينقذه...
وكان نصيبي من السيارات، ظَهْرُ إحدى الشاحنات. ما أدام تحديقي في هذا الذي لا يكف يرفرف بعناد...
أحسستُ به يبادلني نظرات وداعٍ حزينة... يمدُ لي يدين حانيتين... ويكلمني بصوت لم يطرق روحي أروع منه... صوت لم يسمعهُ بشر، لأنه أكبر من أسماع البشر...
صوتٌ يقول
قل ما شئتَ... وإذهب حيثُ شِئت... ولكن لا تنسَ إنك عراقي...
ساعتها فقط عرفتُ أني اُحبه بصدق... اُقدسه كأجلّ وأعظم ما يكون من المقدسات، بلا خوف ولا إكراه...
وساعتها فقط، وَدِدْتُ لو أستطيع الوصول إليه... أشمُّه... اُقبّله... أتوشحه وشاح فخر واعتزاز...
ولكن،
هيهات!... بَعُدَت الشقة واتَسَعت المسافات. وراحت السيارات تنهبُ الأرض َ الغريبةَ الموحلة إلى حيث لا يعلم إلا الله...
فتراجعت الرغبات والأمنيات مهزومة، ولم يبقَ إلا الدموع...
ووجدتُني اُطْبِقُ جفنَيَّ على آخر صورة له قبل أن يلفها الظلام،
وأصرُخُ باكياً،
في ذمة الله يا وطني
سالم
1993
تعليق