أؤمن بتوارد الخواطر مهما بعُدتْ الشُقة بين طرفى التوارد ..
و هو إيمان نابع عن تجارب كثيرة مرت بشخصي الضعيف .. ولأشخاص آخرين سردوا تجاربهم الشخصية لي ..
و في سبيل الغوص في الخلفية النفسية لشعراء الجاهلية و في محاولة جادة ومستميتة بربطها بالمزاج العربي وإثبات التواصل عبر الزمن.. إستدعيت من ذاكرتي الشاعر المعروف / أبي الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي .. والشهير بعمرو بن كلثوم .. وأمه أسمها ليلى بنت مهلهل ..
شاعر قوي الألفاظ .. جزيل المعنى .. معتز بنفسه وبقومه ..
عاش على نهر الفرات شقيق النيل العظيم وصنوه في تسلسله من الفراديس..
وصار سيد قومه وعمره 15 سنة .. و قاد جيوش قومه مظفرا ..
إشتهر بمعلقته هذه فقط .. و لم يعرف الناس بقية شعره كثيرا ...
فإلى خواطره التي تواردت مع حالتنا العربية حياتيا وسياسيا وإجتماعيا:
يقول عمرو في إفتتاحية معلقته الشهيرة :
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِـكِ فَاصْبَحِينَا *وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا
إفتتاحيته تدل على أنه ذو مزاج صباحي يحاكي أمزجتنا العربية ( ذات الطابع والمزاج المتعكنن من المعاناة الدائمة وخصوصا لو كانت الزوجة نكدية) .. ويظهر من مناشدته لخليلته أن تهب بالصحن من (يا فتاح يا عليم) ، فهذا بلا شك يوضح لنا مدى عشقه لكل ما هو ( مفتوت في الصحن ).. تماما كعشقه لهذا الصنف من الخمور الذي يدفعه دفعا لأكل كل ما هو معروف لدينا ( صحنيا ) و إن كان اللغويون يقولون أن الصحن مقصود به ( بطن الحوش أو البرندة الداخلية ) .. فيكون المعنى بأن عمرو وخليلته ينامان في الحوش أو الفناء الخارجي للبيت مثل أهلنا في القرى والبوادي والأمصار ويستيقظان مبكرين حتى لا تلفحهم شمس الصباح ..
تَجُورُ بِذِي اللُّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ إِذَا مَا ذَاقَهَا حَتَّى يَلِيـنَا
وكعادة النساء قديما و حديثا .. فإن المرأة إن بدأتْ في ( علْك اللبان بأنواعه ) فإنها لا تعير أحدا أي إهتمام يُذكَر .. تنشغل بهذا الطري الذي بين أسنانها .. تقلبه بين ميسرة الفك وميمنته وتنفخه هواءا وتطرقعه .. وتسْبَح في عالم يصوغه هذا (المعلوك) فيُضَخِم لها أمورا صغيرة ويستصغر لها أمورا ذات بال وأهمية قصوى .. ثم ترغب في إخراجه لتعود مرة أخرى وتعدل عن الفكرة لسبب مجهول وهي لاهية تماما عن هوى وغزل الحبيب ( الملطوع بقربها يراقب عضلات صدغيها وفكيها ) ولكن ما أن تعطيه قطعة من هذا اللبان حتى ينهمك هو الآخر في العلك و الطق حتى تلين اللبانة وتلتصق باللثة وبالأسنان و عندها يفيقان من غمرة ما كانا فيه فتلصقها هي في الجانب الداخلي ( لأقرب طاولة ) و يلفظها هو فرحا لخلو الجو له ..
صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو * وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا
رأتْ أم عمرو بأنه قد أكثر من الشراب و ( لسانو بقى تقيل ) .. فأوعزتْ إلى الساقي الذي يصب الخمر أن (يَفُطٌوه) ويتجاوزوه.
لذا فإن عمرو يعاتبها ويذكرها بأن الكأس دائما مجراه اليمين فلماذا ( يتجاوزوه ويبرطع الكأس شمالا و يقاطع جهة اليمين؟ ) ....
وَكَأْسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَـكَّ * وَأُخْرَى فِي دِمَشْقَ وَقَاصِرِينَا
(قاصرينا) هذي أشك في أنها تكون نفس تسمية إحدى المحلات المشبوهة التي يباع فيها المنكر ومشتقاته أو إحدى قاعات الديسكو.. و ربما دخل على الإسم بعض التعديل فأصبحنا ننطقها ( كاسرينا ) أىْ إجعلي لنا بعض الكسور العشرية والحسومات والخصومات في المشروب لأننا زبائن وكدة..
وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنَا الْمَنَايَـا * مُقَـدَّرَةً لَنَـا وَمُقَدَّرِيـنَا
غريب أن تخرج الحكمة من رجل لعبتْ الخمر برأسه .. و يالها من حكمة موغلة في فضاءات الإيمان المطلق .. أليس هذا حال بعضنا حيث يبدأون في شرب المنكر بعد التسليم من ركعة الوتر مباشرة وفي مخيلتهم تدور المقولة ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر )؟
قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينَا * نُخَبِّرْكِ الْيَقِيـنَ وَتُخْبِرِينَـا
خليلته جاءتها أخبار تفيد بأن قلبه قد تعلق ( بمُزّة ) آخرى .. لذا ( حردتْ وكشرت عن أنيابها ) و تريد أن تفارق ..
و كما هو معروف فقد كانت الأخبار أيام زمان تنتشر إنتشار النار في الهشيم لأن الغزل واللقاء كانا يتمان في الهواء الطلق و شعر الغزل كان يُلْقى بالصوت الحيًاني فتتناقله العربان بين عشية وضحاها ويضيف العوازل شمارا معتبرا من الإشاعات .. فهاهو يناشدها بأن تتريث قبل أن تهجره ليخبرها و تخبره بالخبر الأكيد ..
وَإِنَّ غَدَاً وَإِنَّ اليَـوْمَ رَهْـنٌ * وَبَعْدَ غَدٍ بِمَا لاَ تَعْلَمِينَـا
و هذا تأكيد على أن الرجل يؤمن تماما بأن لله سبحانه فقط علم الغيب .. أو ربما يخطط لها الرجل لعمل يستغرق منه اليوم و بكرة و بعد بكرة فوضع لها الأمر و كأنه إيمان بالغيبيات حتى ( تقع في الكمين ) ..
وَثَدْيَاً مِثْلَ حُقِّ العَاجِ رَخْصَاً * حَصَانَاً مِنْ أَكُفِّ اللاَمِسِينَا
ألم أقل لكم أن توارد الخواطر يسافر عبر السنوات الضوئية و تلك المظلمة ؟ هذا البيت بالذات جعل بعض النسوة يلجأن إلى تقنية طبية جعلتُ من هذا الجزء في أجسادهن كنتوءات البراكين وأجزاء أخرى كفقاقيع الشوربة وهي لا تزال تغلي على النار.
وَمَتْنَيْ لَدْنَةٍ سَمَقَتْ وَطَالَـتْ * رَوَادِفُهَا تَنُوءُ بِمَا وَلِينَـا
هذا البيت لن أعلق عليه، فهنا الشاعر عامل فيديو كليب زى بتاع شاكيرا.. و لا أدري كيف تركه قومه على هذه الإنزلاقة غير المهذبة .. ربما لأنهم يخافونه .. أو ربما لأن الوصف صادف هوى لدى المستمع .. يعني إتكيفوا وجعلوه يَعَدٍي من الرقابة ...
وَمأْكَمَةً يَضِيقُ البَابُ عَنْـهَا * وَكَشْحَاً قَدْ جُنِنْتُ بِهِ جُنُونَا
نفس الأبواب الضيقة كالتي عندنا كانت عندهم .. باب درفة واحدة و النسوان المجنزرات الواحدة تدخل بجنبة واحدة محشورة حشرا .. يا إما إنشرط الفستان يا إما الباب إنبعج من النص خاصة لو كان من الخشب الرخيص أو الألمنيوم المائع، يعني أي واحد عندو واحدة سمينة يقول لها بعد كدة ( يا مأكمة ) .. بدل ما يقول ليها يا دُبّة : ( مأكمتي جات .. مأكمتي راحت .. مأكمتي بعافية شوية) ...
تَذَكَّرْتُ الصِّبَا وَاشْتَقْتُ لَمَّا * رَأَيْتُ حُمُولَهَا أُصُلاً حُدِينَا
و يبدو أن شاعرنا كان في فريقه هو و أقرانه يلعبون مع الفتيات دون حرج بعفوية أهل القرى ونقاءهم ..( أيام نط الحبل وعسكر وحرامية ) فتذكر أيام زمان و تذكر أن للفتاة معدن جيد لا يصدأ .. فعاوده الحنين على كِبَر..
أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا * وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِينَـا
البدوي الجاهلي إن رمى عنه عباءة المجون و إلْتَفَتَ إلى الفخر والسيف و الجواد .. فإن لعينيه وهج الشرار وبريق الشر. فهاهو يقول لأبي هند : ( روِّق يا عم) و أنتظر لنخبرك الحقيقة ..
بِأَنَّا نُوْرِدُ الرَّايَـاتِ بِيضَـاً * وَنُصْدِرُهُنَّ حُمْرَاً قَدْ رَوِينَا
وَأَيَّـامٍ لَنَـا غُـرٍّ طِـوَالٍ * عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
وَسَيِّدِ مَعْشَرٍ قَـدْ تَوَّجُـوهُ * بِتَاجِ المُلْكِ يَحْمِي المُحْجَرِينَا
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْـهِ * مُقَلَّـدَةً أَعِنَّـتَهَا صُفُونَـا
وَأَنْزَلْنَا البُيُوتَ بِذِي طُلُوحٍ * إِلَى الشَامَاتِ تَنْفِي المُوعِدِينَا
وَقَدْ هَرَّتْ كِلاَبُ الحَيِّ مِنَّا * شَذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِيـنَا
كل هذه الأبيات هي قرْع لطبول الحرب و التخطيط لتوفير الدعم اللوجستي و الحرب النفسية التي تسبق الحرب و تشجيع لأركان حربه ..
مَتَى نَنْقُلْ إِلَى قَوْمٍ رَحَانَـا * يَكُونُوا فِي اللِّقَاءِ لَهَا طَحِينَا
أنظروا لهذ البلاغة الجزلة .. فقد شبه ميدان القتال برحى الطاحونة التي تدور فتطحن الحَب وتسحقه و شبًه أعداءه بالدقيق الذي يتناثر تحت وطأة الرحى ( و الرحى هي حجر الطاحونة ذلك الثقيل الوزن الذي يدور .. و في القرى يستعملون حجرا بالأسفل و حجرا بالأعلى مع وضع الحب في الوسط و تحريك الحجر الأعلى في شكل دائري بعصا مغروزة في فتحة بالحجر الأعلى .. في قرانا إسمها الرَحًاية أو المرحاة ) ..
يَكُونُ ثِفَالُهَا شَرْقِـيَّ نَجْـدٍ * وَلُهْوَتُهَا قُضَاعَـةَ أَجْمَعِينَا
و يكمل بلاغته هنا بأن إحدى حجرىْ الرحى في شرق ( نجد ) و الأخرى عند مضارب قبيلة قضاعة . يعني إنتشار مثل إنتشار قوات الأطلسي و حلف الناتو ..
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الأَضْيَـافِ مِنَّـا * فَأَعْجَلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
هاهو يسارع بإكرام ضيفه قبل أن يشتمه . و يبدو أن ضيفه من النوع ( شيّال حال والفولة ما بتتبلش في بقو ) ..
قَرَيْنَاكُـمْ فَعَجَّلْنَـا قِرَاكُـمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا
و لا أدري ما الذي يجعل هذا الضيف يقوم من نومه قبل الصبح فيسارع المضيف بإكرامه في ذلك الوقت مع العلم أنه لا توجد في تلك الأيام ثلاجة بها أكل جاهز يسخنوه ولا بوتوجاز ينجز عملية التسخين سريعا .. اللهم إلا إن كان هذا الضيف الفجعان سيأكل قليلا من العجوة التي جففها هجير الصحراء .. أو شوية دقيق عليه سمن ( و محل ما يسري يـ .... ) ..
بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْـدٍ * تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِينَا
تَهَـدَّدْنَا وَأَوْعِـدْنَا رُوَيْـدَاً * مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِينَـا
فَإِنَّ قَنَاتَـنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ * عَلَى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِينَا
هنا التهديد بالتدخل العسكري صار واضحا كتهديد العلوج للعراق.. فالرجل يسأل و هو يعرف الإجابة سلفا .. فيقول كيف تزدرينا و تستمع لكلام الوشاة و تصدقهم ؟ و كيف تهددنا و تتوعدنا و أنت تعرف بأن سيوفنا لا تلين من معاركنا التي كانت مع أعداءنا قبلك و بعدك ؟ و النتيجة معروفة بأن الحرب لا محالة واقعة ..
وَنَحْنُ الحَاكِمُونَ إِذَا أُطِعْـنَا * وَنَحْنُ العَازِمُونَ إِذَا عُصِينَا
ألم يكن هذا شعار كل الحكومات الشمولية لدينا ؟؟ ولا يزال في نواحي أخرى من بلادنا؟
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفَاً * أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينَـا
لا يحب هو وقومه الظلم و الذل .. و أظنه هو من مبتدعي الإنقلابات من على ظهور الخيل .. و لكنه كان يقود إنقلاباته في وضح النهار و وجها لوجه ..
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا * وَمَاءَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيـنَا
كيف عرف هذا الشاعر الجاهلي في ذلك الزمان بأن أناسا في بلاد العُرْب سيتناثر أبناؤها قسرا وطوعا برا و بحرا؟ لقد نافسْنا ملح الأرض في إنتشاره فصرنا على موائد الكرام و اللئام معا نجعل لحياتهم طعما و مذاقا و نكهة .. و ألم نزاحم السفن في شق عباب البحار والأنهار والخلجان؟ .. أصدقكم القول بأنني وجدت عربيا في الثمانينات يعمل جرسونا في فندق يعج بصالات القمار و الميسر في جزر البهامز في قلب المحيط .. يعمل في صمت وإبتسامة مريرة ترقد على جانب فمه .. لا يعرف أخبار أسرته في قريته النائية منذ أكثر من سنتين .. عندما رآني .. ترك طلبية الزبون التي في يده و عانقني طويلا دونما كلمة .. و أحسست أن جسده يهتز إنفعالا .. ملعون أبو اللي كان السبب ..
إِذَا بَلَغَ الفِطَـامَ لَنَـا صَبِيٌّ * تَخِرُّ لَـهُ الجَبَابِرُ سَاجِدِينَـا
بمجرد أن نفطم المولود يخر له جبابرة العالم ساجدين.. ( عمرو بن كلثوم ) هذا لو كان حياً إلى يومنا هذا ، ما أن يبشروه ويقولوا له : مبروك جالك ولد وتزغرد الخالات والعمات ونسوة الأهل والعشيرة ، ترتجف أوصال القصر الجمهوري و القيادة العامة للقوات المسلحة وتعلن الموساد التعبئة العامة ويولول نتنياهو : ألحقنا يا عم سام. ويوم سبوع الولد الهزبر هذا ، يعاد النظر في أمر دساتير البلاد والعباد وتتم مراجعة كل أفعال الربيع العربي ثم يتم إغلاق أبواب الجامعة العربية ويعاد النظر في الأحزاب المؤتلفة والمؤلفة قلوبهم و المهمشة والمهشمة أفئدتهم..
***
نحن أناس لا نعرف قدر أنفسنا .. يعرفنا الغير لذا يعملون على تفتيتنا ..
إبن كلتوم .. خواطرك وصلتنا .. ونشكرك شكرا كثيفا.
و هو إيمان نابع عن تجارب كثيرة مرت بشخصي الضعيف .. ولأشخاص آخرين سردوا تجاربهم الشخصية لي ..
و في سبيل الغوص في الخلفية النفسية لشعراء الجاهلية و في محاولة جادة ومستميتة بربطها بالمزاج العربي وإثبات التواصل عبر الزمن.. إستدعيت من ذاكرتي الشاعر المعروف / أبي الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي .. والشهير بعمرو بن كلثوم .. وأمه أسمها ليلى بنت مهلهل ..
شاعر قوي الألفاظ .. جزيل المعنى .. معتز بنفسه وبقومه ..
عاش على نهر الفرات شقيق النيل العظيم وصنوه في تسلسله من الفراديس..
وصار سيد قومه وعمره 15 سنة .. و قاد جيوش قومه مظفرا ..
إشتهر بمعلقته هذه فقط .. و لم يعرف الناس بقية شعره كثيرا ...
فإلى خواطره التي تواردت مع حالتنا العربية حياتيا وسياسيا وإجتماعيا:
يقول عمرو في إفتتاحية معلقته الشهيرة :
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِـكِ فَاصْبَحِينَا *وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا
إفتتاحيته تدل على أنه ذو مزاج صباحي يحاكي أمزجتنا العربية ( ذات الطابع والمزاج المتعكنن من المعاناة الدائمة وخصوصا لو كانت الزوجة نكدية) .. ويظهر من مناشدته لخليلته أن تهب بالصحن من (يا فتاح يا عليم) ، فهذا بلا شك يوضح لنا مدى عشقه لكل ما هو ( مفتوت في الصحن ).. تماما كعشقه لهذا الصنف من الخمور الذي يدفعه دفعا لأكل كل ما هو معروف لدينا ( صحنيا ) و إن كان اللغويون يقولون أن الصحن مقصود به ( بطن الحوش أو البرندة الداخلية ) .. فيكون المعنى بأن عمرو وخليلته ينامان في الحوش أو الفناء الخارجي للبيت مثل أهلنا في القرى والبوادي والأمصار ويستيقظان مبكرين حتى لا تلفحهم شمس الصباح ..
تَجُورُ بِذِي اللُّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ إِذَا مَا ذَاقَهَا حَتَّى يَلِيـنَا
وكعادة النساء قديما و حديثا .. فإن المرأة إن بدأتْ في ( علْك اللبان بأنواعه ) فإنها لا تعير أحدا أي إهتمام يُذكَر .. تنشغل بهذا الطري الذي بين أسنانها .. تقلبه بين ميسرة الفك وميمنته وتنفخه هواءا وتطرقعه .. وتسْبَح في عالم يصوغه هذا (المعلوك) فيُضَخِم لها أمورا صغيرة ويستصغر لها أمورا ذات بال وأهمية قصوى .. ثم ترغب في إخراجه لتعود مرة أخرى وتعدل عن الفكرة لسبب مجهول وهي لاهية تماما عن هوى وغزل الحبيب ( الملطوع بقربها يراقب عضلات صدغيها وفكيها ) ولكن ما أن تعطيه قطعة من هذا اللبان حتى ينهمك هو الآخر في العلك و الطق حتى تلين اللبانة وتلتصق باللثة وبالأسنان و عندها يفيقان من غمرة ما كانا فيه فتلصقها هي في الجانب الداخلي ( لأقرب طاولة ) و يلفظها هو فرحا لخلو الجو له ..
صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو * وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا
رأتْ أم عمرو بأنه قد أكثر من الشراب و ( لسانو بقى تقيل ) .. فأوعزتْ إلى الساقي الذي يصب الخمر أن (يَفُطٌوه) ويتجاوزوه.
لذا فإن عمرو يعاتبها ويذكرها بأن الكأس دائما مجراه اليمين فلماذا ( يتجاوزوه ويبرطع الكأس شمالا و يقاطع جهة اليمين؟ ) ....
وَكَأْسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَـكَّ * وَأُخْرَى فِي دِمَشْقَ وَقَاصِرِينَا
(قاصرينا) هذي أشك في أنها تكون نفس تسمية إحدى المحلات المشبوهة التي يباع فيها المنكر ومشتقاته أو إحدى قاعات الديسكو.. و ربما دخل على الإسم بعض التعديل فأصبحنا ننطقها ( كاسرينا ) أىْ إجعلي لنا بعض الكسور العشرية والحسومات والخصومات في المشروب لأننا زبائن وكدة..
وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنَا الْمَنَايَـا * مُقَـدَّرَةً لَنَـا وَمُقَدَّرِيـنَا
غريب أن تخرج الحكمة من رجل لعبتْ الخمر برأسه .. و يالها من حكمة موغلة في فضاءات الإيمان المطلق .. أليس هذا حال بعضنا حيث يبدأون في شرب المنكر بعد التسليم من ركعة الوتر مباشرة وفي مخيلتهم تدور المقولة ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر )؟
قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينَا * نُخَبِّرْكِ الْيَقِيـنَ وَتُخْبِرِينَـا
خليلته جاءتها أخبار تفيد بأن قلبه قد تعلق ( بمُزّة ) آخرى .. لذا ( حردتْ وكشرت عن أنيابها ) و تريد أن تفارق ..
و كما هو معروف فقد كانت الأخبار أيام زمان تنتشر إنتشار النار في الهشيم لأن الغزل واللقاء كانا يتمان في الهواء الطلق و شعر الغزل كان يُلْقى بالصوت الحيًاني فتتناقله العربان بين عشية وضحاها ويضيف العوازل شمارا معتبرا من الإشاعات .. فهاهو يناشدها بأن تتريث قبل أن تهجره ليخبرها و تخبره بالخبر الأكيد ..
وَإِنَّ غَدَاً وَإِنَّ اليَـوْمَ رَهْـنٌ * وَبَعْدَ غَدٍ بِمَا لاَ تَعْلَمِينَـا
و هذا تأكيد على أن الرجل يؤمن تماما بأن لله سبحانه فقط علم الغيب .. أو ربما يخطط لها الرجل لعمل يستغرق منه اليوم و بكرة و بعد بكرة فوضع لها الأمر و كأنه إيمان بالغيبيات حتى ( تقع في الكمين ) ..
وَثَدْيَاً مِثْلَ حُقِّ العَاجِ رَخْصَاً * حَصَانَاً مِنْ أَكُفِّ اللاَمِسِينَا
ألم أقل لكم أن توارد الخواطر يسافر عبر السنوات الضوئية و تلك المظلمة ؟ هذا البيت بالذات جعل بعض النسوة يلجأن إلى تقنية طبية جعلتُ من هذا الجزء في أجسادهن كنتوءات البراكين وأجزاء أخرى كفقاقيع الشوربة وهي لا تزال تغلي على النار.
وَمَتْنَيْ لَدْنَةٍ سَمَقَتْ وَطَالَـتْ * رَوَادِفُهَا تَنُوءُ بِمَا وَلِينَـا
هذا البيت لن أعلق عليه، فهنا الشاعر عامل فيديو كليب زى بتاع شاكيرا.. و لا أدري كيف تركه قومه على هذه الإنزلاقة غير المهذبة .. ربما لأنهم يخافونه .. أو ربما لأن الوصف صادف هوى لدى المستمع .. يعني إتكيفوا وجعلوه يَعَدٍي من الرقابة ...
وَمأْكَمَةً يَضِيقُ البَابُ عَنْـهَا * وَكَشْحَاً قَدْ جُنِنْتُ بِهِ جُنُونَا
نفس الأبواب الضيقة كالتي عندنا كانت عندهم .. باب درفة واحدة و النسوان المجنزرات الواحدة تدخل بجنبة واحدة محشورة حشرا .. يا إما إنشرط الفستان يا إما الباب إنبعج من النص خاصة لو كان من الخشب الرخيص أو الألمنيوم المائع، يعني أي واحد عندو واحدة سمينة يقول لها بعد كدة ( يا مأكمة ) .. بدل ما يقول ليها يا دُبّة : ( مأكمتي جات .. مأكمتي راحت .. مأكمتي بعافية شوية) ...
تَذَكَّرْتُ الصِّبَا وَاشْتَقْتُ لَمَّا * رَأَيْتُ حُمُولَهَا أُصُلاً حُدِينَا
و يبدو أن شاعرنا كان في فريقه هو و أقرانه يلعبون مع الفتيات دون حرج بعفوية أهل القرى ونقاءهم ..( أيام نط الحبل وعسكر وحرامية ) فتذكر أيام زمان و تذكر أن للفتاة معدن جيد لا يصدأ .. فعاوده الحنين على كِبَر..
أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا * وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِينَـا
البدوي الجاهلي إن رمى عنه عباءة المجون و إلْتَفَتَ إلى الفخر والسيف و الجواد .. فإن لعينيه وهج الشرار وبريق الشر. فهاهو يقول لأبي هند : ( روِّق يا عم) و أنتظر لنخبرك الحقيقة ..
بِأَنَّا نُوْرِدُ الرَّايَـاتِ بِيضَـاً * وَنُصْدِرُهُنَّ حُمْرَاً قَدْ رَوِينَا
وَأَيَّـامٍ لَنَـا غُـرٍّ طِـوَالٍ * عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
وَسَيِّدِ مَعْشَرٍ قَـدْ تَوَّجُـوهُ * بِتَاجِ المُلْكِ يَحْمِي المُحْجَرِينَا
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْـهِ * مُقَلَّـدَةً أَعِنَّـتَهَا صُفُونَـا
وَأَنْزَلْنَا البُيُوتَ بِذِي طُلُوحٍ * إِلَى الشَامَاتِ تَنْفِي المُوعِدِينَا
وَقَدْ هَرَّتْ كِلاَبُ الحَيِّ مِنَّا * شَذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِيـنَا
كل هذه الأبيات هي قرْع لطبول الحرب و التخطيط لتوفير الدعم اللوجستي و الحرب النفسية التي تسبق الحرب و تشجيع لأركان حربه ..
مَتَى نَنْقُلْ إِلَى قَوْمٍ رَحَانَـا * يَكُونُوا فِي اللِّقَاءِ لَهَا طَحِينَا
أنظروا لهذ البلاغة الجزلة .. فقد شبه ميدان القتال برحى الطاحونة التي تدور فتطحن الحَب وتسحقه و شبًه أعداءه بالدقيق الذي يتناثر تحت وطأة الرحى ( و الرحى هي حجر الطاحونة ذلك الثقيل الوزن الذي يدور .. و في القرى يستعملون حجرا بالأسفل و حجرا بالأعلى مع وضع الحب في الوسط و تحريك الحجر الأعلى في شكل دائري بعصا مغروزة في فتحة بالحجر الأعلى .. في قرانا إسمها الرَحًاية أو المرحاة ) ..
يَكُونُ ثِفَالُهَا شَرْقِـيَّ نَجْـدٍ * وَلُهْوَتُهَا قُضَاعَـةَ أَجْمَعِينَا
و يكمل بلاغته هنا بأن إحدى حجرىْ الرحى في شرق ( نجد ) و الأخرى عند مضارب قبيلة قضاعة . يعني إنتشار مثل إنتشار قوات الأطلسي و حلف الناتو ..
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الأَضْيَـافِ مِنَّـا * فَأَعْجَلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
هاهو يسارع بإكرام ضيفه قبل أن يشتمه . و يبدو أن ضيفه من النوع ( شيّال حال والفولة ما بتتبلش في بقو ) ..
قَرَيْنَاكُـمْ فَعَجَّلْنَـا قِرَاكُـمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا
و لا أدري ما الذي يجعل هذا الضيف يقوم من نومه قبل الصبح فيسارع المضيف بإكرامه في ذلك الوقت مع العلم أنه لا توجد في تلك الأيام ثلاجة بها أكل جاهز يسخنوه ولا بوتوجاز ينجز عملية التسخين سريعا .. اللهم إلا إن كان هذا الضيف الفجعان سيأكل قليلا من العجوة التي جففها هجير الصحراء .. أو شوية دقيق عليه سمن ( و محل ما يسري يـ .... ) ..
بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْـدٍ * تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِينَا
تَهَـدَّدْنَا وَأَوْعِـدْنَا رُوَيْـدَاً * مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِينَـا
فَإِنَّ قَنَاتَـنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ * عَلَى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِينَا
هنا التهديد بالتدخل العسكري صار واضحا كتهديد العلوج للعراق.. فالرجل يسأل و هو يعرف الإجابة سلفا .. فيقول كيف تزدرينا و تستمع لكلام الوشاة و تصدقهم ؟ و كيف تهددنا و تتوعدنا و أنت تعرف بأن سيوفنا لا تلين من معاركنا التي كانت مع أعداءنا قبلك و بعدك ؟ و النتيجة معروفة بأن الحرب لا محالة واقعة ..
وَنَحْنُ الحَاكِمُونَ إِذَا أُطِعْـنَا * وَنَحْنُ العَازِمُونَ إِذَا عُصِينَا
ألم يكن هذا شعار كل الحكومات الشمولية لدينا ؟؟ ولا يزال في نواحي أخرى من بلادنا؟
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفَاً * أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينَـا
لا يحب هو وقومه الظلم و الذل .. و أظنه هو من مبتدعي الإنقلابات من على ظهور الخيل .. و لكنه كان يقود إنقلاباته في وضح النهار و وجها لوجه ..
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا * وَمَاءَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيـنَا
كيف عرف هذا الشاعر الجاهلي في ذلك الزمان بأن أناسا في بلاد العُرْب سيتناثر أبناؤها قسرا وطوعا برا و بحرا؟ لقد نافسْنا ملح الأرض في إنتشاره فصرنا على موائد الكرام و اللئام معا نجعل لحياتهم طعما و مذاقا و نكهة .. و ألم نزاحم السفن في شق عباب البحار والأنهار والخلجان؟ .. أصدقكم القول بأنني وجدت عربيا في الثمانينات يعمل جرسونا في فندق يعج بصالات القمار و الميسر في جزر البهامز في قلب المحيط .. يعمل في صمت وإبتسامة مريرة ترقد على جانب فمه .. لا يعرف أخبار أسرته في قريته النائية منذ أكثر من سنتين .. عندما رآني .. ترك طلبية الزبون التي في يده و عانقني طويلا دونما كلمة .. و أحسست أن جسده يهتز إنفعالا .. ملعون أبو اللي كان السبب ..
إِذَا بَلَغَ الفِطَـامَ لَنَـا صَبِيٌّ * تَخِرُّ لَـهُ الجَبَابِرُ سَاجِدِينَـا
بمجرد أن نفطم المولود يخر له جبابرة العالم ساجدين.. ( عمرو بن كلثوم ) هذا لو كان حياً إلى يومنا هذا ، ما أن يبشروه ويقولوا له : مبروك جالك ولد وتزغرد الخالات والعمات ونسوة الأهل والعشيرة ، ترتجف أوصال القصر الجمهوري و القيادة العامة للقوات المسلحة وتعلن الموساد التعبئة العامة ويولول نتنياهو : ألحقنا يا عم سام. ويوم سبوع الولد الهزبر هذا ، يعاد النظر في أمر دساتير البلاد والعباد وتتم مراجعة كل أفعال الربيع العربي ثم يتم إغلاق أبواب الجامعة العربية ويعاد النظر في الأحزاب المؤتلفة والمؤلفة قلوبهم و المهمشة والمهشمة أفئدتهم..
***
نحن أناس لا نعرف قدر أنفسنا .. يعرفنا الغير لذا يعملون على تفتيتنا ..
إبن كلتوم .. خواطرك وصلتنا .. ونشكرك شكرا كثيفا.
تعليق