رواية الجنرال تحتاج إلى رأي نقدي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الله لالي
    أديب وكاتب
    • 07-05-2011
    • 74

    رواية الجنرال تحتاج إلى رأي نقدي

    هذه رواية لصديقنا الفاضل الأستاذ محمّد الكامل بن زيد ..
    كتبها وهو متردد في نشرها ويريد أن يعرف رأي جمهور النّقاد فيها قبل أن يفعل.. وقلبه مفتوح للنقد، رحب لكلّ اقتراح أو توجيه ..


    محمد الكامل بن زيد

    الجنرال
    خلف الله مسعود
    الأمعاء الخاوية
    رواية

    ملعون في دين الرحمان
    من يسجن شعبا ...
    من يخنق فكرا....
    من يرفع سوطا ...
    من يسكت رأيا ...
    من يبني سجنا ...
    من يرفع رايات الطغيان ...
    ملعون في كل الأديان ...
    من يهدر حق الإنسان
    حتى لو صلى أو زكى
    جمال الدين الأفغاني



    ------------------------------------ الققط السمان و الأرانب البيضاء

    وحده فقط يدرك أن ليس للأرانب البيضاء المتوارية هناك أي أمـل في عبــور الأزقة تحت جنح الظلام الدامس.. و وحده يميّز عن قناعة تامة مدى هول الفاجعة التي ستحل بالأرانـب إن هي حاولت أو خمنّت ولو مجرد التخمين أنّ هناك ملاذا آخر في الطرف المقابل من الشارع ينتظرها..فالوعد الشديد من قبل القطط السّمان في كل شبر من هذا الشارع الطويل ينتظر على أحر من الجمر مثل هاته اللحظة..هاته الخطوة..هاته الغلطة .. كي ينقض عليها.. فليس للشجاعة أي محلّ من الإعراب في هذا الشارع ..والانتحار له مدلول واحد ألا وهو الانتحار... ووحده أيضا يعلم علم اليقين أن الأرانب ستبقى أرانب والقطط السمان ستبقى قططا وسيبقى الحال على ما هو عليه إلى أن يشاء الله رب العالمين. قد تكون حدثت محاولات تعد على الأصابع غير أنها باءت بالفشل الذريع جميعها .. وإلى حدّ السّاعة وفي التوقيت نفسه..السّاعة العاشرة من كل ليلة ..تخرج هذه الأرانب من مكان غير معلوم وتبقى جاثمة في مكان واحد ..في الطرف الأول من الشارع .. وإلى حدّ السّاعة وفي التوقيت نفسه..السّاعة العاشرة من كل ليلة .. تأتي القطط السمان من مكان غير معلوم وتبقى جاثمة في مكان واحد ..في الطرف الآخر من الشارع .. ولا أحد من أهل الشارع يعلم إلى ما سيؤول الأمر ..فحتى أسئلتهم تبقى محاطة بالشك والريبة ويبقى انتظارهم انتحارا.. - أرانبك ...؟ - أرانبي ذبحتها ! - إذن لمن هذه ؟ - لا أدري.. ربما ..ليست لأحد ..ربما ضلت الطريق... - والقطط ..ربما كذلك ..ضلت الطريق... ويظل دعاؤهم تزكية..بعد أن ترتفع قهقهاتهم الممزوجة بالحسرة و الألم.. وبعد أن يستظل كل منهم بظله المعهود ! - وكفى الله شر القتال … وبين هذا وذاك لا يحق لي أن أنسى أقواله المأثورة لدي خاصة حين تتملكه السحابة السوداء ..فدون استئذان..دون استثناء ! تراه واجما عابسا ..ولا تنتظر طويلا حتى ترى أنّ كل شيء فيه تبدّل إلى شيء آخر ..معطفه العتيق ..قبعته السوداء..لحيته البيضاء حاجباه..كتفه..عيناه المبحرتان في اللانهاية .. - أنا لا أرضى أن تأكل الطير فوق رأسي… والحق ..الحق يقال إن مع كل هذا الوجوم ..هذا العبوس ..أشعر بالرهبة والهيبة والوقار الشديد نحوه ..فكلماته ليست كالكلمات..كلمات تجعلني أحس بسحر لذيذ يعتريني ..ولن أخف شيئا ولن أدعي الكذب إزاء ما تراه عيني وتسمعه أذني..فهذا الانجذاب وهذا الارتباط ...ألاحظه يتجسّد فيما حولنا من الأمكنة ..من أفواج البشر السائرة كأمواج عاتية تأبى الانتظار ..كلها عزم على الارتفاع عاليا ..كلها أمل في بلوغ سدرة المنتهى .. - و لا أريد لها أن تحوم حولي ثم صمت قليلا ليردف قائلا : - وأيضا لا أريد أن أكون لا قططا سمانا أو أرانبا بيضاء وبعد برهة عميقة من التأمل في الشارع الطويل يردّد : - الناس ما زالوا في طغيانهم يعمهون... حديثه عمق العمق .. بدا غير مكترث بحركة السير من حولنا..نظرة خاطفة أرسلها فيما حوله يستكشف بها الوجوه..كأنّي به يلّمح أنه يعلم خافية الأعين وأنه مازال على قيد الحياة..وأنّه مازال بجعبته الكثير والكثير ..خاصة ما دامت للروح حركة .." قالها بابتسامة عابرة"..انتظرت أن يبرر لي قوله لكنه لم يفعل ..اكتفى بالعبث بكمّ ثيابه الرثة الممزقة .. - اسمع.. السماء بعيدة كل البعد عن الأرض..ومن حلم أن السفينة طفت على سطح ماء البحر دون قدرة الإله ..فهو الجنون بعينه .. بالكاد عرفت أنها النهاية وأنّ الجنرال ما فتئ يختزل الكلمات ويختصرها للوصول إلى مبتغاه..لم أفقه ما قاله ساعتها لكني مددت يدي لأشدّ على يديه العالقتين في ذاكرة الزمن البعيد ، لأشعر عبرها بمرافئ الموت والحضارة..لا شيء يقلّ عن ماهية المكان المحيط بنا..فهذه ساحة "لاكور" حيث الأشجار الباسقة العتيقة ..التي لن يكذب التاريخ بشأن توقيت زرعها فالأرجح وهو الاحتمال الأكثر واقعية أنها تمتد إلى أكثر من قرن..وهذا العشب الأخضر المترامي على الجنبات حيث المقاهي والكافيتريات..فليلها كنهارها وقمرها كشمسها ..فلا الليل سابق النهار ولا للنهار فضل على الليل .. وأيضا حيث حشد من المتسولين ملتفون حولنا..لهم لون واحد وعملة واحدة ..ولغة واحدة.. - هؤلاء هم جيشي .. قالها بنبرة حنونة ..ودودة.. يشعرك أن هذا الجيش لولاه ما كان له أن يتكوّن ..أذهلني بصدق نبراته ..بصدق السحر الذي يتبادله معهم ..هوس يخلّد الارتباط الوثيق ..تحيّات من كل ناحية .. - مساء الخير ..يا جنرال - كيف الحال هذا المساء قال آخر .... - شدة وتزول يا جنرال.. أغمض عينيه للحظات مسترخيا بدا فيها كالنائم الحالم حلم تاريخ السنـــوات الماضيـــــــــة..يجعــــــــــل إحســــــــاســـــا خفـــــيا يعتريك يهمس لك بعين اليقين إنها لم تكن عادية وأنه هو أيضا لم يكن إنسانا عاديا .. - الجنرال ..لا يرد علينا .. توقف سلام المتسولين ليتغير إلى إشارات مبهمة وغير واضحة المعالم ..الكل يرسل إشاراته إلى الجوار ليتحول حضورهم حولنا إلى جماعـات وجماعات ..ذكروا الله في همس ..رهيب : - هل مات الجنرال.. - فأل الله ولا فألك.. - غير معقول.. ! نظرة أخرى نحو أشياء دقيقة غابت عن الجميع ولم تغب عن الجنرال..ثانية بثانية والحب المدفون في جنبات هذا الهيكل المثقل بالأحزان ..بالآهات ..بان للعيان ..معادلة كيميائية انصهرت بين الملامح الموجودة في عين المكان ..لم أصدق ما أرى وكذلك أصحابي من الهلال الأحمر الجزائري ..كنا ننتظر رجلا في آخر رمق له في الحياة حين طلب منا المساعدة..لكننا وقفنا على حقيقة أنّ المتسوّل لم يكن شيخا ناهز السبعين بقليل انتابته نوبة عظيمـــــــة وجـــــب إدراكه قبــــــل أن تدركــــــــه المنية ..بل كان جنرالا .. نعم جنرالا لجيش من المتسولين ..اختلفت أبدانهم وأجناسهم إلا أنّ الآهات هي آهة واحدة ..ولو قصّ علي الأمر سابقا لأقسمت أنّ هذا وهم ..هذا افتراء.. لكني الآن أراه حقيقة جلية المعالم .. اتسعت الحلقة من حولنا ..الجنود انتصبوا متجمدين.. حيرة ما بعدها حيرة وحبّ ما بعده حبّ.. - ليس بإمكان الجنرال أن يموت.. - استغفروا الله يا ناس.. الملتفين حولنا يتساءلون عن النبأ العظيم.. ماذا نفعل لا نريد أن نبقى مكتوفي الأيدي ..فالجنرال قد يضيع من بين أيدينا في أي لحظة.. أصابع الاتهام توجه لي كأني أنا المذنب .. - ماذا ..افعل شيئا ألست من مصالح الهلال الأحمر الجزائري ..؟؟ أومأت برأسي أي نعم ثم أجبتهم متأسفا : - لكني لست طبيبا أو ممرضا أنا بالكاد أكون متطوعا ..حالنا في رمضان و في كل رمضان ..حتى أصحابي لا يفقهــــون شيئا بعـــــــد الإسعافات الأولية ..فكلنا طلبة جامعيون أردنا فعل الخير ليس إلا.. - ماذا ؟..ماذا ؟ - يا للهول .. - حياة الناس لعبة .. أردت أن أدافع عن نفسي وعن أصحابي فأخذت أشرح لهم بكل الطرق المــشروعة والمفهومة ، حتى إني لم أشعر كم مضى من الوقت في جدال عقيم ..فحبّ هؤلاء للجنرال أعماهم عن حقيقة الأمر ..أعمى بصرهم وجعلهم لا يفقهون شيئا ..حقيقة أنّ الجنرال خلف الله مسعود ..إنسان ..شيخ بلغ من العمر عتيا .. - كيف تجرأ على قول مثل هذه الحماقة - الجنرالات لا يبلغون من العمر عتيا ..هم أناس ليسوا كباقي البشر ذهلت من أقوالهم ومن أفعالهم التي لم تكن تنم سوى عن إخلاص شديد ..أدركت حجم المأساة التي وقعنا فيها ووعيت لحظتها ..المثل القديم " جاء يسعى ضيع تسعة " ترددت في الجوار أنفاس حارة .... الهمسات الملعونة تتصاعد لتصبح صراخا حادا ..تتقاذف اللّعنات والشتائم من هنا وهناك ..أصبحت أنا و أصحابي في مأزق حقيقي ، والجنرال لا يزال بعيدا كل البعد عن موقع الأحداث فقد أضحينا عرضة لأشياء يستحي المرء أن يذكرها خاصة في شهر رمضان.. ليس هذا فقط فمنهم من حاول الإرتماء فوقنا عساه يؤخذ الجنرال من بين أيدينا ..وللحظة أحسسنا أنه ما عاد بمقدورنا فعل شيء فصرخنا أن هذا غير معقول ولا يجوز ..وليس هناك عرف يقضي بهذا ... ولم نستطع التغلب على الوضع إلا بقدوم سيارة الإسعاف التي ما إن توقفت حتى هرعنا حاملين الجنرال بين أيدينا لنغوص داخلها .. ولا ندري كم من الجنود تبعنا ولا أي من وسائل النقل اتخذها ليلحق بنا بمثل هذه السرعة إلى المستشفى الجامعي " ابن رشد ".. فيما بقي العديد منهم بالقرب من مرقده ، المتكون من بقايا كرتون وقطع البلاستيك والقش القديم يأمل الصبر ..يأمل النجاة للجنرال.. " يا رب ليس لنا في هذه المدينة سواه " صاحبي عبد القادر نظر إليّ بتهجم : - على أي حال ربنا ستر ..يا شهاب الدين ثم ابتسم ابتسامة بلهاء وقال : - وكان الله في عون الجميع. فأومأت له بإشارة رضى ثم تأملت وجه الجنرال خلف الله مسعود ..بدا لي أنه يحاول أن يتوارى داخل آفاق مجهولة مخلفا شفتين ضعيفتين تهمسان في حنان : - جنودي ..لكم الله


    يتبـــــع ...
  • عبد الله لالي
    أديب وكاتب
    • 07-05-2011
    • 74

    #2
    ------------------------------------------------------- عنابة ..مدينة بلا نوافذ
    عنابة .. عنابة يا عنابة .. مدينة بلا نوافذ.. بلا أبواب.. كل شيء فيها مفتوح على البحر والبحر داخل بحر.. عنابة .. عنابة يا عنابة .. وجه آخر لصفاء السماء وزرقة البحر..نافذة أخرى لمسافات الحلم والتيه ..والحب....
    ومن يقول إنّ للبحر ..البحر الأبيض المتوسط جواهرا ودررا ، سأقول و سأجزم حتما وأغلّظ الأيمان أنّ عنابة جوهرة ودرة ثمينــــة أيضا لا تقل عن جوهرة بيروت ..الإسكندرية ..نابولي .طنجة ..مرسيليا ..
    عنابة .. عنابة يا عنابة .. الولوج إلى عالم الموت والحياة في هذه المدينة يراه الكثير من أهلها انتحارا ما بعده انتحار ..وأراه حب ما بعده حب ..قد نختلف في المفاهيم لكن نتفق في حبها ..حب عنابة ..فعن نفسي أعتقد أن من يحب وجب عليه أن يغفر ..أن يسامح أن يستر كل خبايا من يحب..وأما هم فلن ألومهم إلا في شيء واحد كيف سمحوا لأنفسهم أن يصير مفهوم الانتحار لديهم عقيدة ..و ربما و هو الأمر الذي جعلني أرفع عنهم بعض الحرج في أفكارهم ..فعلى ما يبدو أن لسابق أحداث مختلفة مشبوهة عرفتها المدينة في الآونة الأخيرة أثر عميق في سيرورة الحياة بها وجعلت أنه من العبث إدراك كل ما يحدث حولهم وتفسيره كما كان الأمر فيما سبق ..إذ لا تكاد تميّز في أحاديث سيرة هؤلاء غير جرائم السرقة ..القتل ..الاغتصاب ..الهجرة أو بمعناها الشعبي ..الحرقة ..حيث تتسارع الأحداث كالنار حين تسرق لحظات العز التي يحياها الهشيم ..وتسوقه عنوة معها في ظلمات حالكة..غير آبهة بصرخات النجدة أو الندم ..فما مضى قد مضى .. بالأمس مثلا انتشرت عبر أقاويل الإسفلت قصة ذلك الشرطي الذي أطلق النار بعد سوء تفاهم على زميل له وطالبة جامعية تنحدر من مدينة قالمة المجاورة كانت برفقتهما على متن سيارة ( كليو كلاسيك) .. خرجوا لتوهم من الملهى الليلي في حدود الثالثة والنصف صباحا ومن ثم حاول الانتحار .. قيل إنه كان منهارا.. منهكا .. الضغوط اليومية سجنت أفكاره وأرهقت خياله وهو صغير في السن لم يفقه اللعبة جيدا..ظنها لعبة بلاستيكية يلهو بها متى شاء..والدليل أنه كان يمازح صديقه في العمل وليس أحدا آخر .. أما عن البنت فلم يعرف لها اسم ولا لقب عائلة فقط سميت مومسا والمومس مثلما هو معروف هواء لمن لا هواى له ..أو هواء نشرته الرياح بين جنبات الجبال المحيطة بالمدينة .. آخر شخص أسهب في سرد الواقعة أقسم الأيمان أنّ هذا ما حدث و هو نفسه ما دونته الدفاتر الرسمية لتحقيقات الشرطة...دون تزييف والأدهى والأمر أنّ أحاديثهم المتواترة دائما عبر أقاويل الإسفلت معظمها إن لم نقل جلها تتحدث عن جماعات ..يختلف عددهم كل مرة ..تارة سبعة ..تارة ثمانية ..وتارة الله أعلم بعددهم ..يأتون خفية ويرحلون خيفة ..ولسان حالهم .. - الله أمرنا بهذا .. وما يحز في نفوس هؤلاء ..أهل المدينة.. أنّ في الجماعات من كان جاره..أو رفيقه في الدراسة أو زميله في العمل ..فهم يعرفونهم حق المعرفة ولن يتوانوا في إعطائكنبذة عميقة عن أصل كل واحد من هؤلاء ..فما حرّم باسم الدين لقرون خلت حلّل وباسم الدين أيضا في ساعات.. ومن كانت زجاجة الخمر أفضل له من زوجته وأولاده وأمه صار..داعيا إلى الله ..إلى الرسول .. ومن كان الملهى الليلي الشمس الحمراء المعروف عند العامة ..عنوانا لدوامه أصبح الجبل ملجأ خالدا ..والكثير من هؤلاء إذا أمسك بأحدهم وسأل لماذا ؟ ..أجاب لقد فررنا بديننا واتبعنا الرسول حين أمرنا.. ولا أدري لماذا دوما حين أفكر في الأمر جليا يتبادر إلى ذهني قوله تعالى"إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهـــدي من يشــــــاء " وأنّ الرّسول (ص) أوصى بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، وأنّ الحسنة تمحو الخطيئة وأنّ لا وازرة تز وزر أخرى .. الجميع يدرك تمام الإدراك هذا الشيء ومؤمن به إلى أبعد الحدود ، فهذا كلام الله وهذا كلام الرسول (ص)..غير أنه يتساءل أين كان هذا قبل بداية سنوات التسعينيات ..وأين تجدد إيمانهم ..هل اطلعوا على الغيب فأجازوا ما حرم الله ...هذه هي إذن فلسفتهم ..ما عادى الناس عرف ..ومن استباح العقيدة ..فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين .. يا إلهي نجنا مما نخشى ..فما جاء بعدها كان أعظم وأجل.. إذ لما قضي الأمر .. كانت السنوات التاليات عجافا ..وكان الجمر الأحمر يلفنا من كل ناحية ..حتى سماؤنا الزرقاء غطتها سحابة سوداء ..قاتمة ... أسئلة مكبوتة تبحث لها عن مخرج ولسان حالها .. - الله أمرنا بهذا.. الأفضل ألا أعود إلى الجرّة.. فالجرّة انكسرت وحدث الذي حدث.. فمن كان منبوذا فيما سبق أصبح الآمر الناهي بين أزقة هذه المدينة العتيدة ..
    أما عن نفسي لا أعرف لماذا استهوتني هذه المدينة بالذات .. فقد زرت الكثير من المدن .. أكثر من خمسين عاما ..وأنا أجوب مدن هذا الوطن ..شرق ..قسنطينـــــة ..باتنـــــة ..بسكـــــرة ..خنشلـــة ..غرب ..وهران ..تلمسان.. سعيدة ..جنوب ..غرداية .. ورقلة ..بشار ..وسط..تيبازة ..البليدة ..تيزي وزو..وليس غرورا أو نزوة عابرة لا سمح الله أنني لم أترك شبرا واحدا لم أزره ..غير أني أجدني مبهورا مسحورا متعلقا بها ..
    - عنابة شيء آخر سيدي وهذه الساحة "ساحة الثورة" أو كما يسميها أهل عنابة "لاكور" هذه لم تكن هكذا قبل أمد ليس ببعيد...كان هناك حلم ..حب ..نشوة ..صدقني وإن أفضل حلم ..حب ..نشوة كان حين يضل جميع العنابيين يسترقون السمع إلى صوت الحسن العنابي حين يصدح داخل المسرح الجهوي عز الدين مجوبي.. عنابة .. عنابة يا عنابة .. هذه البناية الشامخة أمامنا ..كما البنايات العتيقة هي أيضا تعشق الحكي عن قصة الأمس ..قصة الثورة الثورة ..الحلم الثورة ..شعاع امتدّ في ذات الجميع الثورة ..جزائر مطلع المعجزات الثورة ..نحن قد تقول في قرارة نفسك ما دمت قد جبت البلاد وعرفت الناس وعرفت من الصفات ما يراد وما لا يراد ..أجب عن هذا العشق غير المعتاد سأجيبك أنّ في ثنايا عنابة هناك سرّ دفين ولا أعرف لماذا يحدثني قلبي ويصر أيما إصرار على البوح به لك مع أنني لم ألتقك إلا بالأمس .. ففي عنابة عرفت أشياء وأشياء .. عرفت أنّ أرضنا أحرقها المستعمر وأنّ ما بقي من أهلي أعدموا جميعهم عدا أخي الوحيد فقد أخذه العسكر معهم وحين سألت قيل مات في حرب لاندوشين .. عرفت أنني كنت فتى ذا بنية قوية ما فتئ الفرنسيون يستغلون سذاجته لاستخدامه كبودي قارد في الكباريهات ... عرفت معنى العمل الفدائي بعد أن اتصل بي أحد الإخوان ، وفرحت ساعتها حين ردّد على مسمعي قائلا أنّ الجبهــــة تحتاجك وتسعد بمساعدتك لها..لم أشعر بنفسي وأنا أعانقه بحرقة..فالدموع غلبت مقلتي .. أنا.. هذا الساذج الذي ما فتئ يتبختر بعضلاته أمام الجميع ..الجبهة تحتاجه .. لم أفكر طويلا فيما تحتاجني الجبهة فقد جاء الجواب سريعا و كان الأمر بسيطا ..في غاية البساطة ..تفجير الملهى الليلي ..لأنّ معظم رواده من الجنود الفرنسيس..والحركى عرفت أنني أحببت ولأول مرة أحب ..كانت راقصة فرنسية ..فيها الكثير من آيات الجمال ليس آية واحدة فقط.. عرفت أنّ اسمها ستيفاني وأنّ اسمي مسعود ..خلف الله مسعود عرفت أن اختياري لموعد التفجير لم يكن موفقا فقد عدّل دور ستيفاني لحظتها دون أن أعلم رغم حرصي الشديد .. عرفت أن ستيفاني لم تعد راقصة ..ولن لتعود إلى الحياة ..و إلى الأبد ستيفاني لم تكن راقصة فقط ..كانت مبنع الحنان ..لا أقول لك أني لم أضاجعها بل على العكس تماما ..كانت تحب أن أقضي عليها كل مساء ..كل صباح ..كانت عنيفة ترفض التوقف وترفض معها الخسارة .. كانت مضاجعتي لها كإبرة مقوية لترقص رقصتها المشهورة ..ولا يستريح لها بال إن لم آت في غير موعدي ..تصبح كالمجنونة تثير أتفه الأسباب حتى لا ترقص غير أنها ما إن تراني تحس بأن تلك العاصفة كأن شيئا لم يكن ..كان ذاك حالها أيام تعارفنا الأولى.. كانت صريحة كل الصراحة ..فلم أكن الوحيد أو الأول ..بل جئت الأخير ولن تخمن في أحد آخر غيري ..كانت صادقة فمع مرور الوقت أصبحت شهوتها ليست شهوة عاهرة بل شهوة إنسانة ..تحب من أجل الحب ..تغير كل شيء فيها ..كانت تحدثني عن مأساتها ومأساة الكثيرين من الفرنسيين..كانت من أولئك الرافضين للحرب ..للاستعمار..كانت تحب السلام ومن دعاته مما تسبب لها في كثير من المتاعب ..أصبح حبها عميقا عمق عينيها الزرقاوين ..وكيف لي أن أنسى حين حاولت جماعة مخمورة من الجنود الفرنسيين أن ينالوا من كرامتي بإهانتي ..أيها العربي ..النتن ..أيها الجزائري ..الوسخ..كلماتهم موجعة واستفزازاتهم الدنيئة جعلت بركانا هائلا من الغضب والتحدي ينفجر فيهم جميعا ..غمامة سوداء سدت مـــــــــآذن الحكمــــــــة والتروي ..غلطة كبيرة لم أحسب لها حسابا؟ ولما غلطة كبيرة ؟ أنا كنت أدافع عن شرفي ..عن كرامتي ..مدير الملهى لم يجد حرجا في الوقوف بجانب الجنود بإذلالي بصراخه العالي ولم يبق من حركاته الصاخبة غير أن يركلني برجله العرجاء ..أنت مطرود أيها ..النتن أيها الوسخ ..إلا هي ..وحدها كافحت ..قاومت ..لماذا يقع اللوم يقع عليه أليسوا البادئين؟ ..أليسوا هم الظالمون؟..كانت صرختها كافية لتهز عرش مدير الملهى ..هو وأنا أم هم ..كان انتصارا عظيما .. حتى إنها سمحت لي بغرفة بسيطة في القبو الموجود أسفل بيتها ..وجعلت من إخوتها الأربعة ينادونني ..عمي مسعود .. آه ..ستيفاني ..كانت حبي الأول والأزلي آه ..يا حب الحب ..لا أنكر أن نساء عديدات مررنا في حياتي واختلطنا معي داخل بوتقة التوحد الوجداني المعيشي إلا أنه لا واحدة استطاعت أن تهز وجداني ..تزحزح ستيفاني عن عرش ملكها ..وإن لم تخيبني الذاكرة هناك واحدة حاولت الاقتراب من كرسي العرش ..ولم أدر في البدء أنّ حبها كان محرما إذ كانت متزوجة ..حتى حين مات عنها زوجها في حادث انفجـــــــار حافلة ملغومة ..ما بين الجزائر العاصمة والبليدة حيث كان ما يسمى بمثلث الموت..رفضت المغامرة بعرش ستيفاني ..وأقنعت نفسي ..ربما سأظلم هاته المسكينة معي ..حبي لستيفاني كان حبا ..عشقا ..أما هاته المرأة فشفقة ..حنان ..قد تشبهها إلى ابعد الحدود ..غير أنها لم تكن يوما ولن تكون ستيفاني .. وأنا أرفض رفضا قاطعا مثل هذه التصرفات ..فالله ما هو بظلام للعباد.. عرفت أن القوة لا تدوم وأنّ الله حي لا يموت .. عرفت أنّ يدي اليمنى بترت وأنا أحاول أن أبعد قنبلة يدوية وضعتها إحدى الجماعات ليلا ..لم أتبين عددها ..فقد كان الظلام دامسا والجو ماطرا جدا ..كانوا يرتدون قمصانا بيضاء ومعاطف خضراء ..في البدء خلتني أحلم ..هل هم الملائكة ..فعيناي كانتا مرهقتين إلا أنهما استعادا توازنها عند لحظة رمي الكيس الأسود عند باب العمارة المجاورة للمسرح الجهوي عزالدين مجوبي ..كان ليلا رهيبا ..أسرعت إلى ذلك الكيس الأسود بأقصى ما أملك من السرعة بعد أن رحلوا ..غالب الظن أنهم لم ينتبهوا إلى موضعي المعتاد وإلى كوخي الصغير المكون من بقايا الكرتون وبعض من القش القديم ..ربما ظنوه موضع زبالة .. لم يستغرق الأمر مني ثوان معدودات لم أعرف ما حدث بعدها ..هل أنا ميت ..هل أنا روح ..هل أنا خلف الله مسعود ..غير أني كنت على يقين أن الله حي لا يموت... عرفت أني أصبحت أقود جيشا من المتسولين لا أعرف كيف ومتى تكوّن هذا الجيش .. هذا الشيء الوحيد الذي لم أعرفه إلى حد الساعة ..ربما النية الخالصة لوجه الله والكلمة الطيبة .. أحيانا تلتقي القلوب بحنان فياض وتتآلف دون حساسيات أو خلفيات ..الخلفية الوحيدة والظاهرة للعيان أنهم مساكين ..فقراء ..عابروا سبيل ..كل له حكاية مع هذا الزمن أتدري أنهم هم من نصبني جنرالا ليس لأني أقدمهم في الساحة بل اعتقادا منهم أني لم أنل حظي من الشرف العظيم من هذا الوطن ..أنا لم أطلب بطاقة المجاهد ولم ألهث خلف وثيقة السيارة أو المنحة.. أنا اخترت الله والله يعرف كيـــــف يكـــــــــافئ جنوده يوم القيامة .. كان حديثه عالما آخر من عوالم عنابة ..إلتقيته بالأمس فقط لكن أدركت عبره مختصرا لتاريخ عنابة ..جاءت آهاته عنوانا فاضحا لمكنونات هذه المدينة الجميلة ..مزيج رهيب من الألم والخوف ولم يوقفه عن الحديث سوى دخول الممرضة حاملة الدواء - صباح الخير يا جنرال - صباح الخير يا ابنتي - كيف الحال ..إن شاء الله لا بأس - نحمده ..بعد الذي مررت به ..ليس لي إلا الحمد - هناك امرأة تريد الاطمئنان عليك - من - تقول ميمونة - آه ..ميمونة دعيها تدخل استدار مرة أخرى ناحيتي كأنما يوضح لي أمرا عميقا يهزه هزا قائلا : ميمونة ..يا ولدي ..قطعة أخرى من قطع شطرنج الحياة ..تاهت ما بين حركة الخذ والهات .. هي الحيرة ما بعدها حيرة ..

    يتبـــــــــع ...

    تعليق

    يعمل...
    X