انتقام
- لماذا تهرولين نحو الفناء!؟
فقالت السيجارة ودخانها يتزايد كثافة وهي تشتعل غضبا:
- لم اعد أحتمل، هذه الشفاه التي تحضنني والتي ينبغي أن تكون بوابة مفتوحة للقلوب ومنبع حب ورقة وإحساس ومبعث الحنان في أوصال الصغار والكبار،لا تتوقف عن خيانة الوطن أو خيانة الأخّوة، وعن مضغ لحوم الناس، ونهش أعراضهم، والعبث بهم كعبث النار في عشب يابس، لا تفرق بين عدو وصديق!
قال فنجان القهوة وهو يبتسم عن ألم:
- وهل هذا ما يدعوك إلى الانتحار !!!؟
- لا أسعى إلى الانتحار بقدر ما أتوق إلى الوصول بالنار إلى شفتيه لأترك بهما بصمة لا يمحها الزمن،علّه يتعلم أن الوطن له ثمن، ويحترم الناس في غيابهم كما ينافق لهم في حضورهم.
وانتهت السيجارة قبل أن تنهي كلامها مع فنجان القهوة، فلسعته في شفتيه اللتين لا تتوقف كأنها تمضغ لبانا.
صرخ معروف الكاتب وانطلقت من بين شفتيه شتيمة للتبغ ولمن يصنّعه ولمن يدخنه، وامتدت يده بالسيجارة إلى فنجان القهوة الذي لم يبرد بعد، ليسحقها فيه كعادته، كأنه يثأر من عدو مُزمن، فاحترقت أصابعه بالسائل الساخن، واهتز فنجان القهوة سعادة تشفيا بمعروف الكاتب الذي لا يتوقف لسانه عن الثرثرة، كأنه يحركه محرك آلي.
قال فنجان القهوة للسيجارة:
- لن يلومك على ما فعلت لائم، إنه حقك كما هو أقل ما يستحقه.
تشجعت الطاولة الصغيرة حين انسكب السائل الساخن عليها، كأن الحياة دبت بها، فقالت:
- طوال مدة إقامتي في هذا البيت كنت أحرص أن أبدو هادئة أحافظ على العلاقة الأسرية إكراما لزوجته الفاضلة، أحيانا تتصلّب شراييني وأبدو كالخشب من التقارير التي يكتبها على ظهري، وكلها إساءات للوطن والمجتمع والناس،ومنهم أعزّ أصدقائه.
قال القلم وهو ينزف دما اسود، بلون الليل، لقد أحال معروف الكاتب حياتي ليلا حالكا، حتّى فقدت احترامي لنفسي، مرة أكون أسودا، ومرة أحمر وأحيانا لالون لي ولا شكل لا أسير على سطر مستقيم، وما عانيتم منه جزء مما أعانيه، يقودني كالأسير، مغمض العينين في دروب مظلمة، كدروب المهربين، لا أستطيع الاعتراض أو الرفض أو الانحراف إلى الطريق القويم، ضعيف أنا بين يديه، واهن لا حول لي ولا قوة.
قال الورق:
- لقد سوّد وجهي وجعلني عبرة سيئة وصفحة سوداء في التاريخ، أفقدني نظافتي ونقائي، وصرت وأنا الوجه الأبيض الذي ينقش عليه الشعر والحكمة والأدب والفن الجميل ملوثا كمن فقدت عذريتها بغير إرادتها، أحسّ بالخزي والعار.
تنبهت زوجة معروف الكاتب على هذا الحوار الساخن، وتقدمت لتسأل عما يجري، ولما بدا عليها أنها تفهمت أسباب تمرد السيجارة وفورة السائل وتأثر الخشب وأنين القلم وحشرجة الورق، هاجت وألقت اللوم على زوجها، وسرعان ما تحول الحوار بينهما إلى شجار فيه عنف كلامي وبدني، وأقسم إن هي تكلمت ستخرج من البيت ولن تعود.
وعندما استدعيت الشرطة من قبل مجهول، أنكرت الزوجة أمام الشرطة وجود أي شجار، وبررت أنما يقوم به زوجها قام ويقوم بمثله ملوك وأمراء وشيوخ قبائل، وأنها تعرف رؤساء دول كانوا يضعون لحوم البشر في ثلاجات، ليقيموا عليها أحسن الولائم، و كبار كتاب وشعراء يطعنون بعضهم في سكاكين الكلام، وفنانين رحلوا عن الدنيا وهم في خصام مع زملاء لهم وحسد لا يحسدون عليه، وقالت أن زوجها نسمة منعشة في الصباح وشمس ساطعة في النهار، وهواء منعش عند الأصيل، وقمر يبدد الظلام في الليل وحصان أصيل.
تعليق