الدار اللي هناك -2-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    الدار اللي هناك -2-

    أقدم لكم أحبائي الجزء الثاني من قصتي المطولة "الدار اللي هناك" آملا أن تجدوا متعة في قراءتها .. وسأدرج هنا رابط الجزء الأول لمن أراد أن يطلع عليه ..
    مع كل حبي و تقديري و أيضا شكري لكل من يمر من هنا .

    الدار اللي هناك - الجزء الأول - "الدار اللي هـناك" أغنـية شغـف بها جـدي كثيـرا وصارت مفضـلة عند أبي الـذي يردد مرارا أنها تذكره ببيت طالما تمنى الإقامة فيه مثلما حلم باقتـنائه العديـد من سكـان القريـة لجماله ورحابـته . ولكـم تمنـيت معرفة سـبب بقـاء ذلك البـيت مهجـورا حتـى تآكلت حيطانه وتساقط قرميده . لكنه ظـل شامخا


    الدار اللي هناك -2-

    (1)

    [align=justify]تمر السنون دون أن تشهد " المجرى " تغييرا محسوسا أو جديدا يذكر ، سوى أن بعض البنايات أضيفت لمركز القيادة وتوالى القواد عليها كل أربع سنوات .. فكان لكل واحد منهم طابعه الخاص و بصمته الواضحة وكذا سمعته . فكان من الطبيعي أن تسمع من الأهالي وصفا مختلفا من قائد لآخر . فهذا طيب وذلك حازم و آخر أحمق مجنون و غيره متسلط كزوجته التي لا تتورع عن نهب الغلال و المواشي في عقر المنازل و في وضح النهار.. يقابل ذلك خنوع تام من طرف الأهالي الذين كان شعارهم ألا مزاح مع النار و الماء و المخزن . أما في ما عدا ذلك ، فالحياة تستمر رتيبة لكنها هادئة ، و تزداد خمولا كل صيف بقيظه و جمود الحركة فيه بعد انتهاء الحصاد و الدرس .
    في هذا المساء ، و الشمس قد آذنت بالمغيب وراء الجبل الكبير ، أجلس على ضفة النهر الذي تكاد تجف مياهه منه . تلك هي عادتي مذ كان جدي يجلس بجانبي ويحكي لي الغرائب و العجائب من الحكايات .. شعوري مزيج من الأسى لتوارد الذكريات الحزينة على ذهني ، ومن البهجة بفضل الهدوء التام الذي يسود المكان .. لكن إحساسا آخر نغص علي صفوي و جعلني مشوش الذهن . فمن جهة ، صرت مشغول الفكر بالرحيل المرتقب قصد متابعة دراستي الثانوية بمدينة الشاون ، و من جهة أخرى انشغلت برحيل لطيفة عند خالتها بتطوان لنفس السبب . لكن هذا لم يؤثر في كثيرا مثلما أزعجني تغير تصرفاتها معي . إذ صارت أكثر تحفظا من ذي قبل ولم تعد معاملتها تتسم بتلك الحيوية و المرح و اللهفة للخروج معا نركض عبر التلال و الوديان . بل طال تغيرها تواجدنا في حجرة الدراسة حيث أحس أنها كثيرا ما تتجنبني وتتحاشى النظر إلي ، وتعرض عن اقتراحي باللعب كعادتنا .. وكم من مرة ذهب ظني إلى أن ترقية أبيها إلى درجة قائد ممتاز قد تكون من وراء هذا التحول المفاجئ . لكني لم ألمس منها تكبرا أو افتخارا إزاء قريناتها البدويات فبالأحرى معي .
    كانت ترقية والد لطيفة إيذانا برحيلها إلى مركز الدائرة على الساحل ، لكن الرجل فضل الإقامة بالمجرى و التنقل يوميا إذا اقتضى الحال بينها و بين بلدة "السطيحة "الساحلية . ولهذا تسنى لنا أنا و لطيفة عدم الافتراق ومتابعة الدراسة حتى التحاقنا بالإعدادية ، فكان ذلك مبعث سعادتي . لكن هذه السعادة لم تدم طويلا ، وعانيت كثيرا من تصرفات غريبة من طرف لطيفة ومن تقلب مزاجها . فتارة ألمس منها لهفة للهو و المرح ، فتضحك و تمازحني ، وتارة تغيب عني طويلا . وحين تظهر ، تحدثني باقتضاب أقرب للجفاء كأنها لا تعرفني ، فنبدو كغريبين يتعارفان لأول مرة . وليس هذا فحسب ، فقد شعرت أن معاملة أمها لم تعد كما كانت في السابق . إذ لم أعد أجد ذاك الترحاب لدى عروجي على منزلها و أنا عائد من نزهة قصيرة ، ولا تلك الحفاوة و أنا ألج المنزل لننجز واجباتنا المدرسية معا . فزاد هذا من إحباطي وفتر نشاطي فترة إلى أن انتبهت أمي لذلك ، خاصة حين نجلس حول المائدة . كانت تلاحظ سهومي وعزوفي عن الأكل . وحين يتنبه أبي إلى ذلك يتجاهل الأمر ولا يعير شرودي أي اهتمام ، بل يغير مجرى الحديث إلى أن أشعر أني طرف فيه دون وعي مني . كان يقول مثلا وهو يلمح إلى قرب سفري إلى الشاون :
    - لو تضامن الأهالي وقدموا عريضة يطالبون فيها بإحداث السلك الثاني من الثانوي هنا لتمت الاستجابة لطلبهم .
    و أتساءل شاردا :
    - ولم لا يفعلون ؟ ما المانع من ذلك ؟
    فيلتفت إلي مبتسما و عيناه تلمعان ويقول متنهدا :
    - يا بني .. الناس هنا لا زالوا غير واعين ، ويخافون من كل شيء .. لا يعرفون حقوقهم من واجباتهم .
    - وهل المطالبة بالسلك الثاني يخيف إلى هذا الحد ؟
    - ألم أقل لك ؟ .. هيه .. قل لي الآن .. هل تفضل الإقامة عند عمتك أم في القسم الداخلي ؟
    وجمت لحظة فتابع قائلا :
    - أم تراك تريد البقاء هنا و الاكتفاء بما بهذا المستوى الإعدادي ؟
    وضحك فابتسمت ، و ابتسمت أمي وهي دامعة العين . ربما من التأثر بقرب رحيلي ، أو لرؤيتي أبتسم بعد أيام من الوجوم . وقلت وذهني يسرح بعيدا :
    - أفضل أن أقيم بالقسم الداخلي .
    كنت متلهفا لأن أعيش كما حدثني من سبقني إلى هناك . ولطالما سمعت عن حكايات ومغامرات مختلفة عما أعيشه في قريتي الوديعة .. وهنا عاودتني الكآبة لتذكري فراقها الوشيك . وكأنما أدرك أبي ذلك وقرأ ما يدور بخلدي من أفكار فقال :
    - أنا أدرك ارتباطك بالمجرى ..لكن الدراسة تتطلب الرحيل . و أنت الآن رجل .. ماذا سنقول عن الإناث ؟
    أدركت أنه يعني لطيفة ، فقلت مبتسما :
    - رجل في الخامسة عشرة من العمر ؟
    - هي بداية الرجولة .. ألم تر إلى أقرانك هنا يتحملون المسؤولية وهم أقل منك سنا ؟ بل منهم من يتزوج في كثل عمرك .
    احمر وجهي و ضحكت رغما عني و أنا أتخيل زميلي " الأرنب " الذي صار أبا وهو لا يكبرني سوى بعام واحد .
    واستطرد ابي متشجعا بضحكتي يقول :
    - وليس هذا فحسب .. بل هناك من سيرحل بعيدا .. إلى تطوان . بينما أنت على مرمى حجر من المجرى .
    - تقصد لطيفة بينت القائد .. الممتاز ؟
    حرصت على النطق بكلمة "ممتاز " مع شيء من السخرية .. ولم يغب ذلك عن أبي الذي أجاب :
    - أجل صديقتك ..
    - لا أدري إن كانت لا تزال صديقتي .
    - ولم ؟ .. ما الذي حدث ؟
    انتبهت إلى أبي استدرجني بذكاء إلى الحديث عما كان يقلقني ويقض مضجعي و أدركت أنه قد فات الأوان لكتم ما يعتلج في صدري فقلت بمرارة :
    - لا أفهم ما يجري .. صارت غريبة الأطوار وكأن ترقية أبيها ...
    هنا قاطعني أبي قائلا في شبه لوم :
    - لا تسئ الظن بالناس يا بني .. ربما تكون مريضة أو تعاني من مشكل ما .. قد تكون غير راضية عن فراقها للقرية ومن فيها ..
    شد انتباهي ما يحمله كلامه الأخير من تلميح ، لكني تجاهلته واستطردت قائلا :
    - حسنا .. وكيف تفسر تصرفات أمها ؟ .. أين تلك المعاملة الخاصة و أين ترحيبها بي كلما لقيتني أو زرت منزلهم ؟
    تبادل والداي نظرات ذات معنى ، ونهض أبي وهو يقول متنهدا :
    - نعم يجب أن يكون لهذا سبب .. على كل حال .. كل واحد هو حر في تصرفاته وبيته ..
    وتدخلت أمي لأول مرة بعد أن ظلت تتابع الحديث باهتمام وهي تحيك قميصا صوفيا وقالت :
    - لا تشغل بالك يا بني .. فغدا ترحل وتلتقي أصدقاء جدد .
    كان قولها بمثابة لطمة عنيفة أيقظتني من حلم جميل رغم ما اعتراه من توتر . هل يعني هذا أن كل شيء انتهى و أن لطيفة صارت مجرد ذكرى يجب علي نسيانها أو تناسيها ؟ أ يعقل هذا ؟ مستحيل .
    خرجت مسرعا و اندفعت إلى الربوة المقابلة لمنزلنا ثم تابعت الصعود إلى المنبع محاذيا النهر .و أوغلت في الغالية على سفح الجبل لا ألوي على شيء . سلكت طريقا عادة ما يسلكه الرعاة متوجهين إلى القمة حيث يقضون هناك أسابيع ، بل شهورا إلى أن يقترب الخريف أو ينتصف ثم يعودون بقطعان المعز و قد ازدادت سمنة ، لتلزم الحظيرة طيلة فصل الشتاء القارس بعد أن يكون العلف قد تم تخزينه من قبل بكمية وافرة .
    نظرت مليا إلى قمة الجبل الجاثم قبالتي و تحركت رغبتي من جديد في اكتشاف المجهول . ولم أكن قد خضت مغامرة منذ انتهاء حكاية المنزل المهجور الذي صار مأهولا الآن وزاد عدد ساكنيه بعد أن انضمت إلينا جدتي و ازدياد اثنتين من أخواتي .[/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 10-04-2013, 04:09.
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    #2
    (2)

    [align=justify]صار أبي قائدا للحامية وازدادت أواصر العلاقة بينه و بين القائد الممتاز . وكان من عادتهما القيام برحلات عدة ، تارة إلى قمة الجبل و تارة إلى أسفل الوادي حيث الغدران و الخوانق ذات الغطاء النباتي الكثيف . فيصطادون اليمام و الأرانب . وكنت في بعض الأحيان أجلس على حافة الشط أرقبهما ينحدران إلى أسفل الوادي صحبة بعض الموظفين وثلة من البدويين ذوي الخبرة في قنص اليمام و درايتهم بأماكن تواجده ، فأظل أراقبهم إلى أن يغيبوا عن بصري ، ثم لا ألبث أن أسمع طلقات نارية ، فأعرف أن القنص قد بدأ .
    وقد سمح لي أبي مرة بمرافقته ، لكنه لم يدعني بعد ذلك قط . ربما لأنه لم يستسغ حوار البعض أمامي وما تضمنه من كلمات بذيئة و روايات عن مغامرات عاطفية لبعض الشبان في ذلك المكان المنعزل المقفر .. حكايات أيقظت فضولي وأثارت تساؤلات جمة في ذهني .. كانت مع ذلك رحلة ممتعة عند "غدير شامة " و " المقطوعة " التي لم تكن تتوفر على ضفتين و إنما كان يحف بها جداران من الصخور الملساء الشاهقة حيث يتخذ اليمام أوكاره . و أذكر أنني شعرت ، و أنا أغطس في الغدير لأول مرة ، بالرهبة و انا ألتفت يمينا و يسارا فلا ألفي سوى صخورا صماء تعالت في السماء و صمتا رهيبا يلف المكان ، فينعش ذلك ذاكرتي ويعود بي إلى فترة اكتشافي لبيتنا الذي كان في يوم من الأيام مهجورا .
    وأنا في وسط الغدير ، أخذت أرنو إلى أعلى الصخور المليئة ثقوبا و أوكارا تختلف أحجامها . بعضها على شكل كهوف صغيرة . وكانت الصخور التي على جهة الشرق امتدادا لسفح الجبل بحيث كانت تطل الأشجار من أعلاها كأنها تريد الغطس . ترى ماذا وراء تلك الأشجار ، وهل هناك من ورائها كهوف أكبر كالتي حدثني عنها صديقي "الأرنب" وعن روادها من المقامرين أو الهاربين من المخزن ؟
    لكن هيهات .. زمن المغامرات ولى مع انتهاء حكاية المنزل رغم أن ما قرأته من الكتب التي تركها لي عمي الفاضل قد أثرى معجمي وصرت على دراية بكثير من المناطق القريبة من قريتي . وفيها ما يشتهيه كل عاشق للمغامرات ومحب للاستكشاف .
    ولى ذلك الزمان . أما الآن فستبدأ مرحلة أخرى بعيدا عن "المجرى" . ترى هل أحتمل البعد عنها ؟ .. حقا ، إن هي إلا تسعة أشهر تتخللها عطل كثيرة يمكنني العودة أثناءها ، لكني أشعر أن هذا كثير . ولا أدري لم انقبضت نفسي وأنا أفكر بالمرحلة المقبلة رغم حبي للدراسة و شغفي بالمزيد من التحصيل .
    انتبهت إلى صوت أبي يدعوني للالتحاق به كي نتناول الغذاء . وكعادتي شرد ذهني بعيدا و سبحت أفكاري موغلة في نسج أسفار و رحلات في الخيال ، بينما كان أبي يراقب بكل هدوء وصمت شرودي و انطوائي و ميلي شيئا فشيئا للعزلة ، ويجيب أمي الملتاعة :
    - لا تقلقي .. هذا شيء طبيعي لمن في مثل سنه .
    - لكن ، ألم تر نحافته و هزاله ؟ حتى الأكل صار ينفر منه . أين مني ابني المرح الأكول ؟
    - لا عليك . فقط ، لا تكثري من لومه أو حتى سؤاله .
    - يعني .. قلبي يتقطع عليه ولا أتكلم . أليس هو ابني ؟
    ويطيب أبي خاطرها وهي تجهش بالبكاء قائلا :
    - أنا أعرف لوعتك وقلقك عليه . هو ابني أيضا . اصبري قليلا ، فسوف يمر كل شيء بسلام إن شاء الله .
    كنت أسمع ما يقولانه بشأني و أنا في غرفتي مستلقيا على فراشي ، أو مطلا من النافذة على الوادي الغارق في الظلام . ربما كانا يحسبانني نائما ، لكن همسهما كان واضحا وسمعت أبي يقول قبل أن يغادر مائدة العشاء حيث يجلس قبالة أمي وهما يرتشفان الشاي :
    - لقد قررت إرساله مع الطالب "علي" إلى بلدة "تزخت" بناء على طلب والده . هي فرصة ليرتاح قليلا و يغير الجو قبل أن يرحل . لا يزال أمامه شهر بكامله .
    - هل ترى ضرورة في ذلك ؟
    - أجل .. وقد يفيده هذا خصوصا وأن ..
    - ماذا ؟
    لم أسمع بقية الحديث . ربما تشاغل أبي كعادته في أحكام غلق النوافذ حتى لا تتسرب الحشرات إلى الداخل . ثم أطفئت مصابيح الغاز وساد الصمت .
    الطالب علي شاب ضرير يقدم إلى المجرى مرارا لزيارة أبيه الموظف بقسم الاتصالات اللاسلكية بالقيادة ثم يعود إلى بلدته بالمصروف الشهري للأسرة وبعض الحاجيات ، مع ما يدره عليه الأهالي كإعانة بصفته حافظا للقرآن الكريم ، قبل أن يلحق به أبوه بعد يوم أو يومين . ولكني لم أكن أعلم أنه يأتي وينصرف قاطعا الفيافي و القفار وحيدا دون دليل أو أنيس .
    في البداية لم أستسغ فكرة الذهاب إلى "تزخت" ، قبل عودة جدتي من طنجة حيث اصطحبت معها أخي للعلاج من أورام في الفخذ ومغص يراوده بين الفينة و الأخرى .. غير أني كنت متحمسا لمرافقة الطالب علي إلى بلدته . قد يكون الطريق الذي كنا سنسلكه يذكرني بأشياء جميلة وغريبة حدثت و نحن نغادر القرية في يوم من الأيام .
    حين عادت جدتي ، صدمت لما أصاب أخي من هزال و شحوب . . صار كالخيط هزالا ونحافة لكنه لم يفقد من مرحه و دعابته شيئا ، وعاد إلى مشاكسة الصغيرتين اللتين لم تكونا تطيقان فراقه رغم ذلك . فعاد إلى المنزل مرحه و بهجته بعد أيام من الصمت الذي لم يكن يتخلله سوى حديث والدي المعتاد عني و ضحكات أختي وهما تلاعبان القطط و الكلاب التي كانت تحوم حول المنزل بحثا عن الأكل أو اللعب . و في بعض الأوقات ، كنت أرى أبي قادما وهو يتصنع الغضب ، ممسكا بيد أختي الصغرى بعد أن وجدها توغل في الغابة مطاردة إحدى الدجاجات وبحثا عن بيضها ..
    قال الطبيب لجدتي إن الأورام شيء بسيط ولا يدعو إلى القلق ، لكن المغص يمكن أن تكون له مضاعفات خطيرة بسبب ضعف بنية أخي . وبعودة جدتي و أخي واطمئناني عليه ، انصب كل اهتمامي على الرحلة إلى "تزخت" .
    وعشية اليوم المقرر لذهابي إلى تلك البلدة ، كانت بلدة بجوار المجرى على موعد مع حفل زفاف ابن احد الأعيان الذي أصر على أن يكون حفلا لم يسبق له نظير . استدعى له كل من يعرف من الأهالي و الوجهاء ، وحرص على أن يبرز حضور رجال السلطة بما فيهم قائد المجرى و أبي و القائد الممتاز ، بل ودعا موظفين سامين من تطوان و شفشاون و الحسيمة . كم كان الحفل بهيجا ومترفا .. الذبائح لم تنته منذ الصباح و موسيقى الغيطة و الطبل لم تتوقف ، بل إن أجواقا من النواحي المجاورة استدعيت للحفل .. وكعادتي ، لزمت مكانا تحت إحدى الأشجار الكبيرة بالقرب من سرادق كبير نصب من أجل وجبة العشاء ، بحيث كان الظلام يغطي جزء منه مما مكنني من الاختفاء وفي نفس الوقت من رؤية كل من يمر. وكان بصحبتي صديقي الأرنب بينما انصرف الآخرون ينشدون الرقص و الغناء صحبة الجوق .. قال لي الأرنب :
    - لم لا تذهب وترقص ؟
    - ليست لي رغبة في ذلك .. لا تتحرج في الذهاب إذا كنت تريد ذلك .
    الأرنب كان يريد أن يكون من أوائل الملتفين حول مائدة العشاء كي ينصرف باكرا . أما أنا فبقيت أنظر مليا هذه الحركة التي لا تنتهي وهذا الصخب الحميمي . إلا أني لم أكن أستطيع منع نفسي من النظر ناحية تجمع فتيات المجرى بحلتهن القشيبة ، وكنت أنسى نفسي و أتطاول بعنقي كأنني أبحث عن أحد . ولم أشعر إلا و أبي بجانبي يلمس كتفي قائلا :
    - ألا تريد المشاركة في "الغرامة" ؟
    - بلى .. لقد سهوت عن ذلك .
    وانطلقت معه وأنا أشعر بالدم يكاد يفور من وجنتي . هل لاحظ أبي تطلعي نحو الفتيات ؟ لا يبدو عليه ذلك وإن كانت تلك عادته . يخفي كل شيء بابتسامته الخفيفة .
    وصلنا إلى الباحة بقرب المنزل الذي بني على شكل قصر ، ووجدت حشدا قد أحاط بأحد الأهالي وهو يصيح كلما ناوله أحد شيئا :
    - ..... وهذه بذلة من نوع تركال مهداة إلى العريس من السيد قائد المجرى الله يجازيه و يكافيه .... وهذه مائة درهم مقدمة من فقيه المسجد الله يعوض له و يرزقه ...
    وهكذا استمرت الغرامة و الأوراق النقدية تتكدس والهدايا تنهال بوتيرة سريعة .. وكنت أتساءل عن غير وعي مني ما الذي يمكن أن يكون القائد الممتاز قد أهداه وهل حضرت لطيفة ذلك .
    بعد أن شاركت في الغرامة انسللت قافلا إلى مكاني المفضل . وفي الطريق مررت بالبدويات الصغيرات و هن يضربن على الدف ويغنين ويزغردن .. لكن لم تغب عني نظراتهن الباسمة إلي وكأن موضوع أهازيجهن موجه إلي . كدت أتعثر بحجر ببساط أمامي وأسرعت أنزوي بجانب السرادق . ومرت إحداهن بالقرب مني و هي تحمل دفا كبيرا .. حدقت في لحظة ثم أسرعت حيث رفيقاتها . بينما تابعت طريقي نحو الشجرة فوجدت الأرنب قد عاد وهو لا يزال يمضغ فقلت ضاحكا :
    - بالصحة و العافية .. هل امتلأت البطن ؟
    - قليلا .
    وضحك مقهقها .. كنت أعلم انه لن يكتفي بوجبة واحدة و أنه سوف يعيد الكرة و يتعشى ثانية .. وما كان انتظاره لي إلا لأرافقه ونجلس معا حول المائدة .
    في تلك اللحظة بدت لي أم لطيفة مقبلة صحبة أمي و والدة العريس . لا بد أنهن متوجهات للعشاء .. أين تكون لطيفة ؟ ولم يتأخر الجواب .. فقد أقبلت من ناحية سرادق وانضمت إلى البدويات وهن يغنين . كان قد مر وقت طويل لم ألتق فيه بلطيفة فاشتد خفقان قلبي و أحسست أن الدم يكاد يتوقف في عروقي .
    لا أنكر أني كنت ألاحظ التغير الذي طرأ على لطيفة واعتنائها بشأنها .. وكان ذلك يمتعني خاصة حين تعقص شعرها إلى الوراء وتربطه كخصلة واحدة على ظهرها .. لكني وجدت تلك الليلة لطيفة أخرى .. أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى . فقد حرصت على أن تتأنق بشكل كبير و تنتقي أحسن ما لديها من ثياب ، فبدت أقرب لعروس منها إلى فتاة مدعوة وهي ترفل في قفطانها الأزرق وقد تمنطقت بحزام مزركش أبان عن خصر سوي في طور التكوين . كانت صاحباتها يتجاذبنها إلى الوسط كي ترقص ، لكنها كانت تمانع و هي تشير إلى من يحيط بها من الفتيان الذين كانوا يملأون الجو صفيرا .. ولم أدر كيف أدارت وجهها فجأة وراحت تنظر ناحيتي .. لا شك أن هناك من اخبرها بمكاني .. ولابد أن تكون تلك الفتاة التي التقيتها في طريقي وأنا عائد من الغرامة .. لن أنسى ابتسامتها الخفيفة و هي تمر بجانبي .
    [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 09-04-2013, 12:57.

    تعليق

    • ريما ريماوي
      عضو الملتقى
      • 07-05-2011
      • 8501

      #3
      جميلة القصة ... وتوقفت بنا عند مقطع مشوق...

      أتابع بشغف... شكرا جزيلا على الإمتاع...

      تحيتي وتقديري.


      أنين ناي
      يبث الحنين لأصله
      غصن مورّق صغير.

      تعليق

      • رشيد الميموني
        مشرف في ملتقى القصة
        • 14-09-2008
        • 1533

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
        جميلة القصة ... وتوقفت بنا عند مقطع مشوق...

        أتابع بشغف... شكرا جزيلا على الإمتاع...

        تحيتي وتقديري.
        العزيزة ريما ..
        لا أملك إلا أن أهنئ نفسي على هذا الاهتمام والتجاوب منك مع كتاباتي القصصية خاصة .
        تعليقك وثناؤك تشجيع لي على مواصلة العطاء ..
        وأملي أن أكون دائما عند حسن ذائقتك الأدبية الرفيعة كأديبة متمكنة .
        شكرا من كل قلبي .
        خالص مودتي .

        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #5

          (3)

          كان التفاتها كافيا ليجعلني أذكر تغير تصرفاتها نحوي .. لكني كنت واقعا تحت تأثير غريب وأنا أنظر إليها في بهائها . وشعرت أنني لن أنعم براحة البال و لن أستمتع بالحفل هذه الليلة . أحسست بأن علي أن أغادر المكان ، وما لبثت أن تصنعت صداعا و طلبت من أبي أن يأذن لي بالذهاب .. طبعا كان الأرنب مهتاجا لقراري لكنه استمهلني لحظات ريثما يحصل على فرصة للعشاء ثانية . وكان لا بد لي أن أسايره . وقبل أن أذهب ، حرصت على أن أذكر أبي برحلتي ، فأجاب ضاحكا :
          - لم أنس ذلك .. الطالب علي سيبيت مع أبيه هذه الليلة ، وسنعود سويا بعد الحفل .
          عدت إلى المنزل وجسمي ينتفض . ماذا جرى لي ؟ هل هو من أثر رؤيتي للطيفة ؟ هل لأني لم أجرؤ على التقدم إليها لمحادثتها ؟ أم أن ابتسامها لبعض الفتيان ، وخاصة أبناء الموظفين القادمين من بعيد ، وهم يطرون جمالها أغاظني ؟
          كنت أصعد مرتفعا والأرنب في أثري ، والصخب يخفت شيئا فشيئا حتى وصلت إلى الشط حيث أشرف على الحفل وقد توهجت أنواره لكثرة المصابيح خاصة الغازية منها . ودعني الأرنب و انصرف تجاه المنبع حيث مسكنه وهو يتفحص ما غنمه من زاد . أما أنا فلم أكن أدري إن كنت لا زلت راغبا في الرحلة أم أنني حدثت والدي بذلك في لحظة انفعال .
          وجدت جدتي لا زالت ساهرة و قد اضطجعت بجانب إخوتي الثلاثة .. لا شك أنهم سعدوا بإحدى حكاياتها الجميلة . بادرتني بالسؤال عما جاء بي في هذه الساعة و الحفل لم ينته ، فأجبتها بأني أشعر بصداع .
          - هذا أحسن .. ارتح قليلا .. ما هناك سوى الضجيج .
          هكذا كانت جدتي .. تؤيدني مهما كان تصرفي .. و لو قلت لها إني سأعود إلى الحفل لقالت لي إذ ذلك أفضل حتى أسري عن نفسي و أمرح مع الأصحاب .
          - سأخرج إلى الحديقة قليلا .
          - حسنا .. الجو حار .. والجلوس هناك مريح لك .
          ابتسمت لجوابها المتوقع ، وخرجت ألتمس أقصى ركن من الحديقة حيث شجرة التين الفارعة . جلست مسندا ظهري إلى جذعها الضخم و نظرت إلى أعلى متأملا النجوم وقد اختلفت أحجامها .. حتى أن بعضها بدا على شكل ضباب . ثم شعرت بالتعب والنعاس يدب إلى جفوني . وحين عاد والداي من الحفل كنت قد نمت ، ولم أفطن لدخولهما ..
          قضيت نصف اليوم التالي في تعهد بعض الورود في الحديقة و لم أغادرها حتى نادتني أمي للغذاء وأصرت على أن آكل بما فيه الكفاية حتى تطمئن علي و أنا في رحلتي المقبلة .. وعلى مائدة الغذاء تحدث أبي عن الطالب علي و عن أشياء أخرى لم أنتبه إليها لشرود ذهني و سهومي أثناء الأكل .
          انطلقنا بعد العصر بقليل وسلكنا نفس الطريق الذي اتبعناه أنا و أسرتي يوم كنا نرحل عن القرية . فهاجت أشجاني وانهالت الذكريات على مخيلتي و كأنني أعيش من جديد نفس الأحداث .
          حين وصلنا إلى أسفل الجبل الذي يذكرني دائما بصورة غلاف الكتاب المدرسي المقرر باللغة الفرنسية ، لمحت كوكبة من الفتيات قادمات من منبع قريب . كلهن كن بدويات باستثناء لطيفة التي كانت تتقدمهن وهي تلتقط بعض الأزهار .
          خفق قلبي بعنف ولم أدر هل يتوجب علي المبادرة بالتحية أم لا . لكني نظرت إليها وأنا أبتسم منتظرا أن تسألني عن وجهتي التي ربما كانت تعرفها . لكن شيئا من هذا لم يحدث . بل فوجئت بها تشيح عني بوجهها وتبتعد مع رفيقاتها وهي تهمهم بكلام لم أفهمه . غير أن قهقهة الفتيات وهن يتبعنها مهرولات أثارت حفيظتي وشككت ، بل أيقنت أني موضوع سخريتهن . هل كن يتندرن بي ؟ ماذا عساهن أن يقلن ؟ هل ذكرت لهن شيئا عني أثار كل هذا الضحك ؟
          لم أشعر إلا و أنا أنادي بصوت مرتفع الطالب علي وهو يستريح على صخرة صغيرة :
          - هيا بنا سريعا .. فالمكان وسخ و مليء بالحشرات .
          ساد الصمت وتوقفت القهقهات ، بينما التفتت إلي لطيفة برهة . تبادلنا النظرات ، ثم ، فجأة ، رأيتها تولي وجهها شطر القرية و تهرول مجهشة بالبكاء .
          هل أخطأت و تسرعت بالتعبير عن غضبي وظننت السوء بما همست به لرفيقاتها ؟ كان شعوري مزيجا بالارتياح لما قلته لها وبشيء من تأنيب الضمير . فأخذنا نصعد الجبل وأنا لا ألوي على شيء ، و الطالب علي يسير أمامي حين لا أميز الطريق وتتشعب أمامي عدة مسالك . كان يخطو بثبات وكأنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب أو كأنه يراه . وكنت أنظر إلى قمة الجبل وأعيش لحظات الدراسة . نفس الشكل و نفس الجو الذي كنت أعيشه مع النصوص بتوالي الفصول الأربعة وأنا في حجرة الدرس .
          وما زلنا نصعد حتى وصلنا إلى القمة حيث ألقيت ، كما فعلت سابقا ، آخر نظرة على المجرى وهي تودع آخر شعاع من الشمس المتوارية شيئا فشيئا وراء الجبل الكبير ، فزاد ذلك من انقباضي رغم جمال المنظر . وسرحت بذهني إلى ما حدث بيني و بين لطيفة فلم أعد أرى الطريق من شدة تأثري . وفي لحظة عثرت بحجر فتمزق حزام حذائي المطاطي . وانتبه الطالب علي إلى تلكئي في المشي فتوقف و قال :
          - هل تعبت ؟
          - لا ، ولكن حزام حذائي تمزق .
          - حسنا ، لنسترح عند تلك الصخرة ، وسوف أصلح لك حذاءك .
          التفت حيث أشار ، فوجدت الصخرة كما قال مما زادني تعجبا و اطمئنانا لصحبته وسط هذا المكان القفر . جلسنا و الظلام قد بدأ يغزو الأفق . رأيته يخرج من فتحة جلبابه خيطا و إبرة ثم طلب مني أن أناوله فردة الحذاء . ولم تمض دقائق معدودة حتى كان الحزام قد خيط بإحكام . وسألته :
          - هل هذا الطريق يؤدي إلى "قنطرة ربي" ؟
          - لا .. لقد تركنا الطريق إليها خلفنا .. ذاك الذي ينحدر إلى اليمين . هل زرت القنطرة يوما ؟
          - نعم .. لكني نسيت الطريق إليها . متى سنصل إلى "تزخت" ؟
          - بعد قليل .. لاشك أنك متعب .
          - لا ، ولكن الليل قد أقبل .
          - لا تخف .. أنا أعرف الطريق جيدا .
          بالنسبة للبدوي ، فإنه حين يقول لك إنك ستصل بعد قليل فإن ذلك يعني أن عليك المسير أكثر من ساعة ، وحين يشير بيده إلى أن المكان قريب ، فمعناه أن المسافة قد تشمل جبلا أو على الأقل هضبة . هكذا كان شأني مع الطالب علي ونحن لا ننتهي صعود مرتفع أو نزول منحدر حتى تناهى غلى مسامعنا نباح كلب وتراءت لي بعض الأنوار الخافتة المنبعثة من قناديل غازية . وكأن الكلب عرف رائحة صاحبه فأقبل يتشمم قدمه و يتعلق بجلبابه ابتهاجا بمقدمه .
          لم أكن أميز شيئا مما يحيط بي و انا أتقدم نحو أحد البيوت ملتصقا بالطالب علي وهو يلج الباب بثبات . ملأت انفي رائحة الماشية وهي تجتر وتخور و تثغو . واستقبلتنا ربة البيت بالترحاب بينما لزم أبناؤها الخمسة الآخرون الصمت وهو ينظرون إلى ابن القبطان بفضول . بل منهم من توارى خلف أمه بعين واحدة في حين اختفى نصف وجهه وراء ملاءتها .

          كنت منهكا و أحس بانقباض . ربما بسبب مفارقة أهلي وحلول الظلام الذي زادني وحشة . وقد يكون للأثر الذي خلفه في نفسي ما حدث بيني و بين لطيفة عند الأصيل . لكني سرعان ما استسلمت للنوم فور استلقائي على الفراش غير عابئ بالطالب علي يناديني للعشاء ورائحة الدجاج تملأ خياشيمي .






          [/td]
          [/tr]
          [tr]
          [/tr]
          [/table]


          التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 09-04-2013, 13:44.

          تعليق

          • ريما ريماوي
            عضو الملتقى
            • 07-05-2011
            • 8501

            #6
            جميلة ... ويا لوداعك للطيفة المسكينة ...

            واضح لي الحب في عينيها....

            ما زلت اتابع....

            تحيتي ...


            أنين ناي
            يبث الحنين لأصله
            غصن مورّق صغير.

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
              جميلة ... ويا لوداعك للطيفة المسكينة ...

              واضح لي الحب في عينيها....

              ما زلت اتابع....

              تحيتي ...
              العزيزة ريما ..
              متابعتك وتفاعلك مع أحداث القصة يحفزني لإدراج المزيد من أحداثها بكل اطمئنان .
              شكرا لتشجيعك ..
              باقة ورد لك مع خالص مودتي .
              التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 10-04-2013, 04:00.

              تعليق

              • رشيد الميموني
                مشرف في ملتقى القصة
                • 14-09-2008
                • 1533

                #8
                (4)

                أفقت عدة مرات لأجد نفسي ممددا على مصطبة من الطين مفروشة بغطاء صوفي سميك . حاولت تمييز الأشياء من حولي والإطلالة من نافذة صغيرة بالحجرة ، فلم أر سوى الظلام .. ومع مرور الوقت بدأت المعالم تتضح أمامي مع بزوغ أولى خيوط النهار وهي تنير الأفق ، في الوقت الذي بدأ صياح الديكة يتعالى في استرسال ممتع .
                توضأت و صليت الصبح وأنا أحس بالبرد ، وأخذت أبحث عن رداء أغطي به كتفي على الأقل ، ثم نهضت إلى الباب وفتحته لأجد نفسي أمام منظر عجيب .. فأمامي كان منحدر سحيق لا ينتهي إلا عند الوادي ، ومن ورائي جثم الجبل بكل جبروته وهيبته ، بحيث بدا لي المنزل وكأنه معلق على سفحه ، بينما امتدت على يميني حقول مائلة وقد تناثرت عبر أرجائها أشجار التين و البرقوق و المشمش و الكرز وبعض أشجار التفاح و الإجاص و الجوز .
                ندت حركة من ورائي ، فالتفتت لأجد إحدى أخوات الطالب علي تقول مطرقة :
                - "عزي" (أخي الأكبر) يدعوك "لتخرف" ..
                و"تخرف" معناه تناول فاكهة الخريف . ومن عادة البدويين أن يتناولوها طازجة ، خصوصا التين ، بحيث تكون باردة ندية في هذا الصباح الجميل و الشمس لم تشرق بعد . فما كان مني إلا أن أسرعت متجنبا الانزلاق في المنحدر وذهبت إلى حيث أشارت الصبية فمررت في طريقي ببئر عريض على شكل بركة ، لكنه ضحل ، و الطالب علي جالس في وسطه يستحم وقد دهن رأسه الحليق وسائر جسده بمسحوق الصابون الخاص بالأواني . أخذتني رعشة و سألته :
                - ألا تشعر بالبرد ؟ .. الماء مثلج في هذا الوقت .
                - نعم هو بارد ، لكنه صحي و منعش ، وأنا تعودت على هذا .. هل تجرب ؟
                ضحكت و أنا ابتعد كي لا يصيبني رذاذ الماء وقلت :
                - لا .. لا .. شكرا ، وبالصحة و العافية .
                ومع إطلالة أولى أشعة الشمس وأنا في أعلى شجر التين ، تبين لي كم هو ساحر منظر هذه البلدة التي لا يزيد عدد دورها على العشرة ، وكم هو بهي ما يحيط بها من غابات و قمم حقول مشرئبة نحو الوادي . أما الأشجار فكانت تغطي المنطقة وتلونها بخضرة يانعة تزيدها زرقة السماء الصافية جمالا وحسنا لا نظير لهما .
                قضيت وقتا في تسلق أشجار الفاكهة وتأمل الأفق البعيد ونفسي تلهج بالشكر سرا لأبي على فكرته بإرسالي إلى هذا المكان البهيج . كنت أتسلى بتسلق أشجار الكرز وحين أرى عنقودا يتدلى أمد شفتي لألتهم حباته .. وسرعان ما انضم إلينا جميع إخوة الطالب علي وهم يتسلقون الأشجار في خفة و مهارة القردة . وكانت إحداهم ذات مزاج عصبي ولم تشبه الباقي في نظرتهم الخجولة المشوبة بالفضول والإعجاب إلى الوافد الجديد ولا في انبهارهن بمكانته كابن قبطان . ولست أنكر أني كثيرا ما كنت أحس ببعض التعالي إزاء من أرافق من زملائي البدويين وهم يحيطون بي متأملين حذائي اللامع أو بذلتي الجديدة وسروالي القصير إلى حد الركبة . لكن أمي وهي تلاحظ ذلك قضت وقتا طويلا في إفهامي أن كل الناس سواسية وبالتالي يجب أن أعامل زملائي كإخوة . غير أني و أمام عناد هذه الفتاة و غلظتها وخشونة طباعها ، عاد إلي شعوري بالتعالي من جديد ، فقلت لها بعد يومين من قدومي عندهم وهي ترفض تسليمي أحد الفخاخ لاصطياد الطيور بحجة أنني لا أعرف استعماله و أنني سوف أعطبه :
                - أنت لا تصلحين لأن تكوني مع الآدميين .
                أحست بقساوة كلامي و رمقتني بعينين حادتي النظرات . صمتت قليلا قبل أن تجيب بحزم :
                - وأنت ؟ لا تصلح لأن تكون ضيفا .. لماذا أتيت ؟
                كان الرد أشد وقعا على نفسي ولم أتحمله ، فتركت الشجرة وعدت إلى البيت لأجد الطالب علي جالسا وشفتاه تتمتمان بآيات قرآنية . ثم توقف و سألني :
                - هل "خرفت" بما فيه الكفاية ؟
                لم أجب ، إذ كنت أشعر بغصة ، فسأل من جديد :
                - مالك ؟ هل آذاك أحد ؟ أين هي فاطمة ؟
                لقد أدرك بحدسه أنها هي سبب وجومي ، وانبرت الفتاة في تلك اللحظة من ورائي وكأنها خمنت ما سوف يقال عنها . وانتبه أخوها لوجودها فصاح بها :
                - أيتها الشيطانة .. ماذا فعلت اليوم أيضا ؟
                - لا شيء عزي .. ماذا يحسب نفسه ؟ في وجهه نور ؟
                - اخرسي ..أهكذا يعامل الضيوف ؟
                لم ترد ، لكنها كانت تنظر إلى الطريق المنبعث من الغابة وكأنها تتابع حركة أحد القادمين . و بعد لحظات أقبل علينا الأب وقد تثاقلت خطواته تعبا ، فحرك قدومه في نفسي شجونها وكأنني شممت فيه رائحة المجرى ومن فيها فغلبني البكاء و أنا اسلم عليه .. وسألني :
                - كيف حالك يا بني ؟ وهل طابت لك الإقامة بيننا ؟
                لم أجب على التو ، وبعد جهد جهيد قلت و أنا أغالب دموعي :
                - أريد العودة إلى منزلنا .
                وأسرعت فاطمة تقبل يده كما فعل أخوها .
                - لماذا ؟ هل مللت أم أن أحدا آذاك ؟
                قال ذلك و نظر إلى فاطمة التي أسرعت إلى داخل البيت وهي تغمغم :
                - سأعد لك الماء لتتوضأ يا أبي .
                لمحت شبه ابتسامة على وجه الرجل وهو يهز رأسه ، أو ربما تخيلت ذلك وهو يتابع الفتاة بعينيه ، فأخذني من يدي قائلا :
                - أسرتك تسلم عليك .. الكل بخير .. هيه .. هل أعجبتك "تزخت " ؟
                هدأ روعي قليلا لكني كنت أود في قرارة نفسي لو يرافقني أحد في تلك اللحظة عند أهلي . كان ذلك مستحيلا طبعا .
                - أعجبني الدوار كثيرا .. لكني اشتقت لأسرتي .
                - بهذه السرعة ؟ لا بأس ، عمك الفاضل لم يمنحوه إلا يوما واحدا .. وسوف أعود غدا إن شاء الله وآخذك معي .
                - حقا ؟
                نطقت بالكلمة دون وعي مني . شعرت بالفرح وأنا أشد على يديه امتنانا . وتوالى الإخوة و أمهم يحيون الرجل بينما بقيت فاطمة بالخارج ، يطل رأسها بين الفينة و الأخرى متوجسة خيفة مما قد ينالها من عقاب .
                - تعالي أيتها العفريتة . ماذا حدث حتى مل ضيفنا سريعا منا ؟
                وقبل أن تجيب فاطمة ، بادرته قائلا و أنا لا زلت تحت وقع نشوة العودة الوشيكة إلى المجرى :
                - لا شيء عمي .. أنا لم أحسن التصرف وهي كانت على حق . لقد جرحتها بكلامي الفظ .
                - الحمد لله .. لم يعد هناك مشكل .. لقد أحسن أبواك تربيتك يا بني وأنا فخور بصحبته .
                - أولادك طيبون مثلك يا عمي ومثل خالتي الصافية .. خصوصا فاطمة .
                كانت الصبية تتابع الحديث مشدوهة أمام ما تسمعه ، غير مصدقة هذا الانقلاب المفاجئ في تصرفي ، فما لبثت أن أجهشت بالبكاء وتراجعت إلى الخلف وتختفي وراء الباب ، في حين وقفت أخواتها مطرقات في صمت ، ثم أقبلن يلثمن يد أبيهن الواحدة تلو الأخرى .

                تعليق

                • ريما ريماوي
                  عضو الملتقى
                  • 07-05-2011
                  • 8501

                  #9
                  أتابعك الأستاذ رشيد وأتخيلك هناك بينهم...
                  كن بخير وصحة وعافية ...

                  وطابت اوقاتك.


                  تحيتي وتقديري.


                  أنين ناي
                  يبث الحنين لأصله
                  غصن مورّق صغير.

                  تعليق

                  • رشيد الميموني
                    مشرف في ملتقى القصة
                    • 14-09-2008
                    • 1533

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
                    أتابعك الأستاذ رشيد وأتخيلك هناك بينهم...
                    كن بخير وصحة وعافية ...

                    وطابت اوقاتك.


                    تحيتي وتقديري.
                    أشكرك العزيزة ريما وأتمنى أن يستمر تجاوبك وإعجابك بأحداث هذه القصة المطولة .
                    مع خالص مودتي .
                    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 11-04-2013, 18:43.

                    تعليق

                    • رشيد الميموني
                      مشرف في ملتقى القصة
                      • 14-09-2008
                      • 1533

                      #11
                      (5)

                      تركت الرجل يستريح من وعثاء السفر وخرجت لأنحدر إلى الوادي . وجدت شبها كبيرا بين المكان و ذاك الذي قضينا فيه أياما في ضيافة صديق أبي يوم رحلنا عن القرية . نفس الصمت و نفس الهدوء كانا يلفان الوادي الموحش كما كان الشأن في الماضي و أنا أتطلع إلى قمة الجبل حيث قبر عمي الفاضل . يا للمصادفة .. حتى مضيفي الآن يحمل نفس الإسم .. هل يعني هذا أن شيئا ما سيحدث ، وأن إرهاصات مغامرة أخرى تلوح في الأفق ؟ لحد الآن ، لا شيء ينم على شيء من هذا القبيل . لكني في قرارة نفسي أحس بلهفة لاستكشاف جديد . بل يخالجني شعور أن دوامة من الغموض تحوم حولي و تدفعني للمجهول مرة ثانية . عندئذ انتابني خوف حقيقي من أن أضيع في متاهة قد لا أعود منها إلى أهلي . فعدت أدراجي مسرعا و صرت أستدني الصباح كي أغادر البلدة بأسرع وقت ممكن . وكم كنت أخشى أن يحدث ما يؤخر العم الفاضل أو يثنيه عن العودة إلى المجرى . وصرت ونحن جالسون حول المائدة أسأله عن أشياء لا أهمية لها ، وكأنه أدرك بحدسه توجسي فطمأنني قائلا :
                      - غدا إن شاء الله سنعود إلى هناك . لقد أرسلت في طلب البغال ، وإن كانت الأسرة هنا تتمنى لو طالت إقامتك .
                      - أنا أيضا استأنست بأولادك .. لكني ..
                      - حتى أخوك ، لمست منه لهفة لرؤيتك .
                      نظرت إليه فوجدته يحدق في .. أحسست بانقباض مفاجئ و سألته :
                      - هل هو بخير عمي ؟
                      - نعم ..
                      - لقد تركته مريضا .. هل عاوده المغص ؟
                      - قليلا .
                      كانت أجوبة الرجل المقتضبة تزيد من شكوكي وقلقي . ترى هل اشتد المرض على أخي من جديد وعادت به جدتي إلى طنجة ؟ آه كم اشتد شوقي إليه في تلك اللحظة ووددت لو أطير إليه لأحتضنه مع الصغيرتين .
                      بدا لي الليل سرمديا وانتابتني أحلام و كوابيس، لكني لن أنسى رؤية أخي وهو يناديني من أعلى الجبل وقد عاوده الشحوب . كان كمن يطلب نجدة . أسرعت إليه ، لكني كنت كلما دنوت منه ابتعد عني وتلاشى في ضباب كثيف بحيث لم يكن يبدو منه سوى وجهه النحيف الذي ازداد شحوبا .. وتكرر نداؤه و أنا اجري متوسلا إليه أن يتوقف حتى لمحته على شفا جرف سحيق فلم أملك أن صحت بكل ما أوتيت من قوة . وأفقت من حلمي لأجد نفسي جالسا على حافة السرير انتفض و قد تصبب جسدي عرقا . وفي الحال أقبل عمي الفاضل و بجواره زوجته وابنه البكر .. لا شك أن صيحتي بلغت أسماع من في الدار . يا لخجلي .
                      - مالك يا بني و ما الذي حدث .
                      لم استطع مغالبة دموعي هذه المرة فانفجرت باكيا و حدثته بين شهقة و أخرى عما رأيته في حلمي فربت على كتفي قائلا :
                      - لا تخف يا ابني .. هي أضغاث أحلام .. سيكون أخوك بخير غن شاء الله .
                      في تلك اللحظة انتبهت إلى الأفق موردا . لم اصدق أن الصبح قد بزغ ، فنهضت وقد عاد إلي بعض الهدوء و اعتذرت للرجل عما سببته من إزعاج فقال وهو يطلق ضحكة مزقت سكون ذاك الصباح الجميل :
                      - سأقبل عذرك بشرط .. وهو أن تمدد إقامتك معنا هنا .. اتفقنا ؟
                      ثم ربت من جديد على كتفي وقال :
                      - ليس هناك إزعاج .. بالعكس ، أنت أيقظت بعض الكسالى الذين يستعذبون النوم بدل النهوض للصلاة .. والآن هيا لنفطر.
                      عند الباب ، كان هناك بغلان في انتظارنا وقد ربطا إلى شجرة تين تفرعت أغصانها حتى غطت جزء من المنزل . تحلق حولنا جميع أولاد الفاضل باستثناء فاطمة التي لاح لي منديلها المخطط بالأحمر و الأبيض في الجهة الأخرى من البيت . ألقيت التحية على الجميع ، و فيما انشغل أهل الدار بتقبيل يد رب الدار ، و إعانته على إعداد سرجي البغلين ، تقدمت نحو فاطمة التي انزوت أكثر فأكثر وراء شجرة التين ، فناديتها :
                      - وداعا يا فاطمة .
                      عندئذ انبرت وهي تتعثر بخطواتها ، ومدت إلي بباقة من سنابل القمح على شكل ضفيرة وقالت بلهجتها الفظة المعتادة :
                      - هي لك .. سامحني .
                      أخذت الباقة وقلت مبتسما :
                      - أنا الذي جئت أطلب منك أن تسامحيني .. شكرا على هديتك الجميلة . لا بد أن تزورينا مع والدك في المرة القادمة .
                      - إن شاء الله .
                      وعدت أدراجي لأجد الفاضل يصدر آخر تعليماته لزوجته و بناته في حين وقف الطالب علي جانبا وهو يهمس دائما بآيات القرآن الكريم . عانقته بود و رجوته وأنا أنظر ناحية فاطمة ، أن يصحب معه أحد إخوته في رحلته القادمة إلى المجرى .
                      امتطيت أحد البغلين بمساعدة عمي الفاضل ، وجلست كما يجلس الفارس على جواده ، مما أثار ضحك الجميع . فنبهني الرجل إلى أن طريقة امتطاء البغال مختلفة عن تلك المتبعة مع الخيول ، بحيث جعل ساقي الاثنتين في جهة واحدة . وقبل أن ننطلق أشرت بيدي إلى الأسرة أحييها وهي على عتبة الباب ، وحانت مني التفاتة إلى الشجرة حيث بدا لي المنديل المخطط بالأحمر و الأبيض .. ووجدت نفسي أتمتم :
                      - على الأقل ، هذه تتصرف بتلقائية .. وليست كغيرها ممن تسبب الأذى لسواها .
                      يجدر بي القول ، وأنا أغادر "تزخت" ، ورغم لهفتي للقاء أسرتي ، وسعادتي بتواجدي الوشيك بين أحضان قريتي من جديد ، أني أحسست بألفة غريبة تجاه بلدة الطالب علي . حتى و أنا أنحدر إلى الوادي أو أصعد الجبل ممتطيا البغل الأشهب ، كنت ألتفت بين الفينة و الأخرى لأتملى بمنظر البيوت التي بدت منغرسة في خضرة يانعة بهيجة . وشملني شعور بالمودة الطاغية تجاه الطالب علي و إخوته و خصوصا فاطمة .. نعم ، أحسست أني كنت قاسيا معها وتمنيت لو تزورنا حقا كما طلبت منها لأعوضها عما نالها مني من إساءة و أبرهن لها عن مودتي نحوها مثلها مثل جميع إخوتي . ولا أدري ما الذي جعلني أتذكر فجأة أخي و مرضه وينقطع حبل أفكاري لأسال عمي الفاضل دون وعي :
                      - متى رأيت أخي لآخر مرة عمي ؟
                      لم يجب الرجل للوهلة الأولى ، ومرت لحظات قبل أن يجيب و هو يشد لجام البغل كي نأخذ وجهة أخرى :
                      - عندما كنت أستعد للمجيء .. لم هذا السؤال يا بني ؟
                      - فقط ، أريد أن أطمئن عليه .
                      - يبدو أنك تحبه كثيرا .
                      لم أرد . وغلبتني الدموع . وانتبه هو إلى ذلك فلم يعقب . واستمرت رحلة العودة و نحن صامتان حتى وصلنا إلى قمة الجبل من حيث تلوح المجرى بعيدا بمنازلها البيضاء الناصعة . هناك بزغ أول شعاع للشمس عن يسارنا . أما سفوح الجبال ، فقد كانت سابحة في ضباب الصباح الكثيف . كان المنظر بهيا وشعرت بشهية للأكل من جديد . جلسنا نستريح قليلا بالقرب من ساقية صغيرة تروي بعض حقول الذرة هناك . ويبدو أن الفاضل أيضا شعر بالجوع فأخرج من قب جلبابه خبزا و تينا جافا .. كم كان لذيذا . وفي تلك اللحظة أقبل علينا أحد البدويين متوجها إلى بلدة مجاورة لـ"تزخت" . حيانا وهو ينزل من على ظهر بغله ، ثم جذب نحوه عمي الفاضل غير بعيد مني ليتبادل معه الحديث . لم أكترث لذلك ، لكني سمعته يسأله :
                      - هل هذا هو ابن القبطان ؟
                      أرهفت السمع ، فلم أميز شيئا مما يقولان ، لكني كنت متأكدا من أنني محور حديثهما لأنهما كانا يلتفتان نحوي بين الفينة و الأخرى .. عماذا يتحدثان يا ترى ؟ ولم كل هذه السرية المحيطة بحوارهما ؟


                      التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 13-04-2013, 10:08.

                      تعليق

                      • رشيد الميموني
                        مشرف في ملتقى القصة
                        • 14-09-2008
                        • 1533

                        #12
                        (6)


                        عاودني الانقباض وتمثل لي مرة أخرى وجه أخي المريض . هل غادر القرية إلى طنجة مع جدتي من جديد ؟
                        لبثت أنظر صوب الرجلين حتى افترقا وأشار إلي البدوي مودعا فرددت التحية . وأقبل الفاضل نحوي بوجه جامد لا يحمل أي تعبير . بل إني شعرت أنه يريد إخفاء بعض الوجوم الذي علا سحنته . أمسك بزمام البغل و قال :
                        - هيا بنا الآن .. هل استرحت جيدا ؟
                        - نعم .. بما فيه الكفاية .
                        وكنت لا أزال أنظر إلى الجهة التي سلكها البدوي فسألته وأنا أمتطي البغل :
                        - هل هذا الرجل من هذه النواحي ؟
                        - نعم ، هو من "تلاعطية" .. بجوار "تزخت" من الجهة العليا .
                        - يبدو أنه قادم من المجرى ..
                        صمت قليلا و أجاب :
                        - نعم .. هو آت من السوق وقد مر من هناك .
                        - عمي .. هل حدث شيء ؟
                        - حدث شيء ؟ كيف يعني ؟ .. لم السؤال ؟
                        - لاشيء.. فقط لأني لاحظت أنك و الرجل كنتما تتحدثان و تنظران إلي ..
                        حاول الابتسام فجاءت ابتسامته باهتة لكنه تصنع المزاح و قال :
                        - لديك فراسة قوية كما يبدو .. ما شاء الله عليك .. لا تشغل بالك .. لا شيء إن شاء الله .. غير أن أباك أوصاني بإيصالك إلى بلدة "ترية" قبل الذهاب إلى المجرى .. يعني علينا الآن تغيير الاتجاه .
                        - "ترية" ؟ لماذا ؟ ألا ترى كم هي بعيدة في أعلى الجبل ؟
                        - ربما كان لديه مهام لدى العم "عمار" يريد أن تقضيها أنت بنفسك . لا تقلق .
                        لكني كنت في هياج استطعت التحكم فيه حتى لا أصرخ ، تأدبا واحتراما لعمي الفاضل فقلت بلهجة شاكية :
                        - عمي .. من فضلك .. لن أذهب إلى "ترية" .. قل لي ماذا حدث .
                        - اهدأ يا بني .. فقط لأن لا أحد بمنزلكم الآن .. لقد اصطحبوا أخاك إلى طنجة .
                        - أخي ؟ .. كلهم ؟ هل هو مريض غلى هذه الدرجة ؟
                        وبكيت .. لم أستطع مقاومة دموعي ، فعلا شهيقي .. بينما كان الرجل ينظر غلي بعطف . و أبطأ سير بغله حتى اقترب مني وحاذاني وهو يقول :
                        - لا عليك يا بني .. سيشفى بإذن الله .. جدتك محتاجة لمن يعينها في السفر .
                        - لكنها لم تحتج لهذه المساعدة من قبل ..
                        - ربما لأن أباك لم يكن لديه الوقت لمرافقتها ، وهو الآن في رخصة كما تعلم ..
                        وجدت كلامه مقنعا لكني لم أهدا واستمرت أسئلتي كالسيل الجارف :
                        - وأمي ؟ كيف تسافر بأختي الاثنتين ؟
                        - حسب ما فهمت .. كان سيأخذكم في رحلة إلى تطوان قبل ذلك .. وبما أنك كنت معنا ، لم يشأ المناداة عليك لمعرفته بحبك للطبيعة .
                        هدأت قليلا .. ولهفتي تزداد للوصول سريعا إلى المجرى . وشعرت بحاجتي للوحدة . فما أن بلغنا المنبع أسفل الجبل و وصلنا حيث التقيت بلطيفة لآخر مرة ، حتى نزلت عن ظهر البغل وأسلمت لجامه لعمي الفاضل قائلا :
                        - عمي .. لقد اقتربنا .. أريد متابعة الطرق مشيا ، بعد إذنك .
                        - حسنا يا بني .. وما دمت لا تريد الذهاب إلى "ترية" ، فستبقى معي في المركز حتى يعود أهلك ..
                        - حسنا .. أشكرك عمي .
                        شملتني راحة وأنا أتمشى في طريق مألوف لدي .. وكانت الشمس قد بددت الضباب الذي كان يحجب عني رؤية الجبال المحيطة بي . فزاد الجو بهاء خصوصا و أن الطريق كان يخترق حقول الذرة الخضراء التي كانت لا تزال مبللة بالندى ، فانعكست أشعة الشمس عليها و صار لمعانها يخطف الأبصار .
                        ولا أدري كيف انبعثت لطيفة أمامي فجأة عند آخر منعرج ، كان الأرض انشقت عنها . كانت واقفة على بعد أمتار وسط الطريق . توقفت مرتبكا لحظات .. نظرت إليها بذهول ، ثم أحنيت رأسي وتابعت السير. فلاحقني صوتها وقد اعتراه بعض الوهن :
                        - الحمد لله على سلامتك .
                        لم أصدق أنها كلمتني بعد الذي حصل مني في آخر لقاء لنا ، فغمغمت بكلمات كرد على تحيتها و تابعت المسير ..
                        - أرسلني أبي يدعوك للقدوم عنده الآن .
                        توقفت والتفتت إليها مندهشا ، فوجدتها تحدق في بعينيها النجلاوين .. كم كانت جميلة وقد قصت شعرها إلى حد الأذنين ، فبدت لي قامتها قد زادت بعض الطول .. لكن أثر ذلك لم يدم طويلا فقلت بريبة :
                        - لماذا ؟
                        لم تجب .. بدا عليها بعض الارتباك ، فأحسست بالأرض تميد بي وتراجعت خطوات إلى الوراء قبل أن أطلق ساقي للريح وصوتها يلاحقني :
                        - انتظر لنعود معا .
                        كانت دعوتها ستسعدني لو كانت الظروف مختلفة .. هذه المرة ، كنت متأكدا من أن الأمر خطير ، وأن هناك شيئا يريدون إخفاءه عني . حديث البدوي مع عمي الفاضل وهما ينظران إلي .. حديث عمي الفاضل عن أخي .. الذهاب إلى "ترية" .. سفر والدي المفاجئ .. دعوة القائد لي للمكوث عنده .. ماذا يحدث يا ربي ؟ .. صرت عرضة لأفكار سوداء تغزو مخيلتي ، وفي كل مرة أحاول طردها ، تعود من جديد .. والحلم ؟ ماله يحجب عن بصري الرؤية فلا أرى سوى أخي في شحوبه وهو يتلاشى وراء الجبل ؟
                        ما زلت أعدو وأكاد أتعثر مرارا حتى وصلت إلى أطراف القرية . وجدت نفسي أمام والد لطيفة يتجاذب أطراف الحديث مع بعض الشيوخ و المقدمين بحضور قائد المجرى الجديد . ترى هل وقوفه في هذا المكان صدفة أم لعله حدس ما سوف يقع فجاء بنفسه إلى هنا . مررت بالقرب منه ملقيا التحية فناداني :
                        - أهلا ولدي .. حمدا لله على سلامتك .
                        - الله يسلمك ..
                        - تعال .. ريثما يأتي أبوك من المستوصف .. هو هناك مع الطبيب .
                        - ألم يسافر ؟
                        - كان على وشك السفر و ..
                        كدت أفرح .. لكن سحنة القائد المتجهمة جعلت فرائصي ترتعش والتفت من حولي متسائلا :
                        - ماذا حدث ؟ ولماذا لم يسافر ؟
                        - اصبر يا بني .. هاهو قادم .


                        التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 14-04-2013, 08:10.

                        تعليق

                        • ريما ريماوي
                          عضو الملتقى
                          • 07-05-2011
                          • 8501

                          #13
                          يلا قل لي وطمئني...

                          يا لوقفاتك ونحن نترقب...

                          ما زلت اتابع، عسى خير...

                          شكرا لك، تحيتي وتقديري.


                          أنين ناي
                          يبث الحنين لأصله
                          غصن مورّق صغير.

                          تعليق

                          • رشيد الميموني
                            مشرف في ملتقى القصة
                            • 14-09-2008
                            • 1533

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
                            يلا قل لي وطمئني...
                            يا لوقفاتك ونحن نترقب...
                            ما زلت اتابع، عسى خير...
                            شكرا لك، تحيتي وتقديري.
                            اشكر لك تجاوبك ريما ويسعدني أن اقدم لك هذا الجزء ..
                            مودتي لك .

                            تعليق

                            • رشيد الميموني
                              مشرف في ملتقى القصة
                              • 14-09-2008
                              • 1533

                              #15
                              (7)

                              تقدم أبي نحوي خطوات ثم توقف .. تلاقت عينانا .. تخاطبتا في لحظة صمت .. نطقت عيناه بكل شيء .. كان فيهما صراخ و نحيب صامت .. فنطقت بجهد جهيد بصوت مختنق :
                              - أبي ..
                              فتح ذراعيه فألقيت بنفسي في حضنه .. شعرت بدموعه ساخنة على وجنتي فبكيت بحرقة أنا أساله بين كل شهقة :
                              - كيف ؟ .. و .. متى ؟
                              أخذ بيدي وأشار مستأذنا إلى القائد الذي بدا عليه التأثر .. بل إني لمحته يمسح دمعه بكم بذلته . وذهبنا إلى النهر لنجلس على ضفته كما كنا نفعل أنا و جدي من قبل . تنهد أبي وهو يحاول ألا يستسلم للبكاء وقال :
                              - فجر هذا اليوم .. رحمة الله عليه .. كنا نستعد للذهاب به إلى طنجة بعد أن عاوده الألم بحدة . لكن القدر .. لم يمهله .
                              يعني في الوقت الذي كنت أعيش ذاك الحلم الغريب ..
                              - رحمة الله عليك يا أخي .. آه يا أبي ..
                              وضعت رأسي على كتفه و جسمي ينتفض من البكاء و النحيب . و تركني أبي لحظات أبكي قبل أن يأخذ ذقني في راحته و يتأملني بعينين محمرتين ، لكنهما مفعمتان عزيمة و قوة :
                              - هون عليك يا بني .. أخذ الله أمانته ولا راد لقضائه .. علينا بالصبر الجميل .
                              رنوت إليه بعينين ذابلتين ودمعي لا يزال يسيل بغزارة وقلت :
                              - ونعم بالله .
                              - علينا الآن أن نهتم بأمك ، فهي لا تزال تحت الصدمة وأنا أعول عليك أن تظهر أمامها كرجل .. قوي .
                              كفكفت دمعي بظهر يدي وقلت :
                              - كن مطمئنا أبي .. سأفعل اللازم .
                              شعرت بحزني يتبدد شيئا فشيئا أمام مسؤوليتي الجديدة رغم أني حديث العهد بالمصاب الجلل . صار يتوجب علي الآن أن أكون عند حسن ظن أبي ، خاصة وهو ينظر إلي بثقة و يربت على كتفي راضيا . قلت له بأسى :
                              - هل يمكنني رؤيته ؟
                              - طبعا ..
                              قلت شاردا :
                              - مسكين .. كم لعب معي .. وكم عنفته .
                              - إياك أن تستسلم لهذه الأفكار . الشجار طبيعي بين الإخوة ، وهو سيكون سعيدا هناك بذكرياته معك . لكن لا تعذبه بتأنيب ضميرك .
                              وددت لو أعانق أبي في تلك اللحظة وقد نسيت للحظة حزني . فقد محا كل أسى علق بنفسي من جراء معاملتي الفظة لأخي في بعض الأحيان . فنهضت وتوجهت إلى المنزل بخطوات مترددة .
                              وجدت أمي تتوسط بعض النسوة وإلى جانبها جلست أم لطيفة وزوجة القائد الجديد للمجرى . أحسست و أنا أعانق أمي بذراعيها تضمانني بقوة .. بكت و انتحبت ، لكني حاولت جاهدا أن أتمالك نفسي . ولولا وجود المعزيات اللائي كن يملأن الحجرة لما تركتني أفارقها لحظة . كنت أحس بلهفتها في أن أبقى بجوارها . فتراجعت إلى الخارج وأنا أمسح دمعي بينما كانت تشيعني بنظراتها .. ولحقت بي أم لطيفة تواسيني و هي تربت على راسي .. آه كم كانت لمستها تعني لي الكثير وكم كانت تحمل الحنان و الدفء معا .
                              مسكينة أمي .. جزعها و لهفتها علي صارا مضاعفين الآن بعد رحيل الفقيد العزيز . خرجت لأجد أبي يتحدث إلى فقيه القرية ، فزاد ألمي وأنا أتخيل مراسيم الدفن . فاقتربت وانتظرت حتى فرغا من الحديث وقلت بصوت خافت :
                              - أبي .. هل من الضروري أن أكون حاضرا حين ...
                              مسح أبي على رأسي براحته وقال برقة :
                              - طبعا لا .. على فكرة ، ألم يحدثك عمك الفاضل عن ذهابك إلى "ترية" عند عمك "عمار" ؟
                              - أجل .. أرجو المعذرة أبي .. كنت منشغلا بمرض أخي فلم أنفذ أمرك ..
                              - لا عليك .. اذهب عنده رفقة صديقك "سلام" الأرنب .. وعد إلي بوثائق سيسلمها لك عمك .. يمكنك المكوث عنده الوقت الذي تشاء .
                              - حسنا أبي ..
                              وكأن حملا ثقيلا انزاح عن صدري . كانت مرافقة النعش وحضور عملية الدفن أقسى ما يمكن أن أتحمله . فدخلت المنزل من جديد وقصدت الغرفة حين كان جثمان أخي مسجى في كفنه البيض ، والفقيه بالقرب منه يتلو سورة يس . اقتربت في وجل فعرف الرجل قصدي وأزاح طرفا من الكفن عن وجه الحبيب .. آه ما كان أبهاه و أنضره وهو مغمض العينين .. لا أثر للحياة في جسده العليل الذي طالما لها و رتع معي بين الربا . انحنيت على وجهه وقبلته على جبينه و خده و شفتيه .. ولا أدري كيف شعرت بدفء شفتيه حتى كدت أفضي بشكوكي حول وفاته إلى الفقيه .. وبكيت . ثم تذكرت أن أمي قد تدخل بين لحظة و أخرى فتمالكت نفسي وهرولت إلى خارج الغرفة أبحث عن صديقي وأنا أنتحب في صمت .
                              اتجهت نحو المنبع حيث يوجد منزله عل بعد بضعة أمتار . وكأني به كان ينتظرني ، إذ أطل برأسه الصغير عبر كوة صغيرة وأشار لي أنه قادم فورا .
                              انتبهت إلى وجود ثلة من الفتيات يتقدمن نحو المنبع من طريق آخر . كنت أعرفهن كلهن لملازمتهن لطيفة طول النهار . اقتربن مني مترددات ، ثم رأيت إحداهن تتقدم على استحياء قائلة :
                              - الله يعظم أجركم يا أخي .
                              وحذت رفيقاتها حذوها وهن يتمتمن في تأثر بالغ لمست صدقه في نبرات صوتهن :
                              - في سبيل الله أخي .. الله يبدل المحبة بالصبر ..
                              وجدت نفسي من جديد وجها لوجه أمام لطيفة وهي تنبعث من مؤخرة الشلة . مدت يدها بحذر ، فلم أملك إلا أن أصافحها .
                              - في سبيل الله ..
                              كنت لا أزال تحت وطأة الصدمة و الحزن رغم الهدوء الذي شملني بعد حديثي مع أبي ، فعاودني البكاء ولم أستطع قول شيء ، وأشحت بوجهي كي لا ترى دمعي . لكن بعد فوات الأوان . مسحت دمعي براحة يدي ثم نظرت إليها من جديد لأشكرها في صمت .. هي أيضا لم تقل شيئا . لكن عينيها كانتا تنطقان بالألم والأسى . بل إن صوتها تهدج وهي تقول مستدركة :
                              - الله يعظم الأجر ..
                              ثم تجهش بالبكاء و تولي مدبرة ، وتتبعها رفيقاتها مهرولات نحو المنبع القريب . لم أدر هل كانت تشاطرني حزني أم أن ألمها كان نابعا من معاملتي الفظة لها وأنا في طرقي إلى "تزخت" .. ربما الاثنان معا .
                              لبثت أنظر إليها وهي تبتعد وقد أحاطت بها رفيقاتها .. نفس المنظر الذي حدث أثناء رحلتي الأخيرة .. لكن في هذه المرة كان الوضع مختلفا .



                              التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 15-04-2013, 15:02.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X