قرار الاستقالة
بتلك الضحكات دخل علي مشهراً سبابته نحوي، وساخراً على عيني، ضحكات ألمعت في وجهه وجنتيه الضخمتين وأخفت في محجريها عيناه الصغيرتين ، غير مكترث بعلامات التعجب التي ملأت وجهي. بادرني قائلاً: ولم هذا القرار، هل قررت الفرار.
قلت له مستدرجاً: أي قرار وأي فرار.
قال: قرار الاستقالة وهل يوجد غيره.
- وما شأنه.
- أتترك هاهنا الأموال، وتذهب إلى حيث ضيق الحال، أتذهب لراتب ضئيل، في بلاد وادي النيل، وتترك هنا راتباً يزيد عشرات المرات، وتذهب إلى حيث الفتات.
- أهذا الذي يجعلك تصدر كل تلك القهقهات، وتقابلني على غير العادة وتسخر بكل بلاده.
- يا صاحبي، ألم تقص علي الأخبار، وتشغلني بحال أهل الدار، وخلافي معك على التلفاز بين سماع الأفلام ونشرات الأخبار، ءأنت الذي تقدم على هذا القرار في وقت يصعب فيه الاختيار.
- سئمت الانتظار، والبعد عن الديار، سئمت الكفيل، والبكاء والعويل من غير أصحاب هذه الدار، ورثاء حالهم ليل نهار، رغم أن بأيديهم القرار، سئمت معاملة بعض أهل هذه الدار.
- ويكون الحل هو الفرار، أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وتهبط لها.
- أتممت عشراً، وجلدت ذاتي فكرا، وأثقلتني غربتي هما، والآن حققت هدفي بكرا، ولم يعد لي عذرا، ولن أكون أشد من موسى عزما، فلقد كلف بثماني حجج، ولأنه من أهل العزم فقد أتمم عشرا، فلن أمكث أكثر من ذلك أبدا، فتلك عشرة كاملة.
- هيهات، قرارك ستندم عليه حتى الممات، وغدا ستذكر تلك الضحكات.
- أخلقت إنسان أم أنك كالأنعام، أوليس لديك أفراح وأحزان أتراح وأشجان، أصدقاء وخلان.
أوليس لك أهل بيت تسأل عنهم وتكفلهم ترعاهم وتسترهم تلبي حاجاتهم وتعفهم وتكفكفهم.
أوليس لك أبناء تربيهم وتعلمهم، توجههم وترشدهم تناصحهم وتصادقهم.
- هم في كنف الحنان المنان الذي لا يغفل ولا ينام.
- أوليس الذي خلقك بقادر على أن يجلب لك الخير هناك مثلما جلبه هنا، أوليس الذي خلقك بقادر على أن يرزقك هناك كما رزقك هنا، أليس عندك فيه ثقة، ألم يقدّر لك رزقك وعمرك، حتى وإن قَدَر عليك رزقك، أوليس عندك قناعة ورضا بما قسمه الله لك، أولم تؤمر بالنظر لمن هو دونك ونهيت عن النظر لمن هو فوقك، أولم يقول حبيبك تفاءلوا بالخير تجدوه، ولقد استخرت الله وكان فألي حسنا وخيرا.
- هكذا دائما تقنعني ولا أقنع.
- إذن بدأت رحلة العودة ولن ألتفت خلفي، وسأمضي حيث طموحي وهدفي، حيث صلاة الفجر مع الجيران والنخبِ، وقرآن الفجر في الآفاق ينتشرِ، والنقشبندي وطوبار بابتهالاتٍ تهز أركاني وتجعل الجلد مرتعدِ، سأمضي حيث تعبيري وشعري ونثري، حيث عبق الماضي وروائح الزهرِ، وصباح الندى والغصن مبتل على جوانبه الزرعِ، حيث بريق الوجد في عيون الصحب والأهلِ، وسعي البسطاء وراء لقمة العيشِ، ودبيب أنعامهم في المساء والصبحِ، حيث النيل العظيم وجلسة الصيد في العصرِ.
- كفى.
- سأذهب إلى فيلتي وحديقتي، وثمرة غربتي وكديِ، سأذهب حيث رمضان اللمة والخير وعلى الإفطار الكل مجتمعِ، والفرحة وسط الأهل غير ذي شكلِ، والمرض في جوارهم يشفى بأمر الله ويكون غير ذي طعم.
- كفى.
- سأذهب إلى حيث المآل في الجنائز لأذوق طعم الموتِ، وأكون خير متعظِ، وللمقابر في كل زيارة عبرى وذكرى ولأمواتي أدعوه مبتهلِ، سأمضى يا صاح للعودة إلى الديار وأنا عند الله في كنفِ.
- كفى.
- سأمضي فلن يضيرني ربي جزاء الود والقرب، جزاء مودة الأهل وصلة الارحام والنسب، سأمضي لأمٍ فلقت قلبها من السفرِ، وسيطمئن بعد الاستقرار والمكث، سأمضي لأطببها من الوعثاء والتعب، من الآلام والنصب، يا صاح أليس لك مالي من الخلان والأهل، من الإحساس والحب، من الرضا، من القناعة، من الرهفِ، ابق هنا أنى شئت فإنك لن تعيش في الدنيا إلا ما يتخافت به المجرمين فيما بينهم يوم القيامة، فيقولون وهم محشورون يومئذ زرقا، إن لبثتم إلا عشرا، لن تعيش إلا ما يقول عليه أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما.
يا صاح لم نخلق لجمع المال أو الترحال، بل خلقنا للعبادة وبناء النشء وللاستقرار، سأتركك تجمع ما شئت وتذكر أنك سترحل كما جئت.
والآن يا صاح بعد أن لمحت في عينيك بريق الحسرة، وتمنيت ألا أقول لك ما قلته من برهة، وإحساسي بما في حلقك من غصة، وبما فيه صدرك من ضيق وحرجه، سأتركك وارحل، وفيما مضى كنت مني تضحك وتسخر، فالآن أنا الذي على ما أنت فيه سأقلب كفاي واضجر، وسأضحك ضعف ما كنت تضحك، ولكني منك لن أسخر. وتذكر أن الضحك الأخير هو الضحك الكثير.
تعليق