شظف العيش يغذي الروح بشفافية لا ينالها أولئك الغارقون في النعمة والرافلون في ترف الحياة ..
***
***
لم يبك (عبد الجبار) على حليبه المسكوب، ولكنه وقف صامدا كجلمود الصخر.
يمكنه أن يركض خلف جواميس البر ليحلبها، أخشوشن جلده من ضربات الأيام ونوازلها .
آباره جفت، وأحتبس ماؤها هذا العام بعد أن نثر بذوره وأودعها باطن الأرض.
قام ذات صباح فلم يجد قطيع ماشيته، وجد بقايا حبالها وروثها وآثار عربة كبيرة، لم يسمع صوتها ليلا فقد أجهده السهر مع زوجته التي كان فيح الحمى يجعلها تهذي باسم وحيدها المسافر بعيدا في غربته ..
زوجته ترقد بقدم متورمة بعد أن داست على رأس ثعبان سام، يشك المساعد الطبي في مستوصف القرية بأنها بداية (الغرغرينا)..
قرر أن يذهب بها باكرا إلى المستشفى رغم أنه غير واثق من أن يجد شيئا يوصله إلى هناك، فحتى حماره اقتادوه ضمن القطيع المسروق..
أخرج ( كنبة ) ووضعها تحت ظل شجرة الجميز ..
يقطع جوع صباحه بفتات كسرة خبز تغير لونها وطعمها يبتلعها بماء قراح ..
حتى نسمة الهواء أبتْ أن تزوره في هذا الموسم البائس ..
جلس محاصرا بكل هذا الكم من الهموم ..
يهمهم ( لطفك يا رب .. فرجك يا الله ) ..
رنا إلى الأفق البعيد، بنظرة لم تعرف الانكسار قط يوما ..
لأول مرة ينتابه الخوف على أبنه ... أصابه قلق عميق لم يألفه قلبه.
ومَضَ برق بعيد .. وكركر رعد ظل يقترب رويدا رويدا .. حتى أتاه هزيمُهُ ليبتعد مجددا .. مخلفا وراءه صدى يجعل قلب عبد الجبار ينبض بأمل بعيد ..
أستبشر خيرا ..
نادى على زوجته جزلا : الخير جايي يا حاجة سكينة.
ران صمت عميق وطويل ..
ولكن هاجسا جعل حواسه تتحفّز ..
دخل بيته الطيني لاهثا ..
وجدها جاحظة العينين تشخص نحو الباب وكأنها كانت تناديه لتودعه، تمسك في إحدى يديها ( مسبحة ) كانت لا تفارق يد وحيدها، المسبحة التي أعطاها إياها أبوها في آخر زيارة له ..
عندما عاد من دفنها خائضا الطين والوحل ...
كان قد قرر أن يذهب في الغد إلى السوق ليحاول أن يكلم وحيده بالخبر ويحثه على العودة نهائيا ..
أحس بخواء روحه وبأن ظهره بات مكشوفا تماما ..
وهناك تحت الأرض ..
كانت البذور تعانق أول الغيث لتعيد لعبد الجبار بعضا من المسكوب ..
وعبد الجبار سارح في سيرة زوجته التي ترقد في غور لا يبعد كثيرا عن بذوره التي نسيها تماما ..
وأستسلم لنوم تتخلله الكوابيس ..
ولأول مرة في حياته منذ أن تزوج سكينة لم يطفئ فتيل ( لمبة الجاز )، فقد تركها حتى الصباح .. تشاركه احتراق أسباب البقاء.
تعليق