ثورة فقير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جمال الحنصالي
    أديب وكاتب
    • 23-04-2013
    • 41

    ثورة فقير

    ثورة فقير

    [IMG]file:///C:/Users/ELHANS~1/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.jpg[/IMG]

    ... سَخيتْ نفسُه فجأة ودون سابق إنذار عن إتمام العمل، فقد كان جبينه يتفصّد عرقا ورجلاه النحيفتان قد تسلل إليهما التعب وهجّتا عن حمل جسده المنهك. ألقى بالمبْلطِ يمينا و"الطالوش" يسارا ثم قعد الأُرْبعاء في صمت رهيب يتناظر ذاك السور الإسمنتي العظيم الذي يمتد حتى السماء يلامس الغيم ويحبس الأنفاس ويفشل الهمم .. يتساءل مع نفسه اللوامة كيف استطاع تشييده، وكيف سخّر جوارحه ووقته لفعل ذلك؟؟! وهو لم يبرح بالبلدة سوى بضعة شهور..
    اسْتدى بيده المرتعشة صوب عروة إبريق الشاي الذي سئم لهاب نار لا تهدئ من تحته، وأنصف كأسا اعتلاها الغبار وامتزجت ببصمات أصابعه المتسخة حتى أصبح الرسم ضبابا يعيق التعرف وتمييز نوع المشروب. تمدّل الرجل ذو الخمسة وخمسين عاما بمنديل مرقّع، هو لا يبغي إخفاء البياض الذي اجتاح شعيرات رأسه الأزعر فقد لفعه الشيب منذ أن كان مراهقا، لكن شدّ رأسه بالمنديل كي يقطع الطريق عن الكريات الدموية التي تجري وتجري على وقع نغمات أعصابه الثائرة والمتوترة فتهتز عروق رأسه اهتزازا مؤلما لا تداويه أقراص الاسبرين ولا قيلولات الصيف الطويلة والشهية.
    ينظرُ المسكين إلى حالته كيف اتسخت وإلى تفاصيل وجهه كيف انكسرت وإلى يده كيف شُظِفتْ وإلى أحلامه كيف انقصمت وإلى ذكرياته كيف اندثرت.. يبني ويشيد، يكد ويكابد بحس أصيل وعيون واجفة وأجور بائسة بكرة وأصيلا..
    في لحظة، أنشأ يفكر مليا في زوجته "ربيعة" وأولاده وبناته الثلاث، يفكر في أكياس الدقيق التي خفّ وزنها وعظُم سعرها وفي حبات الطماطم التي فُقدت في السوق وهاجرت قسرا إلى الديار الأوروبية وفي قطع اللحم.. آه .. ما أدراك ما اللحم! يفكر أيضا في شركة الكهرباء وماذا عساه يجيب المسؤولين وقد قطع وعدا لجاره أن يبقيه خارجة اللعبة وألا يورطه في "شبه سرقة لنعمة الكهرباء"، يفكر في دفتر ابنه زكريا والذي صار يدون ملخصات التاريخ على ظهر أوراق الانتخابات المشتتة في الزقاق، ووزرة فاطمة كذلك، فبسببها تُطرد من المؤسسة التعليمية لأنها طويلة وفضفاضة والناظر لا يعجب الأمر كثيرا.
    لا تقف رحلة التفكير عند هذا البنّاء فهو يفكر كذلك في وشاح أمه الذي طلبته منه منذ كان البرد قارسا حتى هجم حر الصيف على البلدة... من حسن حظه أنها مريضة بالزهايمر. يفكر في والده أيضا، المناضل الرابض في غرفة قد نسميها غصبا إنعاشا في مستشفى شعاره الإهمال. والده يستريح، أو لنقل كذلك، لكنها استراحة محارب وهب حياته من أجل إعداد جيل جديد من حفظة القرآن الكريم، الآن، يجازى بقنينة أملاح معدنية يربط خيطها الرفيع بين موت الفقيه القادمة وحياته البئيسة وما باليد حيلة.
    يفكر أيضا "المعلم علي" في بطاقة تعبئة الهاتف النقال الذي صام شهرين متتابعين وسكت عن الرنين المباح.
    هو في حسّة سوء لا يُحسد عليها، استجمع قواه وكف عن التفكير المضني ووقف وقفة فيها الكثير من المعاني وتنعْنع شيء في جوفه فيه كثير من المغازي، خطى بضع خطوات إلى الأمام ويداه الخشنتان تضم الواحدة الأخرى خلف ظهره المقوس. وقال مع نفسه:
    أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا.. تماما كرجل آلي لا يحس ولا يشعر أو دابة تجر عربة وهي لا تدري لماذا وإلى أين سائرة!
    لم يتردد في اتخاذ القرار، وقد أرسلت إليه السيالة العصبية أوامر حادة من دماغه المتدمر. حمل الفأس وراح يخرب السور الاسمنتي وكأنه يعيد التاريخ...
    ترك خلفه أكوام أتربة وأحجار وكثيرا من الغبار وأثنى عائدا إلى كوخه المتواري خلف الفيلات الفاخرة، يجر أذيال هزيمة مفترضة وخسارة يوم عمل شاق، فلن يجازى عن عمله بفلس واحد وهو يعلم كل ذلك.
    قبل أن يرخي الليل سجوفه و"المعلم علي" مازال يسير والرصيف المتآكل، وفي كل مرة يبصق عجم عنب أسود سواد هواجسه، كان حبيس جيب سرواله الأحمر. تراءى له من بعيد جموع من الشباب يهتفون:
    - الحمد لله لقد هدموا السور الذي يفصل حيّنا عن الثانوية...
    - يحيا النضال وتحيا الثورة..
    - لو لم نقدم الطلب لمدير الثانوية لما سمعوا صيحاتنا...
  • محمد الشرادي
    أديب وكاتب
    • 24-04-2013
    • 651

    #2
    أهلا أخي جمال
    نص يعبر عن مشاعر فئات واسعة من المجتمع...فئة تكد و لا تجني من تعبها سوى السراب...فئة تفني عمرها في الأعمال الشاقة و لا تستطيع تغطية حتى أتفه المصاريف.
    وددت لو توقف النص عند:
    - يحيا النضال وتحيا الثورة.
    لنفتح المجال أمام المزيد من مسالك التأويل.
    تحياتي

    تعليق

    • جمال الحنصالي
      أديب وكاتب
      • 23-04-2013
      • 41

      #3
      كل الشكر أقدمه للأخ الفاضل الشرادي على جميل تواصله ومروره الذي ترك بكل تأكيد آثارا بالغة في نفسيتي، سيما وأنني قاص في بداية المشوار...
      تحياتي الخالصة وإلى مصافحة أدبية أخرى .. أنتظر تواصل باقي الأعضاء بكل المحبة والخير نلتقي بإذن المولى عز زجل

      تعليق

      • حسن لختام
        أديب وكاتب
        • 26-08-2011
        • 2603

        #4
        بفضل قصتك الجميلة" ثمرة قلب ساقطة" أصبحت من المعجبين بنصوصك الرائعة
        قرأت، لك هنا كذلك، نصا آخر جميلا وممتعا، ومرّة أخرى كانت نهاية النص مدهشة..أنت قاص جميل..
        محبتي وكل التقدير،أخي الحنصالي

        تعليق

        • جمال الحنصالي
          أديب وكاتب
          • 23-04-2013
          • 41

          #5
          يبدو أنني أتواصل مع فنان ذي مشاعر فياضة وهو الأخ الفاضل حسن لختام، فشكرا جزيلا لكلماتك الرقيقة التي تسللت إلى الأعماق كالسحر وومضت في الأغوار كالضوء.
          دام التواصل ودامت المحبة أيها الرجل الطيب.

          تعليق

          • محمد فطومي
            رئيس ملتقى فرعي
            • 05-06-2010
            • 2433

            #6
            قرأتُ نصّك عديد المرّات أخي جمال،و لا يسعني و قد قرّرتُ الخروج عن صمتي إزاءه ، إلاّ أن أشكرك و أثني على رفعة مستواك الفكري و الأدبي .
            نصّ ينمّ عن ثقافة قصصيّة متجذّرة.يبهرني أن تكون من أولى ما كتبت في هذا المجال.
            عموما أحيّيك و أشجّعك.
            ما يُلاحظ في بعض المواضع، و هي قليلة،السّقوط في شرك الخطاب المباشر،كما لو أنّك تُساعد القارىء على فهم المعاني كما أريد لها.
            و إذ أقول هذا فأنا أختلف مع الأستاذ الشرادي في الرّأي بشأن التوقّف عند مستوى:
            - يحيا النّضال،تحيا الثّورة..
            لأنّ الفكرة مركّبة أصلا للإشارة إلى انبلاج ثورة عامّة تبعا لثورة خاصّة جدّا.
            و للمتتبّع أن يلاحظ كيف أنّ تهديم البنّاء لحائط كان قد بناه من قبل ، لغاية انتقاميّة نفسيّة بحتة ، قد لاءم ضيما آخر لا يمتُّ له بصلة: أن تصير المسافة بين الحيّ و بين الثّانويّة قصيرة.
            هنا تحديدا تكمن إشكاليّة النصّ الحقيقيّة:
            أن يكون شعار الثّورة العامّة غريب عن قادحها الأصليّ و لا يُشبهه البتّة.
            بالتّالي فإنّ الجملة الأخيرة مفيدة و إن سيقت بطريقة مُباشرة تحتاج المراجعة.
            من وجهة نظري ما هو حريّ بالحذف هو المقطع التّالي:
            وقال مع نفسه:
            أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا.. تماما كرجل آلي لا يحس ولا يشعر أو دابة تجر عربة وهي لا تدري لماذا وإلى أين سائرة!

            مودّتي أخي.
            مدوّنة

            فلكُ القصّة القصيرة

            تعليق

            • جمال الحنصالي
              أديب وكاتب
              • 23-04-2013
              • 41

              #7
              الأخ الفاضل محمد فطومي، أظهر علو كعب في لعبة النقد وتحليل النصوص، وشددتني بأسلوبك المرن في صناعة "قراءة وإعادة قراءة" القصة القصيرة رغم تواضعها. هذا تشجيع أعتز به كثيرا.
              قمت ب فيدباك قصير إلى المقطع الذي أشرت إليه قصد الحذف:
              أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا.. تماما كرجل آلي لا يحس ولا يشعر أو دابة تجر عربة وهي لا تدري لماذا وإلى أين سائرة
              وأعتقد شخصيا أن العبارة الأولى "أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا" تستحق أن تبقى شامخة ضمن تفاصيل الأقصوصة، لما لا وهي بالذات التي حركت الأديب الفلسطيني نايف النوايسة ، وعزم على تقديم مجموعتي القصصية: وقائع من زمن آخر التي صدرت هذه السنة عن دار الثقافة التونسية. أما العبارات التي تلت المقطع فهي بالفعل تستحق الحذف، لأنني تقزم من مهارات الرجل الآلي وتفقد روح الدواب الذي خلقها الواحد القهار..
              أشكرك مجددا أيها المستشار الواعد

              تعليق

              يعمل...
              X