ثورة فقير
[IMG]file:///C:/Users/ELHANS~1/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.jpg[/IMG]
... سَخيتْ نفسُه فجأة ودون سابق إنذار عن إتمام العمل، فقد كان جبينه يتفصّد عرقا ورجلاه النحيفتان قد تسلل إليهما التعب وهجّتا عن حمل جسده المنهك. ألقى بالمبْلطِ يمينا و"الطالوش" يسارا ثم قعد الأُرْبعاء في صمت رهيب يتناظر ذاك السور الإسمنتي العظيم الذي يمتد حتى السماء يلامس الغيم ويحبس الأنفاس ويفشل الهمم .. يتساءل مع نفسه اللوامة كيف استطاع تشييده، وكيف سخّر جوارحه ووقته لفعل ذلك؟؟! وهو لم يبرح بالبلدة سوى بضعة شهور..
اسْتدى بيده المرتعشة صوب عروة إبريق الشاي الذي سئم لهاب نار لا تهدئ من تحته، وأنصف كأسا اعتلاها الغبار وامتزجت ببصمات أصابعه المتسخة حتى أصبح الرسم ضبابا يعيق التعرف وتمييز نوع المشروب. تمدّل الرجل ذو الخمسة وخمسين عاما بمنديل مرقّع، هو لا يبغي إخفاء البياض الذي اجتاح شعيرات رأسه الأزعر فقد لفعه الشيب منذ أن كان مراهقا، لكن شدّ رأسه بالمنديل كي يقطع الطريق عن الكريات الدموية التي تجري وتجري على وقع نغمات أعصابه الثائرة والمتوترة فتهتز عروق رأسه اهتزازا مؤلما لا تداويه أقراص الاسبرين ولا قيلولات الصيف الطويلة والشهية.
ينظرُ المسكين إلى حالته كيف اتسخت وإلى تفاصيل وجهه كيف انكسرت وإلى يده كيف شُظِفتْ وإلى أحلامه كيف انقصمت وإلى ذكرياته كيف اندثرت.. يبني ويشيد، يكد ويكابد بحس أصيل وعيون واجفة وأجور بائسة بكرة وأصيلا..
في لحظة، أنشأ يفكر مليا في زوجته "ربيعة" وأولاده وبناته الثلاث، يفكر في أكياس الدقيق التي خفّ وزنها وعظُم سعرها وفي حبات الطماطم التي فُقدت في السوق وهاجرت قسرا إلى الديار الأوروبية وفي قطع اللحم.. آه .. ما أدراك ما اللحم! يفكر أيضا في شركة الكهرباء وماذا عساه يجيب المسؤولين وقد قطع وعدا لجاره أن يبقيه خارجة اللعبة وألا يورطه في "شبه سرقة لنعمة الكهرباء"، يفكر في دفتر ابنه زكريا والذي صار يدون ملخصات التاريخ على ظهر أوراق الانتخابات المشتتة في الزقاق، ووزرة فاطمة كذلك، فبسببها تُطرد من المؤسسة التعليمية لأنها طويلة وفضفاضة والناظر لا يعجب الأمر كثيرا.
لا تقف رحلة التفكير عند هذا البنّاء فهو يفكر كذلك في وشاح أمه الذي طلبته منه منذ كان البرد قارسا حتى هجم حر الصيف على البلدة... من حسن حظه أنها مريضة بالزهايمر. يفكر في والده أيضا، المناضل الرابض في غرفة قد نسميها غصبا إنعاشا في مستشفى شعاره الإهمال. والده يستريح، أو لنقل كذلك، لكنها استراحة محارب وهب حياته من أجل إعداد جيل جديد من حفظة القرآن الكريم، الآن، يجازى بقنينة أملاح معدنية يربط خيطها الرفيع بين موت الفقيه القادمة وحياته البئيسة وما باليد حيلة.
يفكر أيضا "المعلم علي" في بطاقة تعبئة الهاتف النقال الذي صام شهرين متتابعين وسكت عن الرنين المباح.
هو في حسّة سوء لا يُحسد عليها، استجمع قواه وكف عن التفكير المضني ووقف وقفة فيها الكثير من المعاني وتنعْنع شيء في جوفه فيه كثير من المغازي، خطى بضع خطوات إلى الأمام ويداه الخشنتان تضم الواحدة الأخرى خلف ظهره المقوس. وقال مع نفسه:
أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا.. تماما كرجل آلي لا يحس ولا يشعر أو دابة تجر عربة وهي لا تدري لماذا وإلى أين سائرة!
لم يتردد في اتخاذ القرار، وقد أرسلت إليه السيالة العصبية أوامر حادة من دماغه المتدمر. حمل الفأس وراح يخرب السور الاسمنتي وكأنه يعيد التاريخ...
ترك خلفه أكوام أتربة وأحجار وكثيرا من الغبار وأثنى عائدا إلى كوخه المتواري خلف الفيلات الفاخرة، يجر أذيال هزيمة مفترضة وخسارة يوم عمل شاق، فلن يجازى عن عمله بفلس واحد وهو يعلم كل ذلك.
قبل أن يرخي الليل سجوفه و"المعلم علي" مازال يسير والرصيف المتآكل، وفي كل مرة يبصق عجم عنب أسود سواد هواجسه، كان حبيس جيب سرواله الأحمر. تراءى له من بعيد جموع من الشباب يهتفون:
- الحمد لله لقد هدموا السور الذي يفصل حيّنا عن الثانوية...
- يحيا النضال وتحيا الثورة..
- لو لم نقدم الطلب لمدير الثانوية لما سمعوا صيحاتنا...
[IMG]file:///C:/Users/ELHANS~1/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.jpg[/IMG]
... سَخيتْ نفسُه فجأة ودون سابق إنذار عن إتمام العمل، فقد كان جبينه يتفصّد عرقا ورجلاه النحيفتان قد تسلل إليهما التعب وهجّتا عن حمل جسده المنهك. ألقى بالمبْلطِ يمينا و"الطالوش" يسارا ثم قعد الأُرْبعاء في صمت رهيب يتناظر ذاك السور الإسمنتي العظيم الذي يمتد حتى السماء يلامس الغيم ويحبس الأنفاس ويفشل الهمم .. يتساءل مع نفسه اللوامة كيف استطاع تشييده، وكيف سخّر جوارحه ووقته لفعل ذلك؟؟! وهو لم يبرح بالبلدة سوى بضعة شهور..
اسْتدى بيده المرتعشة صوب عروة إبريق الشاي الذي سئم لهاب نار لا تهدئ من تحته، وأنصف كأسا اعتلاها الغبار وامتزجت ببصمات أصابعه المتسخة حتى أصبح الرسم ضبابا يعيق التعرف وتمييز نوع المشروب. تمدّل الرجل ذو الخمسة وخمسين عاما بمنديل مرقّع، هو لا يبغي إخفاء البياض الذي اجتاح شعيرات رأسه الأزعر فقد لفعه الشيب منذ أن كان مراهقا، لكن شدّ رأسه بالمنديل كي يقطع الطريق عن الكريات الدموية التي تجري وتجري على وقع نغمات أعصابه الثائرة والمتوترة فتهتز عروق رأسه اهتزازا مؤلما لا تداويه أقراص الاسبرين ولا قيلولات الصيف الطويلة والشهية.
ينظرُ المسكين إلى حالته كيف اتسخت وإلى تفاصيل وجهه كيف انكسرت وإلى يده كيف شُظِفتْ وإلى أحلامه كيف انقصمت وإلى ذكرياته كيف اندثرت.. يبني ويشيد، يكد ويكابد بحس أصيل وعيون واجفة وأجور بائسة بكرة وأصيلا..
في لحظة، أنشأ يفكر مليا في زوجته "ربيعة" وأولاده وبناته الثلاث، يفكر في أكياس الدقيق التي خفّ وزنها وعظُم سعرها وفي حبات الطماطم التي فُقدت في السوق وهاجرت قسرا إلى الديار الأوروبية وفي قطع اللحم.. آه .. ما أدراك ما اللحم! يفكر أيضا في شركة الكهرباء وماذا عساه يجيب المسؤولين وقد قطع وعدا لجاره أن يبقيه خارجة اللعبة وألا يورطه في "شبه سرقة لنعمة الكهرباء"، يفكر في دفتر ابنه زكريا والذي صار يدون ملخصات التاريخ على ظهر أوراق الانتخابات المشتتة في الزقاق، ووزرة فاطمة كذلك، فبسببها تُطرد من المؤسسة التعليمية لأنها طويلة وفضفاضة والناظر لا يعجب الأمر كثيرا.
لا تقف رحلة التفكير عند هذا البنّاء فهو يفكر كذلك في وشاح أمه الذي طلبته منه منذ كان البرد قارسا حتى هجم حر الصيف على البلدة... من حسن حظه أنها مريضة بالزهايمر. يفكر في والده أيضا، المناضل الرابض في غرفة قد نسميها غصبا إنعاشا في مستشفى شعاره الإهمال. والده يستريح، أو لنقل كذلك، لكنها استراحة محارب وهب حياته من أجل إعداد جيل جديد من حفظة القرآن الكريم، الآن، يجازى بقنينة أملاح معدنية يربط خيطها الرفيع بين موت الفقيه القادمة وحياته البئيسة وما باليد حيلة.
يفكر أيضا "المعلم علي" في بطاقة تعبئة الهاتف النقال الذي صام شهرين متتابعين وسكت عن الرنين المباح.
هو في حسّة سوء لا يُحسد عليها، استجمع قواه وكف عن التفكير المضني ووقف وقفة فيها الكثير من المعاني وتنعْنع شيء في جوفه فيه كثير من المغازي، خطى بضع خطوات إلى الأمام ويداه الخشنتان تضم الواحدة الأخرى خلف ظهره المقوس. وقال مع نفسه:
أسوأ شيء في الوجود أن تبني شيئا لا تعرف عنه شيئا.. تماما كرجل آلي لا يحس ولا يشعر أو دابة تجر عربة وهي لا تدري لماذا وإلى أين سائرة!
لم يتردد في اتخاذ القرار، وقد أرسلت إليه السيالة العصبية أوامر حادة من دماغه المتدمر. حمل الفأس وراح يخرب السور الاسمنتي وكأنه يعيد التاريخ...
ترك خلفه أكوام أتربة وأحجار وكثيرا من الغبار وأثنى عائدا إلى كوخه المتواري خلف الفيلات الفاخرة، يجر أذيال هزيمة مفترضة وخسارة يوم عمل شاق، فلن يجازى عن عمله بفلس واحد وهو يعلم كل ذلك.
قبل أن يرخي الليل سجوفه و"المعلم علي" مازال يسير والرصيف المتآكل، وفي كل مرة يبصق عجم عنب أسود سواد هواجسه، كان حبيس جيب سرواله الأحمر. تراءى له من بعيد جموع من الشباب يهتفون:
- الحمد لله لقد هدموا السور الذي يفصل حيّنا عن الثانوية...
- يحيا النضال وتحيا الثورة..
- لو لم نقدم الطلب لمدير الثانوية لما سمعوا صيحاتنا...
تعليق