نصف موت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أمين خيرالدين
    عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
    • 04-04-2008
    • 554

    نصف موت

    نصف موت
    كانت القرية تنام تحت وطأة العتمة، كالمريض الذي أعياه المرض طوال النهار، ولم يبق إلاّ أن ينزلق إلى غيبوبة هادئة هدوء الظلام، حين كنت أجهز رغيفا بالزيت والزعتر، زاد يومي خلال عملي في المدينة.
    تموز شهر ملتهب، والليل في تموز يختزن حرارة النهار، حين يلجأ إليه بعد أن ينهكه الإنسان..الإنسان مخلوق متعِب..عدو للسلام كما هو عدو للحرب، عدو للاستراحة، كما هو عدو للتعب، ما أن يبدأ في العمل حتى يشتهي الكسل، وإذا تقاعد يبحث عن العمل، يمشي على ثلاث ومع ذلك يتمنى التعب، لأن عجزه يذكّره بأيام الشباب، ودائما يحنّ إلى الشباب... ليس مهما ماذا يعمل، قد يلوك لحم أخيه الإنسان، أو يخيط له عورة ثم ينشغل بتمزيقها، إذا لم يجد عملا يحسّسه برجولته.
    حين اشتهيت الكسل، خرجت إلى التقاعد بعد اثنين وأربعين عام عمل، ولكني سرعان ما مللت الكسل ولم أطقه، لأني إنسان عادي بكل مميزات الإنسان العادي، من ضعف ومن قوّة، منرفض ومن قبول، عدو للكسل كما أكره التعب،وأحن إلى أيام الشباب.
    قالت لي زوجتي: كفى، عملت كثيرا.
    لأول مرة تمردت عليها، لم أسمع كلامها، يموت في أوقات الفراغ دون أن أتألم، خاصة في تموز الملتهب، تشتعل أعصابي، فأشتهي العمل.
    يمّمت وجهي نحو المدينة، والوجوه في المدينة مثل المطاط ، كلها متشابهة في التوتر والانبساط، لا تبتسم إلاّ بثمن،ولا تغضب إلاّ في الضرورات القصوى، أعصاب الناس فيها خيوط قطنية، إلاّ إذا احترقت بنار الحب أو الحسد أو الغيرة أوالعنصرية، حينها تلتهب كالورق لكنها سرعان ما تبرد كالرماد.
    كنت أقود السيارة إلى العمل في المدينة كالمراهقين، بينما المدينة تنزلق من النوم إلى الحياة، وتنزلق من الهدوء إلى الضجة.
    أوقفت السيارة.. وترجلت منها بعدأن نقعت أعصابي في ثلاجة الملل، ولبست قناع اللامبالاة، سرت نحو محطة القطار، بعدأن وضعت المفاتيح في الشنطة وعلقتها في كتفي الأيمن.
    محطة القطار لا تزال نصف ميتة..شِبْه فارغة من الركاب، إلاّ من بعض الأفراد، بعضهم يعمل في الأمن المكشوف رغم كل المحاولات لإخفائه، فقط الموظف الواقف في حالة استقبال على حاجز التفتيش عند باب المحطة يعلن عن عمله في الأمن .
    - ضع الشنطة على الطاولة.
    - حاضر.
    - ماذا بها؟
    - أحلامي وأوراق وأدوات كتابة ورغيف بالزيت والزعتر.
    - ما اسمك ؟
    - محمد العربي
    - إذن أنت عربي؟
    قالها بغطرسة !
    لم أرد على سؤاله، فقط تأملته بنظرة طويلة مستفزة هي الأخرى،غرزتها في صدره كالخنجر ، كأني أردّ له الصاع صاعين، نظرة كلها غضب مبطّنة بألف معنى.. قرأت اسمه المعلق على صدر ثوبه، وعرفت أنه ليس عربيا.مع أنه يتكلم اللغة العربية بطلاقة.
    قلت أخاطب نفسي بصوت منخفض:
    - لماذا يقولها باشمئزاز وغطرسة وكراهية ظهرت في عينيه؟؟
    - ماذا تتمتم؟؟
    - لا شيء.
    - من أيّ بلدة أنت؟
    - أكمل مهمتك، ولا يعنيك من أيّ بلدة أنا.
    - أتخجل في بلدك.
    لم أرد، لكني جلدته بنظرة احتقار، كلّها تحدّ من رأسه حتى كعبيه.
    - أتحمل سلاحا؟
    - لا أحتاجه.
    - لماذا لا تحتاجه؟
    - لأني لا أحب القتل ولا القتلة!
    - لكن الإنسان بلا سلاح كحشرة صغيرة.
    ألا يصدّق؟ أم أنه يستدرجني لأوفّر له حجة لاعتقالي؟؟!
    - الحشرة هي التي تعيث في الأرض فسادا، وتملأ الأرض قتلا وقذارة!
    - أليس معك مسدس أو قنبلة أو حزام ناسف؟
    لم أجبْه، لكنه استمرّ في تفتيش الشنطة كأنه يقطع في جلدي، بعثر كل ما فيها من أوراق وأقلام والرغيف أيضا.، لكنه عجز عن بعثرة أحلامي..كان يحرك يديه في تفتيش جيوبها التي لا تتسع لعلبة كبريت مثل إبليس، رفع مفتاح السيارة بيده قربه إلى أذنه، وهزّه، وهزّ جهاز إنذار السيارة بنفس الطريقة ثم قال:
    - استدر.
    لا أدر لماذا تخيلته إبليس، مع أن إبليس فكرةبلا جسم، ومع ذلك
    استدرت فمرر جهاز الكشف على ظهري وتحت إبطيّ وعلى بطني و... ثم قال :
    - يمكنك أن تنصرف.
    جمعت ما كان في الشنطة ..وأعدت ترتيبها ثم حملتها وانصرفت.
    كان القطار يوشك على التحرك حين دخلته من أوّل باب وصلته... تراءت لي المقاعد، رغم أنها فارغة، عشّ دبابير يهاجمني ، يفجر طنينه أذُني، أو عيونا تحدّق بي، وتلاحقني، قررت أن أتقدم مسرعا إلى مقدمة القطار،حيث لا أحد، كي تهدأ أعصابي المشتعلة، وأفْرِغ شحنة الغضب التي استوطنتني على تاريخ طويل من الإحباطات التي بدأت تطفو على سطح الذاكرة، وعلّني أنام، لأن في النوم راحة.
    - لكنه نصف موت!
    قلت لنفسي بتحد، وأجبتها بتحد مضاد:
    - نصف الموت أرحم من حياة مثل خرقة بالية، يعبث بها كل من هبّ ودب من دود الأرض!
    وما ان جلست على المقعد مُنهكا من الإحساس الثقيل بالإهانة حتى غطست في بحر عميق من النوم، انتشلني مكبر الصوت منه، ومن كابوس مخيف رأيت فيه أفعى كبيرة تلتف حول الشنطة ، وتمد رأسها داخلها لتفسد ما بها...
    كان مكبر الصوت يعلن الاقتراب من المحطة المنشودة، فأخذت ألملم نفسي استعدادا للنزول، ولجولة أخرى مع كابوس أخر على باب المكتب الذي أعمل فيه!!!

    عزيزي القارئ تكفيني شرفا قراءتك


    -
    التعديل الأخير تم بواسطة أمين خيرالدين; الساعة 30-04-2013, 08:50.
    [frame="11 98"]
    لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

    لكني لم أستطع أن أحب ظالما
    [/frame]
  • وفاء الدوسري
    عضو الملتقى
    • 04-09-2008
    • 6136

    #2
    يا أخي أنت سبقتني والله امس كنت أكتب قصيدة عن أنصاف الحلول
    هـهـهـهـه
    حرقت قصيدتي!!!!!!!!
    يا الله
    من المفروض وحتى لا تحترق قصيدتي أن لا اعلق هنا!..
    هـهـهـهـه

    لكن الحقيقة تفرض نفسها وهنا كنت
    من أول الـ نصف!.. إلى كابوس آخر ..

    رجل يرضى بأنصاف القلوب
    نصف حب ، حل، حلم ، أمل ، امنيه،
    نصف كلام ، نصف صمت
    يقبل من كل شيء بالنصف
    وكأن الحياة ترضى بأنصاف الأمور والحلول
    وكأنه من الممكن أن يعيش بنصف نفس!..

    قمر الفكرة هنا مكتمل
    كل التقدير

    تعليق

    • عبير هلال
      أميرة الرومانسية
      • 23-06-2007
      • 6758

      #3
      مذهل ..مذهل..بل أكثر من مذهل

      لي أكبر شرف بكوني أول

      من تقرأ هذه الرائعة ..

      شعرتني أسير معك بكل خطواتك

      وأتتبع الخطوات التي قام بها البطل ..

      أتعلم ، أكثر ما يؤلمني ويستفزني

      أنه علينا ابراز هويتنا وخضوعنا لتفتيش صارم

      وأين ؟؟ في وطننا الغالي حيث من المفترض

      أن نكون ننعم بالحرية التامة بالتجوال..

      أينك يا حرية ؟؟ أينك يا راحة البال؟؟


      أين كل ما نتمناه ..!!؟؟


      أديبنا المبدع

      أمين


      استمتعت جداً بقراءة رائعتك


      بصراحة تامة: كل كتاباتك مذهلة

      لك أسلوب متفرد يعجبني كثيرا ..


      بورك قلبك وقلمك
      sigpic

      تعليق

      • ريما ريماوي
        عضو الملتقى
        • 07-05-2011
        • 8501

        #4
        ومن الذي يفتشنا اقوام لا يمتون لنا بصلة...
        ومهما كانت وظيفتهم دائما نظرتهم بخصوصنا دونية..

        يا للحياة لما تصبح نصف موت... لكن يجب
        أن نتشبث بها، ونعمل جهدنا على ترك ما
        يدل علينا.. على الأقل هذه قناعتي..

        شكرا لك، استمتعت معك...

        تحيتي وتقديري.


        أنين ناي
        يبث الحنين لأصله
        غصن مورّق صغير.

        تعليق

        • أمين خيرالدين
          عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
          • 04-04-2008
          • 554

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة وفاء عرب مشاهدة المشاركة
          يا أخي أنت سبقتني والله امس كنت أكتب قصيدة عن أنصاف الحلول
          هـهـهـهـه
          حرقت قصيدتي!!!!!!!!
          يا الله
          من المفروض وحتى لا تحترق قصيدتي أن لا اعلق هنا!..
          هـهـهـهـه

          لكن الحقيقة تفرض نفسها وهنا كنت
          من أول الـ نصف!.. إلى كابوس آخر ..

          رجل يرضى بأنصاف القلوب
          نصف حب ، حل، حلم ، أمل ، امنيه،
          نصف كلام ، نصف صمت
          يقبل من كل شيء بالنصف
          وكأن الحياة ترضى بأنصاف الأمور والحلول
          وكأنه من الممكن أن يعيش بنصف نفس!..

          قمر الفكرة هنا مكتمل
          كل التقدير

          يا أختاه
          بعدد كلمات القصة أنا آسف
          أنصاف الحلول لا تحل ، بل تعقد
          أنا آسف، لو أعطيتني خبرا
          لأجّلت قصتي شهرا
          أمّا وقد وقع الفاس في الراس
          أشكرك على "إساءتي" لك

          وأشكرك لو سامحتني
          وأشكرك مرة أخرى على م
          رورك الكريم الذي يدل على روح أدبية وفكر راق
          الف شكر والف تحية
          ومثلهما اعتذار
          [frame="11 98"]
          لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

          لكني لم أستطع أن أحب ظالما
          [/frame]

          تعليق

          • أمين خيرالدين
            عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
            • 04-04-2008
            • 554

            #6
            يااااااااااااه
            كم أنا سعيد بهذا المرور الكريم
            وهذه الكلمات الأكثر عذوبة
            حقا انا سعيد بقراءتك وبسيرك بجانبي ...
            نعم نسير جنبا الى جنب في مناخ كله استفزاز
            في كل مكان
            اين انت من قلب فلسطين
            اتدرين لماذا يستفزوننا بهكذا وقاحة
            لأننا يتامى في امة لا شاغل لها إلا ... والاقتتال
            في الستينات كانت لنا هيبة حتى لو خسرنا معركة
            لو كنتت قريبةلأهديتك كتابي الأخير "اعتقال ميّت"

            تحياتي وتحياتي وتحياتي
            التعديل الأخير تم بواسطة أمين خيرالدين; الساعة 30-04-2013, 16:01.
            [frame="11 98"]
            لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

            لكني لم أستطع أن أحب ظالما
            [/frame]

            تعليق

            • أمين خيرالدين
              عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
              • 04-04-2008
              • 554

              #7
              الأخت ريما
              تحياتي
              يفتشنا إمّا قوم لا يمتون بصلة لنا
              أو
              لا يمتون بصلة للبلاد
              و
              لا يمتون بصلة للإنسانية

              تدرين لماذا؟؟
              لأن ما يحدث عند العرب يضعف موقفنا ويلغي
              كل احترام للعرب
              كل العرب
              أما التشبث بالحياة فأقول لك
              يوم فوق الأرض أفضل من ألف يوم تحتها
              رحم الله من قال:
              إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة
              تحياتي
              [frame="11 98"]
              لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

              لكني لم أستطع أن أحب ظالما
              [/frame]

              تعليق

              • عبير هلال
                أميرة الرومانسية
                • 23-06-2007
                • 6758

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة أمين خيرالدين مشاهدة المشاركة
                يااااااااااااه
                كم أنا سعيد بهذا المرور الكريم
                وهذه الكلمات الأكثر عذوبة
                حقا انا سعيد بقراءتك وبسيرك بجانبي ...
                نعم نسير جنبا الى جنب في مناخ كله استفزاز
                في كل مكان
                اين انت من قلب فلسطين
                اتدرين لماذا يستفزوننا بهكذا وقاحة
                لأننا يتامى في امة لا شاغل لها إلا ... والاقتتال
                في الستينات كانت لنا هيبة حتى لو خسرنا معركة
                لو كنتت قريبةلأهديتك كتابي الأخير "اعتقال ميّت"

                تحياتي وتحياتي وتحياتي


                أخيرا حصلت على نسخك من الكتاب


                ألف ..ألف مبروك


                يا ليتني حصلت على نسخة منه

                كنت سأسعد كثيراً

                لا تعلم مقدار سعادتي لأنك حققت أمنيتك


                وعقبال عند المجموعة القصصية الثانية


                لك باقات من التقدير
                sigpic

                تعليق

                • حسن لختام
                  أديب وكاتب
                  • 26-08-2011
                  • 2603

                  #9
                  قصة جميلة ومشوّقة تعبّر عن المعاناة الجسدية والنفسية التي يعيشها الإنسان العربي..
                  أشكرك على الإمتاع
                  محبتي وتقديري، أخي أمين

                  تعليق

                  • أمين خيرالدين
                    عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
                    • 04-04-2008
                    • 554

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عبير هلال مشاهدة المشاركة
                    أخيرا حصلت على نسخك من الكتاب

                    ألف ..ألف مبروك
                    يا ليتني حصلت على نسخة منه

                    كنت سأسعد كثيراً
                    لا تعلم مقدار سعادتي لأنك حققت أمنيتك

                    وعقبال عند المجموعة القصصية الثانية


                    لك باقات من التقدير
                    يظهر انك علمت بقصة كنابي
                    لقد بعث لي 120 بدلا من 200 وعلى حسابي الخاص خلاف العقد الموقع بيننا

                    الف الف شكر لك تقديري لك ولكل كلمة منك لا يقدر
                    هل استطيع ان ارسله لك على استعداد لعمل كل شيئ من اجل ان يصلك
                    شرف لي ان اضع كتابي بين يدي اخت كريمة
                    الف تحية لك والف شكر

                    [frame="11 98"]
                    لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

                    لكني لم أستطع أن أحب ظالما
                    [/frame]

                    تعليق

                    • أمين خيرالدين
                      عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
                      • 04-04-2008
                      • 554

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
                      قصة جميلة ومشوّقة تعبّر عن المعاناة الجسدية والنفسية التي يعيشها الإنسان العربي..
                      أشكرك على الإمتاع
                      محبتي وتقديري، أخي أمين
                      شكرا لك اخي حسن على مرورك الكريم
                      وكلماتك العذبة
                      تحياتي وأخوّتي
                      التعديل الأخير تم بواسطة أمين خيرالدين; الساعة 01-05-2013, 12:35.
                      [frame="11 98"]
                      لأني أحبُّ شعبي أحببت شعوب الأرض

                      لكني لم أستطع أن أحب ظالما
                      [/frame]

                      تعليق

                      يعمل...
                      X