نصف موت
كانت القرية تنام تحت وطأة العتمة، كالمريض الذي أعياه المرض طوال النهار، ولم يبق إلاّ أن ينزلق إلى غيبوبة هادئة هدوء الظلام، حين كنت أجهز رغيفا بالزيت والزعتر، زاد يومي خلال عملي في المدينة.
تموز شهر ملتهب، والليل في تموز يختزن حرارة النهار، حين يلجأ إليه بعد أن ينهكه الإنسان..الإنسان مخلوق متعِب..عدو للسلام كما هو عدو للحرب، عدو للاستراحة، كما هو عدو للتعب، ما أن يبدأ في العمل حتى يشتهي الكسل، وإذا تقاعد يبحث عن العمل، يمشي على ثلاث ومع ذلك يتمنى التعب، لأن عجزه يذكّره بأيام الشباب، ودائما يحنّ إلى الشباب... ليس مهما ماذا يعمل، قد يلوك لحم أخيه الإنسان، أو يخيط له عورة ثم ينشغل بتمزيقها، إذا لم يجد عملا يحسّسه برجولته.
حين اشتهيت الكسل، خرجت إلى التقاعد بعد اثنين وأربعين عام عمل، ولكني سرعان ما مللت الكسل ولم أطقه، لأني إنسان عادي بكل مميزات الإنسان العادي، من ضعف ومن قوّة، منرفض ومن قبول، عدو للكسل كما أكره التعب،وأحن إلى أيام الشباب.
قالت لي زوجتي: كفى، عملت كثيرا.
لأول مرة تمردت عليها، لم أسمع كلامها، يموت في أوقات الفراغ دون أن أتألم، خاصة في تموز الملتهب، تشتعل أعصابي، فأشتهي العمل.
يمّمت وجهي نحو المدينة، والوجوه في المدينة مثل المطاط ، كلها متشابهة في التوتر والانبساط، لا تبتسم إلاّ بثمن،ولا تغضب إلاّ في الضرورات القصوى، أعصاب الناس فيها خيوط قطنية، إلاّ إذا احترقت بنار الحب أو الحسد أو الغيرة أوالعنصرية، حينها تلتهب كالورق لكنها سرعان ما تبرد كالرماد.
كنت أقود السيارة إلى العمل في المدينة كالمراهقين، بينما المدينة تنزلق من النوم إلى الحياة، وتنزلق من الهدوء إلى الضجة.
أوقفت السيارة.. وترجلت منها بعدأن نقعت أعصابي في ثلاجة الملل، ولبست قناع اللامبالاة، سرت نحو محطة القطار، بعدأن وضعت المفاتيح في الشنطة وعلقتها في كتفي الأيمن.
محطة القطار لا تزال نصف ميتة..شِبْه فارغة من الركاب، إلاّ من بعض الأفراد، بعضهم يعمل في الأمن المكشوف رغم كل المحاولات لإخفائه، فقط الموظف الواقف في حالة استقبال على حاجز التفتيش عند باب المحطة يعلن عن عمله في الأمن .
- ضع الشنطة على الطاولة.
- حاضر.
- ماذا بها؟
- أحلامي وأوراق وأدوات كتابة ورغيف بالزيت والزعتر.
- ما اسمك ؟
- محمد العربي
- إذن أنت عربي؟
قالها بغطرسة !
لم أرد على سؤاله، فقط تأملته بنظرة طويلة مستفزة هي الأخرى،غرزتها في صدره كالخنجر ، كأني أردّ له الصاع صاعين، نظرة كلها غضب مبطّنة بألف معنى.. قرأت اسمه المعلق على صدر ثوبه، وعرفت أنه ليس عربيا.مع أنه يتكلم اللغة العربية بطلاقة.
قلت أخاطب نفسي بصوت منخفض:
- لماذا يقولها باشمئزاز وغطرسة وكراهية ظهرت في عينيه؟؟
- ماذا تتمتم؟؟
- لا شيء.
- من أيّ بلدة أنت؟
- أكمل مهمتك، ولا يعنيك من أيّ بلدة أنا.
- أتخجل في بلدك.
لم أرد، لكني جلدته بنظرة احتقار، كلّها تحدّ من رأسه حتى كعبيه.
- أتحمل سلاحا؟
- لا أحتاجه.
- لماذا لا تحتاجه؟
- لأني لا أحب القتل ولا القتلة!
- لكن الإنسان بلا سلاح كحشرة صغيرة.
ألا يصدّق؟ أم أنه يستدرجني لأوفّر له حجة لاعتقالي؟؟!
- الحشرة هي التي تعيث في الأرض فسادا، وتملأ الأرض قتلا وقذارة!
- أليس معك مسدس أو قنبلة أو حزام ناسف؟
لم أجبْه، لكنه استمرّ في تفتيش الشنطة كأنه يقطع في جلدي، بعثر كل ما فيها من أوراق وأقلام والرغيف أيضا.، لكنه عجز عن بعثرة أحلامي..كان يحرك يديه في تفتيش جيوبها التي لا تتسع لعلبة كبريت مثل إبليس، رفع مفتاح السيارة بيده قربه إلى أذنه، وهزّه، وهزّ جهاز إنذار السيارة بنفس الطريقة ثم قال:
- استدر.
لا أدر لماذا تخيلته إبليس، مع أن إبليس فكرةبلا جسم، ومع ذلك
استدرت فمرر جهاز الكشف على ظهري وتحت إبطيّ وعلى بطني و... ثم قال :
- يمكنك أن تنصرف.
جمعت ما كان في الشنطة ..وأعدت ترتيبها ثم حملتها وانصرفت.
كان القطار يوشك على التحرك حين دخلته من أوّل باب وصلته... تراءت لي المقاعد، رغم أنها فارغة، عشّ دبابير يهاجمني ، يفجر طنينه أذُني، أو عيونا تحدّق بي، وتلاحقني، قررت أن أتقدم مسرعا إلى مقدمة القطار،حيث لا أحد، كي تهدأ أعصابي المشتعلة، وأفْرِغ شحنة الغضب التي استوطنتني على تاريخ طويل من الإحباطات التي بدأت تطفو على سطح الذاكرة، وعلّني أنام، لأن في النوم راحة.
- لكنه نصف موت!
قلت لنفسي بتحد، وأجبتها بتحد مضاد:
- نصف الموت أرحم من حياة مثل خرقة بالية، يعبث بها كل من هبّ ودب من دود الأرض!
وما ان جلست على المقعد مُنهكا من الإحساس الثقيل بالإهانة حتى غطست في بحر عميق من النوم، انتشلني مكبر الصوت منه، ومن كابوس مخيف رأيت فيه أفعى كبيرة تلتف حول الشنطة ، وتمد رأسها داخلها لتفسد ما بها...
كان مكبر الصوت يعلن الاقتراب من المحطة المنشودة، فأخذت ألملم نفسي استعدادا للنزول، ولجولة أخرى مع كابوس أخر على باب المكتب الذي أعمل فيه!!!
عزيزي القارئ تكفيني شرفا قراءتككانت القرية تنام تحت وطأة العتمة، كالمريض الذي أعياه المرض طوال النهار، ولم يبق إلاّ أن ينزلق إلى غيبوبة هادئة هدوء الظلام، حين كنت أجهز رغيفا بالزيت والزعتر، زاد يومي خلال عملي في المدينة.
تموز شهر ملتهب، والليل في تموز يختزن حرارة النهار، حين يلجأ إليه بعد أن ينهكه الإنسان..الإنسان مخلوق متعِب..عدو للسلام كما هو عدو للحرب، عدو للاستراحة، كما هو عدو للتعب، ما أن يبدأ في العمل حتى يشتهي الكسل، وإذا تقاعد يبحث عن العمل، يمشي على ثلاث ومع ذلك يتمنى التعب، لأن عجزه يذكّره بأيام الشباب، ودائما يحنّ إلى الشباب... ليس مهما ماذا يعمل، قد يلوك لحم أخيه الإنسان، أو يخيط له عورة ثم ينشغل بتمزيقها، إذا لم يجد عملا يحسّسه برجولته.
حين اشتهيت الكسل، خرجت إلى التقاعد بعد اثنين وأربعين عام عمل، ولكني سرعان ما مللت الكسل ولم أطقه، لأني إنسان عادي بكل مميزات الإنسان العادي، من ضعف ومن قوّة، منرفض ومن قبول، عدو للكسل كما أكره التعب،وأحن إلى أيام الشباب.
قالت لي زوجتي: كفى، عملت كثيرا.
لأول مرة تمردت عليها، لم أسمع كلامها، يموت في أوقات الفراغ دون أن أتألم، خاصة في تموز الملتهب، تشتعل أعصابي، فأشتهي العمل.
يمّمت وجهي نحو المدينة، والوجوه في المدينة مثل المطاط ، كلها متشابهة في التوتر والانبساط، لا تبتسم إلاّ بثمن،ولا تغضب إلاّ في الضرورات القصوى، أعصاب الناس فيها خيوط قطنية، إلاّ إذا احترقت بنار الحب أو الحسد أو الغيرة أوالعنصرية، حينها تلتهب كالورق لكنها سرعان ما تبرد كالرماد.
كنت أقود السيارة إلى العمل في المدينة كالمراهقين، بينما المدينة تنزلق من النوم إلى الحياة، وتنزلق من الهدوء إلى الضجة.
أوقفت السيارة.. وترجلت منها بعدأن نقعت أعصابي في ثلاجة الملل، ولبست قناع اللامبالاة، سرت نحو محطة القطار، بعدأن وضعت المفاتيح في الشنطة وعلقتها في كتفي الأيمن.
محطة القطار لا تزال نصف ميتة..شِبْه فارغة من الركاب، إلاّ من بعض الأفراد، بعضهم يعمل في الأمن المكشوف رغم كل المحاولات لإخفائه، فقط الموظف الواقف في حالة استقبال على حاجز التفتيش عند باب المحطة يعلن عن عمله في الأمن .
- ضع الشنطة على الطاولة.
- حاضر.
- ماذا بها؟
- أحلامي وأوراق وأدوات كتابة ورغيف بالزيت والزعتر.
- ما اسمك ؟
- محمد العربي
- إذن أنت عربي؟
قالها بغطرسة !
لم أرد على سؤاله، فقط تأملته بنظرة طويلة مستفزة هي الأخرى،غرزتها في صدره كالخنجر ، كأني أردّ له الصاع صاعين، نظرة كلها غضب مبطّنة بألف معنى.. قرأت اسمه المعلق على صدر ثوبه، وعرفت أنه ليس عربيا.مع أنه يتكلم اللغة العربية بطلاقة.
قلت أخاطب نفسي بصوت منخفض:
- لماذا يقولها باشمئزاز وغطرسة وكراهية ظهرت في عينيه؟؟
- ماذا تتمتم؟؟
- لا شيء.
- من أيّ بلدة أنت؟
- أكمل مهمتك، ولا يعنيك من أيّ بلدة أنا.
- أتخجل في بلدك.
لم أرد، لكني جلدته بنظرة احتقار، كلّها تحدّ من رأسه حتى كعبيه.
- أتحمل سلاحا؟
- لا أحتاجه.
- لماذا لا تحتاجه؟
- لأني لا أحب القتل ولا القتلة!
- لكن الإنسان بلا سلاح كحشرة صغيرة.
ألا يصدّق؟ أم أنه يستدرجني لأوفّر له حجة لاعتقالي؟؟!
- الحشرة هي التي تعيث في الأرض فسادا، وتملأ الأرض قتلا وقذارة!
- أليس معك مسدس أو قنبلة أو حزام ناسف؟
لم أجبْه، لكنه استمرّ في تفتيش الشنطة كأنه يقطع في جلدي، بعثر كل ما فيها من أوراق وأقلام والرغيف أيضا.، لكنه عجز عن بعثرة أحلامي..كان يحرك يديه في تفتيش جيوبها التي لا تتسع لعلبة كبريت مثل إبليس، رفع مفتاح السيارة بيده قربه إلى أذنه، وهزّه، وهزّ جهاز إنذار السيارة بنفس الطريقة ثم قال:
- استدر.
لا أدر لماذا تخيلته إبليس، مع أن إبليس فكرةبلا جسم، ومع ذلك
استدرت فمرر جهاز الكشف على ظهري وتحت إبطيّ وعلى بطني و... ثم قال :
- يمكنك أن تنصرف.
جمعت ما كان في الشنطة ..وأعدت ترتيبها ثم حملتها وانصرفت.
كان القطار يوشك على التحرك حين دخلته من أوّل باب وصلته... تراءت لي المقاعد، رغم أنها فارغة، عشّ دبابير يهاجمني ، يفجر طنينه أذُني، أو عيونا تحدّق بي، وتلاحقني، قررت أن أتقدم مسرعا إلى مقدمة القطار،حيث لا أحد، كي تهدأ أعصابي المشتعلة، وأفْرِغ شحنة الغضب التي استوطنتني على تاريخ طويل من الإحباطات التي بدأت تطفو على سطح الذاكرة، وعلّني أنام، لأن في النوم راحة.
- لكنه نصف موت!
قلت لنفسي بتحد، وأجبتها بتحد مضاد:
- نصف الموت أرحم من حياة مثل خرقة بالية، يعبث بها كل من هبّ ودب من دود الأرض!
وما ان جلست على المقعد مُنهكا من الإحساس الثقيل بالإهانة حتى غطست في بحر عميق من النوم، انتشلني مكبر الصوت منه، ومن كابوس مخيف رأيت فيه أفعى كبيرة تلتف حول الشنطة ، وتمد رأسها داخلها لتفسد ما بها...
كان مكبر الصوت يعلن الاقتراب من المحطة المنشودة، فأخذت ألملم نفسي استعدادا للنزول، ولجولة أخرى مع كابوس أخر على باب المكتب الذي أعمل فيه!!!
-
تعليق