أدافتْ "حكيمة" دواء الأعصاب في كوب ماء بارد برودة أحاسيسها الأنثوية، وشربته دفعة واحدة، وقد أهْمت في جوفها حُزنا طريا بالكاد استقر في القعر واستوطن. لملمت وصفات الطبيب وإشعارات الدواء وزهور النرد المبعثرة فوق سريرها القديم الوفي لغرفتها الصغيرة، وسافرتْ إلى زمن الثمانينيات وحطت رحال التذكر بيوم كانت ما تزال مراهقةً تتطلع إلى غدٍ أكثر إشراقة من شمس الصباح، وهي تتوجه كل يوم وإشراقة الشمس إلى الثانوية التي كانت تبعُد عن بيت عمتها "خدوج" خمس كيلومترات بالتمام والكمال. آه ! هي أجمل الأيام طبعا.
والآن، لعلها تصفُ نفسها بواشلة الحظ هكذا بصريح العبارة؛ فهي لمْ تنل شهادة الباكالوريا كما وعدت أمها "لا لا يامنة" وهي على فراش الموت ولم تتمم مشروع الزواج كما وعدت صديقتها حين رسمت علامة (في) على إحدى أعمدة الكهرباء القديمة المتاخمة لسور الثانوية يوم أهداها أستاذ الرياضيات زهرة ياسمين. نعم، خرجت خالية الوفاض من معركتين إنسانتين خسرتهما فأثنت عائدة إلى بيت العمة العجوز، حيث استقبلتها المتربة والفاقة بالأحضان !
كم أترحها خروجها من لعبة الزواج ودخول لعبة الأقدار، استغفرت الله مرة ومرّة والعين ازْمهرّت يتقاسمها الحزن والندم.
_ " ترى ما السبب؟ هل لأنني مسحاء الثدي؟ أم لأنني لا أشبه أنجيلينا جولي في شفتيها المكتزتين شحما اصطناعيا؟ هل لأنني أفتش أول الشهر جيب سرواله الرمادي؟ هل لأنني كاسفة الوجه على الدوام؟ " لا يهم، فقد بلغ السيل الزبى وما عدت أحتمل العيش مع رجل مجذوف اليدين* لا يصرف درهما حتى يسجله في مذكرة صغيرة منقطة زيتا."
كانت "حكيمة" واقفة تحدث نفسها أمام مرآة منكسرة، تذكرها بأيام المراهقة وأول يوم استعملت فيه أحمر الشفاه، فنالت عقابا جعلها تكره أي أكسوسوار نسائي كيفما كان !! حتى الحمام الشعبي كانت تتحجج بحجج واهية كي تغتسل بمفردها في حوض استحمام مهترئ اكترته الصراصير الجائعة.
_ " يا لا لا، أنا لا أريد هذه الفزاعة معنا في البيت، تكفيني أغلال مصاريف الأبناء تكبلني من كل ناحية."
_ " أصمت يا إبراهيم، ستسمعك البنت وجرحها لم يندمل بعد"
_ " البنت هههه البنت؟؟ قولي امرأة، أما زلت تعتقدين أنها صغيرة، أحجمي عن هذا الأمر واستفيقي من سباتك يا امرأة."
طبعا، ودون أن تَنْطسّ الأخبار، لأن الغرفة تجاور المطبخ حيث دار الحوار بين عمتها وزوجها الأصلع، استلت جلابتها الحمراء الهتكة من تحت الصوان، وانتعلت البلغة السوداء وإلى الشارع ارتمتْ تحكي للرصيف كُربتها وتقصّ للجدران قصتها وتناجي السماء باحثة عن خلاصها.
أثار انتباه "حكيمة" صفا بشريا ذكوريا، والكل يحمل قطفة ورقة في يده، وانضمت إلى الصف دون أن تدري غايتها. سألتْ بعفوية جميلة آخر الواقفين:
_ ما هذه الورقة التي تحمل يا سيدي؟
حرْشف في كلامه مجيبا إياها وعيونه المنقبضة تتسلق جسدها المنهك؛
_ هذه ورقة يانصيب يا "توتة"، إنْ وضعت ستة أرقام حلوة متناسقة مع بعضها البعض ستخترقين ثغر المجد، هههه، لكن، قولي لي يا "توتة" ما الذي رماك على هذا العالم الخبيث؟
تنهدت "حكيمة" وابتعدت نصف متر من الرجل فرائحة النبيد تجثم على أنفاسها، لم ترد على كلام الرجل المقرف، وأخذت دورها، وقامت باللازم.
وأخيرا أرسلت السماء محاديج الغيث !
بعد سنة..
مرّت بسيارتها الحمراء قرب محل اليانصيب ذاته، أنزلت زجاج الباب الأيمن للسيارة، ولوحت بيدها إلى الرجل صاحب المعطف الأسود نفسه. وأتى سِجاح وجهها. أخبرته إن كان يود أن يشتغل بستانيا بالفيلا ووافق بدون تردد.
سألها يوما من تكون تلك المرأة المقعدة هناك؟ أجابت:
_ عمتي،
وسألها أيضا عن الأرقام التي كتبتها على الورقة يومها. أجابت:
_ 08 03 19 99
_ لماذا هذا الرقم؟
_ تاريخ زواجي. كفى من الأسئلة يا "با سعيد"، وانتبه إلى أزهار الياسمين إنني أحبها...
_ وماذا عن هذا القبر الوحيد بقلب الحديقة؟
_ أووووووووووووف قلت لك أصمت !!!
بقلم: جمال الحنصالي amdiaz77@hotmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*رجل بخيل
والآن، لعلها تصفُ نفسها بواشلة الحظ هكذا بصريح العبارة؛ فهي لمْ تنل شهادة الباكالوريا كما وعدت أمها "لا لا يامنة" وهي على فراش الموت ولم تتمم مشروع الزواج كما وعدت صديقتها حين رسمت علامة (في) على إحدى أعمدة الكهرباء القديمة المتاخمة لسور الثانوية يوم أهداها أستاذ الرياضيات زهرة ياسمين. نعم، خرجت خالية الوفاض من معركتين إنسانتين خسرتهما فأثنت عائدة إلى بيت العمة العجوز، حيث استقبلتها المتربة والفاقة بالأحضان !
كم أترحها خروجها من لعبة الزواج ودخول لعبة الأقدار، استغفرت الله مرة ومرّة والعين ازْمهرّت يتقاسمها الحزن والندم.
_ " ترى ما السبب؟ هل لأنني مسحاء الثدي؟ أم لأنني لا أشبه أنجيلينا جولي في شفتيها المكتزتين شحما اصطناعيا؟ هل لأنني أفتش أول الشهر جيب سرواله الرمادي؟ هل لأنني كاسفة الوجه على الدوام؟ " لا يهم، فقد بلغ السيل الزبى وما عدت أحتمل العيش مع رجل مجذوف اليدين* لا يصرف درهما حتى يسجله في مذكرة صغيرة منقطة زيتا."
كانت "حكيمة" واقفة تحدث نفسها أمام مرآة منكسرة، تذكرها بأيام المراهقة وأول يوم استعملت فيه أحمر الشفاه، فنالت عقابا جعلها تكره أي أكسوسوار نسائي كيفما كان !! حتى الحمام الشعبي كانت تتحجج بحجج واهية كي تغتسل بمفردها في حوض استحمام مهترئ اكترته الصراصير الجائعة.
_ " يا لا لا، أنا لا أريد هذه الفزاعة معنا في البيت، تكفيني أغلال مصاريف الأبناء تكبلني من كل ناحية."
_ " أصمت يا إبراهيم، ستسمعك البنت وجرحها لم يندمل بعد"
_ " البنت هههه البنت؟؟ قولي امرأة، أما زلت تعتقدين أنها صغيرة، أحجمي عن هذا الأمر واستفيقي من سباتك يا امرأة."
طبعا، ودون أن تَنْطسّ الأخبار، لأن الغرفة تجاور المطبخ حيث دار الحوار بين عمتها وزوجها الأصلع، استلت جلابتها الحمراء الهتكة من تحت الصوان، وانتعلت البلغة السوداء وإلى الشارع ارتمتْ تحكي للرصيف كُربتها وتقصّ للجدران قصتها وتناجي السماء باحثة عن خلاصها.
أثار انتباه "حكيمة" صفا بشريا ذكوريا، والكل يحمل قطفة ورقة في يده، وانضمت إلى الصف دون أن تدري غايتها. سألتْ بعفوية جميلة آخر الواقفين:
_ ما هذه الورقة التي تحمل يا سيدي؟
حرْشف في كلامه مجيبا إياها وعيونه المنقبضة تتسلق جسدها المنهك؛
_ هذه ورقة يانصيب يا "توتة"، إنْ وضعت ستة أرقام حلوة متناسقة مع بعضها البعض ستخترقين ثغر المجد، هههه، لكن، قولي لي يا "توتة" ما الذي رماك على هذا العالم الخبيث؟
تنهدت "حكيمة" وابتعدت نصف متر من الرجل فرائحة النبيد تجثم على أنفاسها، لم ترد على كلام الرجل المقرف، وأخذت دورها، وقامت باللازم.
وأخيرا أرسلت السماء محاديج الغيث !
بعد سنة..
مرّت بسيارتها الحمراء قرب محل اليانصيب ذاته، أنزلت زجاج الباب الأيمن للسيارة، ولوحت بيدها إلى الرجل صاحب المعطف الأسود نفسه. وأتى سِجاح وجهها. أخبرته إن كان يود أن يشتغل بستانيا بالفيلا ووافق بدون تردد.
سألها يوما من تكون تلك المرأة المقعدة هناك؟ أجابت:
_ عمتي،
وسألها أيضا عن الأرقام التي كتبتها على الورقة يومها. أجابت:
_ 08 03 19 99
_ لماذا هذا الرقم؟
_ تاريخ زواجي. كفى من الأسئلة يا "با سعيد"، وانتبه إلى أزهار الياسمين إنني أحبها...
_ وماذا عن هذا القبر الوحيد بقلب الحديقة؟
_ أووووووووووووف قلت لك أصمت !!!
بقلم: جمال الحنصالي amdiaz77@hotmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*رجل بخيل
تعليق