إياكِ أعْني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جمال الحنصالي
    أديب وكاتب
    • 23-04-2013
    • 41

    إياكِ أعْني

    ... غازلت أشعّةُ الشمس الدافئة المتسللة عبر شقوق الخيمة أهدابَ عينيه المنكسرة من شدة التّعب، وما كان عليه إلا أن أرخى عُضيلات جفنيه بتوءدة، ليفسح المجال أمام إلكترونات ضوء صباح من الإصباح الصيفية الجديدة، ومضتْ عساكر النُّعاس مَضاءً، تاركين ساحة القتال عامرةً شظايا أحلام ملونة..
    ناءَ* أخيرا وتخلّص بمشّقة من نوبات التقاعس التي تحاصره من كل جانب، وودع فراشه البالي وأنْبادَ** أوهامٍ ما زالتْ تعتقل إلهاماته الباحثة عن ملاذ آمن. حرّك الإزار الأبيض، فتطايرت حُبيبات رملٍ أبتْ إلا أن تشاركه نومه الهادئ هدوء أمواج البحر الذي ينتظر ملاقاته من جديد. قَلَب الوسادة كي يخفي بقع العرق التي رسمها رَشْح جسده النحيف ليلة البارحة الساخنة على غير العادة.
    أخرج رأسه، بعد ما ارتدي سُبْجته***، من باب خيمته العانس، فلا جيران بالقرب ولا مؤنس، ومال كغصن أخضر وهو يراقب الأفق البعيد، واضعا يده على جبينه اتقاء أشعة الشمس التي أوحت له بالفكرة. صار يفكر في وجبة فطور سريعة، لن تكون إلا فنجان قهوة سمراء بدون سكر وكسرة خبز يابسة، في انتظار صوت أزيز محرك دراجة بائع الخبز الذي سيأتي أو ربما لن يأتي..
    أنشأ يفكر بصوت عالٍ، في جلسة مريحة في قلب الشاطئ، عن موقع استراتيجي لبدء معركة تبادل النظرات والتأمل ومهارات تخليط الألوان.. أخيرا زارته الفكرة الذهبية وتسللت برفق إلى أعماق أحاسيسه، فوضع كرسيه البلاستيكي الأزرق جانبا، لا يستعمله عادة للجلوس بل لوضع رجله اليسرى حين يدب فيها العياء. حمل أيضا مذياعه الصغير، وثبت رجلي مرسمه غارسا إياها في رمال الشاطئ المبللة.
    الشاطئ خلا من رواده إلا امرأة في ريعان شبابها متَحتِ الأربعين على ما يبدو، على ظهرها كانت مستلقية تدعم بمرفقي يديها المنقوشتين حناءً جسدها المكتنز لحما. فستانها فستقي اللون تبلّل بالكامل ولحس حبات الرمل المتمسكة بقليل من الأمل، خائفة من السقوط والعودة إلى الوطن، وخصلات شعرها المجعد تنظر بخجل من تحت وشاحها المزركش.. كأنّ المرأة زارت مويجات البحر قبل شروق الشمس، وأباحت لجسدها غير المعرى أن يتذوق ملوحةً قد لا يجدها في أي مكان آخر، وأسبل مطر خيالها الواسع يسيل جداول تخترق خوفها من كلام الناس.
    بقي الرّسام وافقا ينظر جهة هذه المرأة اليافعة، كفلاح ينتظر غيثا نافعا، لكن نظراته الحادة كانت مسافرة عبر هذا الفضاء الفسيح الساحر، كطيور النورس تحلق ولا تبرح مكانا حتى يصيبها الجوع والظمأ، هكذا تحلق بحرية إلى آخر النهار، فتحط على صخرة من الصخور المليئة ثقوبا وشقوقا مملحة.
    سمعت المرأة "خشخشة" المذياع وهو يبحث عن اصطياد موجات الإرسال، واستدارتْ بجسدها الثقيل بخفة فيها كثير من الاندهاش والرهبة. ما أنْ رأته واقفا يتشهّق إليها بنهمٍ، حتى أخفتْ، في حياءٍ تقليدي نادر، نصف ملامح وجهها بمنديل مُطرّز، وتركت النصف الثاني للحظ وما سيأتي، هكذا، بلا إذن ولا ترخيص.
    لم يتردد الرّسام ذو القامة الطويلة في فَرْش ورقة عذراء تنتظر ريشته كي تفض بكارتها وتسيل ألوانا زاهية على أديمها البريء. صار البؤبؤ يعلو دقيقة وينخفض دقيقتين أو أكثر، كما ترتفع شهقات وزفرات الرسام تارة وتنزل أخرى، والمعصم يتراقص بالريشة على وقْع حركات فنية ساحرة..
    تجمدت حركات المرأة وسكنتْ أنفاسها فجأة، وهي تفكر في الجارات وموضوع "الفقيه"، وخالتها ونصيحة "السبع موجات" ... فانقصمت تفاصيل وجهها من شدة الغرابة وما يقع لحياتها التي كانت على كف عفريت..
    أنهى الرسام تشكيل تفاصيل اللوحة الفنية وأضاف "روتاشات" كانت ضرورية، والمرأة ما زالت متجمدة كالتماثيل الرملية. شرع يلملم أغراضه المتواضعة بكثير من التفاؤل. نظر إلى المرأة وأطلق سراح ابتسامة قد أهملها طوال إبداعه، وقال:
    - شكرا على صبركِ معي سيدتي.
    - لا داعي للشكر، وإنْ كان لا بد من ذلك، فلنشكر الله.
    - كانت أروع لوحة أرسمها في حياتي على الإطلاق، إشراقتها تسحرني، هيبتها تعجبني، ضوء وجهها الفريد من نوعه يلهب أحاسيسي... لقد رسمتُ أشياء كثيرة، وزرت مدن وقرى نائية.. ولأول أرسم قطعة نادرة من هذا الجمال الأخاذ...
    هو يتحدث وقلبُ المرأة يتودد..
    نظر إليها الرّسام مجددا ولم يتردد في إهدائها اللوحة، وهي أول مرة في حياته يهدي إبداعا فنيا لكائن حي على الإطلاق. كوْفل اللوحة كأم تعتني برضيعها في قماش مرقع، ومنحها للمرأة التي مازالت تحت تأثير ما وقع!
    ودعها..
    ودعته.. في صمت وكثير من الأحاسيس الفياضة..
    ورغم صدمتها الكبيرة، فقد احتفظتْ العانس باللوحة التشكيلية لشروق الشمس، وقد ثبتتها على حائط غرفتها في إحدى غرف مستشفى الأمراض العقلية.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *نهض بجهد ومشقّة
    ** النَّبْذ الشيء القليل، والجمع أَنباذ
    *** قميصٌ لـه جَيب
  • ميساء عباس
    رئيس ملتقى القصة
    • 21-09-2009
    • 4186

    #2
    جميلة السرد
    قصة ممتعة جدا
    شاعرية السماء
    ونهايتها المؤلمة والمفاجئة رائعة
    أهلا بك أديبنا الراقي جمال
    ومرحبا بحرفك الجميل
    ميساء العباس
    مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
    https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

    تعليق

    • جمال الحنصالي
      أديب وكاتب
      • 23-04-2013
      • 41

      #3
      كلامكم هو الجميل

      المشاركة الأصلية بواسطة ميساء عباس مشاهدة المشاركة
      جميلة السرد
      قصة ممتعة جدا
      شاعرية السماء
      ونهايتها المؤلمة والمفاجئة رائعة
      أهلا بك أديبنا الراقي جمال
      ومرحبا بحرفك الجميل
      ميساء العباس
      والله أختي الفاضلة ميساء كلامكم أجمل بكثير مما كتبته، فما أكتبه متواضع جدا، وفي الحقيقة لست متخصصا في هذا الجنس الأدبي، تخصصي هو علوم التربية والديداكتكيك، لكنني أحس، بين الفينة والأخرى، أنني أحتاج إلى كتابة القصة القصيرة.. فشكرا على الرد الجميل.

      تعليق

      • حسن لختام
        أديب وكاتب
        • 26-08-2011
        • 2603

        #4
        سرد ممتع ومشوّق..أشكرك، كل مرّة أستمتع فيها بنصوصك الرائعة..أؤكّد لك، أنه مع الوقت واكتساب التجربة، والقراءة المستمرّة والإحتكاك بتجارب الآخرين،سيكون لك شأن في مجال القص القصير..لك أسلوبك الخاص في القص، وقصصك تحفل دائما بمضامين ومواضيع ذكية وعميقة..فنادرا ماأقرأ نصوصا تجمع بين الشكل والمضمون..قصصك القصيرة أثارت انتباهي، كما أثارت انتباهي كذلك، بعض النصوص القصيرة جدا لأحد الكتاب في الملتقى
        فقط لي ملاحظة: حاول أن تقوم بنشر نص واحد كل اسبوع، حتى تأخد نصوصك الجميلة، وبدون مجاملة، نصيبها من القراءة والنقد..أشكرك على هذا النص الجميل
        محبتي وتقديري، أخي جمال الحنصالي

        تعليق

        يعمل...
        X