نرجسية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • اعنيبة محمد
    • 13-05-2013
    • 7

    نرجسية

    قصة قصيرة. نرجسية
    من الطين تصنع هيكلا، تنفخ فيه وتقول: كن !
    فلا يكون. تترك الهيكل المسجي يمزقه الحر والقر بتشف، فتنتشي وتوري بيداء قفارها الداخلية باللامبالاة والكبرياء، وشرارة الحقد تنجلي وتطفو على السطح، حقد دفين تراكم فأصبح من العسير إضماره. كانت تذرع الأرض – أرض الغرفة – جيئة وذهابا، وحيدة، أسيرة الفراغ جدباء كالأرض بعد أن كانت مكلئة. تنحت مرمرا !
    فلما تبدى وجها ذكوريا قالت: هذا ربي ! وهي تمرر أطراف أصابعها اليسرى على الجبهة وتنزلق كحبات الطل على وريقات الدالية، وعلى صفحة الخد لمحت صورة وجهها الفجري المنتشي فسبحت وسجدت لنفسها لانعكاس الخالق في المخلوق.
    نطق الوجه المرمري فقال:
    - ما بال ذات الوجه الفجري تلتهمني بنظراتها هكذا؟. حضنت وجهه بين كفيها كمن يخاف على شيء من الضياع، وقبلت شفتيه الباردتين، وقالت والحرارة تنبعث فوارا محموما من فيها:
    - إني أحبك.
    أفرج الوجه المرمري عن ابتسامة من اكتشف المكر لتوه، وقال بخفوت:
    - أنت تحبين نفسك، وصورتك التي تنعكس في صفائي، وكيف أن تحبي ما صنعت منه الرأس فقط؟.
    - سأصنع الأطراف الباقية فورا !
    - حينها سأصبح كتلة حجرية جوفاء كابن جلدتي الطيني الذي تركته ممزقا في العراء، معرضا للهيب الصيف ووخزات الشتاء البارد !
    أمام هذا التحذير سكنت، وغاصت من جديد بنظراتها في صفاء الوجه المرمري.
    على الصفحة العاكسة للوجه – وجهها – تتشكل صورة تنورة بيضاء قصيرة وهي تتموج وتتحرك من البياض، تظهر الأطراف الباقية، سمراء كالمساء الخريفي تلك الطفلة الشقية المنفلتة من سلطة أب أفرغ حنانه كله على وحيدته، وأم أنهكها العمل المكتبي حتى اكتسبت بعض خصائص الرجال، فكانت تقتل أنوثتها رويدا، رويدا وهي لا تعي. منفلتة من كل ذلك بضفيرتها ودميتها، تتباهى بين قريناتها وفراشات الفرح تتراقص على وجنتيها، وهي تتقافز على إيقاع نشيد الطفولة. فجأة وبين ثنايا الفرحة تتشكل سلطة لم تكن في الحسبان، سلطة الإخوة الذكور، الذين يجذبونها من ضفيرتها، وبعنف ينزعون منها دميتها الفضية اللون، ويمزقونها، ثم يجبرونها على أن تشاركهم ألعابهم الذكورية. وهكذا كانت تحس بأنوثتها تتبخر أمام جبروت الذكور، وتنساق. غاصت الصورة بين ثنايا الصور المنهمرة، فأطلقت العنان لزفرة اليائس من استرجاع عالم طواه النسيان، وانجرف مع دورة الأيام وانجلى بين الصور صوت – صوتها – والقامة قامة عروس منفلتة من البحر لتمرع بين مروج برية كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والعينان دائمتا العوم في بحر الحزن الرمادي، أما القلب فراكم الصلابة كصل خبر عوادي الزمان، وجلل المظهر بوقار يكاد في بعض الأحوال أن يكون خجلا خاصة عندما تكثر العيون الراصدة، كما هو الحال الآن وهي جالسة " بكافتيريا " الكلية ترتشف من كأس الشاي رشفات صغيرة كمن يخشى على شيء من الانقضاء، وبحذر كانت تتحسس ما يجري حولها، وتستشعر تلك النظرات التي تخترقها من خلف كسهام تحس بوخزاتها أحيانا، وبدغدغاتها أحيانا أخرى، لكنها لم تكن أبدا تتوقع أن تهوي تلك اليد الذكورية – يدي – بثقل وحنان على كتفها الأيسر من الخلف، وكمهرة جامحة انتفضت وصاحت بملء صوتها الغاضب.
    - حْمَارْ !
    وفي أعماقه المهانة تلاطم السؤال التالي:
    - كيف للتي انزعجت لمجرد وضع يدي على كتفها أن تحتضنني بين ذراعيها العاريتين في يوم من الأيام ! ؟.
    وكما لو حذفت ماء البحيرة بحجر، تلاشت الصور أمامها وهي تنقشع كوميض تظهر
    وتختفي، أما هي فتائهة شاخصة في صفاء الوجه المرمري الذي يبرق بزرقته الناصعة ويهدر بسيل من الصور قبل أن يستقر الوميض على صورة وجه صبوح – وجهي – مبتسما كان، محمودا ومألوفا إلى حد انتفاء حواجز المكان والزمان، ومعه عادت سنوات إلى الوراء وتقاطر الكلام والصور:
    - أتحبني؟ قالت.
    - لست أدري؛ إذ لا أفهم معنى الحب !
    - شعورك نحوي؟
    - فلنقل انجذاب، أو شيء أقرؤه في " السما " وتقرئينه في " السما " ونلتقي بدون لغط أو اسهال من الألفاظ الفارغة، ومن يدري قد لا نلتقي أبدا، ربما لن يتذكر أحد منا الآخر بعد ذلك.
    ************************************************** ***
    - لنسمي هذا حبا كي نتواصل، فأنا مثلا أحب امرأة تعتصر نهديها الأعجفين لتمطر قطرة في ثغر رضيعها الصراخ... أحب طفلا يركض في الشوارع القديمة والشوارع الحديثة بصندوقه الخشبي، وركلات المخزن تنهال على ما تبقى من مؤخرته... وعجوزا ينتظر الموت بفرح... والأرض متى زلزلت، والسماء متى اكفهرت، والديار إذا أقفرت، والطيور متى رفت خوفا من القيامة...
    أحب القيامة !
    أ ليس هذا يوم القيامة؟ فإني أرى كل الوحوش حشرت !
    *********************************************
    - أتحب لون عيني " وبشرتي " و...؟
    - هو الحب عندك بالتقسيط يا مريم العذراء الوديعة، سليلة الأصول الشريفة، والأعراف المصونة، والمحاطة بعناية الله، ومعاشر الأولياء، وروائع العرطنيتا وبركة بقايا الأسمال الممزقة على القبور المهجورة، وشعور النساء المكورة والمعلقة على أغصان الأشجار
    " المقدسة " والمنسية، كالذاكرة المنسية !. هو الحب عندك هكذا؟
    - ألا تقول شيئا عن الحب؟
    - الحب رداء زائف يلتحف به بائعو الورود الملاعين لترويج بضاعتهم، أما أنا – الموبوء بلعنة الكادحين – فلا املك القدرة للسطو على خصوصية من خصوصيات " بول وفرجيني " فأهيئ لك مستقرا تحت ظلال الزيزفون، كما أن كبريائي الصخري يمنعني من أن أنحت اسمك على قلادة كي تريني أحفنها بيدي كعصيفير ضعيف، وأنا أنح وأغرق أمامك فتصبحي شاهدة على لحظة موت غبية تروينها لأبنائك من زنديق عرف كيف يحافظ على حياته بالجبن !
    أ و ليس في الجبن نجاة؟ ".
    - وأنا أحبك، ولا أطلب منك أن تعيد بحبك قصة من قصص التاريخ. كل ما أطلبه أن تكون كما أريد؛ أن ترخي عنان عنادك، وتعبر عن أحاسيسك، وتلجم نزواتك و...
    - اسمعي يا " بنت الناس " عندما تحب امرأة رجلا يجدر بها أن تسير على إيقاعه، وليس أن تدفعه ليتعلم رقصتها العرجاء ! .
    ************************************************** ***
    كانت الصور تتلاحق بتهافت، والكلام يتهاطل كالإعصار، وانتهى زخات رخوة، وهي تحاول أن تستعيد نفسها من دهاليز العمق السحيق للوجه المرمري، وبصعوبة تنفلت، وتصطدم بمرارة وضعها فتصرخ بملء قوتها: كن، كن !
    لكنه أبى واستكبر، فأنزلته من المنضدة إلى الطاولة، ومن الطاولة إلى النافذة، ومن النافذة إلى الشارع، فكان حطاما وتلاشت الصور كما لو حذفت صفحة الماء بحجر، وهي شاخصة غارقة تحاول جاهدة أن تستعيد نفسها من دهاليز العمق السحيق للوجه المرمري المسجون خلف قطعة من زجاج، وبصعوبة تنفلت، وتصطدم بمرارة وضعها فتصرخ بملء قوتها: أحبك ! .
    >> أأنا المقصود – صورتي القابعة خلف الزجاج – أم صورتها التي تنعكس في زجاج الصورة القابعة في الإطار؟ <<
    على كل حال هي صور ليس إلا، مع قناعة راسخة أن أمس الدابر لا يعود !
  • حسن لختام
    أديب وكاتب
    • 26-08-2011
    • 2603

    #2
    قص ممتع ومشوّق..راقت لي نهاية النص الذكية. اشكرك على الإمتاع
    محبتي وتقديري، أخي اعنيبة محمد

    تعليق

    • ريما ريماوي
      عضو الملتقى
      • 07-05-2011
      • 8501

      #3
      أ. عنيبة محمد ...
      وكانني قرأت لك سابقا لكن باسم آخر..
      أهلا بك وبنرجسية عندنا..
      واضح تملكك من أدواتك..

      تحيتي...


      أنين ناي
      يبث الحنين لأصله
      غصن مورّق صغير.

      تعليق

      • اعنيبة محمد
        • 13-05-2013
        • 7

        #4
        شكرا أخي، راقني أن وجدت فيها ما أمتعك.

        تعليق

        • اعنيبة محمد
          • 13-05-2013
          • 7

          #5
          شكرا أختي ريما، أظن أنك قرأت لي سابقا، لكن بنفس الاسم، تحيتي.

          تعليق

          • محمد الشرادي
            أديب وكاتب
            • 24-04-2013
            • 651

            #6
            أخ اعنيبة
            امتزج العاشق و المعشوق و صارا موضوعا لعشقها...عاشقة كإلهة تريد أن تصنع لنفسها معشوقا على مقاسها،و إذا استعتصى الامر همت بأن ترسم لحبه مسارا عليه ان يسلكه...لتجعل منه معشوقا فاقدا للحرية و الإرادة لم تنجح في كلتي الحالتين...لتستفيق على خيباتها. عليها ألا تأسف على ما فاتها.
            تحياتي

            تعليق

            • اعنيبة محمد
              • 13-05-2013
              • 7

              #7
              نعم أخي محمد الشرادي. عليها ألا تأسف على ما فاتها رغم أننا لا نستطيع صد الأسف بعد الخسارة. فدوام الحال من المحال.شكرا على الالتفاتة.

              تعليق

              يعمل...
              X