النّظير
حين ترتفع يده صوب وجهه بأناة، لست تدري إن كان سيعدّل نظّاراته ذات العدسات العسليّة، أم سيعيد تحت أذنه خصلة من شعره الرّماديّ المجعّد، أم سيدفع كرتي القطن التي يسدّ بها أنفه أعمق. و رغم الدّاء الذي استقرّ في رئتيه، و بلوغه سنّا متقدّمة تختُل الفراسة و ترتسم فيها جليّا على أهداب الرّجال المغامرين ظلال من العصيان و الإذعان معا، إلاّ أنّه كان يحافظ على بقيّة وسامة.
بالعودة إلى الوراء هبط جبريل في المطار قبل سنتين من أوّل لقاء جمعه بصفوان. يومها لم يكن بانتظاره أحد، بدا له الكون بأسره يترقّب تلك الآونة ليضحك. و راوده شعور بأنّه مُذَنَّب هرم يُنقع في المحيط. رحلته الكونيّة شارفت على نهايتها، مع ذلك قرّر ترتيب احتضار فنّيّ يليق بطواف طويل عنيد. استأجر لذلك شقّة في العاصمة بأحد الأحياء الرّاقية. ارتاد أفخر النّزل. زار المعارض. لكنّه أبدا لم يحاول لفت الانتباه إليه أو حتّى الخوض في مجال الفنّ. أنفق المبلغ الضّئيل الذي بحوزته. دام احتضاره النّاعم سنتين و لم يمت. و كما لو كان حلما، وجد نفسه في الطّريق إلى المدينة التي وُلد و تربّى فيها. الغصن الذي حلّق منه أوّل مرّة حفّته غابة كثيفة. اهتدى إلى بيته بمشقّة، كانت السيّارة التي تٌقلّه و أغراضه تعطف و تنحني بين الأنهج و الأزقّة كنحلة كشّافة. و كانت المشاهد تلطم مُخيّلته كجراد يرتطم بزجاج نافذة، الوجوه تومض كالبرق الواحد تلو الآخر؛ عجب لتهوّر الذّاكرة كيف يحلو لها العبث مع المرء في أشدّ المواقف حرجا و توتّرا؛ لاح له العُقاب يحوم فوق براح الدّجاج. الطّير الحرّ لا يقع على الجيفة. هكذا يقول أبوه. كان صبيّا يركض بين الصّبية و يصرخ مثلهم : "حرام! حرام! ". يعلو الصّياح و ضجيج القرع بالحجارة و العصيّ على صهريج الماء و علب الصّفيح، فيرحل الطّير..
قضّى جبريل خمسا و ثلاثين عاما في الغربة، انتقل خلالها بين بلدان كثيرة. لمّا عاد ليستقرّ في مدينته لم يكن قد بقي له من الأملاك سوى أدوات النّحت و بعض الأثاث العتيق و التّحف و الملابس الأنيقة و بيانو أوبرا كانت قد أهدته إيّاه ابنته الكولومبيّة. كان مُبدعا مهووسا بالفنون التّشكيليّة و المعمار. لم يكن لاندفاعه حدّ. بحث. وقف على أطلال الحضارات صاغرا مذهولا بسحرها حينا، مُستخفّا بلباقتها المفرطة حينا آخر. كان دائما يقول لأصدقائه:" علينا أن نساعد الجمال على تخليد حكمه المطلق بمنعه من الجلوس طوال الوقت على العرش". دَرَس و درَّس في كلّيّات عريقة. لم يزر بلدا في العالم إلاّ و عاش فيه لبعض الوقت كما لو كان آخر محطّة في حياته. يقول جبريل إنّه زرع ناسا في كلّ مكان، و إنّه قد غيّر على نحو ما خارطة الحظوظ و أقحم الكثير من الشّخصيّات على سطح الأرض.. الأرض يضغط على العبارة بإجلال و تفخيم لحروفها؛ ثمّ يعقبها بزفرة حارّة قبل أن يُردف: ..تلك الرّواية الضّخمة الرّائعة!
أمسيات الصّيف أعمار قصيرة.. مجنونة ربّما. يتقاطر فيها النّاس من كلّ الجهات على ساحة المتنزّه. يغدون و يروحون. ينتعش التّرويج للّذة و الأوهام حول المنجم البشريّ لساعات مديدة. قطافُها أيضا. في قلب المعمعة ينزوي جبريل في ركنه كبؤرة. يسترق النّظر عبر باب الحانة. ينتصب مُعلّقا في العراء كثقب مزلاج تلتقي عنده رياح ذاكرتين؛ أولى عاد ليجسّدها و تالية عُمّرت للتوّ. تضطرم الحكايات في صدره. تتسلّق حنجرته بإصرار، يحاول ابتلاعها.يفشل . لا يقوى على المقاومة أكثر .يقف مترنّحا. يقترب من شابّ جالس بمفرده. يقول: أحيانا نريد أن نروي لآخرين أشياء جميلة.. يتثاءب الشّاب و يتمطّى: يبدو أنّ عليك التّوقّف عن الشّرب حالا يا حاج..ثمّ يعلو صوته: " إدريس، هناك من يريد أن يروي أشياء جميلة..أوقف حسابه ".يتقهقر جبريل. إنّها الأولى التي عاد يُجسّدها.. فيما مضى لم يكن طلبة الفنون الجميلة بجامعة أوهايو يفوّتون محاضراته. كانوا يستمتعون بحديثه رغم الشّتائم التي كان يكيلها للنّوع الأمريكي. قال و قد غصّت القاعة بالطّلبة آنذاك: "لا أرى تفسيرا لأن تُدرّس أمريكا الفنون؟" ساد جوّ من الهرج و الصّفير. تابع مشيرا لهم بالهدوء: " حقيقة لست أفهم ما معنى أن تدرّس أمريكا الفنون..برأيي إنّ البلد الذي يتعيّن فيه على الشّرطة القيام بسطو مسلّح على المنازل لجلب براهين قصد الحصول على إذن سلميّ بالتّفتيش، بلد عليه أن يكتفي بقلي الكاكاو...".
عاد جبريل إلى الطّاولة. الرّأس منكّس. أحسّ بقامة تُشاغب عينيه. رفع بصره مُتأمّلا ملامح الرّجل ذي الابتسامة العريضة الذي برز أمامه فجأة. أفرغ كأس الشّراب في جوفه دفعة واحدة ثمّ عاود النّظر إليه و قد تقلّصت وجنتاه و نفرت خطوط جبينه.
بادر ببرود جعل الرّجلَ يزدرد ابتسامته سريعا:
- المطر..! أيّتها النّار..! لا تظلّي واقفة هكذا.
- "أستاذي!"، هتف الرّجل و هوى بقامته على جبريل يقبّل صدغيه. سحب كرسيّا و جلس بجواره. مسح بيده على كتفه بحنان يكبحه بعض الحياء، فيما لبث الفنّان العجوز ثابتا بلا حراك. مرّغ الرّجل محجريه على زنده بحركات حادّة و قال بصوت غلب عليه التّأثر:
- أنا صفوان ابن الدبّاغ هل تذكرني؟ مازلتُ إلى اليوم أحتفظ بجلد الأرنب الذي سرقتُه من بيتك.
أطلق جبريل زفرة ضعيفة و أطرق.
ضحك الرّجل و قال بمرح طفوليّ:
- لمحتُك من بعيد فلم أصدّق ..
قال جبريل و قد غمرت حنجرتَه نشوةٌ عارمة:
- أتدري..أبوك كان كريما ..كان يحبّ الحياة التي ينبغي أن تُكره بشدّة وقتها..كان زمنا.
ملأ كأسا ثانية، راح يحدّق فيها و هو يديرها بين إبهامه و سبّابته:
- كنتُ جالسا في هذا المكان بالذّات حين مرّ على الجادة من الجهة الأخرى و قد التصقت بساقه أشلاء كيس قذر من النايلون..الأنيق..مشى يجرّه طويلا دون أن ينتبه إليه..في الأخير علق الكيس بشيء آخر و أخلا ساقه..كلّ ذلك و لم ينتبه..عندها أدركتُ أنّه على وشك أن يموت..لم يخطىء حدسي.
لاحقا صار صفوان يزور جبريل و يسهر معه حتّى ساعة متأخّرة من الّليل. نما بينهما أنس خاصّ كما لو أنّ كلاهما يعلّق الآخر حجابا. أبهره الأثاث العتيق الموزّع على الغرف. يوما بعد يوم تكوّن لديه يقين أنّ الأشياء اختارت مواقعها بنفسها. فكّر أن يُخبر جبريل بالكلمات التي خطرت بباله و هو يتأمّل الأثاث و يقرأ بشغف مساحات البيت الفارغة. الكلماتُ تدغدغ لسانه. في الّليل تبدو الأمور كلّها معقولة. ذاك سحره. خشي من أن يُذيعها فتضحك منه في الغد شمس الفواتير و الإسمنت و القوت و الضّحى السّاخر. العكس صحيح أيضا. في أحد الأيّام سمع كما لم يسمع من قبل صخب أولاده و هم يتأهّبون للذّهاب إلى مدارسهم، و تناهى إلى مسامعه كما للمرّة الأولى صوت أبواب الدّكاكين تُفتح و السّلاسل تُسحل فوق قوارير الغاز، لا يدري حينها لم قرّر قطع صلته بالعجوز نهائيّا. حلول الظّلام محا القرار.. ليلتها بالذّات انتبه صفوان إلى صندوق نرد مفتوح على دفّتيه، معلّق كلوحة على الجدار المُقابل لسرير جبريل. خطا نحوه. تأمّله عن قرب. كان بطان الرّقعة ممحوّا تماما حتّى أنّه يصعب تخمين لونه الأصليّ،و المثلّثات التي من المُفترض أن تؤوي أقراص الّلعب كانت قد اندثرت.
قطع جبريل على صفوان انغماسه قائلا:
- اشتريته هذا الصّباح من أحد المقاهي.. لابدّ أنّ النّادل يعيش لحظات فريدة مع زوجته الآن.. سيؤنسني هذا الصّندوق بقصصه التي لا تنتهي و الهزئم التي في صدره..
لم يكد يتمّ كلامه حتّى صعقه ألم شديد في ظهره. ارتبك صفوان لدى رؤية صديقه يتلوّى.
كان عليه من أجل تأمين وسيلة ينقله بها إلى المستشفى أن يتركه بمفرده نهشا للأوجاع المتزايدة. حين وصل به كان شبه مغشيّ عليه. أسبوع في العناية المركّزة كان كفيلا ليستعيد جبريل عافيته و يحصل على إذن بالخروج. أمدّهما الطّبيب قبل المغادرة بظرف مُغلق و أخبرهما بأنّ على جبريل إجراء عمليّة جراحيّة و إلاّ فسيكون من الصّعب تجاوز الأزمة المُقبلة. كان لصفوان في خلوة مع الطّبيب حديث طويل جعله يكتشف كما يكتشفِ الأطفال بداهات تافهة جدّا، أنّ في الحياة صدفا مُسلّية للغاية.
أخفق من قبل في إقناع جبريل ببيع البيانو لتغطية مصاريف العمليّة رغم وعده له بأنّ هناك من هو على استعداد ليدفع مقابله مبلغا يفي بالغرض و يزيد. إلاّ أنّه أفلح في إقناعه بقبول صنع تمثال من الجبس لــ"ابن سينا" لصالح رابطة أسسها حديثا فريق من الصّيادلة و الأطبّاء من كلّ أنحاء البلاد.
وافق جبريل على العرض. وقّع معهم عقدا تسّلم بمقتضاه نسبة من المبلغ المتّفق عليه. أجّر مُستودعا للغرض.ثمّ انطلقت الأشغال حثيثة . كان عوما ضدّ التيّار. جهّز صفوان القالب. توءما من صفيح الحديد المقوّس إذا ما تناظرت شكّلت ما يشبه جرس كاتدرائيّة. صبّا في القالب عجين الجبس. حين جفّت الكتلة انهمك جبريل في نحتها مُستعينا بصور و رسوم عليها مقاسات و أدوات يدويّة و أخرى كهربائيّة من مُختلف الأحجام.
قال صفوان و هما يفكّان القالب:
- إنّها فرصة ليرى الأقزام أنفسهم في المرآة..
ردّ جبريل :
- يغيظني أن لا أكون قد أثرت إعجاب النّاس لأنّي أبيع شبابي، بل فقط لأنّ البدلة التي اشتريتُها بثمنه قد لاءمتني.. يغيظني ذلك في العمق ، لكن لا بأس ، جميل دائما أن نثير الإعجاب..دعنا من كلّ هذا الآن.. بالنّسبة لك سيقتصر دورك على صنع مجرورة بأربع عجلات لنقل التّمثال..لا تغضب لكنّي أرغب في أن أكون بمفردي أثناء العمل..في المساء نلتقي كالعادة..
- كما تشاء، و إن كنتُ أتحرّق شوقا لمشاهدة التّمثال و هو يُصقل..ثمّ تابع بمرح طّفوليّ: أنت قلتها ؛كي تستمرّ في العيش بلا مأوى، عليك أن تكون بالفعل بلا مأوى.. أتعتقد أنّي سأتمكّن من الصّبر على أمر ليس غير موجود؟
ردّد جبريل :"ليس غير موجود"،هذه أحببتها كثيرا منك.
و انفجر ضاحكا:
- بلى ستتمكّن .. أحيانا أكذب..لا تهتمّ لكلّ ما أقوله لك.
نُقل التّمثال إلى مقرّ الرّابطة. لم ينطلق نشاط الرّابطة بعدُ، لذلك فإنّ مقرّها مازال بدوره غير مُستغلّ، و هو عبارة عن فيلاّ فسيحة يشرف على حجراتها بهو ذي أرضيّة رخاميّة أنيقة تتوسّطه دعامتان مطليّتان بتراب مصبوغ بلون الفضّة.
استغرق صنع تمثال العلاّمة أربعة أيّام. نُقل على إثرها إلى مقرّ الرّابطة مغطّى بقطعة قماش أسود، مربوطة بإحكام من جهة القاعدة. شارك في نقله ستّة رجال أحضرهم صفوان.
همّوا بإدخال التّمثال إلى بهو المقرّ لكنّ مشكلة حالت دون ذلك. التّمثال يفوق الباب طولا و عرضا.. قبل أن يُوجَّه إليه الكلام قال الطّبيب المُكلّف بمتابعة الأشغال بصرامة مشوبة بحنق مكتوم:
- لا سبيل لكسر الباب بتاتا..لا نريد مشاكل من أيّ نوع.
قال جبريل : سأتصرّف..صفوان! أحضر لي كلّ الأدوات..كلّها.
أحضر صفوان المعدّات بحماس كأنّه في مهمّة إسعاف. أماط جبريل الغطاء عن التّمثال. لم يستطع الرّجال إخفاء انبهارهم. انظمّ إليهم بعض الفضوليّين من المارّة. اتّسعت الحلقة. تناول جبريل مطرقة و إزميلا و أخذ يكسر و يشذّب العباءة. ثمّ انتقل إلى العمامة. أساء التّقدير فسدّد لها ضربة تشقّق لها الرّأس بأكمله و تصدّع نصفين. خيّمت الخيبة و الأسف كأنّ العلاّمة أُعدم للتوّ أمام أنظارهم. حافظ جبريل على تماسك بدا فجّا لرئيس الرّابطة، و على الفور أمر بإدخال التّمثال.
طلب مهلة بيومين لتدارك الخطأ، اشترط خلالها الحصول على مفتاح المقرّ:
- المفتاح لو سمحتَ..موعدنا بعد يومين في مثل هذه السّاعة..اطمئنّ، بعد يومين يكون طلبك جاهزا..
انصرفوا جميعا. من جهة الشّارع كان خلف الباب رجل يعمل، أمّا من الدّاخل فكان خلف الباب رواية عظيمة. كوكبا رائعا أنهكه الدّوران.
في الموعد المُحدّد حضر صفوان و معه ممثّلون عن الرّابطة و رئيس البلديّة و آخرون. اصطفّوا أمام التّمثال عاقدين أيديهم أمام بطونهم. كان يعلو وجوههم فرح شبيه بفرح أطفال يشاهدون مهرّجا. فكّ جبريل الرّباط بتأنّ، ثمّ بحركة خاطفة سحب السّتار الأسود عن التّمثال كاشفا عن مجسّم لامرأة فاتنة، قمحيّة الّلون، على محيّاها ابتسامة عذبة، تلبس فستانا صيفيّا بسيطا، تضع تاجا على رأسها.
حوّلوا أبصارهم بين المرأة و بينه لنصف دقيقة طويلة .
كان جبريل واقفا قبالتهم بكامل أناقته:
قال متحاشيا النّظر في عيني صفوان و قد استحالت عيناه كتلتين صغيرتين من التّأهّب:
- الطّلاء، بــ "النّسكافيه" الأصليّ..
***
محمد فطومي
تعليق