حالة إبداعية ثائرة تبعثها تلك التجربة، التي يقدمها مسرح الشباب ليثير بها مواجهة ساخنة مع أعماق واقع حي نعيشه الآن، يشهد انكسارًا، لبريق وإيقاعات الحياة، وصعودًا مخيفًا لملامح اغترابها العبثي العنيف.في هذا السياق تأتي مسرحية «موت فوضوي صدفة» للمخرج «عادل حسان»، الذي قدم عملاً مرموقًا مشحونًا بلمحات الدهشة والفن والجمال، يكشف عن خصوصية فنية ورؤي تجريبية، وحساسية بالغة تبلورت عبر تلك التجربة التي جاء كشهادة ميلاد فعلية لفنان واعد، امتلك شرعية الانتماء إلي فن المسرح.مؤلف المسرحية هو الكاتب الشهير «داريوفو» النجم اللامع علي المستوي السياسي والمسرحي في إيطاليا، والذي فاز بجائزة نوبل عام 1997 وقد أثار اختياره للجائزة ردود فعل مضادة، حيث قيل عنه إنه فوضوي وملحد وشيوعي، ورغم منعه من دخول أمريكا أربع مرات، فإن مسرحياته عرفت طريقها إلي العالمية لما تحمله من لغة إنسانية وصبغة فلسفية شاعرية.تمرد وعصيانيتبني داريوفو قضايا المقهورين والمعذبين، ويواجه تيار الانهيار الإنساني، الذي تفجره الرأسمالية العالمية، ويعلن التمرد والعصيان والرفض الصارخ لمظاهر التحلل والاستلاب والتسلط، لذلك فهو مطارد دائمًا من الرقابة، ولا ينتمي إلي هيئة المسرح الإيطالية الرسمية واعتاد أن يقدم عروضه في أي مكان، وأثبتت التجارب أن الجمهور يأتي إليه أينما كان، لأن عروضه تلمس أوتارًا حساسة في أعماق الإيطاليين. ويذكر أن المؤلف والمخرج «داريوفو» قد دافع عن المعتقلين السياسيين وشارك في مسيرات الحقوق المدنية، وهو يري أن التزامه السياسي هو كل وجوده، لذلك ظلت أعماله دائمًا مختلفة، مغايرة وخارجة عن الإطار المألوف سياسيًا واجتماعيًا وفنيًا.«داريوفو» متزوج من الممثلة والمؤلفة الإيطالية الشهيرة «فرانكا رامي»، التي شاركته كل توجهاته واهتماماته السياسية، ومن الطريف أنها أعلنت عن رغبتها في الطلاق من «داريوفو» في حديث تليفزيوني علي الهواء، فهي امرأة غير عادية، ذات ألف وجه، تستطيع كل النساء العثور علي أنفسهن فيها. ورغم عشقها لأن تكون دائمًا في حالة حب، إلا أنها تؤكد أن «داريو» هو رجل حياتها، وهو الحب العميق الوحيد في وجودها، لكنها أحبت غيره كثيرين كي تشعر فقط بحالة الحب- ومع مرور السنوات أصبحت تعتقد مع «جان كوكتو» الأديب الفرنسي المعروف- أن حب امرأة ناضجة لشاب صغير يعتبر نوعًا من الفحش.اختراق التابوهات«كتب داريوفو» مسرحية «موت فوضوي صدفة»، وقدمها علي المسرح في بداية السبعينات من القرن العشرين، وهي من القطع الثرية التي تكشف بوضوح عن رؤاه الفكرية والأيديولوجية، وعن طبيعة اشتباكاته مع الواع وتفاصيل الحياة، وفي هذا السياق نجد أن المؤلف قد امتلك حريته الكاملة واخترق تابوهات القمع والمنع والتحريم، ومزق أقنعة الزيف، لنصبح أمام مواجهة كاشفة لعذابات القهر والتسلط والاستبداد.تبني المؤلف أسلوب جروتسكي العنيف يتضح عبر هذه المسرحية، التي تبعث موجات من النقد العنيف الساخر للنظام السياسي المحكوم بالرؤي الأبوية المتسلطة، وتظل انتقاداته الحادة مثيرة للجدل، الذي يدين التناقضات ويعلن العصيان علي زيف منظومة السلطة ومفاهيم نظرية المؤامرة، ورغم ذلك فإن رشاقته الفنية ولغته الحداثية، وتقنياته الدرامية ولمحاته التجريبية، هي مساره الواضح إلي عالم إبداعي ساحر محكوم بقوانين تجربة الفن.تكشف الصياغة الفنية للنص عن ارتباط بمفاهيم الكوميديا ديلارتي وعن وعي داريوفو بثراء هذا التراث الضخم، الذي احتفظ بروحه ومساراته، وانطلق منه إلي رؤي حداثية مبهرة تباعدت عن الأسلوب النمطي للكتابة المسرحية، وفتحت المسار أمام إمكانات الامتداد والتنوع والكشف الثائر عن تناقضات الحياة، حيث ارتبطت شخصية بطل العرض بتلك الأنماط الإنسانية المعروفة في الكوميديا ديلارتي، والتي صاغ منها «داريوفو» كيانًا إنسانيًا معذبًا يقف في المنطقة الفاصلة بين العقل والجنوب..، فهو عاشق للحياة والفن، يهوي التمثيل ويتقن قراءة الأعماق، يعرف كيف يعيش الشخصيات ويجسدها، وهو ممزق ومعذب بادراكه المخيف للحقيقة.. لذلك فهو من خريجي المصحات العقلية.يتخذ الصراع مساره عندما يقرر هذا العاشق المجنون أن يكشف حقيقة موت الفوضوي، بعد التحقيق معه في أحد أقسام الشرطة، حيث اتهموه بنسف محطة سكة حديد في ميلانو، دمرتها مجموعة من الإرهابين ومات الكثير من الناس، وأمام هذه الواقعة يتم القبض علي عامل الإشارة الشاب ويتهموه ظلمًا بهذه الجريمة، وأثناء التحقيق يسقط المتهم من الطابق الرابع، ويأتي تقرير الشرطة بأن هذا الفوضوي قد أصابته وكوميديا نوبة هستيرية وألقي بنفسه من النافذة.كوميديا وعذابمن المؤكد أننا أمام واقع مشوه، مشحون بالعذابات، التي تتكرر أصداؤها كثيرًا، لتبعث إيقاعات الخلل والفوضي وتؤكد انهيار قيمة الإنسان ومعني وجوده، وفي هذا السياق يصبح الكشف عن وقائع التسلط هو مسار المسرحية التي تشهد حضورًا ضمنيًا مكثفًا لذلك الفوضوي، الذي لا نراه أبدًا، لأنه مات أو قتل أو انتحر- ولكن العاشق المجنون الذي غابت عن أعماقه كل رؤي الخوف والجمود، سيظل مؤرقًا بحقيقة هذا الموت، وباحثًا عن أسراره.. لذلك يتجه إلي قسم الشرطة بعد أن قرر انتحال شخصية القاضي ماركو ماريا، ليلعب دوره في مراجعة قضية التحقيق مع الفوضوي، فتصبح كل الملفات أمامه، ويأمر بإعادة تمثيل الحادثة.هكذا نصبح أمام بناء درامي شديد البريق والتميز، يتعامل مع التجربة المسرحية باعتبارها لعبة للتكشف والوجود والحرية، وهو أيضًا يتيح إمكانات الحركة والانتقال إلي سياقات مختلفة، وشخصيات مغايرة، ويصبح الارتجال بمفهومه العلمي هو سر بريق الحالة المسرحية التي اتجهت ببساطة وتلقائية إلي كشف أبعاد الحقيقة وعمق التناقضات. ودلالات القهر والعنف والغياب، وعبر امتداد الأحداث تتصاعد إيقاعات الوعي، ويظل بطل العرض ينتقل متنكرًا إلي العديد من الشخصيات، فتتضح حقيقة السلطة ومنطق الشرطة، وطبيعة موت الفوضوي.. صدفة.. ويأتي ذلك بأسلوب كوميدي مدهش تمتزج فيه المأساة بالهزل والجروتسك ومرارة عذابات الإنسان.الإخراج والسينوغرافياتناول المخرج الفنان عادل حسان هذه القطعة المسرحية وبعث بها حالة من الفن الجميل كشفت عن إدراكه لعمق وحساسية رؤي داريوفو التي انطلقت دلالاتها الثائرة لتشتبك مع وقائع وجودنا الحالي، عبر لغة إخراجية حية ومدهشة، اتجهت منذ البداية إلي بعث حالة من التواصل بين العرض وجمهور القاعدة الدافئة، وفي سياق البحث عن الحقيقة المراوغة اتجهت كوريوجرافيا الحركة نحو الخطوط اللاهثة، التي بعثت تشكيلات حداثية مغايرة تتوازي مع إيقاعات التصاعد الحيوي الكاشف أبعاد الزيف والتناقضات. ويذكر أن منظومة الضوء الدرامي قد بعثت وهجًا منذرًا بالسقوط، حيث الموجات والخطوط الحمراء التي عانقت عذابات التمزق في أعماق الإنسان ودفتها إلي مواجهة العنف والاستفزاز. وتأتي تقاطعات الحركة والضوء والموسيقي، لتبعث توترًا مثيرًا للادراك والتساؤلات، وعلي مستوي آخر كشف منظور الإخراج عن رشاقة واضحة في تقنيات المسرح داخل المسرح، وأسلوب الدخول والخروج من شخصية إلي أخري، أما العلامات الميتاثياترية فقد أضافت للعرض أبعادًا عقلية دالة عمقت مفاهيم التواصل والاشتباك مع واقعنا الحالي.كان ملامح التضافر الهارموني الجميل بين الأداء الغنائي وأسلوب التمثيل باعثة لتيار من الصراع العنيد بين عبثية الكائن ومحاولات إضفاء المعني علي وجود الإنسان، أما تصميم الملابس وألوانها الصارخة وتشابه خطوطها مع جميع الشخصيات، فقد طرحت مفهومًا فلسفيًا يؤكد أن الجميع مهرجون يلعبون أدوارًا باهتة في سيرك الحياة.كان التشكيل السينوغرافي للقاعة مثارًا للبساطة والدلالة، والوضوح الكاشف عن عنف برودة مركز الشرطة، حيث القضبان علي الجانبين، ومكتب المفتش في العمق، وخلفه النافذة المشبوهة بظلامها الشبحي الأسود، الشاهد علي جرائم المفتش، مدرس ركوب النوافذ-، الذي يرغم متهميه علي الجلوس علي حافة النافذة ويبدأ في إهانتهم يدفعهم إلي القفز والانتحار.هكذا ينتهي العرض الذي يكشف عن حقائق مريرة تؤكد التورط والتسلط والعذاب النفسي والقهر المخيف، والانتحار هربًا من وجود مشبوه.شارك في المسرحية الفنان «أشرف فاروق» فكان نجمًا لامعًا، لفت أنظار الجمهور لموهبته المتدفقة، وانتقالاته الناعمة وجماليات تجسيده للشخصيات المختلفة، التي جاءت حية، كاملة الاستدارة تنبض بالوعي والحساسية والعذاب، ورغم عنف المشاعر ومرارة الحقائق، إلا أن لمحات الكوميديا ورشاقة الهزل وكاريزما الفن الجميل قد أكدت أننا أمام كيان مسرحي يمتلك أدواته التي ينطلق بها إلي قلب وعقل الجمهور. أما كمال عطية، وسيد الفيومي فهما من فناني الكوميديا القادمين، المبشرين بصعود واعد. يتضح عبر الحضور الجميل، والموهبة وامتلاك الوعي الفني الصاخب.شارك في العرض أيضًا الفنانة الرقيقة سمية الإمام صاحبة الحس الفني الناعم، وكذلك باتع خليل، مصطفي الدوكي، ومحمد سمير. كان التشكيل السينوغرافي للفنان المتميز صبحي السيد، والأشعار الثائرة ليسري حسان، والموسيقي والألحان لأحمد الحناوي.
بقلم /د.وفاء كمالو
رابط الخبر في المصدر: http://www.alkaheranews.gov.eg/new_t....asp?n_id=5647
تعليق