قراءات في نصوص الشاعر محمد الخضور
إن التجارب الشعرية الجديدة =قصيدة النثر=ذات وجوه متعددة لأنها تنفتح على أنواع من المعاناة ...وأنواع من الكلام دون أن تنحصر في نموذج بعينه ...وهذا ما يجعلها لصيقة بالواقع وما يعيشه الإنسان من قهر مادي ومعنوي ذاتي وموضوعي... و ما تلبس من جمال لغوي يجعلها تتسرب الى دواخل المتلقي دون استئذان... وهذا ما نلمسه بقوة عند الشاعر الكبير محمد الخضور إذ نجد في قصائده قدرا من الغناء يقابله قدر من الوجع في شكل من التكثيف الجميل الذي يجعلنا نطيل الوقوف بين المعنى والمعنى ..بين الصورة الشعرية والصمت اللاّحق بها.... وبين الصورة والأشياء المحيطة التي نشعر خلال القراءة أنها كائنات حية عاقلة تحاورنا... كأنه بشخصنتها يجعلنا ندرك مدى أهميتها في الحياة ومدى تأثيرها في مجريات الأمور ...نجده يجرب في مناطق متعددة بذات مبدعة واعية بالكلام ومستويات استعماله ..مدركة الحاجة الى موسيقى توحد بين المضمون والتعبير والمتلقي =يقول الشاعر محمد الخضور في قصيدته للجدار ايضا اغنية =
وَحدَهُ الجدارُ . . يَعرفنا
لا تَخدعُهُ أَطوالُنا . . وأَقوالُنا
يَذكرُ كيفَ كانتْ . . !
تُحِبُّه السقوفُ . . والأَسرار
يَنامُ بيننا وبين الكونِ . .
يُشبهُ أُمي . . !
فَجانبٌ منهُ لنا ، والآخرُ للصقيع
..أيّة قدرة هاته على كسر المألوف وترويض اللامألوف ليصبح مستأنسا عاديا ...فنتحدث عن الجدار كانه الأم الحنون والوطن الغفور... يتحدث الشاعر محمد الخضور عن الجدار ..المرآة ...النافذة ....الرمل ...التراب كأنه يؤرخ لذاكرة الإنسان ...لوجعه ...لما يتمناه وما هو مستحيل في الحياة عن التحقيق =
وَيُشبِهُ الوطن . . !
فَمَرَّةً ، تُدْمِعُهُ أَنفاسُنا
وَمَرَّةً ، يكونُ عُنوانًا . . فقط !
قَبلَ بُلوغِ سِنِّ الهزيمةِ
كانَ ثوبُ الأُمِّ ضرورةً للوقوفِ
والجِدارُ ضَرورة للمشي
أبعاد الكلام تقول أن للجدار ولاء للوجع الإنساني يحفظ تفاصبل الذاكرة المرتعشة المؤرقة ...في تأويلها لما حولها من أنفاس متسارعة مضطربة وفي رصدها لما انزوى في دهاليز النسيان من أجسام وأحلام وذكريات وتواريخ =
التاريخُ . . أَنْ تتبرَّأَ وردةٌ من وعائها الشائِك
وتعلنَ أَنَّها لَمْ تَتَعَمَّدْ الوخزَ
فَتصبح جُزءًا مِنْ ثقافـةِ الحُبِّ
يُجفِّـفُها عاشقانِ ،
وَيتبادلانِ – في حَضْرتِها – القُـبَلَ . . والذكرياتْ !
لا يمكن للقراءة مع الشاعر محمد الخضور أن تتم بشكل سطحي عابر بل يفرض على القاريء التأني والعودة إلى ما قبل ثم إلى ما بعد لفهم أبعاد الكلام ...لابد للقراءة أمام هيلمان نصوصه أن تكون جوانية باطنية من أجل رصد اللحظات الماضية وتأريخ الآتي ...وأن تكون أرض لقاء عليها يستريح الكاتب والقاريء معا... من أجل لململة ذوات متعبة .
نجد نصوصه تفرض إعجابا لا مشروطا لأنها تضمن لك مسبقا الفهم والإفهام.... ولأنك تشعر أمامها أنك تقرأ نفسك لأن الشاعر يملك قدرة خارقة على ترجمة دواخلنا جميعا ...كأنما يتحدث بلساننا ...يرسم بالحروف ما عجزنا جميعا عن قوله =
يأْتي مُتقطِّـعًا . .
يُعَلِّقُ شمسَهُ بينَ ليلتيْنِ
وكُلَّما دَخَلَ قريةً ، أَفسَدَ فيها صَمتَها . .
وَوَزَّعَ ما يشاءُ من الظلالِ . .
والأَوسِمة !
لا شك أننا جميعنا لدينا رغبة جامحة ودوافع قوية كي نصرخ هذا الكلام ...بأسلوب يجعلنا أقرب إلى التمرد منه إلى البكاء كي نصوغ صورة للظلم والاستبداد ...دون أن تغيب المكاشفة بالحلم أو تغيب العبارة المنتقاة التي تشدنا إلى النص بجدارة.=يقول في قصيدته=الماء لا يأخذ شكل الوعاء=
الأَرضُ أُمُّ المسافِرِ . . والغريق
الماءُ صُدفةٌ جميلةٌ تجمعُ بينَ الأَرضِ والسماء
نَحنُ الصدفةُ التي تجمعُ بينَ التيهِ والطرقِ اليتيمةِ
نُـؤَجِّـلُ موتَـنـا ، لِأَنَّـنـا لا نعرفُ . .
كيفَ سنصعدُ إِلى أَرواحِنا . .
والدروبُ كُـلُّـها مُمدَّدةٌ على الأَرض ؟!
في هذا النص نلمس بقوة تجريد المحسوس وإفراغ الظاهر من هويته المادية ..ويتحقق هذا التجريد عبر قراءته لملامح الشيء وإلباسه ثوب الكائن الحي المنفعل وذلك عبر الاستغراق في تامله.... ليس الوجدان عند محمد الخضور عاطفة فقط بل عاطفة وعقل....والشعر عنده مزيج بين ذات و أرض وماء وثورة وجرح وحلم.....هناك نوع من التيه عن العقل وعقلنة للوجدان... تشييء الإنسان وأنسنة الأشياء ...هي متاهات المعادلة الشعرية التي تساعد على إلباس الفلسفة ثوب القصيدة ...ليصبح الشعر رسالة فلسفية تسبر أغوار الإنسان ....تنكش الوجع لتستنبط منه حبات أمل ...تبلسم الجراح وبذلك تفتح الحوار بينك وبين نفسك....بينك وبين الآخر الذي قد يكون الجدار ...او الماء...او النمل ....او الحلم ...أو ذاك الصامت المقهور الذي يعيش خلف أسوار الشعور المتحكم في الذات.... الشاعر ينقله إلى عالم اللاشعور ليمارس طقوس الجنون في عالم الخيال.... فيتوحد معك في حالة من الذوبان في الحروف والكلمات التي عبرت عنه وتكلمت بلسانه ..
هذا ما يجعل محمد الخضور الشاعر والانسان مختلفا متفردا في تصوراته وترجماته.... لا أعرف إن كنت أملك حق التنبؤ لأقول =أن نصوصه سيكون لها في المستقبل وقع كبير وعميق ...وصيت لم يعرفه غيره...لأنه بأسلوبه قد أسس لمدرسة شعرية جديدة..//
هي محاولة بسيطة تجرأت فيها على الرحيل في اجواء الحرف الشامخ ...والروح الجميلة المعطاءة ....
اتمنى ان اكون قد سلطت بعض الضوء على جوانب ومحطات مهمة جدا في كتابات الشاعر القدير محمد الخضور وفي شخصه كانسان
لان ما كتبه ويكتبه حتى هذه اللحظة يستحق منا جميعا وقفة تامل وتملي
كي نتعلم ونستفيد ونفتح نافذة كبيرة للفكر والاحساس كي تتسرب اشعة الشمس الى عقولنا وافئدتنا التي اعتلاها الصدأ.
مالكة حبرشيد
تعليق