كل يوم أرى بلادي بصورة جديدة بتجدد الهواء والبشر والأحداث.. لكن في هذه الأيام الأخيرة لم أعد أراها كما كانت، فأنا اعرفها شامخة أبية عصية كنخلة العم "أبو لطفي".
نخلة العم أبو "أبو لطفي" مميزة، فريدة بشكلها ورونقها الرائع, وقد فاقت أقرانها نموّاً, تعلو بشكل مطرد لافت, حتى سبقت مثيلاتها بكل شيء، وبعطائها الرائع.
كان ذلك المزارع البسيط الطيب، يهتم كثيراً بالعناية بما يزرع، وكثيراً ما يدلّلها، ويعتبرها كأبنائه, يحاكيها، ويقصّ عليها قصصاً جديدة، ومثيرة، فتبدو كأنها تمشي بغنج ودلال، فتضحك!!.
قال لي مرة:
ـ النبات كائنٌ حيّ, يشعر ويحسّ، يسمع، ويعرف من نحن، يعرف من يحبه ويعتني به، ويعرف من يتجاهله.
كان يحرص على صداقتي وأنا كذلك, وقد تعارفنا على غير موعد فقد كان بائعا متجوّلا، يحمل بضائعه على دابّته كل يوم ويردد:
ـ الرزق الحلال الكفاف خير من تلك القصور التي تتهدم من أول زلزال.. القصر الحقيقي موجود في قلوبنا التي هدتها الحضارةُ الزائفة, فهناك حضارة هدّامة وأخرى تبني .
وعلى الرغم من تقوّس ظهره وانحنائه بسبب العمل، إلا أنني أعتبره كما السد المنيع يقف في وجه رياح السموم الهدّامة, وكثيراً ما كنت أنصحه أن ينتبه ويراعي صحته التي بدت لي أنها تتدهور يوما بعد يوم، وهو يقول :
ـ نحن تربينا على اللبن الطازج الحقيقي وقمح بلادنا القاسي , فلا يغرنك ما ترى, لا تخف واطمئن سأكون بخير, ولو شكوت مرضاً أو آلاماً مبرحة، سأحكي لك.
وعلى الرغم من عناده في أمور تحتاج لاهتمام كبير, إلا انني كنت أحترم فيه عقله المخلص، ذو الرؤية البعيدة وكأنه يلعب على رقعة شطرنج خفيّة, فهو يؤوّل الواقع كما يرى بتحليل عميق دقيق استغرب كيف يخرج من إنسان بسيط مثله.
كان يسعدني أن أبثّه همومي كلما زرته ، وأستشيره في كثير من أمور حياتي، وفي كل مرة، يسرح عندما أحاول أن أفهم شيئاً عن طبيعة حياته، أو اجترار أحداث ماضيه القديم الذي جعله وحيداً الآن, كان وريث أسرةٍ ناضلت طويلاً من أجل الأرض، كي لا تضيع، ويضيع بضياعها المستقبل.. وما زال ينتظر عودة ابنه المسافر، فلديه "كما قال لي" أمانة يجب أن يحملها عنه..
كنت أملك روحا مطاطة باردة على عكس دمه الحار ومزاجه العصبي, وما زلت أستغرب هذا في نفسي، انا الشاب وهو الكهل..
أؤمن وأثق بأن الله سبحانه يظلّلنا بعنايته، ويتكفّل أمورنا عندما نتّكل عليه بصدق, إيماني هذا كان منبع راحة لي مهما حصل لي, فشعوري الدائم بالوحدة جعلتنا على قرب من بعضنا، أنا والعم "أبو لطفي" بود، وبقوّة، أشعر بالقرب منه كأنني ابنه، بل وكثيراً ما كنت أشعر بأنني أتلهّف أيضاً، كما تصوّر لي أن ابنه يتلهّف، لإنهاء دراستي في بلاد الاغتراب، ثم أعود إلى ديار أهلي أيضا كابنه الغائب.
*****
أشعر أن هذا اليوم مختلفٌ جداٌ, غريبٌ جداً، ومزعجٌ جداً.!
تلفح وجهي نفحات حارّة حارقة لا أعرف مصدرها، ولا من أين تأتي رائحة الشواء, أنظر إلى العم "أبو لطفي" من النافذة نظرات تساؤل فيجيب بإيماءات غامضة.. لا يدري.
أهبطُ سلم العمارة التي أقيم فيها بلهفة.. فنحن لم نعهد طقس بلادنا حارّاً كما هو الآن..
نتناقش ونحن نلملم إشاعات متفرقة انتشرت مؤخراً لا طائل منها، وفجأة أخذ يركض ويصرخ:
ـ يا ناس المزارع تحترق.. مزارع بلادي تحترق، ليست بفعل عاصفة ولا نيزك ولا شهاب ولا..........يا ناس.
سرعان ما غصّ وتهدج صوته، وكأنه أصيب بالخرس، راح يسعل بحرقة قاسية ومتحشرجة، ثم جلس متعباً على الحجر الأملس، والذي طالما كان يفضّل الجلوس عليه.
تهيأ لأهل الحيّ أن عارضاً أصابه، فقد كان محبوباً من الجميع، يثقون بحكمته, وآراؤه وأفكارُه تريحهم وكأنه بوصلة مناخية يهتدون بها، لكننا بطبيعتنا البشرية نبحث دائماً عن سرّ حاجتنا الملحة إلى القريبين منا.
العم "أبو لطفي" يصرخ، ولا أحد يصدق ما يسمع، لكن بعضهم هرع إليه، وسمعه يصرخ ويردد:
ـ حريق.. حريق...
شبّ حريق مخيف في الأرجاء، وانتشر بسرعة خاطفة، حتى تسلّق لهيبه جذع النخلة, وراحت النار تأكل الجذع بضراوة، تمزّقه، تتلفه.. كنت أرى ذلك كله وأنا أنزل من بيتي مسرعاً، أشاهد بمرارة بؤس ما يجري، والحريق ينتشر:
ـ نخلتك يا عماه.. أقصد نخلتنا تموت.. إنها تموت يا عماه..
لكن صوته الصلب وصلني معبأ بهالة من الصمود والصبر:
ـ لن تموت النخلة بإذن الله، إنها كشجرة الزيتون هذه، تعطي خيرها بصمت وكبرياء، اجتاح الحريق الأراضي كلها، لكن القوم لم يصدقوني في البداية, ولم استطع إطفاءها وحدي.. يا لبؤس روحي..
وراح يبكي، يبكي بحرقة أمامي كطفل صغير فقد لعبة غالية من ألعابه، وأنا لم أره يبكي يوما كهذا اليوم..
أمسك يدي بقوّة، وتمتم بتصميم:
ـ تعال وانظر، وشاهد معي.
أمسك المنجل، وراح يحصد سيقان أعواد القمح، لم أصدق ما أرى.!
رباه، هذه دماء تسيل من السنابل، دماء حمراء طازجة وحارّة..
ـ نعم يا بنيّ.. نعم يا سامي هي دماء تلك التي تراها..
ودون أن أدري صرخت:
ـ قمحك ينزف دماً يا عم.. ينزف دماً.. يا الله ما هذا الذي أراه.!؟
سكت قليلاً ساهماً ثم قال بهدوء ورباطة جأش:
ـ كل القمح في بلادي ينزف كله كله ، لم تبق لنا أقماح نأكلها إلا في هذا الركن الذي بقي سالماً معافى..
-من فعل هذا بنا؟.
ثم قدم لي حزمة من السنابل الذهبية وهو يقول:
ـ خذها واذهب.. نعم اذهب بها إلى أي مكان مهما كان بعيداً، بعيداً عن الحرائق، لا حريق فيه، إلى أي مكان تستنبت من هذه الحبّات الباقيات قمحاً جديداً بعيداً عن جنون الحرائق.
وقبل أن يلتفت عني، سمعته يقول:
ـ ازرع بيديك يا بنيّ.. بيديك أنت لا بيديّ غيرك..
دفعني بقوة وعيناه تدمعان، أحسست للحظة أن صداقتنا المديدة تفرض عليّ أن أقدّم ولاء الثمن، والثمن عملاً واقعياً أجدني مقبل على فعله كي أثبت لنفسي أولاً أنني أهل لصداقة العم "أبو لطفي" الطيب النبيل..
أدركت أن زمن الرخاء مضى وانقضى، وأقبل زمن العمل الجاد لتكريس أهليتنا وحقنا وبراءة وجودنا.
انطلقت بسرعة إلى مركبتي المتواضعة، فأوقفني جاري يقول بصوت متهدّج:
ـ لم يبق غيري في الحي.. أرجوك خذني معك أرجوك.. خذني إلى أي مكان بعيدا عن هذه الحرائق القاتلة.
لم يكن لي من أي سبب للتخلي عن رجائه، فقلت:
ـ تعال يا أخي..
صديقي الذي انشغل بدفن خطيبته أوقفني هو الآخر وهو يلوّح لي بيديه:
ـ خذني معك نهرب من هذا الحريق.
ركب معي هو الآخر، وأنا أشعر بالألم يمزّق أحشائي، أتصبّب عرقا، ودموعي تنهمر، أنا أسمع نداء نخلتي التي كنت أحيّيها، وأتحدث إليها في كل صباح، فتحييني، وتضحك، وتشرق فرحاً.
حزمة القمح ما زالت تمسكني بقوة وأمسكها ، وأتشبث بها بقوّة أكبر.
عصافير جاري تزقزق وهي تطير فوق رؤوسنا كأنها تهرب معنا هي أيضاً، يبدو أن الزقزقة أزعجت صديقي في المركبة فصرخ:
ـ أسكتها يا رجل.!
كيف أسكتها وقد كنت أرجوها أن تزقزق على شرفة بيتي في كل صباح، تقدّم لي جمال الفجر على طبق من نشوة.!
وهذا قط سالم.!!
ـ يا الله.. أتحسبون أنكم على مركب نوح "عليه السلام".؟
نظرنا لبعضنا محيرة.
لم نكن، جميعاً، في وضع صحيّ يسمح لنا بالضحك، كنتُ أنضح عرقاً، وأعواد القمح أشعر بها وكأنها تذوب، وتذبل بين يدي المعروقتين..
ما زال توهّج النيران في النخلة العالية يتأجج، أسمع هسيسه، وأرى حزمة الضياء التي يرسلها تكاد تسع الأفق كله.. أراها.. أسمعها.. وعلى الرغم من هلاكها، فكم أتوق أن أحملها معي، في ذاكرتي, في قلبي , كي لا أنسى، ولا هي تنسى، ولا العم الطيب "أبو لطفي" ينسى أيضاً.
يتناثر الشرر حولي، يتبعني، يلحقني، له أيقاع كما بكاء طفل، كما لوعة أم..
العم "أبو لطفي" يركض وراءنا يريد أن يلحق بنا، يلوح بكلتا يديه، ويصرخ:
ـ تعالوا نطفئ الحريق معاً.. تعالوا ننقذ الأرض والشجر والبشر.. تعالوا.. تعالوا......
النار تتأجج، وصوت "أبو لطفي" يغلبها علوّاً..
صحوت من نومي مفزوعة من هول ما رأيت.. فتحت عينيّ بصعوبة، كل شيء حولي ساكن، إلا من صوت العم "أبو لطفي" ينادي على بضاعة محمّلة على دابّة، يتجوّل بها بين الحواري في الأزقة، ويقطف من ثمنها، ومن عرق جبينه، وعطاء أرضه، رزقه الحلال.
ـ ـ ـ
نخلة العم أبو "أبو لطفي" مميزة، فريدة بشكلها ورونقها الرائع, وقد فاقت أقرانها نموّاً, تعلو بشكل مطرد لافت, حتى سبقت مثيلاتها بكل شيء، وبعطائها الرائع.
كان ذلك المزارع البسيط الطيب، يهتم كثيراً بالعناية بما يزرع، وكثيراً ما يدلّلها، ويعتبرها كأبنائه, يحاكيها، ويقصّ عليها قصصاً جديدة، ومثيرة، فتبدو كأنها تمشي بغنج ودلال، فتضحك!!.
قال لي مرة:
ـ النبات كائنٌ حيّ, يشعر ويحسّ، يسمع، ويعرف من نحن، يعرف من يحبه ويعتني به، ويعرف من يتجاهله.
كان يحرص على صداقتي وأنا كذلك, وقد تعارفنا على غير موعد فقد كان بائعا متجوّلا، يحمل بضائعه على دابّته كل يوم ويردد:
ـ الرزق الحلال الكفاف خير من تلك القصور التي تتهدم من أول زلزال.. القصر الحقيقي موجود في قلوبنا التي هدتها الحضارةُ الزائفة, فهناك حضارة هدّامة وأخرى تبني .
وعلى الرغم من تقوّس ظهره وانحنائه بسبب العمل، إلا أنني أعتبره كما السد المنيع يقف في وجه رياح السموم الهدّامة, وكثيراً ما كنت أنصحه أن ينتبه ويراعي صحته التي بدت لي أنها تتدهور يوما بعد يوم، وهو يقول :
ـ نحن تربينا على اللبن الطازج الحقيقي وقمح بلادنا القاسي , فلا يغرنك ما ترى, لا تخف واطمئن سأكون بخير, ولو شكوت مرضاً أو آلاماً مبرحة، سأحكي لك.
وعلى الرغم من عناده في أمور تحتاج لاهتمام كبير, إلا انني كنت أحترم فيه عقله المخلص، ذو الرؤية البعيدة وكأنه يلعب على رقعة شطرنج خفيّة, فهو يؤوّل الواقع كما يرى بتحليل عميق دقيق استغرب كيف يخرج من إنسان بسيط مثله.
كان يسعدني أن أبثّه همومي كلما زرته ، وأستشيره في كثير من أمور حياتي، وفي كل مرة، يسرح عندما أحاول أن أفهم شيئاً عن طبيعة حياته، أو اجترار أحداث ماضيه القديم الذي جعله وحيداً الآن, كان وريث أسرةٍ ناضلت طويلاً من أجل الأرض، كي لا تضيع، ويضيع بضياعها المستقبل.. وما زال ينتظر عودة ابنه المسافر، فلديه "كما قال لي" أمانة يجب أن يحملها عنه..
كنت أملك روحا مطاطة باردة على عكس دمه الحار ومزاجه العصبي, وما زلت أستغرب هذا في نفسي، انا الشاب وهو الكهل..
أؤمن وأثق بأن الله سبحانه يظلّلنا بعنايته، ويتكفّل أمورنا عندما نتّكل عليه بصدق, إيماني هذا كان منبع راحة لي مهما حصل لي, فشعوري الدائم بالوحدة جعلتنا على قرب من بعضنا، أنا والعم "أبو لطفي" بود، وبقوّة، أشعر بالقرب منه كأنني ابنه، بل وكثيراً ما كنت أشعر بأنني أتلهّف أيضاً، كما تصوّر لي أن ابنه يتلهّف، لإنهاء دراستي في بلاد الاغتراب، ثم أعود إلى ديار أهلي أيضا كابنه الغائب.
*****
أشعر أن هذا اليوم مختلفٌ جداٌ, غريبٌ جداً، ومزعجٌ جداً.!
تلفح وجهي نفحات حارّة حارقة لا أعرف مصدرها، ولا من أين تأتي رائحة الشواء, أنظر إلى العم "أبو لطفي" من النافذة نظرات تساؤل فيجيب بإيماءات غامضة.. لا يدري.
أهبطُ سلم العمارة التي أقيم فيها بلهفة.. فنحن لم نعهد طقس بلادنا حارّاً كما هو الآن..
نتناقش ونحن نلملم إشاعات متفرقة انتشرت مؤخراً لا طائل منها، وفجأة أخذ يركض ويصرخ:
ـ يا ناس المزارع تحترق.. مزارع بلادي تحترق، ليست بفعل عاصفة ولا نيزك ولا شهاب ولا..........يا ناس.
سرعان ما غصّ وتهدج صوته، وكأنه أصيب بالخرس، راح يسعل بحرقة قاسية ومتحشرجة، ثم جلس متعباً على الحجر الأملس، والذي طالما كان يفضّل الجلوس عليه.
تهيأ لأهل الحيّ أن عارضاً أصابه، فقد كان محبوباً من الجميع، يثقون بحكمته, وآراؤه وأفكارُه تريحهم وكأنه بوصلة مناخية يهتدون بها، لكننا بطبيعتنا البشرية نبحث دائماً عن سرّ حاجتنا الملحة إلى القريبين منا.
العم "أبو لطفي" يصرخ، ولا أحد يصدق ما يسمع، لكن بعضهم هرع إليه، وسمعه يصرخ ويردد:
ـ حريق.. حريق...
شبّ حريق مخيف في الأرجاء، وانتشر بسرعة خاطفة، حتى تسلّق لهيبه جذع النخلة, وراحت النار تأكل الجذع بضراوة، تمزّقه، تتلفه.. كنت أرى ذلك كله وأنا أنزل من بيتي مسرعاً، أشاهد بمرارة بؤس ما يجري، والحريق ينتشر:
ـ نخلتك يا عماه.. أقصد نخلتنا تموت.. إنها تموت يا عماه..
لكن صوته الصلب وصلني معبأ بهالة من الصمود والصبر:
ـ لن تموت النخلة بإذن الله، إنها كشجرة الزيتون هذه، تعطي خيرها بصمت وكبرياء، اجتاح الحريق الأراضي كلها، لكن القوم لم يصدقوني في البداية, ولم استطع إطفاءها وحدي.. يا لبؤس روحي..
وراح يبكي، يبكي بحرقة أمامي كطفل صغير فقد لعبة غالية من ألعابه، وأنا لم أره يبكي يوما كهذا اليوم..
أمسك يدي بقوّة، وتمتم بتصميم:
ـ تعال وانظر، وشاهد معي.
أمسك المنجل، وراح يحصد سيقان أعواد القمح، لم أصدق ما أرى.!
رباه، هذه دماء تسيل من السنابل، دماء حمراء طازجة وحارّة..
ـ نعم يا بنيّ.. نعم يا سامي هي دماء تلك التي تراها..
ودون أن أدري صرخت:
ـ قمحك ينزف دماً يا عم.. ينزف دماً.. يا الله ما هذا الذي أراه.!؟
سكت قليلاً ساهماً ثم قال بهدوء ورباطة جأش:
ـ كل القمح في بلادي ينزف كله كله ، لم تبق لنا أقماح نأكلها إلا في هذا الركن الذي بقي سالماً معافى..
-من فعل هذا بنا؟.
ثم قدم لي حزمة من السنابل الذهبية وهو يقول:
ـ خذها واذهب.. نعم اذهب بها إلى أي مكان مهما كان بعيداً، بعيداً عن الحرائق، لا حريق فيه، إلى أي مكان تستنبت من هذه الحبّات الباقيات قمحاً جديداً بعيداً عن جنون الحرائق.
وقبل أن يلتفت عني، سمعته يقول:
ـ ازرع بيديك يا بنيّ.. بيديك أنت لا بيديّ غيرك..
دفعني بقوة وعيناه تدمعان، أحسست للحظة أن صداقتنا المديدة تفرض عليّ أن أقدّم ولاء الثمن، والثمن عملاً واقعياً أجدني مقبل على فعله كي أثبت لنفسي أولاً أنني أهل لصداقة العم "أبو لطفي" الطيب النبيل..
أدركت أن زمن الرخاء مضى وانقضى، وأقبل زمن العمل الجاد لتكريس أهليتنا وحقنا وبراءة وجودنا.
انطلقت بسرعة إلى مركبتي المتواضعة، فأوقفني جاري يقول بصوت متهدّج:
ـ لم يبق غيري في الحي.. أرجوك خذني معك أرجوك.. خذني إلى أي مكان بعيدا عن هذه الحرائق القاتلة.
لم يكن لي من أي سبب للتخلي عن رجائه، فقلت:
ـ تعال يا أخي..
صديقي الذي انشغل بدفن خطيبته أوقفني هو الآخر وهو يلوّح لي بيديه:
ـ خذني معك نهرب من هذا الحريق.
ركب معي هو الآخر، وأنا أشعر بالألم يمزّق أحشائي، أتصبّب عرقا، ودموعي تنهمر، أنا أسمع نداء نخلتي التي كنت أحيّيها، وأتحدث إليها في كل صباح، فتحييني، وتضحك، وتشرق فرحاً.
حزمة القمح ما زالت تمسكني بقوة وأمسكها ، وأتشبث بها بقوّة أكبر.
عصافير جاري تزقزق وهي تطير فوق رؤوسنا كأنها تهرب معنا هي أيضاً، يبدو أن الزقزقة أزعجت صديقي في المركبة فصرخ:
ـ أسكتها يا رجل.!
كيف أسكتها وقد كنت أرجوها أن تزقزق على شرفة بيتي في كل صباح، تقدّم لي جمال الفجر على طبق من نشوة.!
وهذا قط سالم.!!
ـ يا الله.. أتحسبون أنكم على مركب نوح "عليه السلام".؟
نظرنا لبعضنا محيرة.
لم نكن، جميعاً، في وضع صحيّ يسمح لنا بالضحك، كنتُ أنضح عرقاً، وأعواد القمح أشعر بها وكأنها تذوب، وتذبل بين يدي المعروقتين..
ما زال توهّج النيران في النخلة العالية يتأجج، أسمع هسيسه، وأرى حزمة الضياء التي يرسلها تكاد تسع الأفق كله.. أراها.. أسمعها.. وعلى الرغم من هلاكها، فكم أتوق أن أحملها معي، في ذاكرتي, في قلبي , كي لا أنسى، ولا هي تنسى، ولا العم الطيب "أبو لطفي" ينسى أيضاً.
يتناثر الشرر حولي، يتبعني، يلحقني، له أيقاع كما بكاء طفل، كما لوعة أم..
العم "أبو لطفي" يركض وراءنا يريد أن يلحق بنا، يلوح بكلتا يديه، ويصرخ:
ـ تعالوا نطفئ الحريق معاً.. تعالوا ننقذ الأرض والشجر والبشر.. تعالوا.. تعالوا......
النار تتأجج، وصوت "أبو لطفي" يغلبها علوّاً..
صحوت من نومي مفزوعة من هول ما رأيت.. فتحت عينيّ بصعوبة، كل شيء حولي ساكن، إلا من صوت العم "أبو لطفي" ينادي على بضاعة محمّلة على دابّة، يتجوّل بها بين الحواري في الأزقة، ويقطف من ثمنها، ومن عرق جبينه، وعطاء أرضه، رزقه الحلال.
ـ ـ ـ
تعليق