الممسوس!
أي ريح صرصر عصفت اليوم ؟
الشمس مبتورة الخيوط وشبح القادم ينسل خفية، يغطي وجهه غروب أصهب.
لم أكد أعرفه ، لولا وشم أنزله على كفه في ليلة دهماء غاب عنها القمر، أريق فيها الكثير من دمه وحبرا صبه فوق الجرح ، يدمغ يده فيه، ويئن مبتلعا وجعه.
لم تك ملامحه تشبه ذاك الشاب الجسور الذي ملأ حيطان الشارع برسومه وأنا صبي ألاحقه مثل ظله، مفتونا بما تخط أنامله العجائبية على الجدران لتلك الصبية التي عشقها ؛ فصارت داءه الذي ضرب أوتار فؤاده ، فأعطبها، ليوصم بالممسوس ، ويهجر البلدة بعد أن عصفت بجسمه ركلات الرجال وهراواتهم ، وهرس أحدهم بحنق يده اليمنى بقدمه.
شقوق باب حجرته تتيح لي فسحة ضيقة ؛ كي أرقبه وهو يناجيها دامعا تنفلت منه الآهة حرى ، وهو يبثها لوعته وحرقة قلبه على غيابها وفرشاته كفراشة تنتقل بين الألوان ودمعه بسرعة عجيبة ، ترسم عينين كحيلتين وفما مكتنزا يكاد ينطق ؛ لتصيبني لوثته بفضول غريب ، لم أفهمه حد اللحظة .
وتطاردني تينك العينان كأني أعرفهما !
رنا إليّ كأنه مغيب حين اقتربت منه أحييه. عيناه المحمرتان كالجمر أرعدتاني ، وأنا أستشعر خيفة منهما . ثم أشاح وجهه عني متمتما بلهجة معاتبة:
- أهذا أنت .. أبعد كل تلك ؟!
لم تٌعنّي بسمتي البلهاء الحذرة ، وخانني صوتي متعثرا بحنجرتي ؛ فأطرقت رأسي خجلا.
دس يده الموشومة بين كومة أوراقه ، ورمى بإحداها أمامي؛ لأجدني أمام صورة الفتاة ذي العينين الكحيلتين والفم المكتنز!
زاحمتني الملامح ، تصارعت أمامي . وتكومت كل الصور في لحظة بهذا الوجه . الريح تتلاعب بالورقة ، وأنا أركض خلفها لاهثا ، يدفعني شغفي القديم : أن أعرف صاحبة الصورة .
ذات صباح شقشقي العصافير.. كان يقف قرب شجرة التفاح المزهرة ، يحادثها ، يبثها عشقه الموسوم بالمس ، يغرف من جمرات الشوق ، ويعاتبها أنها تتأخر كل مرة عليه ؛ فيغلي دمه ، ليتفجر ينابيع من أوردته . يكشف لها عن رسغه الذي ينزف بدفق وشدة . تمتد يدها البيضاء الناصعة نحوه ، تجمع الدماء المنتفضة في كفها ، تذروها إلى السماء، تمسح كفه بكمها ، وتقبل الجرح . تهرب مذعورا.. أصرخ :
- الممسوس قطع رسغه.. الممسوس شربها من دمه.
تلقفتني أمي من أول الشارع ، وأقسمت أغلظ الإيمان : أن الممسوس لن يبقى بيننا بعد اليوم ؛ فقد بات خطرا على الأبناء.
توسلتها أن لا تفعل ؛ لأنه مسكين ، لم يؤذ أحدا غير رسغه . لكن إصرار أمي كان أقوى. وحيرة عينيها وهي تبحث في أرجاء المنزل ، تفتح بابا ، وتغلق آخر، لتعود ، وتلطمني صافعة وجهي .. أخرستني.
رسمها ذاك اليوم على جدران المدرسة فمًا وعينين ، وشجرة تفاح مزهرة ، تغفو مبتسمة قرب الساقية ، وقمرا ثلجيا، يتراقص دوائر مهتزة قربها.
نسجت الحكايات عنه، وعن مس الشيطان الذي تلبسه؛ فأغلقت أبواب الدور على بناتها.. والممسوس يرسمها بغلالة شفافة ، تظهر جسدها الضبابي ، متوهجا بالنور المتسرب من مسامات القماش ، وألبسها النجوم تيجانا فضية ؛ كأنها شعاع يبهر العيون .. وعلق اللوحة على غصن شجرة التفاح الموردة !
تبعت أبي ليلتها .. والرجال معه ، محملين بوقود الغضب الجحيمي ، تقدح العيون شررا يتطاير ، ومشاعل النار تضيء وجهه القانع، وهم يواجهونه: أنه لطخ سمعة الفتيات !
تمتم بيتم راكعا :
- ليس بيدي عشقي لها يدفعني .. زوجوني إياها.
انهالت الأيدي ، تصب جام الجحيم عليه، تمزق الجسد والرسوم. وهو يحتضن إحداها فوق صدره، يحميها منهم ، غير عابيء بسواها ، حتى أغمى عليه . فغادروه وورقة مكتوبة بدمه ، ألصقوها على الجدار مواجهته : غادر وإلا ....!
لم أتزحزح من مخبأي ، أتابعه بشغف محموم .. وهو يزحف واللوحة بيده ، يصب فوق كفه المهروس حبرا.. يدمغها.
بعدها.. لم يره أحد ؛ حتى اليوم .
لم تعرف البلدة سره وصاحبة العينين والفم . وأجنحة الريح مازالت تدفع بالرسمة أمامي .. تطير وتحط. وقلبي يكاد ينخلع خوفا من رذاذ المطر المنهمر؛ أن يمحو الأثر.
دفعت جسمي بأقصى ما أستطيع ؛ كي ألتقطها . وأكتشف الوجه الذي طال زمن سره.
غيرت الريح وجهتها ، دفعت بالصورة نحوي ؛ لتطعنني ألف سكين عمياء .. وصورة أختي التي أغمضت عينيها منذ سنين . تتشبث يدها البيضاء المتخشبة.. فرشاة بلون الزهر تحت شجرة التفاح ، قبل أن تثمر!
أكره ربيع
فاجأني ربيع ؛ حين كنت ساهمة بملامح وجهه
يرمقني عميقا .
أحسست بالجليد يقتحم جسدي ، ارتعشت مذعورة . وعيناه الثاقبتان تخترقان قفصي الصدري المحموم كتنور مسجور . وأنا أتفحص تلك القسمات الحادة، التي .......!
كم كان عمري حين أنجبته خالتي .. خمسة سنين؟
غضة طرية كورقة زهرة ، لم تتفتح أوردتها بعد .
أذكر أني كنت في المرحلة التمهيدية .
لا ..
ربما الأولى .
حقيقة لا أدري !
زهري الجلد ناعما يقولب عينيه ، جلد ثخين ومتهطل كجرو صغير. أدهشني مرآه . ولسانه ما فتئ يتلولب خارج شفتيه، كأفعى صغيرة تتلوى !
أكره الأفاعي ، حد العمى .
أكرهها .
ابتسمت رغما عني ، وأنا أتذكر أولى لحظات ولوجه عالمنا المجنون. يصرخ وجهه العابس المنتفخ كبالونة صغيرة . نلتف حوله جميعا، كمهرجين نفتعل الحركات والأصوات ؛ عساه يصمت!
ليته يفعلها، ويخرس إلى الأبد!
كم كرهته
بغضت صوته المجلجل . والكل يسرع لتلبية طلباته .
حقدت عليه .. وهو يستحوذ على اهتمام الجميع
وحب خالتي له الذي جعلني في دائرة الظلمة.
ألقمه زجاجة الرضاعة، أدفعها لفمه الممطوط دفعا . يغص فيها أحيانا، يتقيأ جوفه لبنا متخثرا .
ضحكت بصوتي المبحوح العالي .. وأنا لم أزل أنظر له متفحصة .
صدمتني نظراته التي اخترقت وريقات عمري المطوية بلمحة، وهي تلتقي بنظرة عيني ؛ كأنه أحس بما يعتمل داخلي .
فارتبكت محتارة ، ربما احمر وجهي .
شعور من هذيان انتابني ، أضناني سنين طويلة .
سألت نفسي ألومها :
هل فضحتني ملامحي الساذجة .. حد البلاهة!؟
ويحي .. هل أنا حمقاء ؟!
استطاع رجل بكل سهولة، أن يفك طلاسمها المخبأة بين الأفئدة!؟
كيف سأواجهه، وأواجه خالتي التي احتضنتني منذ صغري ، بعد الفجيعة التي أصابتني بفقدان والدي وأختي الأصغر؟
بمَ سأبرر موقفي لهذه المرأة التي أخذت بيدي يوما بعد آخر، حتى أصبحت تلك الفتاة التي يشير الجميع أنها الابنة المثالية ؟
هاهي صورتي المعلقة على جدران الصالة، تحدجني بقرف .. وأنا أبتسم لخالتي وزوجها بكل حب يوم تخرجي ، وبحماسة تحكي للجميع عن ذكائي وكفاحي المستميت ، أن أكون المتميزة.. تسفعني بسياط محفوفة بالغموض!
مسكينة خالتي .. يالها من امرأة مخدوعة!
لم تدر أني في يوم غافلت الزمن ، وتركت ربيع حين كان بعمر زهرة ندية تحت صنبور الماء في حديقة الدار، يشهق بأنفاسه . وحين باغتني وجودها، حملته من بين براثن الموت مرتعشة، أرفعه بين يدي عاليا
فأصبحت البطلة بنظرها، ونظر زوجها، والآخرين.
غفوت أنشج متحسرة ، تلك الليلة الغبراء على ما فعلته، نادمة على غفلتي المقصودة.
حاصرتني نظرات ربيع، وأنا أدير وجهي عنه، لعلني أتفادى رماحا أدمتني أعواما، بعدد سنين عمري وعمره.
تقدم نحوي بخطى ثابتة، يخترق جموع المهنئين بخطبة أخته، يرد عليهم بكلمات مقتضبة، يقتلع الابتسامة من بين أسنانه اقتلاعا ، ومقلتاه المحمرتان أرعبتاني حد الشعور بالتلاشي.
صار قاب قوسين أو أدنى ؛ كأن المكان خلا .. إلا مني ومنه!
حدسي ينبئني أنه ينوي شيئا ، يريد انتزاع اعتراف مني ، ينوي تعريتي بحقائق دامغة ..لا أقوى عليها .
صورة واضحة لسر دفين، لا أستطيع البوح فيه!
هربت ملتحفة برؤوس الحاضرين، أتخفى بينها ، أحشرني كلص مبتدئ أهوج ، أدفن رأسي كنعامة مرة، وكنورسة مبللة أخرى يغرقها المطر بمد بحري لا حدود له، أبتعد عن مرماه ، مازلت أحسه قربي ،
يلاصقني ، يتغلغل مساماتي .
بل أكاد أجزم أني سمعت طرق طبول نبضات فؤاده، تلامس رجفات قلبي المشنوق هلعا !
خذلتني أنفاسي، وأطاح الدوار بجسمي ليتهاوى سحيقا.
امتدت يده ، انتشلتني قبل أن أحط مرتطمة ، دافئة وحنونة كانت .
عيناه النديتان تترقرقان بالدمع، حين احتواني بين ساعديه .
يهمس بما يشبه الأنين، يزفر الأنفاس حروفا مجمرة فوق رقبتي:
- أيتها المجنونة أعشقك حد الثمالة، فلا تتهربي من حبي
.............................
نافذتي والليل
نافذتي والليل وتراتيل أمي ، وحكاية لجدتي روتها لنا ألف مرة ، ونحن صغار . نجتمع حول نار المدفأة ، بليالي الشتاء الباردة ، فاغري الأفواه مشدوهين نستمع لقصة الفارس الشجاع الذي عشقته رغما عني ، مذ سمعتها تحكي لنا قصته.
أتخيل نفسي تلك الحبيبة التي يعشقها . وضفائري مازالت جدتي تضفرها بيديها المرتعشتين ، وهو يمتطي صهوة جواده الأرقط ، يجوب البراري والوديان - سنين طويلة - ، يبحث عن خاطفي حبيبته ، يأخذ بثأرها ، ويحصد بجرأة وجسارة رؤوسهم بسيفه.
هالني منظر الرؤوس المقطوعة . أتخيلها تتطاير عن أجسادها ، تطير عاليا ، ثم تتدحرج على الأرض . اعترتني قشعريرة من دماء قانية ، تنتفض من أوردتها .. فوق الرقاب . أجساد تمشي بلا رؤوس - بضع خطوات - قبل الرجفة الأخيرة.
تركت الورقة والقلم بغضاضة ، وشاغلت نفسي ، أرقب تراقص نيران شمعتي ترسم على الجدار ظلالا مشوهة لجسمي. شمعتي التي أوقدتها منذ غياب السلم ، وآخر وهج تلألأ بغرفتي ، بعد انقطاع النور؛ لتغرق المدن بظلام دامس إلا من أضواء شحيحة ، تجود بها فوانيس شاحبة وشموع ، تطل بنورها الخجل من بين شرفات ونوافذ المنازل.. الغارقة بالعتمة.
لم أدر من أين أتاني الشعور بالأمل ؟ يناغيني .. بالرغم من الحرب وضراوتها، أن فارس قصة جدتي سيأتي يوما، حاملا حبه وأشواقه وتوقا لم يفتر، سرعان ما يطفئ مجيئه صقيع الخوف والظنون التي رافقتني مذ غاب الأمان.. يوم دُكت حصون قلعة مدينتي ؛ لتنعق أسراب الغربان بسمائها وتغفو جدتي - ذات يوم شديد الريح - غفوتها الطويلة ، ولم تستيقظ. تحتضن عيناها وجع غزوة كونية ، أخرست قلبها ، وحصدت من روحها ذاك العنفوان والإباء الذي كانت تحكيه بحماسة لنا.. عن الفوارس والشجعان .يغزو وجهها وجع غريب ، ودمعة مكابرة أبت أن تنزل ، تحجرت بمقلتيها ، حتى واريناها التراب.
الصباح لم يكن يحمل معه سوى روتين . اعتدته غير عابئة بأصوات قصف الصواريخ. أستمع- بشجن- من جاراتي ، أخبار العائدين من الجحيم الذي تقذفه شياطين تطير بأجنحة سوداء، يحملون معهم حكايات مهولة ، تشبه حكايات جدتي الخيالية.. و يسردون قصصا مرعبة ، عن أيام قضوها في العراء، يأكلون من حشاش الأرض ، ويختبئون- بسذاجة- من الشياطين السود ، يكومون أجسادهم -فوق بعضها- بخنادق تشبه القبور، حفروها بأيديهم ، حين تُفتح بوابات الجحيم عليهم بحاويات تقذف الحمم التي تصهر الأجساد بلهيبها ؛ لتبقى الملابس بلا مرتديها ، يسيل بين شقوقها قطع اللحم والعظم المنصهرة ، ويتسرب عصير الدماغ من الأذنين سائلا أصفر داكنا ولزجا !
شمس آذار الفتية المتشحة بلون الدم -عند الغروب- لاح لي من بعيد - وأنا أنظر من خلف زجاج نافذة المطبخ- رجلٌ بملابس عسكرية ، يتوكأ على خشبة، يتعكز عليها. كان منظره محزنا . والتراب يغطيه ؛ وكأنه خرج من قبره لتوه .يجر رجليه جرا ، ويتمايل جسده كأنه سيغمى عليه.
اقترب أكثر. بانت ملامحه المفعمة بأسراب الغم والخذلان . دماء لم تزل ندية تغص فيها ملابسه.
يمعن النظر بين واجهات البيوت - بدهشة وذهول - ، يدير رأسه خلفه كلما أحس بأنه أخطأ الطريق ، فيقف هنيهة ، يمسح عينيه بيده التي اختلط فيها الدم بالتراب.. فغدا لونها طينيا محمرا . ويعيد الكرة بتصفح واجهات البيوت ..وهي تزخر بثقوب شظايا الصواريخ ، فهدمت أسوار، وفتحت ثغرات كبيرة بعدة بيوتٍ ، وطوحت ببيتين على ساكنيهما ، فأصبحا ركاما. تظهر بعض آثار قطع أثاث و ملابس من كانوا يسكنوهما.
بدا اليأس عليه وذهول وحشي ، فتهالك ، افترش الأرض ، ثم أجهش ببكاء مرير ويائس.
بكيت بحرقة لبكائه.. على رجال وطني ، الذين أحرقتهم مرة نيران يصبها المحتل عليهم ، وأخرى وهم يحترقون لفراق الأهل والأحبة ، حين أبادتهم أسلحة عمياء لا تعرف الرحمة.
ابتلعني الغمُ ، فناديت بجزع أخي جعفر.. أن يُغيث الشاب.
هرع إليه ، أعانه على النهوض. لكنه سرعان ما سقط مغشيا عليه ؛ حين أيقن إنه لم يخطئ الشارع ، و بيت أهله أحد البيوت التي دكت.
غمرني الزهو .. وأنا أراقب أخي يحمل الشاب ، كأنه يحمل طفلا صغيرا ، بالرغم من جرحه الكبير الذي أصاب خاصرته بآخر معركة - دارت رحاها على الحدود الجنوبية للعاصمة العتيقة- ؛ ليعود بعدها مخضبا بدمه ، مليئا بالأسرار والقهر. الوطن لم يصمد طويلا ، تحت دك القنابل والصواريخ التي انهمرت عليه، وتكنولوجيا الألفية الثالثة تفوقت على شجاعة رجالها الفوارس.
يخرسني حين أسأله عما حدث:
- صه زبيدة .. لا تسأليني قط.
فأصمت حيرى ملتاعة . و عيناي تسألانه :
- أما آن الأوان أن تشي لي بالسر أخي!؟
أسند أخي الشاب على الأريكة. شرعت في مسح وجهه بمنشفة مبللة .
أشعل جعفر فتيل فانوس آخر؛ فالليل أضحى حالك الظلمة.
وضعه على الطاولة القريبة .
شهقت شهقة حاولت أن أخفيها؛ حين أضاء النور وجه الشاب .. وبانت ملامحه ، بسحنته السمراء.
حملقت بوجهه .
انتبه الشاب لي ، بادلني نظرة متسائلة!
عيناه اللتان غمرهما الحزن تتفرسان وجهي – بتعجب- كأنه يعرفني .
هلت الفرحة تغمر قلبي . وأنا أسمعه يجيب أخي بصوت رخيم ، حين سأله عن اسمه:
- أنا فارس.
تهالكت على المقعد القريب مني ،
وضعت يدي على صدري ، أحمي قلبي لئلا يطفر من بين أضلعي.
همست لجدتي ، أسرها سري:
- إيه جدتي.. لقد التقيت اليوم بفارس قصتك.
رياح الخوف
الريح تعصف بقوة ، تضرب كل ما يقف أمامها، تقتلع بطريقها أشجارا يافعة، لم تضرب جذورها الناعمة بعمق في الأرض ، فتطير معها أعشاش العصافير الصغيرة . والحمائم تحوم حول المكان ، تبحث عن صغارها، تهدل بهديل مفعم بالوجع والحزن، كأنها تبكيها ؛ وربما تطمئنها أنها مازالت قريبة منها.. لتحميها.
أوجع قلبي منظر الأفراخ الصغيرة ، وأنا أتخيلها ، والريح تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال ، لكني لم أقو على الخروج إلى الحديقة لألتقطها.
كان الخوف يتربص هناك جاثما خلف سياج داري ، ينتظر الفرصة حين تسنح له!
تابعته بعينين أذبلهما البكاء وأتعبهما السهر، وهو يقبع في الظلمة يتربص بيَّ، يرمقني بنظرات حمراء بلون الدم، تومض بوميض ناري ؛ كلما أبرقت السماء وأرعدت.
أجفلت .. حين صفقت الريح بابا لم يكن موصدا ،
استشعرت رهبة افترشت مساحات جسدي بقشعريرة، أخفقت وأنا أحاول جاهدة أن أتجاهلها.. وصورة الخوف تقف بصلفٍ أمامي، تضحك مني بوحشية مفجعةٍ !
صفعتني صورتي . وأنا أراها بالمرآة تهتز . والخوف مازال يضحك مني ، ويهزأ بيّ.
غطيت وجهي كي لا أرى ملامح لست أعرفها.. وهديل الحمائم يدوي في رأسي ، يأبى مفارقتي .
هربت مني إلى غرفتي !
صارت الريح أشد وأعتى قوة .. تهز زجاج النوافذ والأبواب تئن صريرا ، أرغمني أن أدير رأسي ، أتلفت حولي ؛ كمن أصيب بمس من الجنون.
تركت المكان وهرعت إلى النافذة، أنظر منها إلى السماء التي تلبدت بغيوم سوداء كثيفة .. ترسم وحوشا ورموزا مخيفة، وهي تجري بسرعة الريح خلف بعضها ، تلتهم بعضها بشراهة وقسوة عجيبة ؛ فتكبر وتكبر، والريح العاصفة تدفع بها ؛ لتصطدم بينها ، فتبرق السماء وترعد .
وضعت يدًّي الواهنة على أذنيّ َكي لا أسمع ، وأغمضت عيني ببلادةٍ كي لا أرى ، وحين فتحتهما ،
رأيت الخوف القابع خلف سياج الدار يتجه نحوي ،
يقترب مني
يلاصق ظلي الذي انعكس من ضياء الفانوس خلفي.
أردت أن أصرخ بعلو صوتي
فتحت فمي على سعته، فلم يخرج منه سوى حشرجة مبحوحة .
اختنقت حنجرتي بصرخاتي المكتومة .
أخرسني خوفي وأنا أراه أمامي ، يواجهني
ذاتي تجلد ذاتي بسياط حقيقة مرة.. إنني خائفة.
أحسست بالذل والمهانة تملأ نفسي التي أنكرتها ؛ لأنها ليست أنا.. وأنا أختبئ خلف الكرسي ، أرتعد هلعا. استباحني شعور بالقهر ، ورغبة كبيرة بأن أتقيأ ؛ لأستفرغ جوفي ، وأخرج ما فيه.
رشقت وجهي مرارا وتكرارا بالماء ؛ كي أستعيد رشدي الذي فقدته.. توجهت إلى غرفتي بعد أن تمالكت نفسي وعاد ليّ ثباتي .
حاولت أن أغفو .. وأنا أرمق سقف الغرفة بنظرات زائغة .
للحظةٍ ..
هيىء لي ، أني سمعت صوت دبيب أقدام تمشي في حذر؛ رغم شدة صفير الريح المخيف . لكن خوفي يحفز سمعي وحواسي .
استنكرت على نفسي إحساسها السابق .
تجلدت هذه المرة ،
مددت يدي داخل الدرج القريب من رأسي ، وسحبت بخفة منه مسدسي الذي اقتنيته مذ اقتحم الخوف بلدي ؛ لتعصف فيه الرياح الهوجاء ، وتتلبد سماؤه بالغيوم الداكنةِ ؛ فهو يشعرني بالأمان لو حدث ما كنت أخشاه.
ارتعشت يدي وأنا أرفع حافة الستارة قليلا ؛ لأرى .
أبرقت السماء لحظتها ؛ ليظهر ظل خوفي جليا هذه المرة ، يقبع بسكون مستترا في الظلمة خلف نافذة غرفة نومي ، يجلس القرفصاء كوحش آدمي !
ازدادت رعشة يدي ، ولحق بها جسدي، تلاحقت أنفاسي ، يعلو بها ، ويهبط صدري.. لكني لم أفقد ثباتي.
صوبت فوهة المسدس من خلف زجاج النافذة ، وضغطت على الزناد.
دوى صوت الإطلاق قويا مرعدا . والسماء مازالت تبرق ، والريح تهدر وتزمجر!
خيل لي ..
أني سمعت صوت توجعٍ ٍ ، يصدر من ظل خوفي
ثم سكت!
قبعت في مكاني أتنصت، وأنا أرتعد حتى انبلج الصبح، فشعرت بالأمان والطمأنينة، وصوت العصافير عادت تزقزق.. بعد أن هدأت الريح قليلا.
بحذر
توجهت صوب الحديقة ، ومسدسي مازال بيدي .
كان منظر ضياء الصبح جميلا وآمناً .
هكذا أحسسته ، وأنا أرفع رأسي نحو السماء .
ابتسمت بتهكم من نفسي ، وأنا أتذكر خوفي العارم من خوفي بالأمس، وإطلاقي النار عليه !
أجلت نظري في حديقتي التي عمها الخراب . الريح العاصفة اقتلعت الكثير من زهوري الجميلة التي غرستها بيدي، فهمست لنفسي بلوعة وقهرٍ، ودموعي تترقرق بمقلتي :
- لا بأس ، غدا سأزرع غيرها.
مشيت بضع خطوات بالحديقة، أبحث عن أفراخ الحمائم ، علني أجدها .
تجمدت في مكاني .. اتسعت عيناي على سعتيهما، وأنا أرى قرب نافذة غرفة نومي جسدا بشريا مكوما ، يتشح بالسواد ، مقنع الرأس. تقبع بجانبه رشاشته ، وبركة داكنة تحيط برأسه !
ولشهريار..حكاية أخرى!
جلست على مقعدها الوثير ، وهي تعاين حاشيته الكثيرة بعينين ثاقبتين.
أجالت النظر بين مرافقيها ، تترقبهم !
طرقعت أصابعها ، أمرت حاشيتها .
وبالآتي أن تأتيها !
جاءها الحُجْابِ برجل ، لم يكن يظهر منه سوى أصابع قدميه ، ويديه المقيدتين بسلاسل ثقيلة!
أشارت إليهم :
أن ارفعوا النقاب عنه!
بان للعباد.
فاتنا ،
ساحرا ،
يخلب الألباب .
رجلا.. يعرف التاريخ عنه الكثير
من ملامح وجهه ،
وآثار نُحتت على ضفاف دجلة ، وهو يتسورها ، ونيسان الخالد كتب على البرادي آثارها .
تجلس قبالته امرأة خلدها التاريخ .
أوسمة وذكريات عبقة ، تموج بين أروقة محفظة الزمن وأقاصيصه ..
جميلة ،
أخاذة ،
حَكايةَ .
وهي تداعب مخيلته ، تسرد له عن العذارى الفاتنات وهن يقضين نحبهن على يد الجلاد ،
وما شفعت لهن أبدا عذريتهن !
وقفت إجلالا أمام بهاء طلته ، وهي تقلب أوجه التاريخ؛ لعلها تجد في جريدة سيئاته ما يسيء له ،
سوى تلك الحكايا السالفات ،
عن فتيات ذبيحات !
بصوت متجبر أمرته:
انهض ، وعرف عن نفسك.. يا أنت ؟!
أجاب بجلد الملوك وكبريائهم :
أنا شهريار الملك ، صاحب دجلة والفرات
وبغداد ، وأقاصيص حكى عنها الدهر طويلا ، والعباد.
وأنت .. من أنت ؟!
جلجلت ضحكتها عاليا ، وهي تمد ساعدها أمامها، وبسبابتها تشير عليه :
أتظن أنك هنا لتسأل. أنت يا هذا هنا.. لتُسأل ؟!
أدار رأسه يتبين ما حوله ، تفحص الوجوه كثيرا . فما عرف أحدا .
أسقط من يده وظلال الاندهاش تملكته.
بانت على قسمات وجهه بعض من خيبة الأمل . استدرك قائلا:
هلا شرحت لي ما يحدث .. مليكة ؟!
استشاطت الملكة غضبا. احمرت وجنتاها وهي ترد ، ساخطة متسائلة:
ألا تعرف حقا شهريار.. ماجنيت ،
وبكل هاتيك العذارى.. مافعلت؟
قطعت الرؤوس ، والدم البريء سفكت ؛ فبأي عذر .. ستتعذر، وعن جريرتك..كيف ستكفر؟!!
بهت شهريار ،
ومد أصابع يده يفرك رأسه ؛ عله يتذكر.. والحيرة تغمر ملامحه.
أحست الملكة بما أصابه ، فانتابها شعور بالرقة نحوه.
أشارت له :
أن يتقدم ،
وعلى الكرسي المحاذي لها أن يجلس !
امتثل شهريار! ،
وعلى الكرسي الملاصق لكرسيها اتكأ ، واستراح .
وهنا..
علا صوت الديك ، وصاح
معلنا .. قد أزف الصباح .
استعاد شهريار وعيه.
وفي لحظة.
رجعت له.. ذاكرته!
مد يده ،
ونشر على الحاضرين سحره.
فامتثل الجميع .. لأمره.
أشار للحارس بكل حزم بسبابته
وبصوته الجهوري أطلق حكمه :
أيها السياف ..
آن قطع رأس هذه المرأة.. بسيفك!
تعليق