ولشهريار، حكاية أخرى!( اصدار جديد لعائده محمد نادر)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    ولشهريار، حكاية أخرى!( اصدار جديد لعائده محمد نادر)




    الممسوس!

    أي ريح صرصر عصفت اليوم ؟
    الشمس مبتورة الخيوط وشبح القادم ينسل خفية، يغطي وجهه غروب أصهب.
    لم أكد أعرفه ، لولا وشم أنزله على كفه في ليلة دهماء غاب عنها القمر، أريق فيها الكثير من دمه وحبرا صبه فوق الجرح ، يدمغ يده فيه، ويئن مبتلعا وجعه.
    لم تك ملامحه تشبه ذاك الشاب الجسور الذي ملأ حيطان الشارع برسومه وأنا صبي ألاحقه مثل ظله، مفتونا بما تخط أنامله العجائبية على الجدران لتلك الصبية التي عشقها ؛ فصارت داءه الذي ضرب أوتار فؤاده ، فأعطبها، ليوصم بالممسوس ، ويهجر البلدة بعد أن عصفت بجسمه ركلات الرجال وهراواتهم ، وهرس أحدهم بحنق يده اليمنى بقدمه.
    شقوق باب حجرته تتيح لي فسحة ضيقة ؛ كي أرقبه وهو يناجيها دامعا تنفلت منه الآهة حرى ، وهو يبثها لوعته وحرقة قلبه على غيابها وفرشاته كفراشة تنتقل بين الألوان ودمعه بسرعة عجيبة ، ترسم عينين كحيلتين وفما مكتنزا يكاد ينطق ؛ لتصيبني لوثته بفضول غريب ، لم أفهمه حد اللحظة .
    وتطاردني تينك العينان كأني أعرفهما !
    رنا إليّ كأنه مغيب حين اقتربت منه أحييه. عيناه المحمرتان كالجمر أرعدتاني ، وأنا أستشعر خيفة منهما . ثم أشاح وجهه عني متمتما بلهجة معاتبة:
    - أهذا أنت .. أبعد كل تلك ؟!
    لم تٌعنّي بسمتي البلهاء الحذرة ، وخانني صوتي متعثرا بحنجرتي ؛ فأطرقت رأسي خجلا.
    دس يده الموشومة بين كومة أوراقه ، ورمى بإحداها أمامي؛ لأجدني أمام صورة الفتاة ذي العينين الكحيلتين والفم المكتنز!
    زاحمتني الملامح ، تصارعت أمامي . وتكومت كل الصور في لحظة بهذا الوجه . الريح تتلاعب بالورقة ، وأنا أركض خلفها لاهثا ، يدفعني شغفي القديم : أن أعرف صاحبة الصورة .
    ذات صباح شقشقي العصافير.. كان يقف قرب شجرة التفاح المزهرة ، يحادثها ، يبثها عشقه الموسوم بالمس ، يغرف من جمرات الشوق ، ويعاتبها أنها تتأخر كل مرة عليه ؛ فيغلي دمه ، ليتفجر ينابيع من أوردته . يكشف لها عن رسغه الذي ينزف بدفق وشدة . تمتد يدها البيضاء الناصعة نحوه ، تجمع الدماء المنتفضة في كفها ، تذروها إلى السماء، تمسح كفه بكمها ، وتقبل الجرح . تهرب مذعورا.. أصرخ :
    - الممسوس قطع رسغه.. الممسوس شربها من دمه.
    تلقفتني أمي من أول الشارع ، وأقسمت أغلظ الإيمان : أن الممسوس لن يبقى بيننا بعد اليوم ؛ فقد بات خطرا على الأبناء.
    توسلتها أن لا تفعل ؛ لأنه مسكين ، لم يؤذ أحدا غير رسغه . لكن إصرار أمي كان أقوى. وحيرة عينيها وهي تبحث في أرجاء المنزل ، تفتح بابا ، وتغلق آخر، لتعود ، وتلطمني صافعة وجهي .. أخرستني.
    رسمها ذاك اليوم على جدران المدرسة فمًا وعينين ، وشجرة تفاح مزهرة ، تغفو مبتسمة قرب الساقية ، وقمرا ثلجيا، يتراقص دوائر مهتزة قربها.
    نسجت الحكايات عنه، وعن مس الشيطان الذي تلبسه؛ فأغلقت أبواب الدور على بناتها.. والممسوس يرسمها بغلالة شفافة ، تظهر جسدها الضبابي ، متوهجا بالنور المتسرب من مسامات القماش ، وألبسها النجوم تيجانا فضية ؛ كأنها شعاع يبهر العيون .. وعلق اللوحة على غصن شجرة التفاح الموردة !
    تبعت أبي ليلتها .. والرجال معه ، محملين بوقود الغضب الجحيمي ، تقدح العيون شررا يتطاير ، ومشاعل النار تضيء وجهه القانع، وهم يواجهونه: أنه لطخ سمعة الفتيات !
    تمتم بيتم راكعا :
    - ليس بيدي عشقي لها يدفعني .. زوجوني إياها.
    انهالت الأيدي ، تصب جام الجحيم عليه، تمزق الجسد والرسوم. وهو يحتضن إحداها فوق صدره، يحميها منهم ، غير عابيء بسواها ، حتى أغمى عليه . فغادروه وورقة مكتوبة بدمه ، ألصقوها على الجدار مواجهته : غادر وإلا ....!
    لم أتزحزح من مخبأي ، أتابعه بشغف محموم .. وهو يزحف واللوحة بيده ، يصب فوق كفه المهروس حبرا.. يدمغها.
    بعدها.. لم يره أحد ؛ حتى اليوم .
    لم تعرف البلدة سره وصاحبة العينين والفم . وأجنحة الريح مازالت تدفع بالرسمة أمامي .. تطير وتحط. وقلبي يكاد ينخلع خوفا من رذاذ المطر المنهمر؛ أن يمحو الأثر.
    دفعت جسمي بأقصى ما أستطيع ؛ كي ألتقطها . وأكتشف الوجه الذي طال زمن سره.
    غيرت الريح وجهتها ، دفعت بالصورة نحوي ؛ لتطعنني ألف سكين عمياء .. وصورة أختي التي أغمضت عينيها منذ سنين . تتشبث يدها البيضاء المتخشبة.. فرشاة بلون الزهر تحت شجرة التفاح ، قبل أن تثمر!



















    أكره ربيع

    فاجأني ربيع ؛ حين كنت ساهمة بملامح وجهه
    يرمقني عميقا .
    أحسست بالجليد يقتحم جسدي ، ارتعشت مذعورة . وعيناه الثاقبتان تخترقان قفصي الصدري المحموم كتنور مسجور . وأنا أتفحص تلك القسمات الحادة، التي .......!
    كم كان عمري حين أنجبته خالتي .. خمسة سنين؟
    غضة طرية كورقة زهرة ، لم تتفتح أوردتها بعد .
    أذكر أني كنت في المرحلة التمهيدية .
    لا ..
    ربما الأولى .
    حقيقة لا أدري !
    زهري الجلد ناعما يقولب عينيه ، جلد ثخين ومتهطل كجرو صغير. أدهشني مرآه . ولسانه ما فتئ يتلولب خارج شفتيه، كأفعى صغيرة تتلوى !
    أكره الأفاعي ، حد العمى .
    أكرهها .
    ابتسمت رغما عني ، وأنا أتذكر أولى لحظات ولوجه عالمنا المجنون. يصرخ وجهه العابس المنتفخ كبالونة صغيرة . نلتف حوله جميعا، كمهرجين نفتعل الحركات والأصوات ؛ عساه يصمت!
    ليته يفعلها، ويخرس إلى الأبد!
    كم كرهته
    بغضت صوته المجلجل . والكل يسرع لتلبية طلباته .
    حقدت عليه .. وهو يستحوذ على اهتمام الجميع
    وحب خالتي له الذي جعلني في دائرة الظلمة.
    ألقمه زجاجة الرضاعة، أدفعها لفمه الممطوط دفعا . يغص فيها أحيانا، يتقيأ جوفه لبنا متخثرا .
    ضحكت بصوتي المبحوح العالي .. وأنا لم أزل أنظر له متفحصة .
    صدمتني نظراته التي اخترقت وريقات عمري المطوية بلمحة، وهي تلتقي بنظرة عيني ؛ كأنه أحس بما يعتمل داخلي .
    فارتبكت محتارة ، ربما احمر وجهي .
    شعور من هذيان انتابني ، أضناني سنين طويلة .
    سألت نفسي ألومها :
    هل فضحتني ملامحي الساذجة .. حد البلاهة!؟
    ويحي .. هل أنا حمقاء ؟!
    استطاع رجل بكل سهولة، أن يفك طلاسمها المخبأة بين الأفئدة!؟
    كيف سأواجهه، وأواجه خالتي التي احتضنتني منذ صغري ، بعد الفجيعة التي أصابتني بفقدان والدي وأختي الأصغر؟
    بمَ سأبرر موقفي لهذه المرأة التي أخذت بيدي يوما بعد آخر، حتى أصبحت تلك الفتاة التي يشير الجميع أنها الابنة المثالية ؟
    هاهي صورتي المعلقة على جدران الصالة، تحدجني بقرف .. وأنا أبتسم لخالتي وزوجها بكل حب يوم تخرجي ، وبحماسة تحكي للجميع عن ذكائي وكفاحي المستميت ، أن أكون المتميزة.. تسفعني بسياط محفوفة بالغموض!
    مسكينة خالتي .. يالها من امرأة مخدوعة!
    لم تدر أني في يوم غافلت الزمن ، وتركت ربيع حين كان بعمر زهرة ندية تحت صنبور الماء في حديقة الدار، يشهق بأنفاسه . وحين باغتني وجودها، حملته من بين براثن الموت مرتعشة، أرفعه بين يدي عاليا
    فأصبحت البطلة بنظرها، ونظر زوجها، والآخرين.
    غفوت أنشج متحسرة ، تلك الليلة الغبراء على ما فعلته، نادمة على غفلتي المقصودة.
    حاصرتني نظرات ربيع، وأنا أدير وجهي عنه، لعلني أتفادى رماحا أدمتني أعواما، بعدد سنين عمري وعمره.
    تقدم نحوي بخطى ثابتة، يخترق جموع المهنئين بخطبة أخته، يرد عليهم بكلمات مقتضبة، يقتلع الابتسامة من بين أسنانه اقتلاعا ، ومقلتاه المحمرتان أرعبتاني حد الشعور بالتلاشي.
    صار قاب قوسين أو أدنى ؛ كأن المكان خلا .. إلا مني ومنه!
    حدسي ينبئني أنه ينوي شيئا ، يريد انتزاع اعتراف مني ، ينوي تعريتي بحقائق دامغة ..لا أقوى عليها .
    صورة واضحة لسر دفين، لا أستطيع البوح فيه!
    هربت ملتحفة برؤوس الحاضرين، أتخفى بينها ، أحشرني كلص مبتدئ أهوج ، أدفن رأسي كنعامة مرة، وكنورسة مبللة أخرى يغرقها المطر بمد بحري لا حدود له، أبتعد عن مرماه ، مازلت أحسه قربي ،
    يلاصقني ، يتغلغل مساماتي .
    بل أكاد أجزم أني سمعت طرق طبول نبضات فؤاده، تلامس رجفات قلبي المشنوق هلعا !
    خذلتني أنفاسي، وأطاح الدوار بجسمي ليتهاوى سحيقا.
    امتدت يده ، انتشلتني قبل أن أحط مرتطمة ، دافئة وحنونة كانت .
    عيناه النديتان تترقرقان بالدمع، حين احتواني بين ساعديه .
    يهمس بما يشبه الأنين، يزفر الأنفاس حروفا مجمرة فوق رقبتي:
    - أيتها المجنونة أعشقك حد الثمالة، فلا تتهربي من حبي

    .............................














    نافذتي والليل

    نافذتي والليل وتراتيل أمي ، وحكاية لجدتي روتها لنا ألف مرة ، ونحن صغار . نجتمع حول نار المدفأة ، بليالي الشتاء الباردة ، فاغري الأفواه مشدوهين نستمع لقصة الفارس الشجاع الذي عشقته رغما عني ، مذ سمعتها تحكي لنا قصته.
    أتخيل نفسي تلك الحبيبة التي يعشقها . وضفائري مازالت جدتي تضفرها بيديها المرتعشتين ، وهو يمتطي صهوة جواده الأرقط ، يجوب البراري والوديان - سنين طويلة - ، يبحث عن خاطفي حبيبته ، يأخذ بثأرها ، ويحصد بجرأة وجسارة رؤوسهم بسيفه.
    هالني منظر الرؤوس المقطوعة . أتخيلها تتطاير عن أجسادها ، تطير عاليا ، ثم تتدحرج على الأرض . اعترتني قشعريرة من دماء قانية ، تنتفض من أوردتها .. فوق الرقاب . أجساد تمشي بلا رؤوس - بضع خطوات - قبل الرجفة الأخيرة.
    تركت الورقة والقلم بغضاضة ، وشاغلت نفسي ، أرقب تراقص نيران شمعتي ترسم على الجدار ظلالا مشوهة لجسمي. شمعتي التي أوقدتها منذ غياب السلم ، وآخر وهج تلألأ بغرفتي ، بعد انقطاع النور؛ لتغرق المدن بظلام دامس إلا من أضواء شحيحة ، تجود بها فوانيس شاحبة وشموع ، تطل بنورها الخجل من بين شرفات ونوافذ المنازل.. الغارقة بالعتمة.
    لم أدر من أين أتاني الشعور بالأمل ؟ يناغيني .. بالرغم من الحرب وضراوتها، أن فارس قصة جدتي سيأتي يوما، حاملا حبه وأشواقه وتوقا لم يفتر، سرعان ما يطفئ مجيئه صقيع الخوف والظنون التي رافقتني مذ غاب الأمان.. يوم دُكت حصون قلعة مدينتي ؛ لتنعق أسراب الغربان بسمائها وتغفو جدتي - ذات يوم شديد الريح - غفوتها الطويلة ، ولم تستيقظ. تحتضن عيناها وجع غزوة كونية ، أخرست قلبها ، وحصدت من روحها ذاك العنفوان والإباء الذي كانت تحكيه بحماسة لنا.. عن الفوارس والشجعان .يغزو وجهها وجع غريب ، ودمعة مكابرة أبت أن تنزل ، تحجرت بمقلتيها ، حتى واريناها التراب.
    الصباح لم يكن يحمل معه سوى روتين . اعتدته غير عابئة بأصوات قصف الصواريخ. أستمع- بشجن- من جاراتي ، أخبار العائدين من الجحيم الذي تقذفه شياطين تطير بأجنحة سوداء، يحملون معهم حكايات مهولة ، تشبه حكايات جدتي الخيالية.. و يسردون قصصا مرعبة ، عن أيام قضوها في العراء، يأكلون من حشاش الأرض ، ويختبئون- بسذاجة- من الشياطين السود ، يكومون أجسادهم -فوق بعضها- بخنادق تشبه القبور، حفروها بأيديهم ، حين تُفتح بوابات الجحيم عليهم بحاويات تقذف الحمم التي تصهر الأجساد بلهيبها ؛ لتبقى الملابس بلا مرتديها ، يسيل بين شقوقها قطع اللحم والعظم المنصهرة ، ويتسرب عصير الدماغ من الأذنين سائلا أصفر داكنا ولزجا !
    شمس آذار الفتية المتشحة بلون الدم -عند الغروب- لاح لي من بعيد - وأنا أنظر من خلف زجاج نافذة المطبخ- رجلٌ بملابس عسكرية ، يتوكأ على خشبة، يتعكز عليها. كان منظره محزنا . والتراب يغطيه ؛ وكأنه خرج من قبره لتوه .يجر رجليه جرا ، ويتمايل جسده كأنه سيغمى عليه.
    اقترب أكثر. بانت ملامحه المفعمة بأسراب الغم والخذلان . دماء لم تزل ندية تغص فيها ملابسه.
    يمعن النظر بين واجهات البيوت - بدهشة وذهول - ، يدير رأسه خلفه كلما أحس بأنه أخطأ الطريق ، فيقف هنيهة ، يمسح عينيه بيده التي اختلط فيها الدم بالتراب.. فغدا لونها طينيا محمرا . ويعيد الكرة بتصفح واجهات البيوت ..وهي تزخر بثقوب شظايا الصواريخ ، فهدمت أسوار، وفتحت ثغرات كبيرة بعدة بيوتٍ ، وطوحت ببيتين على ساكنيهما ، فأصبحا ركاما. تظهر بعض آثار قطع أثاث و ملابس من كانوا يسكنوهما.
    بدا اليأس عليه وذهول وحشي ، فتهالك ، افترش الأرض ، ثم أجهش ببكاء مرير ويائس.
    بكيت بحرقة لبكائه.. على رجال وطني ، الذين أحرقتهم مرة نيران يصبها المحتل عليهم ، وأخرى وهم يحترقون لفراق الأهل والأحبة ، حين أبادتهم أسلحة عمياء لا تعرف الرحمة.
    ابتلعني الغمُ ، فناديت بجزع أخي جعفر.. أن يُغيث الشاب.
    هرع إليه ، أعانه على النهوض. لكنه سرعان ما سقط مغشيا عليه ؛ حين أيقن إنه لم يخطئ الشارع ، و بيت أهله أحد البيوت التي دكت.
    غمرني الزهو .. وأنا أراقب أخي يحمل الشاب ، كأنه يحمل طفلا صغيرا ، بالرغم من جرحه الكبير الذي أصاب خاصرته بآخر معركة - دارت رحاها على الحدود الجنوبية للعاصمة العتيقة- ؛ ليعود بعدها مخضبا بدمه ، مليئا بالأسرار والقهر. الوطن لم يصمد طويلا ، تحت دك القنابل والصواريخ التي انهمرت عليه، وتكنولوجيا الألفية الثالثة تفوقت على شجاعة رجالها الفوارس.
    يخرسني حين أسأله عما حدث:
    - صه زبيدة .. لا تسأليني قط.
    فأصمت حيرى ملتاعة . و عيناي تسألانه :
    - أما آن الأوان أن تشي لي بالسر أخي!؟
    أسند أخي الشاب على الأريكة. شرعت في مسح وجهه بمنشفة مبللة .
    أشعل جعفر فتيل فانوس آخر؛ فالليل أضحى حالك الظلمة.
    وضعه على الطاولة القريبة .
    شهقت شهقة حاولت أن أخفيها؛ حين أضاء النور وجه الشاب .. وبانت ملامحه ، بسحنته السمراء.
    حملقت بوجهه .
    انتبه الشاب لي ، بادلني نظرة متسائلة!
    عيناه اللتان غمرهما الحزن تتفرسان وجهي – بتعجب- كأنه يعرفني .
    هلت الفرحة تغمر قلبي . وأنا أسمعه يجيب أخي بصوت رخيم ، حين سأله عن اسمه:
    - أنا فارس.
    تهالكت على المقعد القريب مني ،
    وضعت يدي على صدري ، أحمي قلبي لئلا يطفر من بين أضلعي.
    همست لجدتي ، أسرها سري:
    - إيه جدتي.. لقد التقيت اليوم بفارس قصتك.






    رياح الخوف


    الريح تعصف بقوة ، تضرب كل ما يقف أمامها، تقتلع بطريقها أشجارا يافعة، لم تضرب جذورها الناعمة بعمق في الأرض ، فتطير معها أعشاش العصافير الصغيرة . والحمائم تحوم حول المكان ، تبحث عن صغارها، تهدل بهديل مفعم بالوجع والحزن، كأنها تبكيها ؛ وربما تطمئنها أنها مازالت قريبة منها.. لتحميها.
    أوجع قلبي منظر الأفراخ الصغيرة ، وأنا أتخيلها ، والريح تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال ، لكني لم أقو على الخروج إلى الحديقة لألتقطها.
    كان الخوف يتربص هناك جاثما خلف سياج داري ، ينتظر الفرصة حين تسنح له!
    تابعته بعينين أذبلهما البكاء وأتعبهما السهر، وهو يقبع في الظلمة يتربص بيَّ، يرمقني بنظرات حمراء بلون الدم، تومض بوميض ناري ؛ كلما أبرقت السماء وأرعدت.
    أجفلت .. حين صفقت الريح بابا لم يكن موصدا ،
    استشعرت رهبة افترشت مساحات جسدي بقشعريرة، أخفقت وأنا أحاول جاهدة أن أتجاهلها.. وصورة الخوف تقف بصلفٍ أمامي، تضحك مني بوحشية مفجعةٍ !
    صفعتني صورتي . وأنا أراها بالمرآة تهتز . والخوف مازال يضحك مني ، ويهزأ بيّ.
    غطيت وجهي كي لا أرى ملامح لست أعرفها.. وهديل الحمائم يدوي في رأسي ، يأبى مفارقتي .
    هربت مني إلى غرفتي !
    صارت الريح أشد وأعتى قوة .. تهز زجاج النوافذ والأبواب تئن صريرا ، أرغمني أن أدير رأسي ، أتلفت حولي ؛ كمن أصيب بمس من الجنون.
    تركت المكان وهرعت إلى النافذة، أنظر منها إلى السماء التي تلبدت بغيوم سوداء كثيفة .. ترسم وحوشا ورموزا مخيفة، وهي تجري بسرعة الريح خلف بعضها ، تلتهم بعضها بشراهة وقسوة عجيبة ؛ فتكبر وتكبر، والريح العاصفة تدفع بها ؛ لتصطدم بينها ، فتبرق السماء وترعد .
    وضعت يدًّي الواهنة على أذنيّ َكي لا أسمع ، وأغمضت عيني ببلادةٍ كي لا أرى ، وحين فتحتهما ،
    رأيت الخوف القابع خلف سياج الدار يتجه نحوي ،
    يقترب مني
    يلاصق ظلي الذي انعكس من ضياء الفانوس خلفي.
    أردت أن أصرخ بعلو صوتي
    فتحت فمي على سعته، فلم يخرج منه سوى حشرجة مبحوحة .
    اختنقت حنجرتي بصرخاتي المكتومة .
    أخرسني خوفي وأنا أراه أمامي ، يواجهني
    ذاتي تجلد ذاتي بسياط حقيقة مرة.. إنني خائفة.
    أحسست بالذل والمهانة تملأ نفسي التي أنكرتها ؛ لأنها ليست أنا.. وأنا أختبئ خلف الكرسي ، أرتعد هلعا. استباحني شعور بالقهر ، ورغبة كبيرة بأن أتقيأ ؛ لأستفرغ جوفي ، وأخرج ما فيه.
    رشقت وجهي مرارا وتكرارا بالماء ؛ كي أستعيد رشدي الذي فقدته.. توجهت إلى غرفتي بعد أن تمالكت نفسي وعاد ليّ ثباتي .
    حاولت أن أغفو .. وأنا أرمق سقف الغرفة بنظرات زائغة .
    للحظةٍ ..
    هيىء لي ، أني سمعت صوت دبيب أقدام تمشي في حذر؛ رغم شدة صفير الريح المخيف . لكن خوفي يحفز سمعي وحواسي .
    استنكرت على نفسي إحساسها السابق .
    تجلدت هذه المرة ،
    مددت يدي داخل الدرج القريب من رأسي ، وسحبت بخفة منه مسدسي الذي اقتنيته مذ اقتحم الخوف بلدي ؛ لتعصف فيه الرياح الهوجاء ، وتتلبد سماؤه بالغيوم الداكنةِ ؛ فهو يشعرني بالأمان لو حدث ما كنت أخشاه.
    ارتعشت يدي وأنا أرفع حافة الستارة قليلا ؛ لأرى .
    أبرقت السماء لحظتها ؛ ليظهر ظل خوفي جليا هذه المرة ، يقبع بسكون مستترا في الظلمة خلف نافذة غرفة نومي ، يجلس القرفصاء كوحش آدمي !
    ازدادت رعشة يدي ، ولحق بها جسدي، تلاحقت أنفاسي ، يعلو بها ، ويهبط صدري.. لكني لم أفقد ثباتي.
    صوبت فوهة المسدس من خلف زجاج النافذة ، وضغطت على الزناد.
    دوى صوت الإطلاق قويا مرعدا . والسماء مازالت تبرق ، والريح تهدر وتزمجر!
    خيل لي ..
    أني سمعت صوت توجعٍ ٍ ، يصدر من ظل خوفي
    ثم سكت!
    قبعت في مكاني أتنصت، وأنا أرتعد حتى انبلج الصبح، فشعرت بالأمان والطمأنينة، وصوت العصافير عادت تزقزق.. بعد أن هدأت الريح قليلا.
    بحذر
    توجهت صوب الحديقة ، ومسدسي مازال بيدي .
    كان منظر ضياء الصبح جميلا وآمناً .
    هكذا أحسسته ، وأنا أرفع رأسي نحو السماء .
    ابتسمت بتهكم من نفسي ، وأنا أتذكر خوفي العارم من خوفي بالأمس، وإطلاقي النار عليه !
    أجلت نظري في حديقتي التي عمها الخراب . الريح العاصفة اقتلعت الكثير من زهوري الجميلة التي غرستها بيدي، فهمست لنفسي بلوعة وقهرٍ، ودموعي تترقرق بمقلتي :
    - لا بأس ، غدا سأزرع غيرها.
    مشيت بضع خطوات بالحديقة، أبحث عن أفراخ الحمائم ، علني أجدها .
    تجمدت في مكاني .. اتسعت عيناي على سعتيهما، وأنا أرى قرب نافذة غرفة نومي جسدا بشريا مكوما ، يتشح بالسواد ، مقنع الرأس. تقبع بجانبه رشاشته ، وبركة داكنة تحيط برأسه !








    ولشهريار..حكاية أخرى!

    جلست على مقعدها الوثير ، وهي تعاين حاشيته الكثيرة بعينين ثاقبتين.
    أجالت النظر بين مرافقيها ، تترقبهم !
    طرقعت أصابعها ، أمرت حاشيتها .
    وبالآتي أن تأتيها !

    جاءها الحُجْابِ برجل ، لم يكن يظهر منه سوى أصابع قدميه ، ويديه المقيدتين بسلاسل ثقيلة!
    أشارت إليهم :
    أن ارفعوا النقاب عنه!
    بان للعباد.
    فاتنا ،
    ساحرا ،
    يخلب الألباب .
    رجلا.. يعرف التاريخ عنه الكثير
    من ملامح وجهه ،
    وآثار نُحتت على ضفاف دجلة ، وهو يتسورها ، ونيسان الخالد كتب على البرادي آثارها .
    تجلس قبالته امرأة خلدها التاريخ .
    أوسمة وذكريات عبقة ، تموج بين أروقة محفظة الزمن وأقاصيصه ..
    جميلة ،
    أخاذة ،
    حَكايةَ .
    وهي تداعب مخيلته ، تسرد له عن العذارى الفاتنات وهن يقضين نحبهن على يد الجلاد ،
    وما شفعت لهن أبدا عذريتهن !
    وقفت إجلالا أمام بهاء طلته ، وهي تقلب أوجه التاريخ؛ لعلها تجد في جريدة سيئاته ما يسيء له ،
    سوى تلك الحكايا السالفات ،
    عن فتيات ذبيحات !
    بصوت متجبر أمرته:
    انهض ، وعرف عن نفسك.. يا أنت ؟!
    أجاب بجلد الملوك وكبريائهم :
    أنا شهريار الملك ، صاحب دجلة والفرات
    وبغداد ، وأقاصيص حكى عنها الدهر طويلا ، والعباد.
    وأنت .. من أنت ؟!
    جلجلت ضحكتها عاليا ، وهي تمد ساعدها أمامها، وبسبابتها تشير عليه :
    أتظن أنك هنا لتسأل. أنت يا هذا هنا.. لتُسأل ؟!
    أدار رأسه يتبين ما حوله ، تفحص الوجوه كثيرا . فما عرف أحدا .
    أسقط من يده وظلال الاندهاش تملكته.
    بانت على قسمات وجهه بعض من خيبة الأمل . استدرك قائلا:
    هلا شرحت لي ما يحدث .. مليكة ؟!
    استشاطت الملكة غضبا. احمرت وجنتاها وهي ترد ، ساخطة متسائلة:
    ألا تعرف حقا شهريار.. ماجنيت ،
    وبكل هاتيك العذارى.. مافعلت؟
    قطعت الرؤوس ، والدم البريء سفكت ؛ فبأي عذر .. ستتعذر، وعن جريرتك..كيف ستكفر؟!!
    بهت شهريار ،
    ومد أصابع يده يفرك رأسه ؛ عله يتذكر.. والحيرة تغمر ملامحه.
    أحست الملكة بما أصابه ، فانتابها شعور بالرقة نحوه.

    أشارت له :
    أن يتقدم ،
    وعلى الكرسي المحاذي لها أن يجلس !
    امتثل شهريار! ،
    وعلى الكرسي الملاصق لكرسيها اتكأ ، واستراح .
    وهنا..
    علا صوت الديك ، وصاح
    معلنا .. قد أزف الصباح .
    استعاد شهريار وعيه.
    وفي لحظة.
    رجعت له.. ذاكرته!
    مد يده ،
    ونشر على الحاضرين سحره.
    فامتثل الجميع .. لأمره.
    أشار للحارس بكل حزم بسبابته
    وبصوته الجهوري أطلق حكمه :
    أيها السياف ..
    آن قطع رأس هذه المرأة.. بسيفك!












    التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 18-07-2013, 11:28.
    sigpic
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    عاشقين ( أسطورة )

    حكايات ملتهبة نسبت إليها ، كتبت عنها
    أساطير .. تداولها الأبناء عن آبائهم.
    قالوا:
    طاغية
    تسطر تاريخ العشق بأحرف من جمر .
    منحوتة من نور ونار
    وحمم تصطلي الأرواح فيها
    فحذار.. حذار منها !
    فاتنة
    فتاكة ،
    ترمي بسهام سحرها
    فتغوي الرجال بفتنتها وبهاء طلتها. يهيمون فيها ، يشرئبون بأعناقهم نحوها ، وقلوبهم واجفة خوفا عليها.. لكنهم لا يشتكون منها!
    ولم تنج حتى النساء من غوايتها .
    ضحاياها شجعان
    بواسل
    جسورون
    لا يهابون الخطوب. لكنها قاتلتهم
    وهم لا يفتئون يغرمون بها، ويزدادون حبا لها ؛ كلما ازدادت نأيا عنهم.
    يعودون مثخنين بالجراح ، مثقلين بسلاسل تقيّدهم ، ينقشون على الجدران تاريخ مرور الأسطورة من شوارعهم .
    تنقش في مفكرتها أسماءهم .. متباهية بأعدادهم!
    تتماوج بغنج ودلال.. من بعيد ، تخطف الأنفاس بعبق عطرها ، تسحر الأفئدة ، وتستحوذ على عقول أفذاذ الرجال .. وأشدهم ذكاء.
    وللساعة.. لم ينالوها.
    وهي كالحقيقة العارية ، تتماثل أمامهم
    كالشمس ، تغريهم بنور حسنها ، تستعذب عذاباتهم . وهم يصطلون هياما فيها ، والرغبة الجامحة تتوهج في المقل ؛ فيرسمونها
    شمسا
    قمرا
    وآخرون
    تطير الخيالات بعقولهم ؛ فيرسمونها
    عارية .. كما هي !
    أفئدة رائينها وقد صارت قريبة منهم ، تزيدهم تحرقا لنيلها. لكنها عصية عليهم؛ تتسرب مثل الرمال من بين أكفهم ، ليزدادوا تشبثا، وتعلقا فيها.
    ومرة ..
    تجمع كل عشاقها . ومُعذبيها
    اتفقوا عليها
    أن ينالوها
    كانت قريبة منهم ، ودنت أكثر.
    صارت بمتناول أيديهم ، أحسوا بها، رأوها بعيون تصطلي برغبة محمومة .. تسري في أبدانهم ، تشعلها.
    وصار الرجال والنساء وقودا
    يحترقون بنار حبها .. الذي سكن أرواحهم ؛ فباتوا معذبين. يطحنهم صخر الأسى لكنها أفلتت منهم،
    تبخرت من أمام أعينهم.
    بين ليلة وضحاها !
    اضطرمت أرواحهم بلهيب نيران إفلاتها واستتارها فصار الشوق إليها يستعر فيهم . لا ينامون
    والليل يجمعهم !
    يتهامسون
    يشكون منها الهوى لبعضهم
    يكتبون القصائد عشقا أبديا، يناغونها في صحائف تحترق رغبة ولهفة إليها.. للإمساك فيها واحتضانها، وأبياتهم الشعرية الملتهبة.. يخطونها بحروف نارية من الوجد ، وأخرى متلظية بجمر النوى.. يواسي بعضهم بعضا
    يأملون أن يأتي اليوم الذي ستكون فيه الفاتنة بين أيديهم!
    صاح الكثير منهم بصوت واحد مأسورين. وغضبة في العيون ، يستعر أوارها :
    - سننالها.. ستكون يوما بين أيدينا ، وستكون لنا معها ليلة ليلاء ، وسنتقاسمها معا.
    وفي ليلة باردة ظلماء ، تساقطت فيها الثلوج غزيرة، تتدثر بالأجساد الملتاعة، فتنصهر، تنهمر على الصدور الفائرة.
    تربصوا لها .
    نشبت بين الرجال معركة ضارية.. حامية الوطيس . كانت كأمواج البحر العاتية متلاطمة.
    غارقون حتى الأذقان في عشقها ، وكارهون لها
    يتقاذفون التهم بينهم .
    هذا يريدها
    وذاك لاعنا إياها!
    الثلوج البيضاء اكتست لون الدماء .
    وما من عقلاء .. في حرب بين الحب والبغضاء ، ما من وسيط.
    كثيرة هي الأجساد التي سقطت. وجماجم تهشمت. الدماء اختلطت.
    وهي ما تزال تتماوج بفتنتها.. بقلبها الغض ، تتوارى عنهم مرة ،
    وأخرى تدنو منتشية بينهم .
    ومازال عشاقها يقاتلون من أجل نيلها.



    اليوم السابع


    تذكرني أمي دائما ، أني ابنة السابع من كل شيء .
    متعجلة حتى ..
    في لحظة ولادتي!
    وأني أخرجت رأسي للحياة ، معاندة كل القوانين ، أتحداها في الشهر السابع, من الحمل .
    في اليوم السابع من الأسبوع ،
    الساعة السابعة صباحا ،
    في الشهر السابع من السنة!
    عقدة لازمتني ، أخذت مني الكثير من بهجة حياتي . هذي سبعة جروح غائرات ، تفرقت على أنحاء جسمي ، وتمحورت على ساقي ، جعلتني أخجل من ارتداء التنورة ؛ لأن بهما الكثير من الندوب..
    تفاقم حنقي أكثر ، حين أدرجت السابعة على صفي .
    من بين العشرة الأوائل
    في الصف السابع تحديدا .
    وجل المحيطين بي يتوقعون نجاحاتي الساحقة . في انطلاقاتي
    عدت للبيت مزمجرة, أسألها:
    - لم تركتني أنفلت منك قبل أن أنضج؟ لم تركتني ، والأهواء تركبني؟ ألم يكن لك أن تتأني بولادتي ، أن تتنشقي الهواء وتزفريه كي أبقى محتجزة هناك ، حتى اليوم الثامن .. مثلا؟!
    تنوء بحزنها عني قليلا . كأن الذكريات تأخذها . تنفلت من فمها آهة تسحقني ؛
    لأركع بين يديها بعد ذاك ، أقبلها ، أستميحهاعذرا : أني تهورت .
    فتعود لقولتها:
    - أنت ابنة السبعة ، وهذا قدرك .. أن تكوني كذلك.
    صرت أخاف الرقم سبعة ،
    أحسه كلعنة تطاردني ،
    تطيح بأحلامي الوردية .
    رقم أدري من اخترعه ، ولست أعي ، كيف؟
    ربما كي يرعبني فقط ، ويسلب مني سكينتي ،
    وربما صنعتها أقداري المخطوطة على جبهتي . كتبها الله كشاهدة على لوح جبيني.
    حقيقة ..
    لا أدري !
    طارت بي الرهبات منفلتة ، حتى أني صرت أذيع الأحداث بعد ذاك اليوم ، متجاوزة هذا الرقم ، أبغي محوه من مفكرتي ؛ كي أجتاز عتبة إخفاقاتي وتعجلي.
    أخبيء علامة ( + a) في الأسبوع الأخير من الشهر، وكما اعتدت ؛ لأعلن النتيجة في اليوم التالي من الأسبوع القادم لأهلي .
    تبتسم أمي ابتسامة مازالت ترجفني رهبة ؛ كأنها تعرف سري!
    ألوذ بعدها بأحضانها ، أتدثر ، أنشد الدفء .. وأنا أرتجف خيفة ، أتوسلها أن تقيني من نفسي!
    حتى جاء يوم زفافي على حبيبي الذي اخترته دون كل الشبان .
    شاب ميسور وذكي ،
    بل وسيم أيضا ، فيه ومضة الشباب ، وحيوية ربيعه !
    أجبرت أهلي على القبول به ،
    حين أطحت لهم بورقة زواجي منه ، من فوق سور الدار ، بعد أن رفضوه.
    خاصة أمي
    تعذبني أمزجته المتقلبة وثوراته التي ما اعتدت عليها. فمرة
    سلس كخرير المياه ، وأخرى صاخب معربد ، وتالية ضعيف يتوسلني أن ألتمس العذر له؛ لأنه مازال غرّا ، وأنه سيتعلم الدرس.
    لكنه لم يفتأ يمارس لعبة الغضب الأبدي على كل الأوضاع، ويحتج ، يلومني حتى ونحن في أشد اللحظات حميمية ، يختلق الأعذار والمسببات.
    صرت أنكأ جروحي وآثارها التي حفرت بملامحي أخاديد لن تمحى .. متمعنة بتعذيب ذاتي .
    لم أعد أطيق الحياة معه ،
    استنفذت كل طاقاتي ،
    وضاقت بي السبل .
    وهو لاه عني بكل احتفالاته ، يتشدق أحيانا : أنه تزوج بفتاة طاوعته عشقا ،
    فتركت أهلها من أجله !
    وكثيرا ما كان ينساني
    كوجود آدمي
    يستذكر نصره فقط
    ويتجاهلني .
    فاضـت أوجاعي ، وطفح كيلي .
    طلبت الانفكاك منه ؛ لأني ما عاد بي صبر أتصبر فيه على نزواته وأهوائها المتباينة ، ونحن نواجه أكبر أزماتنا .. وأحلكها.
    كانت أروقة المحكمة محتشدة بأنواع وأجناس من البشر. تتوافد عليها. والهم طاغ على كل الوجوه ، تتفرد بها سمة الحيث والاضطهاد, دون أسماء.
    تتشابه الوجوه المتعبة, حد القهر من القهر.
    أدرجت صحيفة أوراقي وأرقامها حسب طلب القاضي أمام موظفة النفوس ، بطلب عن صورة القيد ؛ كي ينظر القضاء بقضيتنا .
    تبسمت الموظفة برقة صفراوية ،
    حين تصفحت وريقاتنا ،
    رمت لي الرد كلطمة تلقيتها على وجهي!
    أسماء الكثيرات معي ،
    في صحائفنا معا ..
    لأكتشف :
    أني, لست الوحيدة بقيد صفحته ،
    وأني الزوجة السابعة!





    عاجي

    ربيع نيسان .. نثر خضرته النضرة فوق الأرض الممتدة على مرمى البصر، وأزاهيره البرية نقشت ألوان قوس قزح الساحرة على طول السهل المترامي الأطراف، أعلن اشتعالَ الحياة و العصيان على بوابة الشتاء التي أوصدت مصراعيها بوجه الصقيع.. والبرد.
    جذبه منظر الطبيعة الخلاب، وتل رملي يتوسط البقعة، فأبرقت برأسه رغبة عارمة بأن يتوقف هنيهة؛ يمتع ناظريه بما خطت الخليقة من ألوان زاهية تنتفض بالحياة وزهوها، صف سيارته على جانب الطريق؛ ومشى نحو التل الرملي الكامن وسط السهل وكأنه معلم أثري.. شاخص!
    لم يكن التل يشبه المكان ،
    ولا ينتمي إليه ؛
    كأنه انبثق من العدم . فوقف الرجل مشدوها، يصارع أفكاره التي ما استطاعت اختزال المنظر. وعيناه المنبهرتان تسبحان في تنقل شديد بين التلة ورمالها، واخضرار الأرض حوله.. وانبساطها.
    تملكت منه الدهشة!
    فكيف يمكن لتل رملي مثل هذا أن ينبع وسط أرض خصبة.. مثل هذه ؟!
    أحس بخدر غريب يدغدغ جمجمته ، وثقل شديد يغرق جفنيه ويزيغ عينيه، فأغمضهما. وأشعة الشمس تضرب بنورها على حبات الرمل، فتبرق كأنها خرزات ماسية صغيرة مشعة ، تتغلغل في داخله .
    فجأة ..
    تحركت الرمال أمامه، وهو ينظر إليها بعينين شاخصتين، مشحونة بالتعجب، والرهبة!
    حين ارتفعت، انسابت حباتها الناعمة، تسربت إلى الأسفل كأنها نبع ماء يترقرق .
    تراجع خطوتين إلى الوراء تحسبا . تلبسته فوضى عارمة، لكن عينيْه مازالتا تتابعان الفجوة وانبثاقها ؛ لتتراءى له أصابع يد بشرية بلورية، تمتد من وسط الفجوة ، تدفع بنفسها إلى الأعلى!
    انكمش متصلبا ، لا يستطيع حراكا، مأخوذا
    بصعوبة حرك يديه .
    مسح وجهه كي يتأكد بأنه..لا يحلم.. وإن ما يراه أمامه حقيقة.
    ظهرت له ملامح الوجه البشري الناصع . امرأة ما رأت عيناه بنصاعة لون بشرتها.. ورقبتها العاجية الطويلة يطوقها عقد ذهبي ما عرف صائغا يصوغ مثله، ولا شبيهه.. يتوج شعرها الأسود الطويل الذي غطى جسدها تاج مرصع بأحجار ملونة، تعتليه ثلاث وردات ذهبية تتوسطها أحجار كريمة.. ما رأى رديفا لها.. جسدها الفارع يخرج من الفوهة، ويظهر أمامه ، يواجهه!
    طويلة . رفع رأسه عاليا كي يتمكن من رؤية وجهها ، فأجفل وهو يرى عينيها الكحيلتين تحدقان فيه، ترمقانه بنظرات مذهولة، كأنها ترى مخلوقا غريبا.
    أرعبته نظراتها ..
    تقهقر..
    حاول أن يهرب .
    امتدت يدها المزينة بسوار ملكي،
    أمسكته بقوة من يده ،
    سحبته إليها .
    وقف أمام جلالها.. فاغرا فاه .
    يقلب في رأسه أوراق التاريخ ، عله يعرف من هي، وقد اتسعت عيناه في محجريهما. برودة يدها تسري في بدنه . والصور تتلاحق في مخيلته..عمن تكون!
    فتحت فمها اللوزي فجاء . صوتها كأنه من هوة الماضي السحيق .. يخترق أذنيه . أصابته بنشوة . وشعور الرهبة مازال يلازمه.
    بلهجة الملوك سألته، وإصبع سبابتها موجه إليه، يتوسده خاتم ملكي، نقشت عليه حروف لم يستطع فك طلاسمها، ولا فهم حروفه الغريبة.. وكأنه ختم!
    - من أي قوم أنت يا رجل؟!
    بدا له صوته كأنه يخرج من جوفه . يتملكه شعور أنه مسحور، وأن شفتيه لم تتحركا:
    - أنا.. عربي
    ردت والغرابة تغزو ملامح وجهها :
    - أعرف أنك عربي.. ومن أين تظنني حسبتك؟!
    أجابها وابتسامة باهتة تعلو فمه :
    - حسبتك تظنين أني .. غير ذلك!
    عقدت مابين حاجبيها ، سألته:
    - وهل هناك غيرهم؟!
    تحسر طويلا قبل أن يجيبها ، وقد زال البعض من رهبة روحه ، ويدها لما تزل تمسك يده :
    - أجل هناك غيرنا الكثير.. و...
    شق عنان السماء صوت طائرة حربية ، اخترقت حاجز الصوت ، استخفت بما حولها متباهية، مزق الأفق أزيزها.. على الإسفلت، هدرت جنازير دبابة أميركية، تحتل الطريق ، وتهرس ما أمامها.
    اختلطت الأصوات .
    ضاع صوته . وامرأة الرمل تنظر إلى السماء مرة ، وصوب الدبابة أخرى . يتطاير الشرر من عينيها. أفلتت يده، ثم عادت وتشبثت فيها، وهي تتلفت في حيرة حولها، يتلبسها خوف اجتاح مقلتيها ..!
    أمسكت وجهه بيديها، تفحصته، ثم أفلتته ، وأطلقت صيحة غاضبة.
    زمجرت السماء على أثرها، أرعدت ببريق نهض من قوة خفية .والغيوم الكثيفة غطت السماء بعباءة أرجوانية، أعتمت الدنيا. والبرق يضرب بشدة على إسفلت الشارع فيفور، والنيران اشتعلت في السماء لتهويَ الطائرة، تصطدم بالأرض محدثة دويا رهيبا، وجسم الدبابة يغطس إلى أسفل !
    أجفل الرجل ، هز رأسه مرارا، نظر حوله يبحث عنها، تلفت يمينا وشمالا، طفق يحوم حول التل غير عابئ بما يجري حوله، يدفعه جنون ماحق للّحاق بملكة الرمل . يداه تحفران، تدفعان الرمل بقوة، تزيحانه . اصطدمت يده بحجر طيني، أمسكه ، نظر إليه بشغف ملهوف، والحروف المكتوبة على اللوح الحجري تتراقص بغموضها، لا تسعفه، لم يستطع فهم لغتها ، ولا فك رموزها، وصدى الصرخة مازال يدوي بجمجمته.
    يرفع رأسه إلى السماء صارخا بأعلى صوته ، يناديها . والحرقة تستعر بفؤاده سحرا غامضا.. شجيا ...!
    وهناك.. على سماء لم تطو صفحة التاريخ بعد لاحت له صورتها المبهرة، وهي مهمومة.. على الأفق مرسومة!

    1/7/ 2009












    ..........................................

    قلادة تعريف

    تحرك من مكمنه بعد أن لبس الليل عباءته السوداء. بحذر صار يقطع الطرقات الملتوية ؛ كي يصل إلى العاصمة التي لاحت له من بعيد أضواء بيوتها التي لم تنقطع الكهرباء عنها بعد..
    أيام ثلاثة مضت .. وهو يمشي ليلا بين شوارع عرفها جيدا ، يختبئ نهارا من أولئك المسلحين الذين يقنصون كل رجل يرتدي بزة عسكرية. يأكل من رغيف خبز أعطته إياه امرأة عجوز ، وجدته يختبئ في حضن ساقية جفت مياهها ، تغطيها شجرة رمان؛ سقطت بفعل قصف قذيفة ، وقعت بالقرب منها.. حين رأته شهقت ، وهي تتلفت خلفها ، تضرب صدرها الواهن قائلة :
    - ويلي بنيّ.. سيقتلونك لو رأوك هنا ، إنهم يجوبون الشوارع مثل الضباع الجائعة ، يقتلون بلا رحمة.. لا تتحرك . سآتيك برغيف خبز يسد رمقك.
    قضم من رغيف الخبز قضمة صغيرة ، ومشى خطوات طويلة اعتاد عليها. أضواء العاصمة صارت أقرب. وشعور بالعطش لازمه ، مذ دفن أخاه أول أمس ، بعد أن ضربت صدره شظية من ناقلة جند قصفتها طائرة أباتشي .. فتناثرت الناقلة بمن فيها.
    كان يختبئ وأخوه بين الأشجار في مزرعة ، تبعد عن منطقة اليوسفية بضعة كيلو مترات . يمسك يده بقوة . حين أحس أن قبضة يد أخيه تراخت ، وأنة مكتومة تصدر منه. تفحصه مثل المجنون ، وهو يحثه بصوت مبحوح على النهوض .. لكنه ظل ساكنا لم يتحرك .
    العتمة شديدة . تحسس صدر أخيه . فغرقت يده في فجوة عميقة ، أطارت صوابه . وضع كلتا يديه على الفجوة ، يمنع النزف . ضاعت يداه كلتاهما في الجرح الكبير الذي أحدثته الشظية الطائشة.
    لطم وجهه بقهر، وضع رأس أخيه في حضنه ، وصار يمسح وجهه؛ كأنه نائم ، و يمسح شعر رأسه بحنو ورقة.
    بزغ الفجر. بانت ملامح أخيه التي تشبهه تماما ، بدا له وكأنه يغط في نوم عميق.. والدماء تغطي جسده . لاحت له قريبا منه فأس ومسحاة ، فشرع يحفر في عجالة قبرا لأخيه . يبكيه بحرقة . والوجع يعتصر قلبه على والده .. الشيخ الجليل الذي ينتظر رجوعهما معا. يتمتم محدثا أخاه :
    - ماذا سأقول لأبي .. قل لي ثامر؟ كيف سأخبره ، بأني لم أستطع حمايتك .. كيف سأخبرهم.. ويحي لمَ لمْ أكُ أنا ؟
    دون وعي منه تحسس قلادة التعريف الخاصة بأخيه . بعد أن نزعها من رقبته ، قبل أن يواري جسده التراب . بصق لقمة الخبز التي كانت بفمه ؛ لأنه لم يستطع بلعها ، وتابع المسير.
    دخل أطراف العاصمة بعد منتصف الليل . صار يقطع الشوارع وهو يجري بسرعة .. وقد بدت شوارع مدينته غريبة عنه . تقطع بين شارع وآخر جذوع أشجار نخيل . قطعها الأهالي ، مدوها ، وجعلوا منها متاريس تفصل بين حي وآخرخوفا من هجمات الأغراب عليهم !
    هاهو بيته أمام ناظريه ، وثلة من شباب المنطقة تقف بالقرب منه . الجميع مدججون بالأسلحة . تراخت ساقاه ، وأبطأ سيره ، اجتاحت كيانه رهبة . أيعقل أن يقتلوه .. إنهم رفاق طفولته وصباه وأخيه ؟
    لمحه أحدهم فصاح مبتهجا :
    - لقد عاد ثامر.. أو ثائر؟
    أسرع الشبان إليه .. تلقفوه بالأحضان . والشيخ الكبير الطاعن في السن .. يسرع خطاه المتعثرة بذيل عباءته، يتوكأ على عصاه ، يرتعش جسده الواهن بلهفة متشحة بالخوف ، من سؤال لا يريد أن يسمع جوابه . ودمع غزيز ينهمر على وجهه المتغضن . يحتضن ولده وعيناه تنظران خلف كتفه ، تبحثان عن الابن الآخر.
    من عتبة الدار خرجت شابة ، تتقدمها بطنها المنتفخة ، وقد تهللت عيناها بدموع الفرح .. وابتسامة خائفة تغطي ملامح وجهها الحزين مدت ذراعيها ، احتضنته ، دفعها عنه بيسر ، عادت إليه ، احتضنته بقوة هذه المرة وهي تقبله وتبكي . كلمات التهنئة بالعودة إليها سالما ، تخرج من فمها متلعثمة ، متعجلة غطت على كل الكلام.
    فرحتها أفقدتها رشدها.. والاستيعاب.
    صدها عنه بقوة هذه المرة ، وتراجع إلى الوراء خطوتين .. وهو يبكي .

    اتسعت عيناها خوفا وإنكارا . وهي تنظر إلى يده الممدودة أمامه .. تقبع في وسطها سلسة وميدالية؛ تحمل رقم تسلسل أخيه ، ورقم وحدته العسكرية.








    لعنة

    اقتحمت أسراب الجراد الأسود عاصمة السلام ومدينة القباب الزرق المذهبة ، فنخرت مآذنها.. وتناثرت بعض فسيفسائها بين الأصقاع ، واتشحت باقي المحافظات بالقحط المكفهر . بدت الضواحي على اتساع رقعتها ملعبا للأشباح ، لا يسمع فيها سوى أنين الوجع الغائر بين الضلوع ، تخالطه رائحة الجثث المتعفنة وصفير الرياح الصفراء .. لحظة انبلاج فجر يوم الفجيعة التي نقشها التاريخ على صفحات الزمن القادم.
    أمسك أبو الوليد بيد زوجته ، أسندها.. ودوامات الطلق المباغتة تأخذها منه حينا ، ثم تعيدها مقيدة بأسرار ديناميكية المخاض وعجائبيته . تضم ساقيها لحظات دهرية ، تزفر الأنفاس متقطعة.. وذاك الشيء المكور الذي يسمونه رأسا ، ينزلق من بين فخذيها . تكاد تخنقه ضيق المسافة المرتجفة ؛ ليتهاوى صرحها, قبل أن يصلا مشفى المدينة الغافي بين العتمة والفراغ . تنزف حياتها لحظة تلو أخرى ، تلهث الألم زفيرا ، وتستنشق الموت مع كل شهقة.
    تفجر هلعا يحثها :
    - تماسكي
    فاجأه رأس الجنين . كبلت يداه .
    كالمجنون طفق يجري بين المشرق والمغرب مستغيثا. يبتلع الضباب صوته ، وأزيز الجراد يدوي حوله .. وعيونه البارزة تحدق فيه!
    أومأت بيدها الواهنة :
    - أن اسحبه !
    مد يده ،
    أرهبه الملمس الدهني المدمى ،
    تراجع خاشعا .
    ينزلق الجسم الوردي الصغير على إسفلت الشارع . تختلط صرخته التي تضج بالحياة,بحشرجة الأم, . عيناه المرعوبتان تتلقفان هسيس الرياح ؛ لعلهما تأتيانه بمعين . الوليدة تتعفر بالتراب ، و ترتجف بردا.
    يلملم شتات روحه المبعثرة بين دهاليز المنية والنور، ينقب كل الأبجديات المحتجبة في ذاكرته بسيل جارف من الأسئلة عن أحجية الحياة وكينونتها !
    تراءت أمامه أسنانه العارية؛ ليكز بقواطعه على الحبل ، ينهشه بوحشية عفوية ، يدفعه شغف محموم للإبقاء على حياة برعمه .
    بصق الدم المر حانقا ،
    رفع الوليدة عاليا كقربان بين يديه ،
    أطلق عواء ذئب جريح ، دمدم حروف الغضب ، ولعن لحظة الغفلة ساخطا.
    الجراد ينخر رئتيه . تحط الوليدة على الجسد المشظى ، تصرخ احتجاجا و رغبة في الحياة !
    أم الجواد التي غادرها زوجها بليلة ظلماء ملثما ومطاردا ، يجوب الأزقة والشوارع ليلا ، ينصب الشراك لأفواج الجراد الغريبة ، يقنصها زرافات ووحدانا . هي تنسل زاحفة ؛ كي تنتشل الوليدة من براثن الموت وأفخاخه.
    حملتها كنزا ثمينا بين يديها ، أرضعتها . التهمت الصغيرة الثدي بنهم غريب . يمتص فمها الحليب بقوة ؛ فيفرغ الجيب أحيانا.
    ثلاثة أعوام .. ابتعدت خلالها زيارات أبى جواد لبيته بعد وشاية من صاحب الدكان وامرأته العاقر. أم جواد لم تزل تجود على الوليدة ، تطعمها كحمامة .. ليجيء ذاك اليوم!
    يوم زف أبى الجواد ، مخضبا بحناء الدم ، تحمله الريح على أكتاف الرفاق ، ويودعونه قلب الثريا.
    يبيت العسر زائرا ثقيلا على أم جواد التي تقطعت فيها سبل العيش . أضحت أفواه الصغار النهمة وإطعامها مهمة تكاد تكون شبه مستحيلة . والقحط والجفاف يزرعان أذرعتهما المخيفة نطاقا يحيط حياتها وأولادها بكل وحشية . ولا هوادة.
    أشفقت على الوليدة ، استصرخت رحمة الجيران ، تنتخيهم دامعة :
    - خذوها .. معي سيلتهم الجوع لحمها ، وسينخر حتى عظمها. أشفقوا عليها.
    أخذها العطار لزوجته العاقر، ابتسم بمكر :
    - لنربها .. ستكون خادمتنا حين تكبر ، ربما أكثر امتنانا من بعض الأبناء الحقيقيين!
    - أو لعلها تعيد الحياة لبيتنا المقفر بضحكاتها . وحين تكبر سأزوجها برجل غني.
    يصطحبها العطار كل يوم معه ، يتشدق أنه من يرعاهاحتى تأتي امرأته ظهرا ؛ لتعيدها بعد أن تضع بيدها قطعة حلوى . تتلقفها الصغيرة بشغف ، تمتصها، تتلمظ .. وحين تنزلق الحلوى من بين يديها تبكي ؛ فينتاب امرأة العطار شعور غريب بالنشوة لبكائها .. تتلذذه!
    جن جنون جنونهما .
    يوم أفاقا على صوت جلبة مريبة ، تأتي من ناحية الدكان .
    وقفا مذهولين على أعتابه ؛ كأن الجراد التهمه!
    أطلقا نداء :
    ملعونة هذي الفتاة .
    ملعون كل من يأويها.
    دفعت العاقر بالوليدة خارج البيت ، وأغلقت الباب بوجهها .
    تدحرج جسمها الصغير. زوج العاقرة يركلها برجله قبل أن يدلف إلى الداخل .
    الوليدة تقف أمام الباب ، تطرقه بيدها الصغيرة ، منتحبة حيرى .
    الساعات تفترسها . بين غفوة تجفل منها ، وسؤال أعمى استعصت عليها الإجابة عنه!
    رق قلب أحد الجيران . خفية وضع طبق فيه بعض الطعام . التهمته بنهم مفجع .
    حن عليها أحد الأولاد بكأس ماء باردة ، قربها دون أن يقترب منها !
    حارقة شمس الظهيرة .. سفعت جلدها باللهب . مشت نحو الشجيرات ، تنتبذ ظل إحداها، واضعة يديها تحت خدها . سالت دمعة من عينها على التراب ، حين غفت نمت على أثرها زهرة خفية!
    صحت مذعورة .. والحمائم تدخل أعشاشها غروبا ، بحفيف صاخب. أسرعت خطاها تسير على غير هدى ، تنفض ما علق بجسمها من أوراق شجر متكسرة ، وتقف عند الأبواب تطرقها ؛ لعل أحدهم يرحمها ، فيفتح بابه لها!
    الليل خيوط عنكبية .. تتكاثف ، ألبس الكون عباءة حالكة ، ورسم ضوء القمر ظلال الأشجار أشباحا تتطاير مرفرفة. عينا الوليدة تتابعان الرعب . تركض خوفا. صوت عويلها يملأ الأنحاء ، منتحبة بين الأبواب ، تشهق مرتجفة ، ينخرها الخواء والتعب.
    أسندت جسدها المنهك على جذع شجرة ؛ فارتجت الأغصان .
    تقافزت الحمائم هائمة ترفرف بأجنحتها محدثة جلبة أفزعتها.. أرجفت عودها البرعمي . وارتعشت شفتاها . أطلقت ساقيها بين الأحراش ، تخترقها هائمة ، تصرخ مذعورة؛ حتى تاه صوتها بين الأشجار.. في إحدى البساتين ، ثم تلاشى!
    عاد الصبح متثائبا من غفوته ، وأهل المدينة يتساءلون بينهم :
    أين أضحى مصير وليدة اللعنة ؟
    البعض منهم
    بحث بين الشجيرات الممتدة ؛ لعلها تكون غافية تحت إحداها .
    آخرون فتشوا عنها في حدائقهم وسواقيها ؛ فربما اختبأت بينها!
    كأن حمى غريبة انتابتهم!
    ما من أثر لها .
    لملمت الشمس خيوطها المشعة ، خجلة غفت مهمومة. صوت نحيب الوليدة يطرق أسماع البعض –بعيدا – متعبا . بعضهم سمع طرق أصابعها الواهنة على الأبواب الباردة.
    تكرر الأمر أياما ستة .
    صاحب الدكان مغلقة أبوابه حتى اليوم السابع .
    تساءل الناس عن غيبته وامرأته .. وظلال الشك تراود الجميع .
    استدعي المختار على عجل ،
    قرر كسر باب منزلهما .
    تتلقفهم رائحة عفن الأيام السبعة موتا ، والجرذان تنهش جسديهما .
    طبيب التشريح يصرح متلكئا : إنهما أصيبا بوباء غريب ، لا يعرف مصدره!
    أعراض المرض انتشرت كنبات بري . صارت الجثث تغرس شواهد ، تؤطر الشوارع .. يوما بعد آخر
    لتعزل مدينة الطهر ،
    تعلن منطقة موبوءة !
    سجنت الضواحي بالأسيجة الشائكة ، وأحرقت الأشجار. منع الدخول أو الخروج منها .
    لا يدخلها سوى المعالجين ، ولا تخرج منها إلا عربات نقل الموتى!
    ظل الناجون يقسمون أغلظ الأيمان : أن بكاء الوليدة يشق عنان السماء كل يوم، يهز طرق أناملها اليافعة الأبواب ؛ كلما ابتلعت الشمس نسيج نورها الذهبي مغصوبة.. وجن جنون المساء!
    ..............................................


    التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 18-07-2013, 11:34.
    sigpic

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3
      المُدَمْدِمْ

      جلس على الكرسي القريب من النافذة ، يتطلع بعيون ثاقبة إلى الشارع ، يتفحصه بعين الرقيب ، ويرسم مخططه النهائي .
      نظر إلى السيارات المكتظة بزحام خانق ، يتمتم بينه وبين نفسه عن موقعه الثمين الذي يطل على التقاطع الرئيسي. والفرحة تملأ قلبه ؛ لأن الصيد سيكون سهلا.. هكذا حدث نفسه.
      أخرج من حقيبة عدته التي يسميها ( عدة صيدي الثمينة) قناصته، وصار يتحسسها. بعد أن أكمل تركيبها قطعة.. قطعة ، وهو ينظر إليها بعين الإعجاب الشديد، ثم يضعها على صدره ، وكأنه يحتضنها. يتنفس بعمق شديد وهو يقول: "
      لنتوكل على الله حبيبتي؛ فاليوم سيكون مشهودا ".
      بقي في مكانه متربصا. ويده تحتضن قناصته التي أخرج فوهتها، من خلال فتحة صغيرة من شباك الغرفة. وعيناه ملتصقتان بمنظارها. يحاصر الناس من خلال عدستها ، وهم يتحركون وشعور عميق بالحزن يخالجه .
      وجوههم المثقلة بالهموم ، تحكي ألف قصة عذاب. وأعينهم التي أذبلتها شدة الحياة ووطأتها، تعلن مدى معاناتهم تحت ظل الاحتلال.
      لعن الاحتلال ، ومن جاء فيهِ ، وهو يتمتم بكل ما تعلم من كلمات الشتيمة والسب، فكان هذا سببا ؛ لأن يكنيه رفاقه ( بالمُدمْدِم ) .
      مرت سيارة سوداء ، تخدش حياء الإسفلت بقسوة وفظاظة. تحيط بها الكثير من السيارات المظللة المليئة بالمسلحين، و رجال حمايتها يخرجون أجسادهم من نوافذها، وهم يصوبون فوهات غداراتهم صوب المارة . إمعانا في إرهابهم.
      أطلق البعض منهم
      طلقات نارية في الهواء ؛ كي يبعدوا السيارات والمارة القريبين منهم وموجة من الغضب الشديد اجتاحته؛ لمشهد الناس وهم يتطايرون هربا، من رصاصات طائشة ، قد تودي بحياتهم ، في ظل فوضى عارمة ، اجتاحت عاصمة أول مسلة للقانون في التأريخ ؛ لتعلن أحكام الغابة شريعة للحكم، ويرثي حمورابي مسلته، وينشر خبر نعيها.
      توسط قرص الشمس السماء المتخمة بأدخنة التفجيرات ، والغبار المتصاعد من الأبنية الكثيرة المنهارة . وعيناه مازالتا ملتصقتين بناظور القناصة . ينصب العرق من جبينه ، وينزل على عينيه فيمسحهما- بطرف إصبعه - كي لا تفته نظرة تفقده طريدته الثمينة !
      ساعتان مرتا.. وهو مازال مسمرا في مكانه ، لم يتزحزح.. وحرارة الشمس تلفح وجهه من خلال زجاج النافذة ، لتزداد سخونة الجو أكثر .. حتى ابتلت ملابسه بالعرق ، وإصبعه على الزناد لم يحركه ، وإحباط خفيف يعتريه حين شعر أن الوقت قد طال ، وإن هذي العملية ربما ستفشل.
      خفق قلبه بسرعة .يلامس شغافه بعض الفرح المشوب بالترقب والرهبة . حين سمع هدير أصوات محركات ضخمة تقترب رويدا رويدا ، مسح عينه لآخر مرة ، وانتظر.
      أقبل رتل من المدرعات ، توقف عند ناصية الشارع كالمعتاد. نزل الجند وهم يصوبون فوهات غداراتهم نحو السابلة ؛ تحسبا من هجوم المقاومين ، وهم يظهرون فجأة ويختفون.. مثل لمح البصر.
      بعد أن اطمأن الجند من خلو الشارع ، أنزلوا أسلحتهم ، وصاروا يتبادلون الحديث قرب إحدى المدرعات.
      صوب المدمدم قناصته نحو أطول جندي فيهم؛ مسددا الفرضة والشعيرة على جبهته.
      سحب نفسا طويلا
      قطع الأنفاس
      وحين قرر أن يضغط على الزناد، انحنى الجندي ليخرج شيئا من جعبته.
      تمتم المُدَمْدِمُ بغيض وحقد.. والحيف يملأ صدره حنقا. تذكر إن عليه أن لا ينسى قدرة الله ، فتعوذ من الشيطان الرجيم ، فقرأ آيات من القرآن الكريم.
      رفع الجندي الطويل قامته مرة أخرى. فهمس: باسمك اللهم ، اللهم سدد رميَّ. وقطع أنفاسه مرة أخرى ، ثم أطلق رصاصته.
      سقط الجندي ، بعد ما ترنح يمينا وشمالا ، كأنه ثور، خار للحظة ، ثم سكن
      لم يفقه رفاقه الغارقون في الضحك الأمر في البداية ، إلا إن الدخان الذي تطاير من مؤخرة رأسه ، وسقوطه المفاجئ أرعبهم.
      ساد الهرج والمرج ، وفوضى ملأت المكان ، وهم يطلقون النار عشوائيا على البنايات والأسطح ، ويتدافعون فيما بينهم للاختباء، وعم الرعب أجواء المنطقة، والناس يتهالكون هربا خلف السيارات يحتمون من الرميٍ العشوائي خلف الأعمدة
      على حين غرة، ومن بين أحد الأزقة الضيقة في المنطقة، خرج أربعة مسلحون ، يرشقون القوات بإطلاق نيران كثيفة ؛ لتأمين انسحاب المُدَمْدِمْ ، وقتل من يستطيعون قتله من الجند.
      هبط المدمدم السلم بسرعة خاطفة ، وظهر من الجهة الأخرى إلى الشارع كأنه عابر سبيل ، لوى رجله اليمنى ، وخطا بطريقة عرجاء ، وعقف يده اليمنى ، ثم ترك لفمه العنان كي يكمل الباقي ، فبدا وكأنه معوق .. مصاب بتخلف.
      وقف قرب شرطي يسأله بصوت متلعثم ، ولعابه يسيل من فمه ، متناثرا على وجه الشرطي رذاذا.
      : شششش شنو

      نظر إليه الشرطي نظرة تقزز، وهو يرى اللعاب يسيل من فمه ، ويتناثر في الهواء . دفعه بيد ، وبالأخرى مسح اللعاب عن وجهه. يصرخ في وجهه بصوت ملول:
      - اذهب أنت الآخر, ألا ترى الأمريكان ، وهم يطلقون النار على كل من هب ودب . اذهب واختبئ أيها المعوق .. هيا بسرعة ، قبل أن تأتيك رصاصة طائشة تزيد إعاقتك.
      مشى مشيته العرجاء وعيناه تومضان بوميض متألق ، وقلبه يخفق فرحا . يغمره شعور بالسعادة القصوى، فهذا هو الجندي رقم مائة الذي ( قنصه ) ، إنه الرقم الماسي.
      وتنهد بعمق .
      اختفت فرحته ، وهو يستعرض وجوه مئات الضحايا، الذين أزهقت أرواحهم بلا رحمة ، وبدون ذنب اقترفوه. استباح القهر قلبه ، واعتصرت الأحزان روحه على أبناء جلدته والظلم يستبد بهم. كسا وجهه الأسمر الوسيم ظل غم عميق.
      ابتعد عن المكان كثيرا ، بعد أن دخل وخرج من شوارع فرعية كثيرة . أدار رأسه للخلف يستطلع المكان ، ثم اعتدل في مشيته.
      تذكر رفاقه وهم يغطون انسحابه ، في هجومهم المباغت على القوات الغريبة ، وهو يسمع صوت تراشق النيران مازال مستمرا. علت وجهه ابتسامة خفيفة ، وهو يتخيل موقف جنود الاحتلال من عملية ( القنص).. وهجوم رفاقه ، تمنى لو أنه كان هناك، يراهم بأم عينه ، وهم يختبئون داخل مدرعاتهم خوفا ورعبا من المقاومين ، تمتم بوله عاشقٍ بأنشودته الوطنية المفضلة التي قضى ثمانية أعوام .. وهو ينشدها:
      ( إحنه مشينه مشينه للحرب .. عاشق يدافع من أجل محبوبته .. وأحنه مشينه للحرب .. هذا العراقي العراقي من يحب .. يفنى ولا عايل يمس محبوبته .. واحنه مشينه للحرب )







      محاولة اغتيال

      غادر عيادته متأخراً ؛ فهو الجراح الوحيد في المنطقة الذي لم يهاجْر، ولم يرضخ لتهديدات المهددين له!
      مد يده نحو باب سيارته يفتحها ،
      شعر بالقشعريرة تعتري بدنه .. وجسم بارد وصلب لامس مؤخرة رقبته . وخوف من نوع غريب داهمه.. أمرا يتوقع حدوثه.. لكن ليس اليوم ولا بهذه اللحظة!
      تسمرت يداه ، تصلب جسده كقطعة خشب ، واتسعت حدقتا عينيه على سعتيهما . تحجرت كل أفكاره ، وتبلد ذهنه فلم يعد يفكر بشيء . وكأن الزمن قد توقف ؛ سوى من نبضات قلبه المتلاحقةِ.
      أفأق من ذهوله على الصوت الصادر من خلف أذنيه . ينطق الكلمات بحقد متعمد ، يحذره:
      - قف .
      لا تتحرك . و إلا أرديتك . حركة واحدة وسأضغط على الزناد ؛ لأجعل مخك شظايا .
      تجمدت يده فوق "أكرة" باب السيارة , تسمر في مكانه وكأن على رأسه الطير.. ويده ما تزال تمسك مفتاح باب السيارة.
      تساءل بصوت مستسلم لقدره.. غير خانع أو متخاذل:
      - نعم .. لن أفعل . ولكن هل بإمكاني سحب يدي من باب السيارة.. فقط سحب يدي ؟
      لكزه صاحب الصوت الأجش بالمسدس ، وبتهكم واضح قال:
      - هيا افعل لكن.. دون أن تقوم بحركة واحدة أخرى. أنزل يدك فقط ؛ لأراها.
      سحب يده وأنزلها. وعيناه تحاولان استيعاب ما تريانه . وظل غشاوة رمادية تحيط بهما .. أربعة رجال يحيطونه من كل جانب مدججين بالأسلحة ، ملثمين يخفون ملامحهم بأقنعة سوداء ، لا تظهر منهم سوى أعينهم المليئة بالحقد والضغينة ، وقسوة سمع الكثير عنها ، من قصص الذين اختطفوا واغتيلوا قبله.
      رفرف قلبه بين جنبيه بهلعٍ . وهو يتذكر قصص العذاب التي قاساها الناجون بأعجوبة من زنازين الموت وآثار ( التثقيب) بأجسادهم ، تشهد على حجم وحشية وبربرية لا تعرف الرحمة.
      تعثر لسانه بالكثير من آيات القرآن . يرددها لفرط توتر أعصابه و تخدر جسده.
      شعر بجيوش من النمل تغزو جسمه .. وإن نهايته قد اقتربت. فغمره إحساس بأنه سيغمى عليه ، وبالكاد استطاع أن يقول بصوت حاول جاهدا أن يبدو متماسكا، وعيناه تتفرسان المكان من حوله ؛ لعله يجد من يعينه أو ينقذه:
      - هل بإمكاني أن أعرف ماذا تريدون ؟
      بصوته الخشن رد قائدهم :

      - صهْ .. لا حرْف .. ولا كلمْة .
      ثم لطمه بأخمص المسدس على أم رأسه . فسقط على الأرض بقوةٍ .
      لم يفقد الوعي . لكن جسده لم يستطع الإتيان بحركة ، ولم يستطع حتى التأوه.
      تطوع اثنان من الملثمين بسحبه من كلتا يديه، وتوجها بهِ إلى سيارة سوداء مظللة.. بعد أن عصبوا عينيه برباطٍ أسودٍ.
      أحدث حذاؤه على الإسفلتِ أثرا .. خطوطا متعرجة وهما يسحبانه ، كذبيحة تساق إلى المذبح.
      أوجعه بحرقة احتكاك ركبتيه بإسفلت الشارع الخشن، لكنه فضل أن يبقى محتملا الألم على أن يصرخ به .
      ارتعب قلبه حين اقتربوا من السيارة.
      وفي لحظات الهول تلك.. تذكر والدته ، وهي تنتظره بكل ذاك الخوف الذي يملأ عينيها ودموعها ، كلما تأخر في العودة ولو قليلا .. من شوارع يسكنها الموت ، ووحوش تلتهب رغبة للقتل والتعذيب وسلخ جلود بني البشر بلذة الحقد . تذكر زوجته الحبيبة ، وطفليه .. وهما يلعبان بشاربيه لعبتهما المفضلة كلما أجلسهما على رجليه. تذكر يدي أبيه ، وهما تمسكان بكتفه ، يحثه أن يبقى شامخا، رافعا اسم وطنه عاليا ، وأن يخدم أبناء جلدته دون التفكير بغاية أخرى..تذكر أرواح الناس البسطاء الذين أنقذهم بمبضعه الفذ ، وهو يقوم بواجبه كطبيب جراح ، وألسنتهم تلج بالدعاء له .. أن يحفظه الله ، ويبعد عنه كل مكروه .
      ناجى ربه :
      - ساعدني إلهي.
      هنا.. أحس بأن حواسه كلها قد عادت إليه ، وأن شيئا ما يدفعه النهوض ؛ فنهض واقفا على قدميه ، ومشى.
      فتح أحدهم باب السيارة المظللة، وحاول آخر دفعه إليها.. بهذه اللحظة دوت طلقات نارية كثيفة حوله ، أرغمته أن يخفض رأسه بحركة عفوية لا إرادية، دون أن يعرف من أطلق النار على من .. أو لماذا !؟
      صار الصخب شديدا ، وعم الشارع الهرج والمرج ، والصرخات تملأ المكان رعبا .
      انبطح على الأرض دون أن يعارضه أحد.. وأزيز الرصاص يحيطه، يدوي برأسه يكاد يصم أذنيه.
      سقط جسد أحدهم فوقه. أحس بالهلع يعتريه. لكنه لم يبد حراكا .
      غطت الدماء رأسه ، وثقل الجسد الجاثم على ظهره.. أثقل عليه أنفاسه ، حتى لم يعد يطيق السكون ؛ فانتفض.
      دفع الجثة بكل ما أوتي من قوة ، نهض واقفا .
      توقف إطلاق النار لحظتها .
      استشعر اقتراب أحدهم منه.
      كر عليه الخوف مجددا .
      رفعت العصابة السوداء من عينيه بسرعة ، ليجد نفسه أمام رجل يحمل غدارة سوداء.. وثلاثة آخرين مدججين بالسلاح يحيطونه.
      صعق . غزاهُ الشعور بالغبن. أحس بالغضب يكتسح كيانه ، والحنق الشديد يملأ صدره.
      مزق قميصه المغطى بالدم ، عرض صدره أمام الرجال بتحدٍّ ، وزمجر بصوت هادرٍ يعلن العصيان:
      - هيا.. اقتلوني.. ماذا تنتظرون ؟ لقد سئمت هذه اللعبة القذرة.
      نظر الرجل إليه.. وظل ابتسامة تعلو محياه وهو يقول:
      - المعذرة دكتور.. جئتك ورفاقي منقذين.. لسنا قتلة أو مجرمين.. حمدا لله على سلامتك.














      يد القاتل

      لقبه أصدقاؤه " أبو المشاوير" ، لأنه لا يتوانى لحظة عن حمل سلة صغيرة ، تحملها عجوز عائدة من السوق ، فيلهج لسانها بالدعاء له. لم يتكاسل عن مساعدة سائق أجرة تعطلت سيارته ، مقدما يد العون لكل من يحتاجها، وهاجس والدته أن تظل قلقة عليهن ترقب عيناها باب الدار بقلق وخوف حتى يعود. ويكتم أبوه حسرته عن زوجته ، وأفكار مرعبة تتلبسه ، حتى يسمع صوت ابنه يملأ البيت ضجيجا ومرحا ، وضحكات الأم تملأ البيت سرورا بعودة ابنهما الوحيد من شوارع موتٍ الخارج إليها أغلب الظن لن يعود.
      صباح الجمعة كان دائما مميزا. يذهب وصديقه عمر لشراء إفطار الجمعة المختلف ، وهما يتمازحان . وصوت ضحكاتهما الصافية النابعة من القلب تضج بالحياة .ثم يعودان إلى البيت وهما يحملان صحني ( القيمر والكاهي ) .
      كان ذاك الصباح يحمل نسمات الشتاء الباردة المبللة بندى الليل . والشارع يكاد أن يكون خاليا إلا من أناس قليلين . يتمايل جسداهما مع دعاباتهما التي بعثت روح المرح والحياة فيه ؛ بعد أن سكنها الموت والظلام ، وجثث مجهولة الهوية تملأ المزابل ، تنهش لحمها الكلاب السائبة ليلا ، دون أن تتقاتل بينها لكثرتها.
      مرت بقربهما سيارة مظللة مسرعة . استدار سائقها على عجل وتوقف قربهما . فتح ركابها الأبواب بوقت واحد ، وترجل منها رجال مسلحون ملثمون بأقنعة سوداء.
      خفق قلباهما بعنف .وهما يريان الملثمين يتوجهون نحوهما مباشرة و أسلحتهم مصوبة عليهما . تسمرا في المكان .
      بلمح البصر.. طوق الرجال الملثمون الشابين ، قيدوهما بقيود بلاستيكية محكمة ، عصبوا أعينهما بعصابات سوداء ، ورموهما بداخل السيارة بقسوة كخراف تساق إلى السلخ .
      أعلن جسداهما الخوف العارم بارتجافهما . خفق قلباهما بتسارع شديد وكأنهما سينخلعان من صدريهما ، وتلاحقت أنفاسهما.
      لمحَ أحمد وشما على يد أحد الملثمين - قبل أن تعصب عينيه -. كان الوشم غريبا لم ير مثله سابقا.. عقرب تلدغ فمٌ بشري.
      ألجمت الفاجعة لسان عمر وأحمد يسأله عدة مرات :
      - من هؤلاء .. ولم اختطفونا نحن الاثنين ؟ أتراهم مختطفين عاديين يأخذون فدية فقط ، أم أنهم من المتطرفين . نحن من طائفتين مختلفتين ، فكيف يحدث أن نختطف من قبل هؤلاء نحن الاثنين ؟ عمر رد ، ما بك .. هل أنت بخير! ؟
      مرّ وقت أحسه أحمد دهرا طويلا ، قبل أن يرد عمر بصوت واهن يائس .
      - لا أدري .. لكني أتصور بأن هذا آخر يوم بعمرينا . قلبي يحدثني بأن اليوم مشئوم ، لن يمر بسلام .
      توقفت السيارة أمام أحد البيوت . فتح أحدهم صندوقها . أنزلوهما ، دفعوهما دفعا إلى غرفة واسعة فارغة .
      ساد لغط كثير بين المختطفين ، تباروا فيما بينهم .. من يبدأ الحفلة ، مثلما أسماها صاحب الوشم ، وقرروا أن تبدأ حفلتهم بعمر.
      ازدادت ضربات قلب عمر. أحسه سينخلع من بين ضلوعه
      حين تلقى أول ركلة على بطنه . بعدها لم يعرف من أين تأتيه الضربات واللكمات ، حتى انتفخت ملامحه ، ولم تعد تشبه ملامح البشر.
      ضحك المختطفون ضحكات هستيرية مخيفة ؛ وأحمد يتوسلهم ترك عمر .. جعلته يشعر بقشعريرة تسري في بدنه كجيوش من النمل ، تزحف على جسده . ثم سمع صوت آلة كهربائية تشبه صوت آلة المثقاب ، دوت بعدها صرخات ألم عارمة تصدر من عمر.
      عم سكون ؛ لم يقطعه سوى صوت صاحب الوشم الذي صرخ بصوت أجش مليء باللؤم :
      - أ فيقوه .. هيا بكل الطرق والوسائل؛ ليرى ويسمع صوت رفيقه يتألم مثلما صرخ هو و تألم ، عجلوا قبل أن يغمى عليه.
      كان أحمد يسمع صوت لهاث عمر، من شدة الألم الذي يعتريه . حين أحس بأن هناك من يمسك بجسمه ، يثبته على الأرض بعد أن فكوا قيده.
      عاد صوت المثقاب مرة أخرى ؛ فأيقن أن دوره قد حان.
      استعان بالله بصوت مرتفع .
      مرّ بذاكرته وجه أمه الحنون ، وابتسامة أبيه ، وحزنهما حين يعرفان ما سيحدث له .. بكاهما.
      خفق قلبه بقوة شديدة ، تلاحقت أنفاسه ؛ وهو يحس بقرب الآلة منه . والمختطفون يسخرون من بكائه . صرخ بصوت مدوٍ حين اخترق المثقاب كتفه اليمنى .. صرخ بصوت متحشرج وهو يدعو الله أن يقبض روحه . والمثقاب يدخل صدره ويخرج . ازرقت سحنته من فرط الألم ، ارتعش جسده بردا من شدة النزف . وأوردته تنفض الدماء نفضا . ازرقت شفتاه ، أزبد فمه .. والمثقاب يدخل مكانا ويخرج من آخر. فأخرس العذاب صوته . ولم يعد يقوى على التنفس.
      تسمرت عيناه بسقف الغرفة والمثقاب يخرج من الطرف الآخر لجمجمته ، وصورة صاحب الوشم ارتسمت بعينيه.
      شعر عمر إن جسده تبلل بمادة لزجة ، خمن إنها دماؤه ودماء أحمد امتزجتا . خرج صوته مبحوحا واهنا وهو ينادي على أحمد ؛ يريد الاطمئنان عليه . فهوى صاحب الوشم بالمثقاب عليه، لترسم على الجدران آثار من كانوا هنا.
      تجمع أهل عمر وأهل أحمد ، ينتظرون أخبارا تأتيهم من الخاطفين ؛ بعد ما سمعوا من المارة عن حادثة اختطاف شابين من الشارع .. طال الانتظار
      وعين أم أحمد ترقب باب الدار برعب . تنظر بين الفينة والأخرى إلى زوجها الذي لم يستطع النطق بحرف واحد خوفا على وحيده.
      والساعات جحيما ؛ وهي تمرُ دون خبر.
      مرّ الليل بطوله وعيناها لم تفارقا الباب ، تحجرت الدموع بمقلتيها ، وتسمر جسدها النحيل ، ولم تعد تستوعب شيئا .
      أذن المؤذن أذان الفجر.. خرج الرجال للصلاة جماعة، بكوا وهم يدعون الله أن يعيد أبناءهم بسلام.
      خرج المصلون من الجامع ، سمعوا صوت كلاب مسعورة تنبح بقوة.
      أجفل أبو أحمد وأبو عمر، نظر أحدهما للآخر نظرة جزعة ، تفصح عن مخاوف متشابهة .. هرول الجمع إلى مزبلة يعرفها أهل المنطقة ، ويعون معناها ، أسموها المقبرة ، فكم من جثة ألقيت بليل هناك.
      كانت الكلاب تملأ المزبلة . عشرات منها تتسابق وهي تنبح بعواء محموم، تحتشد مجتمعة ، تنهش بلحم جثتين .. مازالت الدماء تقطر منهما !






      طائر يخترق الشمس

      لم يكن ذاك النهار الربيعي الأول للقائهما ، وشمس أول نيسان الذهبية تنشر ضياءها، لتتسلل أشعتها شَعر حسناء الطويل، فتبرق خصلاته بتموج عسليّ لامع يبهر الأنظار.تتجول مع رفيقاتها في سوق البصرة الشعبي ، وأصوات مزاحهن تملأ المكان روحا شفافة، تضج بالحياة.. لتلتقي مخلد الضابط الطيار ورفاقه كما المرات السابقة ، وهم يتبضعون الهدايا لأهاليهم ، وضحكاتهم ملء الأشداق ، تظهر مدى فرحهم لقرب إجازتهم الدورية، والعودة إلى بغداد بعد أيام مضنية من الهجمات.
      دس بيدها بخفة حاو قصاصة ورقية . أخذتها منه، خبأتها دون أن تعي، وهي مذهولة غير مصدقة بأنها فعلت ذلك . ورفيقاتها يسحبنها من يدها؛ لحثها على المسير.
      المساءُ على الأبواب . وعيناها ترقب حقيبتها في تساؤل ملحٍ، لا تجرؤ على البوح به ، عما خط بتلك الورقة الصغيرة . تتوسم قدوم الليل، وغفوة الأهل ؛ لتسرع للورقة التي خطت بيد فارس أحلامها ، وفيها كلمات قليلة، رقم هاتف واسم، طالما شاغلت نفسها باستنتاجه ليال طويلة !
      أدارت قرص الهاتف بقلب ينبض لهفة، وصوت مرتعش بالخجل المشحون تطلبه، ليفاجئها بأنه هو مخلد؛ فرحة غامرة تعتلي صهوة صوته الدافئ، وهو يبثها شوقه العارم لرؤيتها، مذ لمحها قبل أشهر مع رفيقاتها.
      حدثها عن طفولته، عن صباه، عن حبه لطائرته، وهو يحلق فيها عاليا في الفضاء كطائر حر، عن أمه الحنون وهي تتمنى أن تراه زوجا وأبا، عن أحلامه الوردية التي حلم فيها ، وهي تتأبط ذراعه ، تفاخر بزوجها الذي يجوب السماء دفاعا عنها . طال الحديث بينهما ، ولم يقطعه سوى نداء للطيارين التأهب لطلعة جوية، وموعد للقاء بينهما مساء الغد.
      تعلقت عيناها الواسعتان بساعة الحائط ، تستعجلها المضي، تعد الدقائق ، وتحلم باللقاء، تحضر نفسها فتخلع قميصا لتلبس آخر. والوقت لم يأزف بعد، وهاتف المنزل يرن بإلحاح.
      تململت متأففة قبل أن ترد ، والدهشة تغزو وجهها الخمري ؛ لتسمع صوته الرخيم، يدعوها أن تصعد إلى السطح بعد دقائق ؛ كي تراه محلقا في سمائه!
      سألته بتعجب وابتسامة متعجبة تعلو محياها:
      - وكيف سأعرف طائرتك مخلد!؟
      - حسناء، سأهز جناحي طائرتي يمينا وشمالا عدة مرات.. ستعرفينها.. صدقيني.
      أطلقت ساقيها ، تسابق السلالم بقلب ملهوف، تراقب السماء بعينين حائرتين. وأسراب الطائرات تروح وتغدو ، حتى بانت طلائع طائرة، تهز الجناحين بإلحاح.
      تقافزت حسناء على سطح الدار فرحا، وهي ترى طائرها الحر يغازل عينيها في الفضاء، والغبطة تتناثر على قسمات وجهها .. حتى غابت طائرته، مخترقة جوف الشمس، لتهمس بوله العاشقة:
      - مجنون حبيبي .. كم أحبك، أيها المجنون.
      أزف الموعد . وجدته يجلس على كرسي بمحاذاة النهر ، يدخن سيجارته ، بشغف وقلق ينظر إلى ساعة يده الكبيرة، ولما رآها تهللت أساريره بابتسامة ساحرة، وفرحة الشباب تكاد تنطق بحب الحياة، وروعة الحب واللقاء بين حبيبين.
      صارت ترقب السماء. يخالجها خوف من نوع غريب ، لم تعرفه من قبل ، وهي تراه كل يوم ، يخترق قرص الشمس ذاهبا يهز جناحي طائرته، ونيران تأكل قلبها هلعا عليه ، حتى تراه وطائرته تخرج من عنق الشمس، عائدا، فتشعر براحة ، تعيشها سويعات؛ لتعود لقلقها مرة أخرى.
      أسراب الطائرات كانت اليوم مختلفة ، هاهو سرب كامل يهز أجنحة طائراته يمينا وشمالا . وحسناء تراقبها بذهول وتساؤل وابتسامة أقرب للبلاهة تغمرها ؛ فقد اتفق رفاقه أن ينفذوا مقلبا ، يمازحونه فيه وحبيبته البصرية.

      حين ترجل ورفاقه من طائراتهم، تفرقوا يتراكضون، يفردون أيديهم، ويتمايلون مقلدين حركة طائرته، هاربين ، ومخلد يلاحقهم بخوذته ؛ ليضربهم بها، لأنهم أفسدوا على حبيبته متعة مشاهدته ، وهو في أعالي الجو. وضحكاتهم المجلجلة تصدح بمرح الشباب وحيويته ؛ بالرغم من الحرب، وشبح الموت الذي يطل عليهم، في كل طلعة جوية.
      لقاؤهما القادم كان مغمورا بالآمال، وهو يقص عليها ما حدث من اتفاق بين رفاقه عليه، وقطعهم لوعد له بأن لا يكرروها مجددا . سكت حين انتبه لها تراقبه . أحست بالخجل . احمرت وجنتاها ارتبكت. بلهفة تفحص وجهها .. وعيناه تترجم النظرات كلمات حب، ثم قال:
      - حسناء.
      - نعم.
      - غدا آخر يوم أطير فيه ، سأذهب إلى بغداد بعد غد في إجازتي الدورية، وسأفاتح والدتي كي نأتي لخطبتك رسميا.. فما رأيك؟
      بان الفرح على قسمات وجهها. ترقرقت في عينيها دمعة صغيرة ، لم تستطع أن تمنعها من النزول على خدها ، وهي تجبيه بصوت أقرب للهلع :
      - كيف سأحتمل غيابك؟
      - إنها سبعة أيام حبيبتي ؛ سرعان ما ستنقضي.
      - ستكون أطول سبعة أيام .. صدقني.
      - حسناء، عديني حبيبتي بأنك ستنتظرينني، عديني بأنك ستعلقين أشرطة خضراء على غصن أعلى شجرة في حديقة بيتكم ؛ كي أراها حين أعود، وأعلم أنك مازلت تنتظرين عودتي.
      بكت بحرقة وهي تعده إنها ستفعل منذ ليلة الغد، وإنها ستبقى تعد الدقائق حتى يعود . خنقتها عبراتها ، وسالت على خديها دمعات اختلطت بكحل عينيها . فأخذ منديله يمسح وجهها فيه . أخذته منه ، قبلته ثم وضعته في حقيبة يدها.
      لم تستطع أن تغفو ، وهي تفكر في عودته لبغداد ، وبقائه سبعة أيام بلياليها. ومن أين يأتيها النوم ، وهي تتصور الجميلات في بغداد، فربما سيتعرف على إحداهن وينساها. ابتلتْ وسادتها بدموعها .وارتجف قلبها الصغير غيرة عليه من فاتنات مُغيبات، ولسانها يلهج بدعاء أن يعيده الله لها ، بعد إجازته.
      بعد العاشرة صباحا ، هاتفها كي تصعد إلى السطح لتراه محلقا. كان سربه في السماء ، وطائرته تهز الجناحين ، وتتقلب في الهواء كإنشوطة.. ثم اخترق السرب جوف الشمس المتوهج، وكأنها ابتلعته.
      انتظرت ساعة، وعادت إلى سطح الدار ترتقب عودته ، كما المرات السابقة ، وأسراب الطائرات تروح وتغدو دون أن تهز أي منها جناحيها !
      أصابها الدوار . وعيناها معلقتين في السماء، حتى الغروب.
      أحست بالوحشة والخوف والأفكار المرعبة توسوس في صدرها، شعرت بأن أنفاسها لم تعد تكفيها تكاد تختنق، ولم تعد تدري ما تفعل .. والليل أطبق أبوابه، فصارت اللحظات عليها جحيما ، ولجة عميقة من كوابيس اليقظة تسلطت على روحها .. وهي تتنصت لهسهسات أهلها عندما هجعوا لمخادعهم، لتتصل هاتفيا بالقاعدة الجوية.
      الهاتف يرن دون مجيب، والهواجس المخيفة تتلاعب برأسها تعتصره، تذيبها حد الاحتراق هلعا عليه، بكت بصمت ، تكتم حرقتها, وهي تتخيل أنواع الصور عنه، وسؤال يلح برأسها.. هل (كَبتْ طائرته)؟
      - يا إلهي كيف لم أفكر بذاك؟ ! ما العمل الآن، وكيف سأعرف ؟
      هرعت بسرعة إلى الراديو ، تستمع لنشرة الأخبار. وهاهو صوت المذيع يعلن بأسف، أن طائرة قد كَبتْ !
      أدارت الموجة إلى الإذاعة الأخرى ، تتنصت .. الكثير من الجنود يعلنون عن أسمائهم، وهاهو المذيع يتفاخر بأسر ضابط طيار عراقيّ سيقدم نفسه للتعريف.
      تلاحقت أنفاسها ، انقبض بسرعة قلبها وهي تسمعه .
      جاءها صوته متهدجا، يعلن بحزن عن اسمه، يهدي السلام أهله، وأنه لم يصب، وأنهى كلماته:
      - سأعود يوما ما، سأعود بإذن الله.
      في الصباح الباكر
      فتحت والدتها شباك نافذة المطبخ التي تطل على الحديقة .
      فغرت فمها دهشة وهي ترى ..
      أغصان أشجار الحديقة تعج بالأشرطة الخضراء .. تلاعبها النسمات .. فترفرف!

      16/12/2008
      التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 18-07-2013, 11:38.
      sigpic

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        همس!

        همس في أذنها بصوته الدافئ الحنون وهو يحتضنها :
        - كم أحبكٍ .. حبيبتي .. آه لو تعلمين .
        بدلالٍ وتذمرٍ تكاد أن تبكي تحاول أن تثنيه عن سفره، قالت :
        - هل لابد أن تسافر حبيبي ؟ ألا يمكن أن تؤجل سفرك أياما أخرى ؟ لم يمض على عودتك إلا أسبوعان فقط .
        أمسك رأسها بين يديه ، صب الكلمات رشيقة:
        - أتمنى لو كان الأمر بيدي حبيبتي ؛ لبقيت العمر كله لا أفارقك . لكن .. لا تحزني غاليتي هي أيام ، وأعود.
        بان الحزن على وجهها وظلال الشك علت محياها . تتلمس وجهه ، تداعبه برقة ، تعزف على أوتار أنوثتها الفتية ،
        اقتربت منه . تكاد شفتاها تلامسان جلده . تعزف الكلمات بوحا مليئا بالدفء. تشعره بحرارة أنفاسها ، تصبها لهفة في روحه . يغمض عينيه ، تتلاحق أنفاسه رغبة .
        أحست أن محاولتها نجحت ، وهي تشعر برجولته تتأجج لهيبا . تملكتها الفرحة . وهي تلمس منه بوادر قبول البقاء أكثر. همهمت بغنج : - حبيبي.. خذني معك إذن ، ولا تتركني لوحدتي ؛ فحياتي بعدك جحيم لا أطيقهُ ، ولا أحتملهْ . الوحدة تقتلني هنا .
        أجفل . كأنه صحا من حلم حريري ، ابتعد عنها قليلا، طأطأ رأسه ، تحاشى النظر إلى عينيها . تغلب على صوته نبرة حزن . كأنه يحدث نفسه :
        - أتمنى لو أني أستطيع ذلك . لكنك تعرفين - مكان عملي - الصحراء حبيبتي ، وما من مهندس أخذ عائلته معه .
        أسقط من يدها ، داهمها إحساس باليأس ، فتهالكت جالسة على السرير ، وأجهشت ببكاءٍ مرير.
        نظر إلى وجهها الخمري الذي أغرقته دمعاتها الغزيرة بعينين حائرتين وعلامات حزن خفيف طغت على ملامحه ، وتساؤل جعله يعقد مابين حاجيه . ينصت لثورة ردها.. وهي تمسح دموعها عن خديها. التوتر اجتاح كيانها الرقيق ، جعلها ترتعش . وهي تقول بصوت متهدج :
        - أخبرني إذن .. كيف سأقضي أيامي بعدك ؟ قل لي بربك ، ماذا سأفعل وأنا هنا وحيدة ؟ لا تقل لي أن أذهب إلى بيت أهلك أو أهلي ؛ فهناك أيضا سأشعر بالوحدة والغربة بدونك ، وكل ما حولي سيذكرني بك .. ثم قل لي : أين سأدفن أشواقي وحنيني إليك ، وهي تقض مضجعي ، وتعذبني بفراقك .. إني أحترق بعدك ..ألا تفهم ؟
        جلس على السرير قربها ، أمسك يدها محاولاً تهدئتها ، مسح بطنها المنتفخ قليلا بيده بكل ألفة:
        - أرجوك حبيبتي .. سأقول لك ما تفعلين ..
        ظلي طوال اليوم وأنت تتذكرين حبي لك ،
        ظلي وأنت مشتاقة لي لحين عودتي ، ولتكن ذكرياتنا معا سلوتك بعدي ،ولا تنسي بأني مثلك سأعاني،
        وأني سأشتاق لكل ما فيك ومنك ، وسأعد الأيام بل الساعات حتى أعود.. نجتمع معا، أنا وأنت وهذا الملاك الساكن بين أحشاءك.
        هوني عليك حبيبتي .. هوني عليك .
        والآن..هيا عزيزتي ، أعدي لي حقيبتي قبل أن أتأخر .

        نهضت- بتثاقل- والقنوط يطغى على ملامحها الناعمة. امتقع لون بشرتها وهي تجمع بعض ملابسهِ. غمرها شعور غامض يتشرب داخلها ؛ بأن هناك ما يجب أن تخاف منه ، وهي تصف حاجياته - بعناية - في حقيبة سفرهِ الجديدةِ التي اشتراها قبل أسبوعين. شعرت بأنها تركت قلبها داخل الحقيبة -وهي تغلقها- . تناثرت حبات دمع على سطحها. مسحتها.
        استحم على عجل ، لم ينس أن يضع الكثير من عطرها المفضل ، وهو يصفف شعره. قبلها قبلات سريعة ، وهو يعبث بخصلات شعرها المتموج الطويل. عيناها الواسعتان تتفرسان وجهه بنظرة حزينة قلقة. تحاول سبر غوره ، والشك في داخلها من سفره بهذه السرعة يحرق الإنسانة فيها!
        حمل حقيبته وسار مغادر ، لوح لها بيده مودعا ،

        انطلق
        بسيارته وعيناها تتابعان ابتعاده بخوف غريب تغلغل داخلها يشوبه الظن والريبة من وجود امرأة أخرى تشاركها إياه.لكنها سرعان ما نفضت رأسها ، رمت الفكرة الجهنمية من رأسها .
        كان يقود سيارته وهو يدندن بأغنيةٍ مرحةٍ ،اجتاز شوارع كثيرة ،وصل إلى بيت كبير بابه الخارجي مفتوح على مصراعيه ،أدخل سيارته الكراج ، ترجل ،
        أخرج من جيبه مفتاحا ، فتح باب المدخل.
        كان الهدوء والسكينة يعمان أرجاء المنزل . كأن البيت فارغ ، لا يسكنه أحد . توجه إلي غرفة النوم مباشرة .
        على السرير .. ترقد امرأة ، تغفو ملء جفنيها . زينت وجهها بزينة صارخة ؛ كأنها عروس بليلة عرسها . يبدو على ملامحها أنها تجاوزت الثلاثين بسنين كثيرة ، لكنها بدت فاتنة ، و خصلات شعرها الأشقر تتدلي على الوسادة المخملية .، كلوحة تضج بألوان القزح .
        نظر إليها بعينين شغوفتين تتراقصان فرحا و إشراقة غريبة .
        اندس في الفراش بهدوء ، مد يده تحت رأسها ، احتضنها . تململت بين يديه حين شعرت بوجوده . تنفست الصعداء .
        همس في أذنها بصوته الدافئ الحنون :

        - كم أحبك حبيبتي .. آه لو تعلمين !




        ساعة الصفر 2003


        داعب الوسن جفنيها ، وهي تنظر إلى عقارب الساعة ، معلنة الرابعة والنصف فجرا.
        قفزت من فراشها ، كأن عقارب الساعة لسعتها ، أجالت نظرها في أرجاء منزلها الجميل ، تتفقده وقلبها يحدثها بأن القادم صعب وقاس ، تذكرت أنها لم تحتضن ولديها؛ قبل أن تأوي إلى فراشها ، لفرط تشنج أعصابها من الآتي وتوترها!
        قبل أن تبدأ تباشير الصباح . دكت الصواريخ مناطق كثيرة من بغداد ، تتساقط عليها هي كحمم بركانية ملتهبة ، بعد أن دوت صفارات الإنذار ، معلنة انتهاء السلم، وبدء ( ساعة الصفر )
        فتحت شباك غرفتها - المطل على ضفاف دجلة المهموم- ؛ فلفعت وجهها الجميل المفعم بالحزن نسمات باردة . استنشقتها بعمق ، وأصابعها الرقيقة تنقر على الزجاج المنهك من قسوة الاهتزاز.
        أبهرها مشهد النهر .. وهو ينساب ، يجري غير عابئ بما يجري. أحست بأمواجه المهتزة تهز مشاعرها ووجدانها. عاصمة الرشيد تعلن الحداد على نفسها ، ومخالب الصواريخ تقطع أوصالها.
        اهتز البيت مرارا وتكرارا. مع كل صاروخ نزل على أرضها التي ربت عليها ، وهي صغيرة غضة بعد. داهمتها أصوات ضحكاتها وأقرانها ، ممزقة ذاكرتها. بسذاجة وضعت يديها على أذنيها ؛ كي لا تسمع تساؤلها:( ربما ماتوا الآن..؟ (
        انقبض قلبها ؛ وهي ترى النيران ، تشتعل بمبان قريبة من بيتها. فبكت ، أحرقت أجفانها جمرات الدمع المنهمر من مقلتيها ، مستحضرة الماضي ودفئه.. وحلاوة الأيام حتى المؤلمة منها .
        تذكرت حين طبع زوجها على جبينها - ذات يوم مرح- قبلة سريعة ، وهو يحثها ؛ كي تعجل وتنهي ارتداء ملابسها ؛ ليأخذها والصغار بنزهة مسائية على ضفاف دجلة . أصر أن ينزل إلى جرف النهر؛ ليبلل رجليه ، وضحكات الصغار تملأ المكان ضجيجا لذيذا . عيناها ترقبانه بابتسامة هادئة ، وهو ينحدر إلى ضفة دجلة الرقراقة.حين انزلقت قدمه ؛ فانقلب على ظهره .. و ضحكاته المجلجلة فتحت شهية صغاره.. للفرح يضحكون معه.
        غاص بالوحل ، استحال إلى كائن طيني . يثير منظره الضحك والسخرية. بالكاد استطاع الخروج .. بعد أن أصبحت الأرض الطينية زلقة جدا. جلس على الحشائش ، وهو يمسح يديه ووجهه.
        أعجب منظره الصغار؛ فغمسوا أصابعهم الصغيرة الرقيقة بالطين ، ممرغين أنفه به ، غارقين بضحك طفوليّ بريء .
        أجفلت من ذكرياتها .. مع دوي انفجار صاروخ آخر ، فاستغرقت بتخيل أنات المصابين المرتعبة . وأصابع طفليها المرتعشة خوفا تمسكان ذيل ثوبها . احتضنتهما ، مرددة بصوت خائف متهدج :
        - لا تجزعا ولديّ.. دقائق معدودات وينتهي الأمر .. ثقا بيّ .
        كان الخوف يأكلها ، فيما النيران تتلمظ بأكل المباني المحترقة. عيناها الواسعتان تفترشان الأرجاء ؛ لتسعا طوق الأفق المحمر ، تحتويانه .
        أرعبها منظر الحرائق .. وهي تلتهم بغداد . صور النيران تنعكس على المياه ؛ كأنها تخرج من عمق النهر لهيبا مستعرا.
        زمجر صوت بداخلها ، حثها الخروج من البيت ؛ لتنجو بولديها . لم تعد تقوى على البقاء بانتظار الموت.
        تحس ببرد شديد ، يسري بأصابع يديها.. شباكها مازال مواربا ، يتلمس الدفء من نيران بغداد المستعرة واحتراقاتها . نظرت إلى صغيريها .. يجلسان في زاوية الغرفة ، ملتحفين دثار سميك كما أوصتهما ؛ ليحميا جسديهما من شظايا الزجاج؛ قد يتناثر بفعل القذائف التي بدأت بالتساقط منذ إعلان ساعة الصفر.
        تذكرت أباهما.. الذي غادر ملتحقا بوحدته العسكرية منذ خمس وعشرين يوما ، ولم يعد حتى اللحظة. غزاها الحنين إليه.. لصدره ، تدفن رأسها بين حناياه. لهمساته تلسع الأنثى الكامنة فيها ، والمتلهفة إليه.. ليديه تحتضناها .
        بعينيها الذابلتين .. كانت تتابع انبلاج الصباح, متصنتة صوت سيارات الإسعاف ، يشق أذنيها بزعيقه المخيف ، عازفا سيمفونية الموت ؛ فتلبسها الحزن. ترى الدخان المتصاعد من المباني الجميلة التي كانت تعمر فيها الحبيبة.
        سرت بجسدها قشعريرة شديدة . تراخت عيناها المفعمتان بالخوف ؛ كأنها بكت الدهر كله.
        تمنت لو أن الباب يفتح الآن ، ويدخل زوجها منه ؛ لتحتضنه ، و تبكي على صدره ؛ فتستريح ولو قليلا .
        عادت الصواريخ تدك المدللة دكا عنيفا.. مع كل ارتجاجة حائط كانت أوصالها ترتجف معلنة عن خوفها العارم. هرعت ، اندست بين ولديها ، أغمضت عينيها.
        أحست بدفء حميم . اجتاح كيانها ، وبيد تحتضنها ، وأنفاس اشتاقت روحها لملاقاتها ، وصوت حنون يهمس بأذنيها .. بكل حب مازال يأسرها .
        - حبيبتي .. لقد عدت فلا ؛ تخافي .
        شهقت بحرقة ؛ وهي تكتشف وهمها بمجيئه الذي عاشته ، ملهوفة لتحتضنه بكل لوعة ساعات الرعب المحرقة التي بدأت مع بداية ساعة الصفر .. وحتى دوي انفجار آخر.. لم تسمعه .





        جلس يستريح

        بوجوده غير المرئي ..
        جال بفضاء السوق المكتظ بالناس، نظر بشفقة إلى وجوه البشر المتعبة ، يتصبب العرق منها لشدة القيظ، وحرارة الجو تزداد سخونة ؛ كلما ارتفعت شمس الظهيرة، لتتوسط السماء المتخمة بدخان التفجيرات، معلنة انتصاف نهار صيفي لاهب آخر.
        أمعن النظر بوجه شاب وسيم، لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره .. يمسح بيده عرقا تفصد على جبينه ، وينظر إلى بطن زوجته المنتفخ بتساؤل يشوبه القلق . وهي تقلب ملابس صغيرة تشبه ثياب الدمى. ظل ابتسامة خفيفة تلوح على وجهها؛ كلما وجدت قطعة تلائم وليدها المنتظر، غير عابئة بالحر الشديد ، ولا بنظرات زوجها القلقة.
        خطف نفسه من أمامهما ؛ ليطوف فوق رأس شابين ، يعملان بالتحميل ، يكومان الكثير من الرزم فوق كتفيهما ، وقد ابتلت ملابسهما بعرقهما. يتسابقان بالوصول أولا ؛ للحصول على بقشيش يعينهما على قوت يومهما، وإطعام أفواه كثيرة جائعة تنتظرهما. تركهما ، وطفق يحوم حول فضاء السوق مرة أخرى، يتابع عن علو أكوام البشر ، وهي تروح وتجيء، وقد بدا له الكثير منهم، يحمل هموم وأعباء حياة سقيمة لا تطاق ، تكاد تنطق ملامحهم بما يعانون من بؤس وشقاء، بينما بدا له البعض الآخر غير عابئ ، تبدو اللامبالاة على محياهم .. وهنالك ثلة قليلة منهم . بدت ملامحهم المترفة توحي له بأنهم سعداء، بالرغم من تذمرهم من زحمة السوق ، وحرارة الطقس حد الاختناق بلفحات الهواء الساخنة المشربة برائحة العرق والأنفاس.
        من بعيد .. لمح رجلا زائغ النظرات دميم الوجه، عرفه على الفور، يحمل بين طيات جنبه ميقات الموت، ولحظة الآذان فيه.
        تحرك بسرعة خاطفة باتجاهه، طاف فوق رأسه . والرجل يمشي مطرق الرأس .. مشية سكرى . وهو يلازمه ملتصقا به ، لا يفارقه!
        مد الرجل يده بداخل جيبه ، وهو يسرع خطاه المترنحة، نظر إلى وجوه الناس؛ الذين أبدى البعض منهم علامات الاشمئزاز والتقزز عند رؤية وجهه الدميم، يرمقهم بنظرات الغضب والحقد ثم .. توقف فجأة!
        توسط السوق، ضغط على زر الموت بقوة !
        دوى الانفجار سريعا قويا. تقطع جسده إلى أشلاء صغيرة، تناثرت معه أجساد كثيرة متطايرة إلى الفضاء. يتضافر الدم منها وكأنه انهمار مطري ثقيل، غير المرئي ، يتلقف الأرواح بسرعة البرق؛ و بلمح البصر، يرفعها إلى السماء عاليا فتطير أرواحا كنسمات خفيفة .. وتبقى أرواحا أخرى؛ تصارع الموت من أجل الحياة.
        مئات الأرواح التي قبضها اليوم، وشدة النيران والدخان الكثيف؛ والأبنية المنهارة وحدوث هذا الانفجار؛ الذي يحمل الرقم ثمانية منذ بدء النهار؛ وحتى انتصافه، جعله يشعر بالتعب الشديد والإنهاك، فترك بعض الأرواح تنازع ، وجلس على حافة الرصيف .. يستريح! تتفحص عيناه أعداد الجثث المتناثرة بنظرةٍ مذهولةٍ!
        تناهى لسمعه صوت بشري يئن أنينا خافتا يائسا ،
        التفت ناحية مصدر الأنين، فرأى جسد شاب مسجى على قارعة الطريق؛ مقطع الأطراف، تنزف كل أوردته، مع كل نبضة من نبضات قلبه.. ترقد بجانبه امرأة بلا رأس، مقطعة الأوصال؛ وقد تدلى جنينها من بطنها التي انفلقت من شدة عصف الانفجار. بدا الجنين وكأنه لعبة صغيرة ممزقة، تقبع إحدى يديه المقطوعتين على صدر أبيه، كأنه يستجير فيه أبوته، يستغيث حمايتها، تفترش أحشاؤه الصغيرة الرفيعة إسفلت الشارع، وشرايينه الرقيقة تضخ الدماء على الأرض؛ التي اغتسلت بدماء والديه ودمائه .
        أدار رأسه إلى الناحية الأخرى؛ مشيحا النظر عن ذاك الجسد الممزق، تحاشى رؤية وجهه وسماع أنينه ؛ فالتعب أخذ منه مأخذه، ولم يعد يطيق قبض روح أخرى!
        طأطأ رأسه . وصوت أنين الشاب يدوي بأذنيه، ووجهه المألوف يحوم حوله ، يأبى أن يفارقه.. وهو يتوسل بصوت خافت ملهوف أن يسرع بقبض روحه، تخليصه من عذاب وألم لم يعد يحتملهما .
        أدار رأسه مرة أخرى؛ نظر إلى وجه الشاب ؛ فوجده يحدق بوجوده بعينين تملؤهما نظرة متوسلة، تطلب الرحمة والخلاص، يلوح إلى السماء بإصبعه الوحيد المتبقي من يده ، يستغيث بصوت واهن، يستعطفه:
        - أستحلفك الله أن تعجل.
        خشع ،
        أحس بالشفقة والرحمة تملأ روحه،
        نهض بسرعة ،
        قبض روح الشاب .
        يصرخ بلوعة مستغيثا:
        - رحماك إلهي .. ألا ينتهي الموت في هذا البلد أبدا.. ألا ينتهي ؟!




        بائع النسيان

        معك أنسى حظي العاثر،
        أنسى أني فتاة خلقت كي تشقى فقط .
        عسيرة كنت بكل شيء ؛ فحتى يدي عسراء .
        كل شيء يناقض رغباتي، وكثيرا ما كدت أفقد الدفة حين أود فعل شيء ما . فيعاكسني الحظ ، يكون ضدي .
        أذكر جيدا يوم حدثت صويحباتي :
        - أني لن أجد الحب يوما!
        ساذجة حقا كنت يومها، لم أك أدري أنه ينتظرني خلف باب عمري الغض، يطرقه بإصرار، ليسكن بين نوافذ قلبي ، ويستقر على جدرانه ، يقبع كلطخة متحديا إياي على طاولة أيامي.
        أوه .. هل مر وقت طويل مذ استغنيت عن فنجان قهوتي المسائية، لأقضيه مع شخص ما ، أناغيه ، وأفرغ في جعبته كل أحلامي الصغيرة المستحيلات ؟!
        هه، أنا لم أحدثكم عن جنوني بقهوتي الصباحية، كونها تشكل بداية عالمي، مذاق يريح طوايا قلبي المتعبة طوال سنين عمري الفتية، التي أظنها لم تستوف شروط الإطلاق المسموح به عالميا. أرشفها لتسترخي تجاعيد عقلي المشدودة ، وتطير روحي بين أروقة الخيال.
        كل شيء تغير ، عكس عقارب ساعة أمنياتي ، كأني فرس فك عقال لجامها فجمحت!
        تخليت عن قهوتي ، وعن متابعة زهوري ، هجرت كتبي لأقضيها معه ، أرتشف خمرة العشق ، أجلس منتشية بملامحه الشرقية.
        ممممم، أأقول أني بدل أن أحبه ، همت فيه ؛ ليخذلني!
        يقصصني بذنب لم أقترفه!
        تركني مهجورة كناسكة في شرفة تعصف بها رياح شباط الصقيعية، كأنه يعاقبني لهجراني فنجان قهوتي.
        أبحث عنه في تواريخ الأيام، بين ملامح الطرقات، مفترقاتها.
        احترت .. كيف أبدأ يومي بدونه ؟!
        كيف أقضي النهارات ، دون أن يكون على قائمة أولوياتي، وأين سأركن ذكرياتي معه!؟
        هل أعيرها لإحدى صديقاتي؟
        أم أحرقها؟!
        وكيف أحرق ذاكرتي!؟
        وفي ذاتي أطارد بائع النسيان ، بعد أن سمعت صديقاتي يتحدثن عنه، وهو يبسط النسيان على وسائد وشراشف نقش على نسيجها طلاسم فقدان الذاكرة ، في آخر شارع مظلم، يبيعه مقابل ثمن بخس!
        بحثت كالمحمومة بين الدروب المعتمة عنه ؛ علني أجده بعد خيبتي، بإيجاد من جنى علي!
        ركضت متخبطة بين ذكريات الماضي .. ودموع الحاضر، نظرت بعيني اللتين غلفتهما غشاوة قتامة الدمع ؛ لأجده يجلس بمكانه ، يتربع بقعته، خاويا، لا شيء أمامه سوى الفراغ ، ونظرة هائمة نحو المجهول، ترتسم على محياه.
        تساءلت:
        - أيعقل أن يعتزل بائع النسيان مهنته، أم أن حظي العاثر يتلاعب بي الآن !؟
        اقتربت منه ، طالبته بجرعة نسياني، مددت يدي بالثمن . يجيبني بفمه الأدرد المجعد ، مطرق الرأس كأنه ارتكب معصية:
        - أعتذر منك بنيتي، فقد نسيت عدة النسيان .. اليوم!
        التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 18-07-2013, 11:42.
        sigpic

        تعليق

        • مالكة حبرشيد
          رئيس ملتقى فرعي
          • 28-03-2011
          • 4544

          #5
          مبروووووووووووووك أستاذة عائدة
          الف مبروك للكاتبة والقاصة الكبيرة والانسانة
          التي تتحفنا دائما بابداعاتها الجميلة
          اتمنى لك المزيد من التوفيق والنجاح
          والمزيد من الاصدارات التي ستضيف
          الكثير للادب العربي على الصعيد الاجتماعي
          والانساني
          اشكر الاستاذ ربيع ان فرح قلوبنا
          وقلوب ملايين القراء الذين سيعشقون حرفك
          دمتما صرحا ادبيا منه نتعلم

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #6
            مبارك لك و لنا عزيزتي عائدة
            عقبال إصدارات أخرى عديدة
            و شكرا بحجم الكون للربيع أستاذ ربيع ..
            مودّتي دائما ..
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • عائده محمد نادر
              عضو الملتقى
              • 18-10-2008
              • 12843

              #7
              ربيع الغالي, دخلت النصوص وحاولت أن أعدل فيها ولم أفلح سوى بتعديل عنوان المجموعة ( ولشهريار ، حكاية أخرى ) وهذه الواو فقط هي ما استطعت تغيره ( العنوان فقط ) مع أني دخلت على الممسوس وفتحت الحروف المتشابكة, ودخلت أكره ربيع وحاولت فك الإشتباكات لكني لم أفلح ربيع .. لم أفلح حتى بتغير حتى فرزة أو فاصلة، أو كلمة فائضة يجب أن تحذف فكيف العمل وأنا مقيدة بهذه الإشكالية اللعينة.اليوم كان النت عندنا خارج نطاق التغطية وحتى الساعة ( ال 2 بعد منتصف الليل تقريبا) أقل أو أكثر لم أنتبه المهم أني سأحاول الدخول مرة أخرى والتعديل لعلني أستطيع التعديل.. فشكرا ربيع لك من القلب لأنك أنت الربيع الغالي ومعذرة أني سأتعبك وأتعبتك فعلا, فكن بخير أيها الغالي
              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

              تعليق

              • ربيع عقب الباب
                مستشار أدبي
                طائر النورس
                • 29-07-2008
                • 25792

                #8
                صباح الخير أستاذة عائدة
                هذه البروفة النهايئة للمجموعة أستاذة
                و لا أدري .. مايعنى أن هناك كلمة زائدة او فاصلة غامضة
                راجعي أستاذة
                أنا معك
                لتأخذ وقتها لتكون في أحسن صورة

                شكري و احترامي
                التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 18-07-2013, 10:15.
                sigpic

                تعليق

                • حسن لختام
                  أديب وكاتب
                  • 26-08-2011
                  • 2603

                  #9
                  تهنئة من القلب وألف ألف مبروك على هذا الإصدار الأنيق
                  أتمنى لك ، أختي العزيزة والأديبة الرائعة عائده، كل التوفيق والتألق
                  وتحية إكبار وتقدير للمبدع الجميل والأستاذ النبيل ربيع
                  محبتي الخالصة لكما

                  تعليق

                  • ريما ريماوي
                    عضو الملتقى
                    • 07-05-2011
                    • 8501

                    #10
                    الاستاذة عائدة ألف مبارك لك مجموعتك، ومزيدا
                    من التألق والنجاح..

                    شكرا لك والأستاذ ربيع على المجهود والعطاء..

                    خالص التحية والتقدير.


                    أنين ناي
                    يبث الحنين لأصله
                    غصن مورّق صغير.

                    تعليق

                    • يحيى البحاري
                      أديب وكاتب
                      • 07-04-2013
                      • 407

                      #11
                      لغة رصينة وأسلوب بديع
                      ألف مبروك
                      بالتوفيق يارب للأستاذة عائدة
                      التعديل الأخير تم بواسطة يحيى البحاري; الساعة 18-07-2013, 17:46.

                      تعليق

                      • ربيع عقب الباب
                        مستشار أدبي
                        طائر النورس
                        • 29-07-2008
                        • 25792

                        #12
                        بللورة تبكي على خرير أسطورة

                        بساعديه يشق قلب السياب هاذيا
                        : مطر .. مطر .. مطر
                        عيناه مغاضبتاه
                        ما بين اللهب
                        ملح التأسي
                        ذاك الخراب الطاعن من نينوي ..
                        الكاظمية حتى حدود المس
                        محشرج الريح ..
                        والوطن
                        مشبوب بضفتيه
                        بأوجاع الظلال
                        الأقمار المنتحرة
                        أكباد الحكايات
                        باسطا كفيه على بؤسها
                        هدهدة و رطبا جنيا .. لوجه النهار الغائب

                        في جيبه متهدلة مذبوحة ..
                        سـامراء بأبوابها
                        أنفاقها
                        بيوتها
                        معابدها المجدلية
                        أنفاسها المعمورة
                        مشنوقة على خطى الزاحفين صوب الموت
                        النخيل ينعي أسباط الأقمار
                        مدغدغا أهازيج التراب المذفر
                        بياقوت الصباحات المضيئات
                        جثامين العاشقين اختلاجة فجر
                        قادم من أفئدة النائحات ..
                        من ألف وخزة ووخزة
                        ألف ليلة و ليلة
                        ألف جريمة و جريمة
                        من الحيرة إلي فارس ..
                        تدق كعوبها على خاصرة الوقت
                        دبكة التأبين حلزونية مضفورة ..
                        كأعشاب الشوك ..
                        حيات المتاه


                        أكان الكيد الهائم خلف التخوم
                        أم هي براكين الحصى
                        المغمورة في قزح دجلة
                        تشاكس انغماس الفرات في بلاغة الصمت ؟
                        حين رأى قريشا تأكل بنيها
                        المنصور يقطف رأس خليلته
                        الرشيد في ثياب مزركشة
                        يومئ لشارلمان بسر الحاضرة
                        العباسة تولي قهرها الأفق
                        كأن أسطورة تطل برأسها
                        من كبوة التواريخ
                        كفجوة .. أو رأس بركان
                        مثقل بالنكاية و الجرائم المؤجلة

                        مثقلة أنتِ يا روح النخيل
                        جمار اللون في أقاصيص الفتوح
                        ناشج الريح ...
                        الندى في كفيه حائر ..
                        ممسوس بالأساطير و جنيات بابل
                        خطى الوثن على أديم الخرافة
                        تجلي اللعنة بادعاءات النمروذ
                        ضلالة الملكين في لجج الغياب
                        معراج البلوغ ..
                        في أعماق السبع أراضيين
                        السبع سماوات
                        التحكم القبضة على أعناق الربيع
                        في بسالة النكبات وحصباء الغيم

                        يا شتلة الموت المتعب
                        في غناء النصل
                        بأفئدة الجياع ..
                        الشعراء
                        البهاليل
                        السلاطين
                        الخلفاء
                        الخانعين
                        الخائنين
                        الثائرين على أرغفة القهر ..
                        الحالمين بالري ..
                        التحرش بالسماء ..
                        بالمدى خلف شمس الله ..
                        حدود الفرات

                        بائعو النسيان نجوم تائه
                        باحثة في أديم الشوق
                        عن تبانة أخرى ...
                        مرصودة على أشلاء ضالتها
                        لكن حكاية ظمأى ..
                        تتناسلها أبجدية التراب
                        على شفة الـ شهرزاد المقصوصة ..
                        بأرحام الحاملات القيظ
                        الشاديات على أطلال الندى
                        مخالب الصقور
                        لمّا تزل تحكى !




                        مهداة للمجموعة القصصية
                        " لشهريار .. حكاية أخرى "
                        للمبدعة عائدة محمد نادر
                        sigpic

                        تعليق

                        • عائده محمد نادر
                          عضو الملتقى
                          • 18-10-2008
                          • 12843

                          #13
                          وحتى أنتهي من نوبة البكاء ربيع .. وحتى أستعيد بعضا مني.. لي عودة معك وهذه السمفونية العاشرة لربيع عقب الباب
                          الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                          تعليق

                          • ربيع عقب الباب
                            مستشار أدبي
                            طائر النورس
                            • 29-07-2008
                            • 25792

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة مالكة حبرشيد مشاهدة المشاركة
                            مبروووووووووووووك أستاذة عائدة
                            الف مبروك للكاتبة والقاصة الكبيرة والانسانة
                            التي تتحفنا دائما بابداعاتها الجميلة
                            اتمنى لك المزيد من التوفيق والنجاح
                            والمزيد من الاصدارات التي ستضيف
                            الكثير للادب العربي على الصعيد الاجتماعي
                            والانساني
                            اشكر الاستاذ ربيع ان فرح قلوبنا
                            وقلوب ملايين القراء الذين سيعشقون حرفك
                            دمتما صرحا ادبيا منه نتعلم
                            شكرا أستاذة مالكة
                            عائدة تستحق الكثير و الكثير فهب كاتبة و قاصة منتمية للقيمة و الوطن على شساعته
                            و ليست مجرد كاتبة عادية
                            سبق أن اصدرت " عين و انف وصوت "
                            و اليوم يدخل اصدارها الثاني المطبعة

                            شكرا كثيرا
                            التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 20-07-2013, 14:44.
                            sigpic

                            تعليق

                            • خديجة راشدي
                              أديبة وفنانة تشكيلية
                              • 06-01-2009
                              • 693

                              #15
                              مبروك على الإصدار الجديد

                              أستاذتنا المتألقة عائدة محمد نادر

                              حرفك ينطق بالإبداع

                              ونصوصك تتميز بقوة الفكرة

                              والدلالة العميقة

                              بأسلوب أخاذ

                              سلم وهج يراعك

                              وبالتوفيق دائما

                              أعجبتني قصيدة الأستاذ

                              ربيع عقب الباب

                              /////بللورة تبكي على خرير أسطورة /////

                              لما تحمله من قوة الدفق الإبداعي

                              وجمالية الروح

                              تعليق

                              يعمل...
                              X