حب يحييه صمت القنابل 3
ليست ككل القرى قرية سلامة،
يمتد تاريخها وامتداد عمر الإنسان، لم تكن وادعة، منذ فجر التاريخ هي حبلى بالأحداث ولادة لبنات الدهر، غادرها الفرح منذ أن اختبأت تحت جنحها جحافل الظلام.. لازال يكتنفها الغموض، لازالت تقتات آلامها، وتتجرع غصص أحزانها، أحلامها أحلام طفل صغير، تضطجع على أرائك عيونه الوسنى المدنفة ألوان الوعود، نهرها المكدود يسير وئيدا منذ آلاف السنين يلفه الصمت الرهيب، يأبى أن يحكي قصص أهلها الذين ما انفكوا يحملون عبء من تعاقبوا على أرضها تباعا، جحافل المارينز سطرت حكايات للتاريخ تؤكد أنهم ما مروا من هنا إلا ليساوموا النهار ألا يعود من جديد، فما أن يولد بصيص من ضوء، حتى يجهز عليه الديجور المتربص هناك خلف الحدود.
غُسلا للميت والحي أيها النهر التليد أما آن لوريقة عشقك أن تينع على تلك الضفاف وتزدان بورود المحبة، قد تنزه الأرض من أدرانها بسيرك البطيء، لكنك ارتضيت ألا تفعل شيئا وتكتفي بهدير ارتطامك بالصخر حاملا ما تقدر عليه من الغثاء، كل يوم يستجد ذلك التدفق اللانهائي تسير طوع التيار ليس لك إرادة،
أما آن لك أن تثور كبركان ، تتقيأ خمودك، وتلقي بحممك ترجم بها أجساد تيممت بالخنوع المهين ..
سلامة تنظر إلى الغادين والرائحين من ارتفاع وهي تمتطي حرف صخرة كبيرة بعد أن أكلها القعود، لا تغادرها إلا ودلج الليل يغشي المكان تهبط منها، حيث أكواخهم الجاثمة على جنبات معابر الطريق،
دونما اهتمام سلامة تنثر شعرها المجنون متوسدة ذراع الصبر والأماني، لازالت تشطب أيام عمرها تباعا .. بعد أن ابتلعتها أفاعي الغدر ولاكوا عرضها في كوى البيوت المهجورة من الأمان ..
تتذكر محسن بعينيه الواسعتين التي رأت فيهما شغف العشق يربو لكنه خبا ما إن توسد التراب ، تتحنط أمام قبره كتمثال رخامي شوهته تلك الأسمال.. لاشيء يحمل نسيمات أمل موءود غير أضغاث أحلام، قد تخبرها بأن أسباب الحياة ستدب يوما في جسد أطبق عليه الثرى، ( ألا تحيى العظام وهي رميم ..؟ )
تأبى أن تفارقه لعله يعود روحا، أو جسدا يعيد إليها ألق الحياة
- أحبك
كم تمنت أن تقولها له، أو تسمعها منه.
تلك الرموس منسية إلا رمسه يربو على نجد من النجود، يرقد جسده آمنا، كراحل منذ ألاف السنين،
(حمل سره معه، لا أحد يعرف عنه شيئا، عاش غريبا ومات غريبا )... هكذا قالوا عندما كانوا يمضغون سيرته التي بقت لغزا عصيا على الجميع، "عيناي بالدمع لا تجود ،كصخرة جلمود ، يا ويح قلبي "
لا تحصي؛ كم من الساعات مضت وهي تجلس قبالة قبره، تشعل أعواد البخور حيث تذبل الزهور، ويجف ماء الورد حين يهرق على التراب، وتهفو القلوب إلى محطات العمر التي تختنق بالمسافرين،
الكل يريد الرحيل بلا مؤاب، الخوف نذر أحزان يومية صارعادة تبتز مخاوف القلوب، قد يكون رحيل بلا مقدمات ، يودع بعويل النائحات، وصراخ الثكالى،
القرية تنزف شبابها كل يوم تقدمهم قرابين للنهر الذي اصطبغ بلون النجيع، شاخت قبل الأوان تلك القرية التي
لم يعد فيها من حديث غير أولئك الراحلين بصمت
وكرامات صاحب هذا القبر.. وتلك النبتة الغريبة التي راحت تنمو وكأنها لا تريد التوقف، ليس لها مثيل بين نباتات القرية.. بأوراقها العريضة وأفنانها التي تمتد إلى البعيد.. نبتت فجأة دون إرادة من أحد، رأوا فيها شيئا غريبا أستحسنه البعض واستقبحه آخرون ، راحت تلف القبر. وكأنها تريد احتضانه، .بعد الزوال تلقي بفيئها عليه، وينام الناس على هموم تستجد كل صباح ..
أثير لغطا هنا وهناك، قلة من أبناء القرية راحوا يثيرون زوابع من الشكوك حول القبر وسلامة وتلك النبتة التي راحت أفنانها تمتد كأيادي اخطبوط، نزلت عليهم كلعنة.. منذ أن داست أرض القرية أقدام غريبة وهي تنمو بلا توقف، البعض الآخر قال أنها بركة من السماء حطت علينا.. تخاصموا في الرأي، تسفه أفكار بعضهم بعضا. الكل حمل سلاحه للدفاع عن معتقده ولنصرة ما ذهب إليه. طائرات ( الأباتشي ) تحلق تترقب كل حركة مريبةـ تناور في طيرانها أزيزها يلقي ظلال الرعب على الهاربين من الموت. سلامه تحرس قبر حبيبها من طوارق الليل وهوام النهار
- سلامة أما آن لك العودة إلى البيت، قد حان الفطور ..
-محسن يريد ني إلى جنبه أخشى أن أفارقه فيرحل.. يريدني أن أفطر معه.
- محسن مات يا ابنتي،
صرخت بأعلى صوتها .. صرخة تقشعر لها الأبدان:
(( لا لم يمت محسن هو حي يرزق ، بالأمس كان معي هنا يناغيني وأناغيه. ))
أبو سلامة يطيل السجود.. أمها تعد أطباق السحور مع صوت قرع الطبل والصفيح وصوت المسحراتي
(سحور ، سحور.. )
رائحة الطعام تثير الرغبة بالنفوس، طرقات واهنة على الباب، سلامة تجلس عند العتبة تثير شفقة من ينظر إليها، أهلها جزعوا هذا المآل ..
- أدخلي يا سلامة ...قالت أمها وفي عينيها انكسار.
نظر أبوها إليها وفي عينيه تلجلج للدموع، قام أخوها من مكانه أحاطها بذراعه.. حاول أن يعينها على اجتياز عتبة الدار، ساهمة غارقة في صمت يلفها كما القبور..
دخلت وهي تنظر إلى البيت كأنها لأول مرة تراه تطوف بنظراتها بين أرجائه، كادت أن تسقط لولا أن أبيها أحتضنها، راح يمست شعرها الأشعث، ويمسح وجهها مما علق به من غبار،
- كلي يا ابنتي ..
قالت أمها.. وهي تبكي..( آه كم ازرى الزمان بك )
أقعدتها في الطشت راحت تغسل جسد أهيف أبض، تمشط شعرها الأسود،
- لا ريب في ذلك ، أنا راحلة يا أمي،
ظلت أمها فاغرة فمها وكأنها صعقت، أضافت سلامة، غير مدركة لما تقول:
-رحيلا لا تجوع الأجساد فيه ولا تعطش...
لطمت أمها خدها.. صرخت بصوت مكتوم.. ضربت على رأسها بيديها.
- لا .. لا تقولي هذا يا ابنتي. ( ثم استطردت ) يا ويلي .. ماذا أقول ..؟ يا وجعي، كل يوم لي بك فجيعة ليتك متي قبل أن ألدك..
هي غائبة عن الوجود، لم تشعر بما يحيط بها، ولا بنواح أمها وعويلها، ولا دعاء أبيها وتهدج صوته في الصلاة،
أمسك الناس عن الطعام لكنهم لم يمسكوا عن الكلام.. تجمعوا في فناء الدار
(لنقتلع تلك النبتة ونهدم قبر هذا الشيطان الرجيم.. )
حملوا الفؤوس والمساحي والبنادق تأبطوا الشر، وأقسموا أن يقتلوا من يقف لردهم عما أجمعوا عليه.. هموا بالمسير،
انهمار الضوء على الأرض أضاء لهم العتمة التي توسدت الأرض.. نباح الكلاب يمتزج ولغطهم، وهم يلوذون تحت أشجار العوسج التي امتلأت بها الطري .. خوفا من الطائرات التي راحت تحلق على ارتفاعات متفرقة.. تلقي بأضوائها الفسفورية،
خرجت القرية عن بكرة أبيها.. وقف رجال يحملون بنادقهم للدفاع عن تلك النبتة وعن ذاك القبر وفي عيونهم اصرار على تنفيذ ما في كنانتهم. شحذت أسنة الحراب والكلام أصبح سجالا بين الأضداد والكل متهيبا من الآخر، اعتلج القوم، واتفقوا على ألا يتفقوا، إنها حرب لا محال، كبرت الجوامع
( حيَ على الجهاد )
سلامة تخترق الجموع ، تنظر إلى تلك الوجوه المتغضنة:
- ما بالكم يا أهلنا .. علام تتحاربون؟
صرخ رجل فيهم..
سلامة تجثو على القبر.. تنوح تبكي تربة حبيبها .
فجأة بهت الجميع. رشقات من رشاش وانطلاق أقراص من النار راحت تحيط بالمكان، تتعالى صرخات من مجهول، تنهمر القنابل تباعا.. أصوات الانفجارات تهز القرية، الشوارع خلت بعد أن أحرقت الأرض، كل اختبأ وراء متراسه.. الطائرات ترجم الناس بحمم من نار،
انطلق الرصاص من فوهات البنادق بشكل أفقي يقاطع بعضه البعض.. القرية تودع قتلاها..
الشجرة تنمو وتنمو امتدت سيقانها لتصل كل البيوت، صارت شبحا يخاف منه الجميع. سلامة تقع عند قارعة الطريق.. الشجرة تمتد نحوها بعد أن حجب ظلها شعاع الشمس، تتحلق حولها تضيق عليها الخناق، أخوها ينظر إليها من بعيد متهيب من الأقدام على فعل قد يعرضه للموت:
- سلامة حاولي أن تهربي، خلصي نفسك.
سلامة في حالة ذهول شاردة الذهن، يمسك بفأسه يتحدى كل الخوف الذي بداخله يخترق السيقان المتشعبة، يضرب تلك الأغصان فتند منها صرخة أشبه بنعيب غراب، وينز منها سائل أخضر مزرق، يسيح لتنبعث رائحة زنخه كريهة تزكم الأنوف...
أبوها يصرخ بأعلى صوته يجاهد في قطع تلك الأغصان الزاحفة وهو يهم للوصول إليها.
يخرج الناس تباعا من كوى بيوتهم بحذر، خطاهم ثقيلة ثقل الخوف الذي جثم على قلوبهم، يحملون الفؤوس لينقذوا سلامة من براثن تلك النبتة... التي ضيقت عليها الخناق..
ولكن.. !
مع تحياتي
سالم وريوش الحميد
ليست ككل القرى قرية سلامة،
يمتد تاريخها وامتداد عمر الإنسان، لم تكن وادعة، منذ فجر التاريخ هي حبلى بالأحداث ولادة لبنات الدهر، غادرها الفرح منذ أن اختبأت تحت جنحها جحافل الظلام.. لازال يكتنفها الغموض، لازالت تقتات آلامها، وتتجرع غصص أحزانها، أحلامها أحلام طفل صغير، تضطجع على أرائك عيونه الوسنى المدنفة ألوان الوعود، نهرها المكدود يسير وئيدا منذ آلاف السنين يلفه الصمت الرهيب، يأبى أن يحكي قصص أهلها الذين ما انفكوا يحملون عبء من تعاقبوا على أرضها تباعا، جحافل المارينز سطرت حكايات للتاريخ تؤكد أنهم ما مروا من هنا إلا ليساوموا النهار ألا يعود من جديد، فما أن يولد بصيص من ضوء، حتى يجهز عليه الديجور المتربص هناك خلف الحدود.
غُسلا للميت والحي أيها النهر التليد أما آن لوريقة عشقك أن تينع على تلك الضفاف وتزدان بورود المحبة، قد تنزه الأرض من أدرانها بسيرك البطيء، لكنك ارتضيت ألا تفعل شيئا وتكتفي بهدير ارتطامك بالصخر حاملا ما تقدر عليه من الغثاء، كل يوم يستجد ذلك التدفق اللانهائي تسير طوع التيار ليس لك إرادة،
أما آن لك أن تثور كبركان ، تتقيأ خمودك، وتلقي بحممك ترجم بها أجساد تيممت بالخنوع المهين ..
سلامة تنظر إلى الغادين والرائحين من ارتفاع وهي تمتطي حرف صخرة كبيرة بعد أن أكلها القعود، لا تغادرها إلا ودلج الليل يغشي المكان تهبط منها، حيث أكواخهم الجاثمة على جنبات معابر الطريق،
دونما اهتمام سلامة تنثر شعرها المجنون متوسدة ذراع الصبر والأماني، لازالت تشطب أيام عمرها تباعا .. بعد أن ابتلعتها أفاعي الغدر ولاكوا عرضها في كوى البيوت المهجورة من الأمان ..
تتذكر محسن بعينيه الواسعتين التي رأت فيهما شغف العشق يربو لكنه خبا ما إن توسد التراب ، تتحنط أمام قبره كتمثال رخامي شوهته تلك الأسمال.. لاشيء يحمل نسيمات أمل موءود غير أضغاث أحلام، قد تخبرها بأن أسباب الحياة ستدب يوما في جسد أطبق عليه الثرى، ( ألا تحيى العظام وهي رميم ..؟ )
تأبى أن تفارقه لعله يعود روحا، أو جسدا يعيد إليها ألق الحياة
- أحبك
كم تمنت أن تقولها له، أو تسمعها منه.
تلك الرموس منسية إلا رمسه يربو على نجد من النجود، يرقد جسده آمنا، كراحل منذ ألاف السنين،
(حمل سره معه، لا أحد يعرف عنه شيئا، عاش غريبا ومات غريبا )... هكذا قالوا عندما كانوا يمضغون سيرته التي بقت لغزا عصيا على الجميع، "عيناي بالدمع لا تجود ،كصخرة جلمود ، يا ويح قلبي "
لا تحصي؛ كم من الساعات مضت وهي تجلس قبالة قبره، تشعل أعواد البخور حيث تذبل الزهور، ويجف ماء الورد حين يهرق على التراب، وتهفو القلوب إلى محطات العمر التي تختنق بالمسافرين،
الكل يريد الرحيل بلا مؤاب، الخوف نذر أحزان يومية صارعادة تبتز مخاوف القلوب، قد يكون رحيل بلا مقدمات ، يودع بعويل النائحات، وصراخ الثكالى،
القرية تنزف شبابها كل يوم تقدمهم قرابين للنهر الذي اصطبغ بلون النجيع، شاخت قبل الأوان تلك القرية التي
لم يعد فيها من حديث غير أولئك الراحلين بصمت
وكرامات صاحب هذا القبر.. وتلك النبتة الغريبة التي راحت تنمو وكأنها لا تريد التوقف، ليس لها مثيل بين نباتات القرية.. بأوراقها العريضة وأفنانها التي تمتد إلى البعيد.. نبتت فجأة دون إرادة من أحد، رأوا فيها شيئا غريبا أستحسنه البعض واستقبحه آخرون ، راحت تلف القبر. وكأنها تريد احتضانه، .بعد الزوال تلقي بفيئها عليه، وينام الناس على هموم تستجد كل صباح ..
أثير لغطا هنا وهناك، قلة من أبناء القرية راحوا يثيرون زوابع من الشكوك حول القبر وسلامة وتلك النبتة التي راحت أفنانها تمتد كأيادي اخطبوط، نزلت عليهم كلعنة.. منذ أن داست أرض القرية أقدام غريبة وهي تنمو بلا توقف، البعض الآخر قال أنها بركة من السماء حطت علينا.. تخاصموا في الرأي، تسفه أفكار بعضهم بعضا. الكل حمل سلاحه للدفاع عن معتقده ولنصرة ما ذهب إليه. طائرات ( الأباتشي ) تحلق تترقب كل حركة مريبةـ تناور في طيرانها أزيزها يلقي ظلال الرعب على الهاربين من الموت. سلامه تحرس قبر حبيبها من طوارق الليل وهوام النهار
- سلامة أما آن لك العودة إلى البيت، قد حان الفطور ..
-محسن يريد ني إلى جنبه أخشى أن أفارقه فيرحل.. يريدني أن أفطر معه.
- محسن مات يا ابنتي،
صرخت بأعلى صوتها .. صرخة تقشعر لها الأبدان:
(( لا لم يمت محسن هو حي يرزق ، بالأمس كان معي هنا يناغيني وأناغيه. ))
أبو سلامة يطيل السجود.. أمها تعد أطباق السحور مع صوت قرع الطبل والصفيح وصوت المسحراتي
(سحور ، سحور.. )
رائحة الطعام تثير الرغبة بالنفوس، طرقات واهنة على الباب، سلامة تجلس عند العتبة تثير شفقة من ينظر إليها، أهلها جزعوا هذا المآل ..
- أدخلي يا سلامة ...قالت أمها وفي عينيها انكسار.
نظر أبوها إليها وفي عينيه تلجلج للدموع، قام أخوها من مكانه أحاطها بذراعه.. حاول أن يعينها على اجتياز عتبة الدار، ساهمة غارقة في صمت يلفها كما القبور..
دخلت وهي تنظر إلى البيت كأنها لأول مرة تراه تطوف بنظراتها بين أرجائه، كادت أن تسقط لولا أن أبيها أحتضنها، راح يمست شعرها الأشعث، ويمسح وجهها مما علق به من غبار،
- كلي يا ابنتي ..
قالت أمها.. وهي تبكي..( آه كم ازرى الزمان بك )
أقعدتها في الطشت راحت تغسل جسد أهيف أبض، تمشط شعرها الأسود،
- لا ريب في ذلك ، أنا راحلة يا أمي،
ظلت أمها فاغرة فمها وكأنها صعقت، أضافت سلامة، غير مدركة لما تقول:
-رحيلا لا تجوع الأجساد فيه ولا تعطش...
لطمت أمها خدها.. صرخت بصوت مكتوم.. ضربت على رأسها بيديها.
- لا .. لا تقولي هذا يا ابنتي. ( ثم استطردت ) يا ويلي .. ماذا أقول ..؟ يا وجعي، كل يوم لي بك فجيعة ليتك متي قبل أن ألدك..
هي غائبة عن الوجود، لم تشعر بما يحيط بها، ولا بنواح أمها وعويلها، ولا دعاء أبيها وتهدج صوته في الصلاة،
أمسك الناس عن الطعام لكنهم لم يمسكوا عن الكلام.. تجمعوا في فناء الدار
(لنقتلع تلك النبتة ونهدم قبر هذا الشيطان الرجيم.. )
حملوا الفؤوس والمساحي والبنادق تأبطوا الشر، وأقسموا أن يقتلوا من يقف لردهم عما أجمعوا عليه.. هموا بالمسير،
انهمار الضوء على الأرض أضاء لهم العتمة التي توسدت الأرض.. نباح الكلاب يمتزج ولغطهم، وهم يلوذون تحت أشجار العوسج التي امتلأت بها الطري .. خوفا من الطائرات التي راحت تحلق على ارتفاعات متفرقة.. تلقي بأضوائها الفسفورية،
خرجت القرية عن بكرة أبيها.. وقف رجال يحملون بنادقهم للدفاع عن تلك النبتة وعن ذاك القبر وفي عيونهم اصرار على تنفيذ ما في كنانتهم. شحذت أسنة الحراب والكلام أصبح سجالا بين الأضداد والكل متهيبا من الآخر، اعتلج القوم، واتفقوا على ألا يتفقوا، إنها حرب لا محال، كبرت الجوامع
( حيَ على الجهاد )
سلامة تخترق الجموع ، تنظر إلى تلك الوجوه المتغضنة:
- ما بالكم يا أهلنا .. علام تتحاربون؟
صرخ رجل فيهم..
سلامة تجثو على القبر.. تنوح تبكي تربة حبيبها .
فجأة بهت الجميع. رشقات من رشاش وانطلاق أقراص من النار راحت تحيط بالمكان، تتعالى صرخات من مجهول، تنهمر القنابل تباعا.. أصوات الانفجارات تهز القرية، الشوارع خلت بعد أن أحرقت الأرض، كل اختبأ وراء متراسه.. الطائرات ترجم الناس بحمم من نار،
انطلق الرصاص من فوهات البنادق بشكل أفقي يقاطع بعضه البعض.. القرية تودع قتلاها..
الشجرة تنمو وتنمو امتدت سيقانها لتصل كل البيوت، صارت شبحا يخاف منه الجميع. سلامة تقع عند قارعة الطريق.. الشجرة تمتد نحوها بعد أن حجب ظلها شعاع الشمس، تتحلق حولها تضيق عليها الخناق، أخوها ينظر إليها من بعيد متهيب من الأقدام على فعل قد يعرضه للموت:
- سلامة حاولي أن تهربي، خلصي نفسك.
سلامة في حالة ذهول شاردة الذهن، يمسك بفأسه يتحدى كل الخوف الذي بداخله يخترق السيقان المتشعبة، يضرب تلك الأغصان فتند منها صرخة أشبه بنعيب غراب، وينز منها سائل أخضر مزرق، يسيح لتنبعث رائحة زنخه كريهة تزكم الأنوف...
أبوها يصرخ بأعلى صوته يجاهد في قطع تلك الأغصان الزاحفة وهو يهم للوصول إليها.
يخرج الناس تباعا من كوى بيوتهم بحذر، خطاهم ثقيلة ثقل الخوف الذي جثم على قلوبهم، يحملون الفؤوس لينقذوا سلامة من براثن تلك النبتة... التي ضيقت عليها الخناق..
ولكن.. !
مع تحياتي
سالم وريوش الحميد
تعليق