بائع البطاطا
=====
جوفها حار وظاميء لتلك الكلمة التي ترويها، بيد أن السماء لم تمطر منذ أسبوعين.
غاصت بأفكارها بعيدا، وتمتمت:
-تري أين هو الآن؟!
تناثرت إشاعات كثيرة بأنه مقبوض عليه، ولا تدري لما يقبض عليه!
قال لها أحدهم:
- ما كان له أن يخرج مع الناس.
سألته:
- وأين خرج معهم؟
أجابها:
- في المظاهرات.
ندبت علي خدها، وسألت بدهشة:
- وماهي المظاهرات؟!
أجابها:
- تلك التي تشاهدينها في التلفاز..
كان كل ماهو عالق في ذهنها عنها ما تراه عند الجيران من حشود من الناس كثيرة كبحر كبير من البشر تهتف وتهتف، ثم ترمى عليهم قنابل أدخنة تجهل اسمها تدمي عيونهم، فتذرف بكاء دون أن يتركوا أمكنتهم،وتمطر عليهم السماء بعد ذلك رصاصا، يتساقط له موتى وجرحى و يصخب المكان بعربات إسعاف.
كثيرا ما كان تسمع همسات الناس في الشارع تضج بهم وتلعنهم، وأن الرزق رحل هربا من هتافتهم، وحال البلد صار تمثالا لا يتحرك غضبا منهم، وجفت الأرض من الخيرات سخطا عليهم، وأنهم يستحقون ما يجري لهم.
لذا داهمها الخوف كسهم نافذ إلى قلبها، أن يكون قد وقع له ما جرى لهم. جن جنونها، وكاد الخوف والقلق يعتصران قلبها بين ضلوعها. هل يمكن أن يحدث ذلك؟!
لا.. لا يمكن.
أنا أعرف زوجي.
لطمت علي خدها، وصرخت:
- لا علاقة لزوجي بالمظاهرات.. زوجي بائع بطاطا.
تركوها تندب حظها، ويقين لديها بأن زوجها لا يعرف سوى عربته التي يدفعها، واضعا فوقها البطاطا، ويذهب بها إلى الميدان الكبير، المزدحم بالناس ليبيعها لهم.
- الرزق هناك كثير.. أنهم أناس طيبون، ولا أجد منهم إلا أحسن معاملة.. قلوبهم بيضاء كندف الثلج الأبيض.
هكذا همس في أذنها ذات ليلة.
كادت أن تنقض منذ أسبوع على جارتها حين سمعتها تكلم جارة أخرى وتغمز لها:
- يعطون للفرد خمسمائة جنيه مقابل أن يذهب إلى هناك..
وسمعت الأخرى ترد عليها:
- الناس حالها صعب، وكل جنيه ينفع..
كان تشعر بكلامهما كجمر من نار يحرق جسدها. كادت أن تنفجر.. وهمس داخلها يصرخ: إلا هذا.. لا يمكن أن يفعلها زوجي.. زوجي عزيز النفس وكريمها و لا يقبل أبدا أن يتنازل عن كرامته..
تذكرت كلام زوجها الدائم لها:
- البركة في القليل.
دندنت مع نفسها:
- مسكين نحن الفقراء، حتي الكلمة الطيبة أصبحت محرمة علينا..
أوشكت النار علي الخفوت تماما.. حركتها ووضعت فيها بعض عيدان الخشب التي أعادت لها حياتها، وجذوتها.. راجية أن تستعيد هي حياتها.
تأملت بعينين واهنتين أولادها المستلقين في نوم عميق علي صلابة أرض الحجرة النتنة الرائحة؛ فزاد قلقها وألمها.
جاهدت خلال الأيام الماضية في البحث عنه بين أقسام الشرطة المختلفة؛ لكنها فشلت وعادت مثل كل مرة، بخيبة تثقل كاهلها وتدمي قدميها.
بعد أسبوعين من غيابه، جاءها أحد جيرانها، وقال لها بأنه محبوس في السجن العمومي، ودلها علي عنوانه.. لم تنم حتى أخذت أكبر أبنائها في يدها، وذهبت تبحث عنه في السجن الكبير.
وبعد عناء طويل وصلت إليه، غير أن رجاءها خاب حين لم تجد اسمه مدونا بين المحبوسين. شعرت باليأس كجبل عال تتعثر خطواتها في تسلقه؛ وشعرت بأنها كمن يبحث عن إبرة في كوم قش.. تفتت إرادتها الصلبة. لم تعد تسأل بعد ذلك عنه، ورضيت بما كتبه الله. جلست حبيسة حجرتها تدعو ربها في صمت.
استيقظ أولادها، وقالوا بصوت واحد:
- جائعون!
نظرت إلي القدر التي بالكاد نضج طعامها، فوضعت لهم الطعام في الأطباق، ولم تأكل معهم. انشغلت بأحزانها. أخذوا يمضغون الطعام الصلب بحنق، فيما واصلت هي الغرق في أفكارها..
باغتها صوت طرقات الباب، فهبت واقفة مذعورة. اندفعت نحوه وفتحته دون أن تنتبه لوضع غطاء شعرها. بلهفة ودون انتظار، سألت القادم:
- خيرا؟!!
نظر إلي الأرض، وقال بصوت حزين:
- يبدوا أنهم وجدوا زوجك!
بلهفة، صرخت:
- أين؟!!
صمت برهة، ثم أجابها:
- في المشرحة.
ضربت علي صدرها: - مشرحة!
قال بصوت خفيض:
- وجدوا جثة مشوهة، وقد تكون جثة زوجك!
26/07/2013
تعليق