القِصَّةُ القَصيرةُ جِدّاً(ق. ق. ج.)
بقلم: أحمد عكاش
ما يلي مُقدّمةُ مجموعةٍ قصصيّة قصيرة جداً، تحمل عنوان: (الرسم بالرصاص)، تأليف: أحمد عكاش، صدرت عن دار الإرشاد بحمص، سنة: 2010.
وقد نشرت عنها دراسة نقدية يمكن الوصول إليها بوساطة : (جوجل)، يكفي أن نطلب (الرسم بالرصاص لوحات إبداعية مكثّفة، ونهايات مدهشة – نجاح حلاس).
(( القِصَّةُ القَصيرَةُ جدّاً )) وَليدٌ لا يزالُ يَشُقُّ سَبِيلَهُ إِلى سَاحةِ (فُنُونِ الأَدَبِ) بِصُعُوبَةٍ، ولَكِنْ بِعِنَادٍ وَثِقَةٍ، شأْنُهُ في ذَلكَ شَأْنُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ حَدِيثٍ، فَهُوَ يُلاقِي مِنَ النُّقَّادِ وَالأُدَباءِ مَا لاقَتْهُ (القِصَّةُ القَصِيرَةُ) نَفْسُهَا مِنْهُمْ فِي النِّصْفِ الثّانِي مِنَ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، يَوْمَ أَتَى بِهَا (مُوبّاسانُ)([1])؛ قالَ الدُّكتورُ (رشادُ رُشْدي) في كِتابِهِ (فَنُّ القِصَّةِ القَصيرةِ):[..ولَقَدْ جاءَتْ قِصَصُ (مُوباسّان) مُختلفةً عن كُلِّ مَا سَبَقَها مِنْ قِصَصٍ حَتَّى أَنَّ النّاسَ رَفَضُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهَا فِي بَادِئِ الأَمْرِ..، لَكِنَّ الأَيَّامَ مَا لَبِثَتْ أَنْ غَيَّرَتْ هَذَا الرَّأْيَ].
فَأُدَبَاؤُنَا الآنَ حِيَالَ هَذَا الوَلِيدِ الحَادِثِ يَنْقَسِمُونَ فِئَاتٍ، فِئَةً تُرَحِّبُ بِهِ وَ(تُصَفِّقُ)، وَفِئَةً تَسْتَهْجِنُ وَ(تُصَفِّرُ)، وفِئَةً ثَالِثَةً لائِذَةً بِالصَّمْتِ تَنْتَظِرُ إِسْفَارَ العَاقِبَةِ.
- فَـ (المُرَحِّبُونَ) يَرَوْنَ أَنَّ الحَيَاةَ تَتَطَوَّرُ بِسُرْعَةٍ، وَيَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ يُجَارِيهَا فِي تَطَوُّرِهَا، وَمَا لا يُمَاشِيهَا سَيَقِفُ مَكَانَهُ جَامِداً مَشْلُولاً، فَإِذَا بِهِ بَعْدَ بِضْعِ سَنَوَاتٍ يَغْدُو غَريباً تَمُجُّهُ الأَذْوَاقُ، وَتَنْبُو عَنْ رُؤْيَتِهِ الأَحْدَاقُ، فَيَؤُولُ إِلَى الاضْمِحْلالِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ سِمَةَ العَصْرِ الحَالِيَّةَ هِيَ السُّرْعَةُ؛ فَـ (نَاقَةُ الأَمْسِ) وَ(حِصَانُهُ) أَمْسَتِ الآنَ طَيَّارَةً وَمَرْكَبَةً فَضَائِيَّةً تَسْبِقُ الرِّيحَ وَالصَّوْتَ، وَأَفْرَزَتْ هَذِهِ السُّرْعَةُ انْصِرَافَ النَّاسِ عَنِ المُطَوَّلاتِ إِلَى المُلَخَّصَاتِ وَالمُخْتَاراتِ، فَقَدِ اسْتَعَاضُوا بِـ (القَصْعَةِ) الَّتي يُتَوِّجُهَا عِجْلٌ حَنِيذٌ أَوْ خَرُوفٌ مَحْشُوٌّ .. قِطْعَةَ (بِيتْزَا) يَقْضِمُونَهَا وَهُمْ يَعْدُونَ إِلَى شَأْنِهِمْ، فَرُوحُ العَصْرِ إِذَنْ تَقْسِرُ (القِصَّةَ القَصِيرَةَ) عَلَى أَنْ تُمْسِيَ (قَصِيرَةً جِدّاً)، فَهِيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِدْعاً وَلا نَادَّةً عَنْ نَوَامِيسِ الحَيَاةِ.
وَلِسَانُ حَالِ هَؤُلاءِ يَقُولُ: إِذَا قَيَّضَ اللهُ لَنَا –نَحْنُ أَبْنَاءَ عَصْرِ السُّرْعَةِ- أَدِيباً يَقُولُ لَنَا فِي بِضْعَةِ أَسْطُرٍ مَا كَانَ يَقُولُهُ السَّابِقُونَ فِي بِضْعِ صَفَحَاتٍ، فَعَلامَ نُضَيِّعُ وَقْتَنَا وَنُرْهِقُ عُيُونَنَا.. بِلا طَائِلٍ؟.
وَ(المُسْتَهْجِنُونَ) يَرَوْنَهَا دُرْجَةً ([2]) آنِيَّةً تَسُودُ حِيناً ثُمَّ مَا تَلْبَثُ أَنْ تَضْمَحِلَّ، وَفُقَاعَةً لا تَرِيمُ حَتَّى تَتَلاشَى، لأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى مُقَوِّمَاتِ البَقَاءِ وَالخُلُودِ.
وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ فَـ (القَصِيرَةُ جِدّاً) هَذِهِ أَرَاهَا تَسِيرُ سَيْراً حَثِيثاً، فَهَا هِيَ مِهْرَجَانَاتُهَا تُعْقَدُ فِي العَدِيدِ مِنْ مُحَافَظَاتِنَا السُّورِيَّةِ، وَمِنْهَا المِهْرَجَانُ الَّذِي أُقِيمَ فِي دَارِ الثَّقَافَةِ بِحِمْصَ، فِي (2و3/10/2010) م، وَالَّذِي بَدَا جَلِيّاً أَنَّهُ لا يَخْتَلِفُ عَنْ مِهْرَجَانَاتِ (القِصَّةِ القَصِيرَةِ) فِي شَيْءٍ، فَقَدْ كَانَ لَهَا حُضُورٌ وَمُهْتَمُّونَ.
- هَذِهِ المُلاحَاةُ الَّتي نَشْهَدُهَا بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالمُنَاوِئِينَ، مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَطْفُوَ عَلَى السَّطْحِ لَوْ أَنَّ هَذَا الفَنَّ الأَدَبِيَّ الوَافِدَ اتَّضَحَتْ مَعَالِمُهُ، وَقُعِّدَتْ أُصُولُهُ، وَصَارَ لَهُ تَعْرِيفٌ جَامِعٌ مَانِعٌ، وَلَزَالَتْ عَنْ وَجْهِهِ هَذِهِ الغِشَاوَةُ الَّتِي تَغْشَاهُ فَيَبْدُو تَحْتَها غَائِماً غَيْرَ وَاضِحِ القَسَمَاتِ، .. وَالإِنْسَانُ بِفِطْرَتِهِ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى الوَاضِحِ الصَّرِيحِ، النَّائِي عَنِ العَتَمَةِ وَالإِبْهَامِ.
فَـ (القِصَّةُ القَصِيرَةُ جِدّاً) كَمَا أَرَاهَا: فَنٌّ أَدَبِيٌّ نَثْرِيٌّ قَاصٌّ، يَمْتَازُ بِالخَصَائِصِ التَّالِيَةِ:
1-القِصَرُ: فَقَدْ تَكُونُ بُنْيَتُهَا بِضْعَ كَلِمَاتٍ أَوْ بِضْعَةَ أَسْطُرٍ. [وَ(البِضْعُ) فِي العَرَبِيَّةِ تُطْلَقُ غَالِباً عَلَى العَدَدِ مِنْ ثَلاثَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ]، وكلّما كانتِ القصّةُ أكثرَ قِصراً، كلّما دلّتْ على تمكُّنِ كاتِبها في هذا الفنِّ.
2-الإِيجَازُ: وَهُوَ التَّكْثِيفُ فِي عَرْضِ الحَدَثِ، فَهِيَ أَشْبَهُ مَا تَكُونُ بِتَجْسِيدِ (وَمْضَةٍ) وَتَقْدِيمِهَا مَغْسُولَةً مِنْ كُلِّ زِيَادَةٍ، تَرْفُضُ كُلَّ إِسْهَابٍ فِي الوَصْفِ، أَوْ تَرَهُّلٍ فِي التَّعْبِيرِ.
فَالقِصَرُ هُنا يتناولُ مُجْملَ حَجْمِ القِصَّةِ، عَلى حِينِ يختصُّ الإيجازُ بِعَرْضِ الأَحداثِ، والأفكارِ، فهما (الإيجازُ والقِصَرُ) يُكمِّلانِ بعضَهما.
3-الاتِّكَاءُ عَلَى الرَّمْزِ: فَهِيَ تُومِئُ وَتُلَمِّحُ وَلا تُصَرِّحُ، وَتَنْأَى عَنِ المبَاشَرَةِ وَالوُضُوحِ السَّاذَجِ فِي تَبْلِيغِ الفِكْرَةِ.
[ويتوجّبُ هنا الحذرُ مِنَ الوُقوعِ في شَرَكِ الغُموضِ Confusion، الذي يقعُ فيهِ كثيرٌ ممّن يتطفّلون على هذا الفنِّ، يبغونَ بذلك التّعميةَ على القارئِ، ولإيهامهِ أنَّهُمْ عميقو الغَوْرِ في تفكيرِهم، وما يسعونَ في الواقع إلاّ إلى إخفاءِ ضحالةِ تفكيرِهم، والتّستُّرِ على جفافِ قرائحمْ.].
4-الاعْتِمَادُ عَلَى المُفَارَقَةِ: إِذْ تُحَرِّضُ السَّامِعَ وَتَسْتَثِيرُهُ، وَتَسْتَوْفِزُهُ عَلَى التَّفْكِيرِ السَّرِيعِ، فِي كَشْفِ التَّنَاقُضِ فِي المَوَاقِفِ، وَالتَّضَادِّ فِي الصُّوَرِ، فَتُؤَجِّجُ فِيهِ الدَّهَشَ، وَالسُّخْرِيَةَ السَّوْدَاءَ، وَالضَّحِكَ المبْكِي.
5-الخَاتِمَةُ المُفَاجِئَةُ: الَّتِي تَصْعَقُ تَوَقُّعَاتِ القَارِئِ أَوِالسَّامِعِ، وَغَيْرُ المُتَوَقَّعَةِ، الَّتِي قَدْ لا تَمُتُّ إِلَى مَاسَبَقَهَا إِلاَّ بِشَعْرَةٍ وَاهِيَةٍ لا تُكْشَفُ إِلاَّ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالعَنَتِ.
أَمَّا مَا سَيَأْتِي بِهِ الغَدُ فَلا يَزَالُ رَهْنَ الغَيْبِ، وَاللهُ وَحْدَهُ بِهِ عَلِيمٌ.
أحمد عكاش – حمص
2/ذو القعدة/1431هـ9/تشرين الثاني/2010م
[1]-جي دي موباسّانُ(1850-1893)م أَدِيبٌ فَرَنْسِيٌّ يُعْتَبَرُ رَائِدَ كُتَّابِ القِصَّةِ القَصِيرَةِ فِي القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ.
[2]- الدُّرْجَةُ: هِيَ الَّتِي دَرَجَ عَلَيْهَا النَّاسُ وَاعْتَادُوهُا، وَيُسَميِهَا االعَامَّةُ (مُوضَةً).
انتهت