أصحاب الأرض
الازدحام على بوّابة الدّخول، في انتظار أن يُمزّق صاحب الشّارة، ذو الشّاربين الملويّين تذاكرنا من الأعلى، قبل أن يسمح لنا بالتّقدّم، أتاح لي سانحة لألحظ الإشراقة التي تنزّ من وجوه المحظوظين الذين قُبلوا. سيّد المرحلة الأولى الذي ما كنتُ لأصدّق، و أنا أرقب دوري، بأنّ مقابلته ليست هي الغاية من مجيئنا، يفحص الورقة ثمّ يمزّق طرفها، حتما لو غامرتَ بالاستظهار بها في العرض المُقبل، مُتسلّحا بحجّة تلفها في جيبك مثلا، لرفضها، لا لأنّها مُمزّقة بل لأنّ التّاريخ المدوّن عليها قد مضى..صغارا كانت القرعة بيني و بين أختي عبارة عن أنشودة كلماتها مقسومة بيننا. كلمة عندها و كلمة عندي. أنا من يؤدّيها دائما. أضطرّ غالبا لأشطر الكلمة الأخيرة نصفين كي يؤول الرّهان لصالحي. كنتُ إذن أربح دائما. مع ذلك كانت تنال الغرض لأنّها المُدلّلة لدى أبي.. محال أن تخطر لك فكرة مجنونة كتلك و أنت ماثل أمامه. كنّا مُتوتّرين، كما لو أنّنا نعبر الحدود بجوازات مُزوّرة. ثمّ يأتي دور الممرّ الضيّق الطّويل المحفوف على الجانبين بحواجز حديديّة كالتي تنظّم اقتطاع التّذاكر في محطّات القطارات. عندما بلغنا الثّلث الأخير من المسافة راودني إحساس بالحنق، و قرّرتُ أنّ هناك من أَمَرَ بإضافته بدافع ركاكة. على طول الشّريط الحديديّ اضطررنا لمسايرة خطى النّساء المُثقلات بالأطفال و بحكايات الجارات التي حلّت محلّ أجسادهنّ الرّشيقة الغابرة، الدّرب الذي كان علينا المُضيّ فيه بالكاد يتّسع لاثنين متحاذيين، القوائم المتوازية حاصرتنا و حالت دوننا و دون تخطّي أرباب العائلات ذوي البطون البارزة غير المُكرهين على إرجاء الحديث عن الوضع المأزوم للبلاد، غير المُستعدّين البتّة لتعكير نشوة المشي بتأنّ منفرجي السّيقان و هم يرفلون وسط جلابيبهم النّظيفة جدّا، لمجرّد أنّ خلفهم من سيكون حاله أفضل بكثير لو تجاوزهم.
حين وصلنا، و أمكننا أخيرا أن ننتحي حيّزا في منتصف المدرج الحجريّ قبالة الرّكح تماما. جلتُ ببصري في أرجاء المكان. كانوا بعدُ هناك، ينطّون كحملان من مكان إلى آخر، أعرفهم كما لا يتوه المرء عن صدع في بيته.. أخصّ؛ عن سامة في خدّه. الدّهشة و نفاد الصّبر يطفران من أحداقهم كلّما توقّفوا عن الهرج لحظة خاطفة يرمقون فيها الوافدين بنظرات مضيافة، شاكرة لو أردتُ التّدقيق، كانوا مُفعمين بالحيويّة، مُندفعين بأرواحهم صوب كلّ ما يومض من لون و عطر و ألق على نحو لا يدع مجالا للشكّ أنّهم لم يمرّوا بما مررنا به نحن من عقبات جعلتني أشعر لوهلة بأنّي منذُ وُلدتُ لم أعرف حياة سواها.
أيُعقل أن يكونوا قد اندسّوا بين أفراد الفرقة دون أن تكون قد كشفتهم كتائب الأمن و الحرس الموزّعين في أرجاء المكان؟
أيُعقل أن تُخفي سراويلهم القصيرة الرثّة تذاكر ممزّقة من الأعلى؟
الرّوعة طافحة على صفحة الحفل، هي حجمُها الجنّةًُ على الأرض، نحنُ فيها المنعّمون، هم فيها الولدان المُخلّدون..أيُعقل؟
حسبك..و ليتوقّف التّهويم الحالم هنا، و إلاّ ضاع المهمّ و تحوّلت ذكرى الحفل برمّتها إلى قصيدة صار صاحبها يحقد على من يُصدّقها لفرط ما كرّرها. الأمر لا يستدعي عناء التقصّي و لا هو يحتمل مدّ مسلك للغرابة، هم في النّهاية أصحاب الأرض و كفى. أصحاب الأرض لا تعوزهم الوسيلة كي يكونوا الأسبق.. لنُصحّح القول إذن: هم دائما هناك.. سطوا ربّما، لكن دون إذن على أيّة حال.. أعمارهم لا تزيد عن الثّانية عشرة. أطوالهم متقاربة، أجسامهم نحيلة. شعر أصهب مغبرّ مرتفع إلى الأعلى كحدّ السكّين. وجوه سلبت منها شمس الشّوارع براءتها، راسمة فوقها على مهل، كما لو أتيح لها ما طلبت من الوقت لتنفرد بهم، ملامح رجال ليسوا على استعداد ليتسامحوا مع أصغر جزئيّة تتعلّق بأقواتهم. عيب الشّمس الوحيد هو أنّها تجزي وقتها باحتكار التوهّج لنفسها.
المسرح الأثريّ الذي سيحتضن حفل الفنّان العالمي ماتِيولي، الرّابض في آخر نقطة من المدينة الرّومانيّة على هامش المدينة الجديدة، بقسمه المُترهّل يبدو كأحد البيوت المُتصدّعة على سفحه من جهة الوادي. حيّهم الذي لا يأوون إليه إلا للنّوم.
لاحقا سأعلم أنّهم يتسلّلون إلى المسرح عبر أنفاق تحت السّياج الشّائك العالي السّميك الذي يفصل حيّهم عن المدينة الأثريّة. ذاك أنّ أصحاب الأرض يجدون دائما المنفذ ليعبروا إلى أرضهم.
لاحقا أيضا سأتذكّر بوضوح أنّهم لم يتبادلوا فيما بينهم كلمة واحدة، عدا الضّحك و العدو في كلّ الاتّجاهات و تسلّق الدّرجات الشّاغرة و اشتباكات قصيرة كانت أحيانا تنشب بينهم فجأة، لتنتهي بسرعة.
اتّخذ أفراد الفرقة مواقعهم خلف آلاتهم. من أمام البيانو رفع ماتيولي كلتا يديه، فردهما برهة ران فيها الصّمت، ثمّ بحركة حادّة أعطاهم إشارة البدء. انفجرت الموسيقى من كلّ صوب. لدقيقتين لم يكلّمني صديقي الجالس إلى جواري. و الذي قبل على مضض أن يرافقني. في سرّي تمنّيتُ لو تؤدّي الفرقة عرضا يفوق الخيال كي ينزاح عنّي الشّعور بأنّي أسأتُ إليه. كان قبلها قد عبّر لي عن رغبته في الذّهاب إلى أيّ مكان يسكت فيه. مع ذلك وجدتُني أجتهد لأهوّل بيني و بين نفسي حرارة المشهد و أضفي عليه من عندي هالة سحريّة كدخان غير مرئيّ يطوف فوق الحاضرين فيغشاهم إعجابا و دهشة. كيف فعلتُ؟ كنتُ أسحب النّفس و أظلّ كذلك ما استطعتُ، ثمّ أطرد الهواء من أنفي ببطء، مُحاولا الحفاظ على صدري منتفخا.
ألقيتُ نظرة خاطفة عليه. كان يتصفّح هاتفه الذكيّ. قرّبني إليه حتّى كادت شفتاه تلامس أذني:
- انظر كم هي جميلة. برأيك ألا تستحقّ المثابرة؟
بلى هي بحقّ جميلة. بابتسامة عذبة. مُستندة إلى زورق صيد على مقربة من الشّاطىء. يداها ممدودتان إلى الأمام في وضع دعوة احتضان.
عند أوّل استراحة دنا منّي قائلا:
- أخبرتك أنّ زوجتي شبه موافقة على مبدأ الزّواج من ثانية. في الفترة الأخيرة عدنا إلى نقطة الصّفر. لم تقل شيئا، لكنّها صارت تُلقي الأشياء من يدها دون حرص على أن تكتم صوتها. الأدهى أنّها لا تُطعمني و لا هي تُحرّر يدي كي أطعم نفسي.. صرتُ أضاجعها بمقابل يا رجل. بالمال. هل تصدّق؟
الأسبوع الماضي، تعشّينا على ضفاف البوسفور..لمّا عدنا إلى الغرفة نمنا كأيّ لاجئين أمضيا اليوم على الحدود.. هل تفهمني؟
- أفهمك جيّدا.
- غير صحيح..أتدري، أحسدك لأنّك وحيد..يداك طليقتان.
- غير صحيح..يوم أشعر بأنّي وحيد، سأكفّ فورا عن العيش بمفردي.
بعدها انشغل في كتابة رسائل قصيرة. كنتُ ألمح ابتسامة على محيّاه كلّما نبضت الشّاشة. لبث كذلك لأقلّ من نصف السّاعة ثم اعتذر و انسحب.
شعّت الأضواء الكاشفة الملوّنة في الفضاء. و تقاطعت بأشكالها المخروطيّة الحاجبة للنّجوم. تحرّر النّجم من بذلته. ألقاها جانبا، فرد يديه. جمع قبضتيه شابكا أصابعه. ثمّ هوى على لوحة البيانو مُعلنا بدأ المقطوعة الموالية. أيدي الصّبايا الحسناوات ترفرف محلّقة كطائرات ورقيّة. مجموعة من الشّباب يتهادون يمنة و يسرة. آخرون في الضفّة الأخرى أشعلوا الشّموع ملوّحين بها بلطف. أعضاء الهيئة المنظّمة يغدون و يروحون بزيّهم الموحّد يلتقطون كلّ شاردة قد تعكّر صفو العرض. في نهاية كلّ مقطوعة كانوا يصفّقون بقوّة مبالغة كما ليسدّوا النّقص الحاصل في الأيدي التي لم تُصفّق، فتيات على حافّة المنصّة يصوّرن نجم السّهرة بألواحهنّ الرقميّة. فوقنا تماما عاشقان مُتعانقان.
صفّرت الألعاب النّاريّة و لعلعت في السّماء مخلّفة عناقيد فسفوريّة جريئة تليق بالمناسبة.
بلغت الأغنية أوجها. نزل عازف القيثارة ليلتحق بجمهور المتفرّجين على المدارج. تعقّبه الصّبية تاركين بينهم و بينه مسافة قدّروا أنّها ستُجنّبهم الطّرد بتهمة الشّغب و التّشويش على العائلات المحترمة. كانوا على دراية بأنّ الشّقاء المحبّب مسموح، بشرط أن لا تجرفهم النّشوة و الحماس نحو سلوك عقوبته الصّفع و الحرمان.
في قلب السّاحة التي تفصل المدارج عن المنصّة شكّلت مجموعة من الشّباب حلقة رقص.اتّسعت رقعتها تدريجيّا بالتحاق ثلّة من السيّاح. تقدّم فتية يرتدون لباسا عصريّا مُرتخيا تتدلّى منه الكثير من الصّفائح و القلادات اللمّاعة، كانوا يعتمرون قبّعات غريبة. المواكبون للموضة أو على الأقلّ المؤهّلون لتصديق المدى الذي من الممكن أن تصل إليه، سيُجيزون بأنّها وقحة كفاية ما يجعلها جديرة بالاحترام و بالصّفة المُستحقّة لرسالة يبعث بها جيلهم إلى الجيل البائد. خارج الحلقة في الرّكن الأقلّ إضاءة حاول أحد الصّبية تقليدهم. حاول و لم ييأس، إلاّ أنّه في الأخير طُرِحَ على ظهره لمّا أراد أن يتشقلب إلى الوراء. صرف النّظر، و اختفى. تبدّدت الحلقة ثمّ سرعان ما انبثق منها قطار بشريّ راح يجوب السّاحة بشكل أفعوانيّ. تجمّع الصّبية عند نقطة تكاد تكون الوحيدة التي لا تُفسد التقاط الصّور من أيّة آلة مهما كانت حقيرة. إن هي إلاّ لحظات حتّى تحوّلوا إلى ناحية مُعتمة حيثُ شكّلوا قاطرة تلفّ حول دعامة حجريّة معزولة.
نسيتُ ما إذا كان العرض قد انتهى بقفلة وداع ظريفة، غادر على إثرها الجمهور أم لا.. كلّ ما أجزم به منذ علمتُ ما يجدر بي أن أعلمه بشأن الصّبية، هو أنّنا قد تحوّلنا جميعا إلى رسم يدويّ طُُويت على إثره الورقة ثمّ ألقي بها في جوف ما.
كان على الرّسم قوم اعتادوا أن يتركوا ما يجدر بهم تحصيله لصالح أشياء لا عتب إن هم تركوها. كنتُ عليها، كانت عليها منصّة هامدة. كان عليها أيضا صبية فرحون حدّ الثّمالة، أحدهم ظلّ طوال الحفل مُتشبّثا، تحت ذراعيه و بين أصابعه الرّقيقة بسبع قوارير مياه معدنيّة فارغة، له مع الغد موعد ليبيعها أمام متجر للحليب.
****
محمد فطومي
تعليق