تبخر الإرث الذي تركه الأب لابنه الوحيد، كأن لم يكن إلا سرابا خلبا، فالمال كالعصافير، لا يقبل التغريد إلا على الأكف المتشققة، و ما يأتي سهلا يرحل بسهولة..فرغم أن الثروة التي تركها المرحوم كانت فاحشة إلا أنها لم تصمد أمام الاستنزاف الشديد.. فقد أقبل الابن على الحياة بنهم، كان يغترف من بحر المال ما يشبع رغباته و رغبات زملائه..يتذكر بحسرة : انفض من حوله من عاش تحت ظل إنفاقه..سعى أبوه، منذ نعومة أطفاره أن يعلمه حب الأرض، و كيف تنتج الثروة، لكن الأم بفعل عاطفتها المجنحة، حمته من صهد التعب، و غبار الأرض :_مازال صغيرا على أعمال الأرض، ثم إنه يتابع دراسته..ما أفلح في المدرسة، و ما زرع في قلبه عشق الأرض، قال في نفسه : حب الحياة أعمى عيني، ما فائدة الندم بعد وقوع الفأس..تسرب المال من بين أصابعه بسهولة و سلاسة، إذ بمجرد بلوغه سن الرشد، فقد مات أبوه و هو في مرحلة الشهادة الابتدائية، لم يحقق النجاح لربما بفعل صدمة الفقد، و لم يفلح بعدها في أي شيء رامه ، و هذا ما جعله عالة على نفسه و أمه لما جف معين المال. تؤمن الأم بذلك داخليا، و لا تريد الاعتراف به للآخرين مخافة الشماتة،حصل على ثروته أرضا و مالا ، و انطلق يسبجيب لرغبات النفس بغية إشباع طلباتها اللا تحد ، و بات صحبة أمه، بفعل سلوكاته الرعناء، على الحديدة..تنطوي جدران البيوت على أسرار تقول : ما كان الوصي في مستوى المسؤولية، فقد غرف من المال من دون حساب، رغم أنه كان ثريا، أو ربما صار بعد ذلك ثريا، لم يستعفف و لم يأكل باعتدال، ثم تصمت حزينة على ما آلت إليه الأمور.قاومت الأم شراشة الحرمان بما كان يجود به الأهل و الأحباب..صبرت و صابرت، و جاهدت و قاومت،و تعففت ما شاء له الله .. و لما كبرن طلبات الابن، و هو الذي تعود الإسراف في غير ما حد، لم تجد من سبيل سوى الخروج إلى السوق لبيع المتلاشيات، لكنها وجدت المردودية دون المتطلبات..فما كان منها إلى أن اتخذت قرب باب مسجد المدينة الكبير مقعدا، مدت ، في البداية ، يدها، المضطربة، و أخفت وجهها، فقد علته حمرة الخجل، و كاد يعري دواخلها المضطرية و الحائرة..غرست نظراتها في الأرض، وهي تتمنى لو تشق و تبتلعها لتنهي حالتها المأساوية..و مع مرور الوقت، تعودت مد اليد من دون خجل أو إخفاء وجه، صارت ترفع نظراتها في وجه المارين و المصلين، تدعو للجميع باليسر و البركات، أعطوها أو منعوها..دودة الشحاذة انغرست في نفسها و أضحى استئصالها من المستحيلات، فنفض الأهل أيديهم منها و تركوها سادرة في مسعاها الذي أحبته لكونه كان يدر عليها مدخولا محترما..ماتت الأم، المعيل الوحيد بعد أن تنكر له أفراد العائلة..و أطل الجوع بأظفاره ينهش معدته..و ما عرف كيف يواجهه، أحس بالعجز، و بدأت تراوده أفكار سوداءن كان يبعدها بالاستعاذة بالله، حتى كاد يخضع لها..لولا تدخل أحد المحسنين الذي منحه عربة و زوده ببضاعة و دعاه إلى الاعتماد على نفسه و التوكل على الله، فهو حسبه..يتذكر كيف شكره، و انطلق سريعا إلى سوق الخضر لبيع بضاعته، اتخذ لنفسه مكانا جنب الباعة الآخرين، و قد احس بترحيبهم الصامت ..فجأة، ظهرت شرطية بزيها الرسمي، و دعته بقوة إلى إخلاء الطريق، فقد عرقل السير، و تسبب في فوضى كبيرة، تساءل مع نفسه : لم قصدتني من دون غيري، لست الوحيد الذي يحتل الفضاء العام..لم يحرك ساكنا، فاعتبرت الشرطية الأمر تحديا، فصفعته آمرة إياه الامتثال لأوامرها، قائلة : صرتم لا تخافون إلا إذا تم توظيف العنف..أحس بقهر شديد، فرماها بنظرات غاضبة، فدفعها التحدي إلى قلب العربة و نثر البضاعة على الأرض..أمام الفعل الفاضح، لم يملك إلا صراخه، و بسرعة أضرم النار في نفسه..بقيت مشتعلا إلى أن تفحم، أمام أنظار الناس المتفاجئة..ثم أقبلت سيارة الإطفاء، نظفت المكان..أما رماده، فقد ابتلعته مجاري المياه..
احتراق
تقليص
X
-
أستاذي الراقي، ربيع
شكرا لك على ملاحظتك الوجيهة. حقا إعادة بناء النص من نقطة ظهور الشرطية سيكون أفضل..
الحق أن استلهمت القصة من واقع أحد أفراد عائلتي..و جعلتها تتقاطع مع قصة البوعزيزي من دون أن يحدث فعل الحرق تغييرا ايجابيا..
لقد أتعبني الصوغ، لربما أعدت البناء لاحقا، بعد أن أستريح من تأثير القصة
مودتي
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 99418. الأعضاء 5 والزوار 99413.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 409,257, 10-12-2024 الساعة 06:12.
تعليق