أحد زملاء الدراسة اسمه الحقيقي (احميدة موسى) ولكن لا أحد يعرفه بهذا الاسم .. فكل الطلاب ينادونه عصفور الجنة ...

إذا تكلم بالكاد تسمع صوته ... وإذا لعب التلاميذ الكرة كان يجلس بعيدا حتى لا تصطدم به .. كان حريصا بشدة على ملابسه .. وكان يضع كتبه في حقيبة .. الوحيد الذي يضع كتبه في حقيبة .. كتبه وكراساته دائما نظيفة وليست ككراسات (صالح الدحاي ) التي اكتشف الأستاذ حنفي بسيوني أنه ضحك عليه وجلب بعض اوراق الإسمنت ودبسها مع بعضها ثم غلفها ليوهمه أنها كراساته .. وهو لم يكن له كراسات أصلا .. وكان عصفور الجنة يجلس في المقاعد الأمامية .. وقلما يخلع نظارته الطبية ليحك عينيه المنهكتين ..

كان العصفور يرتدي دائما بنطلون أسود وقميصا أبيض وحذاء أسود لامعا اما الدحاي فغالبا ما يرتدي بدلة عربية و(سباط أصبع ) ...

دخل الأستاذ حنفي البسيوني إلى الفصل .. وعلى الفور رحب به الدحاي بطريقته الخاصة .. مصافحة قوية وبالأحضان .. وضحك الأستاذ حنفي في بلاهة وقال له : " يا شيخ اتلهي " ...

التلاميذ كلهم أحبوا الأستاذ حنفي لأنه كان دائم الحديث عن مشاكله الخاصة .. وهذه المرة أدلى بتصريح خطير :

" لقد قررت ان أجيب العيلة هنا عشان تعيش معايا في بنغازي ... ولهذا شقتي الصغيرة اللي أنا ساكن فيها مش حتكفيني .. ممكن حد يعرف شقة للإيجار في مكان قريب من المدرسة ؟ "

قال عزو قاويطة : " مش شغلي .. أنا شغلي صمياص .. كوراشيرا .. راداتوري .. خدمة ماتوري .. أي حاجة تحتاجلها زوبة ابتاعتك على عيني وراسي .. أما السكن فبالفعل .. ارفع عني " ..

وقال محي الصباي : " توا نشوف لك .. وعد والله .. نحن أولادك يا استاذ حنفي .. ما نخدموش اللي أعز منك ... "

ونطق عصفور الجنة في مرة من المرات القليلة التي يتكلم فيها , قال بصوت خافت خجول :

- " خالي عنده شقة للإيجار .."

* "وهي فين الشقة ؟ "

- " في سوق الحشيش "

هكذا أجاب العصفور وامتقع لون الأستاذ حنفي .. وتلون وزمجر .. واد قليل الأدب .. كنت فاكرك غير كده .. أتاريك واد صايع .. ياما تحت السواهي دواهي .. أنا ابتاع حشيش ... ولم يعرف التلاميذ سر غضب الاستاذ حنفي .. ففي تلك الأيام لم يكن الحشيش شائعا .. وكانت كلمة الحشيش تعني لدى بسطاء الليبيين العشب الجاف (الذي يحش ) ليلقى طعاما للبهائم ...

ودون مقدمات ذهب الأستاذ إلى الإدارة .. وعمل للعصفوراستدعاء ولي الأمر .. وطرده من الفصل .. ولم يستطع أحد من الطلبة أن يكلمه فهي المرة الأولى التي يرونه بهذا الغضب ..

وفي الليل كان قاويطة والدحاي والصباي وبقية الشلة يسهرون على شاطيء الصابري وفوجئوا بالأستاذ حنفي يركض باتجاههم .. وركل الدحاي زجاجة (المياه المعدنية) بعيدا حتى لا يراها الأستاذ حنفي فيخالها شيئا آخر .. ووصل الأستاذ وهو يلهث وقال : " الحقني يا محي .. الحقوني يا جماعة .. أشرف قال إنكو هنا .. أنا ظلمت الواد عصفور .. قصدي حيميدة موسى .. لازم أروح دلوقت واعتذر له .."

كان يمسك بمجلة الثقافة العربية وفيها تحقيق عن الاديب الليبي الصادق النيهوم الذي ولد ونشا وترعرع في أزقة حي سوق الحشيش .. وعرف أن الولد كان محقا .. وأسرع التلاميذ مع أستاذهم في السيارة الفيات 128 إلى زميلهم للاعتذار ..



كان الأستاذ حنفي طيبا جدا ... ولنا لقاء إن شاء الله ..