رسالة بحر / دينا نبيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • دينا نبيل
    أديبة وناقدة
    • 03-07-2011
    • 732

    رسالة بحر / دينا نبيل

    رسالةُ بحر


    " إليكَ .. .. تركتني ..
    .. تهشّم مركبي ... ... ، لمَ .. .. ؟
    أنتَ يا .. .. ..
    أمواج .. .. تتقاذفُني .. ... !

    عُد إليّ ..
    .. نخرَ البردُ عظمي .. أصابني الصممُ ، عـــــ .. .. !

    إن لم تعُد .. .. فأنتَ .. .. !!!

    ...
    ...
    ...
    يا من تجدُ رسالتي فقد وجدتني .. ..

    أرسل .. ....
    نجدةً ، اطلُبـــــــ ..
    .. ...
    ...
    المُخلص
    ..
    ..
    البحر ".



    أمسكتُها من حوافّها شبهِ الذائبة ووضعتُها أمامى على الرمال كي تجّف ، صحيح أنها كانت داخل زجاجةٍ مغلقةٍ استغرقت مني ساعتين لفتحِها، ولكنّ بحرَ الشتاءِ المتلاطم ، والماءَ القارس ربّما نفذَ إليها. رسالةٌ غريبةٌ يلفظُها البحرُ بقوةٍ فتصطدِم بوجهي، كما لو كان يضيقُ بها ذرعاً ، وكلّت أمواجُه عن حملِها وحملِ عبءِ ما فيها.
    ما العملُ الآن ؟!
    من " البحر" هذا ؟


    أعرفُ أنّ كثيراً من أهلِ الإسكندرية يُلقبون أولادَهم بـــ " البحر " تيمناً به وطمعاً في طولِ الأجل، فمنَ المؤكدِ أنّ هذا لقبٌ لعائلةٍ هنا ، ولكن أيّهم يكون والمدينةُ بهم ملأى؟
    حملتُها بعد أن جفّت تقريباً فلم يعُد الهواءُ الباردُ محتملاً ، أدخلتُها في سترتي خشيةَ أن يُصيبَها الرذاذُ المتطايرُ .. هل من الممكنِ أن تكونَ حياةُ إنسانٍ مرهونةً بتلكَ الورقةِ ؟! . لم أدرِ أينَ أذهبُ بها .. ؟! .

    لوهلةٍ تذكرتُ قسمَ الشّرطةِ لكنني أحجمتُ خوفاً من عواقبَ لا تُحتمل ، أسرعتُ نحو عمّالِ الشاطئ أعرضُ عليهم الورقةَ لكنّ أحداً لم يُصدقني .. كيف يكتبُ إنسانٌ ورقةً وهو في عرضِ البحرِ؟ .. حتّى وإن حدث هذا ، فكيفَ تصمدُ زجاجةٌ ضعيفةٌ أمام الصخورِ والأمواجِ العاتية ؟ .. ولم تُحطمها إحدى ضواري البحرِ التي تستغلُ هياجَه لترتعَ بحُريّة .


    خرجتُ إلى الشارعِ .. لابدّ أن أتصرفَ ، فالرجلُ يموتُ .
    لم يأبه أحدٌ ليدي الممدودة ، أعطاني أحدُهم جنيهاً ومضى دونَ النظر إلى وجهي! .. وآخرُ يقولُ لي " الله يسهل لك! " ، جريتُ وراءه ، جذبتُه .. " ثمّة رجلٍ يموتُ في عرضِ البحرِ وأرسلَ رسالةً يستغيثُ " ، نظرَ إليها نظرةً خاطفةً ، وتأمّلني قليلاً في صمتٍ ثم رحل . ذهبتُ إلى محطةِ الحافلاتِ .. مُكتظة كالعادة بكتلٍ متلاحمةٍ اتقاءَ المطرَ والصقيعَ ، صرختُ بأعلى صوتي .. " ساعدُوني ! .. هناكَ رجلٌ يغرقُ في عرض البحر! ".

    انتبهوا إليّ من فورهم، فما إن أخرجتُ لهم الرسالةَ حتى بدأوا بالتهكمِ والضحكِ ، وعندما لاحت الحافلةُ من بعيدٍ .. تدافعتني أمواجُ اللحمِ ولفظتني خارجَ تيارها .سقطتُ على الأرض .. لا شيء أشدّ إيلاماً من الارتطامِ برصيفٍ خرساني متجمدٍ يبعث ذبذباتِه الكهربائيةَ في خلاياي ليصيبني بالخدر .

    لملمتُ أطرافي وشددتُ سُترتي عليّ مقاوماً هواء يَخِزُ عظامي .
    لم يكُن هناك من يكترثُ لندائي. لم يعُد هناك أحدٌ من البشرِ .. وحدُها مظلاتٌ ملونةٌ براقةٌ ، نبتت لها أرجلٌ طويلةٌ تعدو هنا وهناك ، وسياراتٌ ترشرشُ نوافيرَ وتطلقُ نفيراً يتابعُ أصداءَ الرعدِ الذي بدأَ منذُ قليل.توجهتُ مجدداً نحو الشّاطئ .. كان خالياً من كلّ شيءٍ عدا أعشاشٍ متناثرةٍ تستندُ إليها بعضُ قواربِ الصّيدِ القديمة .. أخذتُ أقلبها .. أغلبُها هزيلٌ متفسخٌ ، ولكنني تخيرتُ أفضلَها حالاً ، ورحتُ أسحبُه على الرمال .الرمالُ بيضاءُ صلبةٌ ، والقاربُ فوقها يخطّ خطاً طويلاً عميقاً لم يلبث أن امتلأ بماءِ السّيول .. حتى انتهيتُ إلى البحر ..
    لابدّ من الإسراع ، فالرجلُ يموت!
    لا تخفْ شيئاً يا " بحر" .. أو أياً كان اسمك .. أنا آتٍ إليك!

    البحرُ هائجٌ .. تتلاحقُ الأمواجُ بعنفٍ يلتهمُ بعضُها بعضاً .. تنتفخُ وتتعملقُ ثم تتكسرُ على حافةِ الشّاطئ .


    الشّاطئُ يتضاءلُ .. يتآكلُ .. والبحرُ يزحفُ نحوي .. تزحفُ ألسنتُه الباردةُ تلعقُ قدميّ .. تطوّقُهما .. تتلقفُ قاربي، تشدّه وتحملُه على أكفّها إلى مائها الرمادي الحالك .
    ثوانٍ وعادَ وميضُ السماءِ على حين غرةٍ يخطفُ بصري، أعقبه هزيمٌ أحسستُ له رجرجةً في البحرِ .. والبحرُ من تحتي يفورُ ويهدرُ مُزمجراً .

    اهتزّ الأفقُ البعيدُ .. رويداً يتلاشى الحدُّ الفاصلُ بين السماء والبحر.. ينبضُ .. يتنفسُ ، ويبتلعُ الاثنين معاً ..
    راحت عيناي تدوران في الأرجاءِ علّني أعثر على صاحبِ الرسالة .. ناديتُ .. " يا بحر .. أين أنت ؟! " .. السماءُ والبحرُ يتبادلان الشهيقَ والزفيرَ، يشتتان ندائي .. والهواءُ يأبى إلا أن يمزّقَ صوتي .. يبدّده .. فلم أتمكن من سماعِ صوتي !.

    الأمواجُ تدفعُ بقاربي ، القاربُ ينتفخ إثر تسرب الماء إليه .. غدا أثقلَ ، معبأً بالماء والطحالب .. ملابسي التصقت عليّ وتملكني وخزٌ ينشرُ جسدي .. أخذت ألفُّ حول نفسي كإبرة بوصلةٍ هائمةٍ ، حسبتُ نفسي أسبحُ فوق مصفاةِ الكونِ العظمى أدورُ وسط دوامةٍ لشفط ماءَ البحر بأكمله .. عندها سلّمتُ أنّه لا وجودَ للمدعو " البحر " .. ويجب عليّ الخروجُ من تلك الدوامة .ولكن تراءى لي طوافٌ خشبيٌ هزيلٌ ، ووصلَ إلى سمعي صوتٌ متكسرٌ يبدأُ عالياً ثم يذوبُ بعيداً ربّما هي كلمة " النجدة " أو كما خُيّل إليّ .

    لم أنتبه لقممِ الموجِ المتصاعدةِ على المدى .. أمواج ذاتَ بطونٍ .. مغاراتٍ .. زرقاءَ حالكةٍ .. سوداءَ .. يصهلُ زبدُها كخيلٍ بيضٍ فائرةٍ تهبطُ مسرعةً نحوي تصلصلُ في معركةٍ لن تكتبَ قطّ .. القممُ تتعملقُ .. تصنعُ رأساً ينفخُني .. ثم ما يلبثُ يسحبُني حتى كاد يبتلعني بطنُه .. تلفّتُ حولي لم أجد الطواف .. ولم أجد بحر ! صرختُ بكل ما بقي في من قوّة ..
    " أين أنت يا " بحر".. ! "....

    بينما كان البحر يلفه من كل جانب !.


    _________

    دينا نبيل
    الإسكندرية
    التعديل الأخير تم بواسطة دينا نبيل; الساعة 13-08-2013, 17:00.

  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    كان البحر و كنت على موعد مع القص الجميل
    في رحلة بحث لها مذاقها الخاص
    أبحرت معك لأرى البحر كما تودين أن أراه
    لكنني عدت من البحر أبحث عن البحر في اناملك !

    لي عودة أرى أين البحر وسط هذا الصخب الهادر

    يثبت للجمال

    محبتي
    sigpic

    تعليق

    • دينا نبيل
      أديبة وناقدة
      • 03-07-2011
      • 732

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
      كان البحر و كنت على موعد مع القص الجميل
      في رحلة بحث لها مذاقها الخاص
      أبحرت معك لأرى البحر كما تودين أن أراه
      لكنني عدت من البحر أبحث عن البحر في اناملك !

      لي عودة أرى أين البحر وسط هذا الصخب الهادر

      يثبت للجمال

      محبتي
      [align=justify]
      أشكرك أستاذنا الربيع على ولوج نصي وقراءته قراءتكم الفاحصة المتعاشقة مع الحروف

      انتظر عودتكم مجدداً .. لأتعلم منكم الكثير

      تحياتي[/align]

      تعليق

      • حسن لختام
        أديب وكاتب
        • 26-08-2011
        • 2603

        #4
        نص شيّق و لغة قوية ومتينة..شكرا على الإمتاع، بالرغم من الغموض الذي اكتنف نهاية النص، لقصور مني..
        محبتي وتقديري، أختي دينا نبيل

        تعليق

        • ريما ريماوي
          عضو الملتقى
          • 07-05-2011
          • 8501

          #5
          والأبطال يتصرفون بشكل تلقائي أحيانا.. غير عابئين بالخطر...
          لا أعتقد صاحبنا في محاولاته المستميتة لإنقاذ اليحر
          إلا هالكا هو الآخر... ما أقصى الصراع ضد
          الطبيعة عند ثورتها.. ولا أحد يسلم...

          الأستاذة دينا نبيل سعيدة بعودتك بنص قوي بعد غياب ..

          لي عودة لاستكشافه أكثر..

          كوني بخير وصحة وعافية...


          تحيتي وتقديري...


          أنين ناي
          يبث الحنين لأصله
          غصن مورّق صغير.

          تعليق

          • عائده محمد نادر
            عضو الملتقى
            • 18-10-2008
            • 12843

            #6
            الزميلة القديرة
            دينا نبيل
            وكأنك تكتبين نهاية نص لفيلم ( رسالة في زجاجة )
            النهاية كانت بموت بطل النص في الفيلم لكنك هنا حولتها إلى محاولة انقاذ هذا البطل
            أحببت تلك الإطلالات التي استحدثتها
            أحببت أنك جعلت بطلا آخر يتوسل الخلاص وعشقت أن يكون هناك آخرين من عرفوا ماحدث
            وكنت أسأل نفسي أحيانا ( من سيكمل الحكاية لو تركها المخرج مفتوحة ) لأجدك ها هنا تكملين
            أحسنت سيدتي
            ومضة البداية كانت مؤثرة
            تحياتي ومحبتي لك
            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              أهي الأحداث اليومية ..
              أم الشبع ..
              أم الاهتمام بامور أخرى ؟
              ربما كان كل هذا سبب انصراف القراء عن هذه اللوحة الرائقة
              و هذا القص الفريد !
              sigpic

              تعليق

              • دينا نبيل
                أديبة وناقدة
                • 03-07-2011
                • 732

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
                نص شيّق و لغة قوية ومتينة..شكرا على الإمتاع، بالرغم من الغموض الذي اكتنف نهاية النص، لقصور مني..
                محبتي وتقديري، أختي دينا نبيل
                [align=justify]
                تقديري وامتناني لمروركم الثري أ. حسن لختام
                ربما هو غموض الحياة أو حياة الإنسان على وجه التحديد
                وكيف يجرّه قدره رغماً عنه بشتى الوسائل لبلوغ نهاية رحلته في الحياة

                سعيدة بقراءتكم

                تحياتي[/align]

                تعليق

                • دينا نبيل
                  أديبة وناقدة
                  • 03-07-2011
                  • 732

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
                  والأبطال يتصرفون بشكل تلقائي أحيانا.. غير عابئين بالخطر...
                  لا أعتقد صاحبنا في محاولاته المستميتة لإنقاذ اليحر
                  إلا هالكا هو الآخر... ما أقصى الصراع ضد
                  الطبيعة عند ثورتها.. ولا أحد يسلم...

                  الأستاذة دينا نبيل سعيدة بعودتك بنص قوي بعد غياب ..

                  لي عودة لاستكشافه أكثر..

                  كوني بخير وصحة وعافية...


                  تحيتي وتقديري...
                  أ. ريما الغالية

                  وأنا سعيدة أكثر بقراءتك نصي وهو محاولة مني للعودة في خضم تلك الأمواج المتلاطمة من المشاغل ولا نجد متنفساً سوى بالركون إلى واحتكم الهادئة
                  أنتظر عودتك أ. ريما وأهلاً بك في كل وقت

                  تحياتي

                  تعليق

                  • دينا نبيل
                    أديبة وناقدة
                    • 03-07-2011
                    • 732

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                    الزميلة القديرة
                    دينا نبيل
                    وكأنك تكتبين نهاية نص لفيلم ( رسالة في زجاجة )
                    النهاية كانت بموت بطل النص في الفيلم لكنك هنا حولتها إلى محاولة انقاذ هذا البطل
                    أحببت تلك الإطلالات التي استحدثتها
                    أحببت أنك جعلت بطلا آخر يتوسل الخلاص وعشقت أن يكون هناك آخرين من عرفوا ماحدث
                    وكنت أسأل نفسي أحيانا ( من سيكمل الحكاية لو تركها المخرج مفتوحة ) لأجدك ها هنا تكملين
                    أحسنت سيدتي
                    ومضة البداية كانت مؤثرة
                    تحياتي ومحبتي لك

                    العزيزة أ. عائدة

                    كريمة أنت في طلّتك واحتفائك وقراءتك
                    أشكرك على مرورك الطيب وربطك القصة بالفيلم جميل جدا

                    لك مني بالغ الامتنان

                    تحياتي

                    تعليق

                    • دينا نبيل
                      أديبة وناقدة
                      • 03-07-2011
                      • 732

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                      أهي الأحداث اليومية ..
                      أم الشبع ..
                      أم الاهتمام بامور أخرى ؟
                      ربما كان كل هذا سبب انصراف القراء عن هذه اللوحة الرائقة
                      و هذا القص الفريد !
                      ربما كلها مجتمعة

                      لكن يكفيني أنني زرعتها هاهنا ووجدت من يقرأ ويحصد

                      لك تحياتي استاذنا الربيع

                      تعليق

                      يعمل...
                      X