الحِصَارُ
بقلم: أحمد عكاش.
فازت هذه القصة بالجائزة الأولى سنة (2003)، في المسابقة الأدبية التي يجريها (المكتب التنفيذي لنقابة المعلمين) في (الجمهورية العربية السورية).بقلم: أحمد عكاش.
كان ذلك يوم الجمعة، يوم عطلتي، خرجت من الدار بِذهن خليٍّ، لا يشغلني إلا الحصول على خبزنا اليومي،
انحدرت في الشارع المفضي إلى السوق، لما بدأت تتناهى إليَّ أصوات الباعة، أحسست على نحو مبهم أنّ ثمّة عيوناً تراقبني.. تتبعني، انقبضت لهذا الخاطر، تسارعت خطاي، جاهدت في دفع هذا الهاجس دون جدوى، كانت نظرات مطاردي تنغرس بين كتفيّ باردة يقشعرّ لها بدني، حتى تشكلت بين كتفي بركة من الثلج، التفتّ خلفي بغتة لأنفض هذا الكابوس عن كاهلي، فرأيته.. يسير إثري مباشرة، يضع قدمه حيث أرفع قدمي، تجمّدت الدماء في عروقي، اجتاحتني موجةُ بردٍ مؤلم، كان مطاردي هيكلاً عظمياً.. تقرقع عظامه وهو يتحرك، عظام كفّيه نحيلة طويلة، ومحجراه غائران مثل فُوّهتي بندقيّة، وقف يتأملني– كما خيّل إليّ- بجمود وبرود، فندّت عني آهة يبدو أن أحداً لم يسمعها، لم أدر ماذا أفعل، ولّيْتُه ظهري متجاهلاً، رحت أحثّ خطاي.
ارتفعت إثري قرقعة عظام مطاردي، كانت بركة الثلج بين منكبيّ توشك أن تجمّد أوصالي، لم أعد أجسر على الالتفات، كثرت القرقعة ورائي، حتى طغت على جلبة الباعة، استجمعت شجاعتي والتفتّ .. خلفي هيكلان عظميان، وقفا قبالتي ..راحت أيديهما تتأرجح.. تقرقع، صرختُ باشمئزاز وغضب:
-لماذا؟!.
تماوج صوتي ممطوطاً مرعوباً، لم تفعل صرختي شيئاً، الهيكلان العظميان جامدان مكانهما، الناس في شأنهم، لم يلتفت إليّ منهم أحدٌ، وانضمّ هيكل عظميّ ثالث إليهما صرختُ: مجرمون.
عقدت العزم على الهرب، ركضت، وضجّت في رأسي قرقعة العظام، لم أستطع الفكاك من مطاردتها، بركة الثلج ذابت عرقاً يسيل خطوطاً على ظهري حتّى يصل إلى أليتي، بدأ جسمي يلتهب، تسارعت خطواتي لكن عبثاً، كانت العيون الغائرة لاتزال تنغرس بين منكبي، وقرقعة العظام تتعاظم كالمرض الخبيث، حتى طغت على الأصوات كلّها، لا شيء في هذا العالم سوى قرقعةِ العظام التي تطلبني بلا هوادة، حانت منّي التفاتة وَجِلة فإذا بالهياكل العظميّة قد صارت عشرات، وصل بعضها إلى جواري، أنا الآن مطوّق فأرسلتها بكل ما بي من قوّة وهلع وحَنَق، صرخة استغاثة:
- أنجدوني أيّها الناس، القتلة يحاصرونني.
صرخةٌ في وادٍ ..لم يلتفت إليّ أحد، كلٌّ ماضٍ في شأنه كأنّه لا يرى ولا يسمع، هل غدوت مع هذه الهياكل العظميّة المتزايدة أشباحاً غير مرئيّة ؟.
تدفقت الهياكل أمامي نهراً مشؤوماً لزجاً، وطفقَتْ تتباطأ.. تدفعني للوراء، كان الحصارقد أحكم حولي، واضطرّني للتوقف.
جزيرة العظام تلفّني، الناس يمرّون بنا لا يعيروننا التفاتاً، كأننا منظر مألوف سئمه المارّة، هل نحن أشباح؟!.
كوّرْتُ كلّ ما بقي بي من قوّة ورشقتهم بها:
-اللعنة عليكم، قَتَلَة مجرمون، إليكم عني.
ضيّقوا الحلقة حولي ..ما عدت قادراً على الحركة، خارت قواي، فوقفت لاهثاً أنتظر، أنقل نظري في الجماجم المُحْدِقَةِ بي.
- ماذا تريدون مني؟!.
الحلقة تضيق والهياكل تنثال نحوي، سدّت حولي الآفاق، حالت الآن بيني وبين الناس في السوق، أين كانت كلّ هذه الهياكل؟ أُسقط في يدي، قلت باستسلام وقنوط:
- أنا إنسان فقير.. بسيط ..لا أريد أكثر من (ربطة خبز) لأطفالي، نحن لا نحبّ (الكباب الحلبي)، حتى ولا الحمصي، ولا نحبّ لحم السمك، لا نحب الذهاب إلى البحر و(الشاليهات) في الصيف، ولا في الشتاء، لا نحبه، لا نرتاد (الميرندا)، حمّامنا قِدْرٌ نحاسية كبيرة ورثتها عن أمّي رحمها الله، فماذا تريدون مني؟ تنحّوا عن طريقي.
الحلقة حولي تضيق أكثر، شعرت بالاختناق.
- أحلامي وخيالاتي كسيحة، لا أطمح إلى السياحة في لندن أو باريس.. لا أسمح لخيالي بالجموح والتفكير بـ (فيلاّ) يُفتح بابها بضغطة زرّ، ويحوي حمّامُها مسبحاً و(تلفزيون) ملوّناً، وأدوات رياضة لتخفيف البدانة، الدُّوار يلفّني.. يكاد يغمى عليّ، دعوني أتنفّس.
الهياكل جامدة مكانها لا تتكلّم.. لا تتحرّك، فقط تقرقع بعظامها، مطارق تصدع رأسي، جفّ حلقي، يبس لساني ..سكتّ، رحت أقلّب الطرف في غابة العظام الشوهاء المغروسة حولي ،كم مضى على ذلك؟ لا أدري، أُلغي الزمنُ ..توقّف، كان يمكن أن يدوم ذلك إلى يوم القيامة، لكن بغتة.. دون أن أعي ما يجري، طأطأتِ الهياكلُ العظميّة كلّها رؤوسَها باحترام جليّ، ثمّ.. انحنت ببطء، حتى ركعت على ركبتيها.
- أهذا لي؟! تساءلت في سرّي، وقد أخذت بي الحيرة كلّ مأخذ: هل هذا احترام أم أنهم يبيِّتون لي شيئاً؟ لم يطل تساؤلي، إذ انشق الجمع عن يميني.. تقدّم ثمانية هياكل عظميّة يحملون على أكتافهم عرشاً عظيماً مغطى بملاءة سوداء، وقفوا إلى مقربة مني، أُميط الستار جانباً فبدا لي "هيكل عظمي" يتربع العرش بترفّع مقزّز، تأملته مليّاً لا أعرف ما يراد بي.
-أهذا السجود المهيب إذن لك؟ من أنت أيّها المشوّه؟!.
وددت لو أسأله، وطقطق فكُّهُ، هوى عليّ صوته جافّاً حازماً:
-أهذا أنت إذن؟.
-نعم هذا أنا، لكن ما معنى هذا كله؟.
-معناه أن المجرم الكبير سقط أخيراً في يد العدالة.
-هل تعنيني بـ (المجرم الكبير)؟
-هل ثمّة أعظم منك إجراماً ؟.
-والعدالة أين هي؟ أ أنتم تمثّلون العدالة؟.
-نحن لا نمثّل العدالة، نحن العدالة نفسها.
-أنا (المجرم الكبير)، وأنتم (العدالة نفسها)؟!.
جعلت أتأمل الجماجم حولي، اجتاحتني موجة ضحك هستيري، أخفقْتُ في دفعها، فأطلقتها قويّة مجنونة أُفْلِتَ زمامُها.
أومأ الجالس على عرشه فوق الثمانية:
- أيّها الطبيب جرّعْه البلسم الشافي.
تقدّم أحد الهياكل مني وصفعني بعنف قاس، فوجمْتُ.
- لا تضحك إلا إذا أَمَرَكَ (كبيرُنا).
التهب خدّي وغلى رأسي، أدركت أنه يتوجّب عليَّ المزيد من الجدّ. من الاهتمام، بل ربما يحتاج الأمر إلى كثير من الحذر أيضاً.
تابع (كبيرهم):
- نحن نجهد في سيادة الحق، وأنت تفسد كل شيء.
-أنا لست مجرماً، الحقيقة أني لا أعرف كيف تُرتكب الجرائم، أنا (عبدو) ابن (أم عبدو) بائعة الثياب البالية، أمّي كانت معروفة في السوق، تحتلّ مساحة محدّدة من الرصيف، صاحب المحلّ المجاور لها كم مرّة قذف برِجله.. بضاعةَ أمي إلى الشارع، فدهستها عجلات السيارات المسرعة، أو لطختها بالطين في شوارع الشتاء الموحلة، فهو يتأذّى من عرض بضاعتها الرثّة أمام محلّه الأنيق، ثم توسّط لها أهل الخير:
-أرملة فقيرة يتصدّق عليها المحسنون بما رثّ من ثيابهم فتبيعها لتعيش مع ابنها الصغير، لا تطردْها من أمام محلّك، يأجرك الله.
سمح لها بعرض بضاعتها على الرّصيف أمام محلّه من الصباح إلى الظهر فقط، مقابل أن تكنس له المحلّ.. تمسح بلاطه.. ترشّ أمامه بالماء صباح كل يوم.
أخيراً مرضت، سعلت أيّاماً ثم بصقت دماً، و..ماتت، نُمي إليَّ أن صاحب المحل كان يكلّفها أحياناً بتلبية رغبات زوجته في بيته، قاسيْتُ بعدها، ثم عملت أجيراً في محل لإصلاح السيارات، تزوجت من بنت فقيرة، رزقت منها ثلاثة أطفال. هذا أنا، (عبدو ابن أم عبدو) بائعة الثياب البالية، لم أسرق يوماً..لم أكذب، لم أخالف أنظمة السير أبداً، نفد المازوت عندنا منذ أكثر من أربعة أشهر، نسخن الماء للحمّام ب"بابور الكاز" فهل أنا مجرم؟.
انبرى أحد الواقفين حولي: أقرّ بإجرامه يا سيّدي، أربعة أشهر يسخّن الحمّام بوابور الكاز؟! أي مجرم هذا الرّجل ؟! رأس العصابة، أم عبدو –رحمها الله– كانت مخبرة مخلصة لنا يا سيّدي، وابنها هذا -كما سمعتَ يا سيّدي- قليل وطنيّة.
- لا أذكر أني تقاعست في خدمة أمتي، أو تخاذلت عن التضحية من أجل وطني.
أومأ الكبير الجالس فوق:
- أَيّها المعلّم ! اشرح له مزايا الصدق.
و تلقيتها من أحدهم على خدّي الثاني.. لاهبة قاسية، لم يغل رأسي، فقد وطّنت نفسي على تلقّي المزيد من الصفعات:
-كل ما يُسمح لك بقوله إذا قال لك كبيرنا شيئاً هو [آمين]، لا تزد عليها حرفاً، أفهمتَ ؟.
- كيف لي ألاّ أفهم ؟! غمغمت لنفسي،قال كبيرهم:
- أنت قاتل، متّهم بقتل أحد رجالاتنا العلماء الأجلاّء، كان في مخبره فداهَمْتَه.. اقتدْتَه جرّاً من شعر رأسه إلى مجزرتك.. بَقَرْتَ بطنه حتى اندلقت أحشاؤه على الأرض ،.. تركْتَه ينزف حتى مات، قل لي: أليس هذا أقصى درجات الإجرام؟.
أوّل مرّة أكتشف أن الضّحك بمقدوره أن يكون مصيبة، فقد راودتني من جديد موجة الضحك الهستيري.
- جررْتُ عالِماً منكم من شعر رأسه و.. بقرت بطنه.. نزف حتّى مات؟! هل كان العالِم منكم؟! أقصد.. أريد أن أقول.. أنتم.. أنتم هياكل عظميّة يا سيّدي، لا شعر.. لا قلب.. لا دماء لكم، فكيف..
لم يدعني أكمل، أومأ الجالس فوق:
- أيّها المؤدِّب أدّبه.
التهب خدّي من جديد.. فكّرت: إنّ الضرب لن يؤلمني بعد الآن، أحمد الله، فقط أرجو أن أستمرّ قادراً على الكلام لأدافع عن نفسي؟ عاودتني هستيريا الضحك من جديد.
- يمكنك أن ترتاب بنفسك أو بالشمس الطالعة أو بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يمكن أن ترتاب بما يقول (كبيرنا) أسمعت؟.
-تمتمت (مثل هذا يسمعه من به صمم)، رفعت رأسي أنتظر الجالس فوق:
- أنت لصّ، سرقت هذا العرش العظيم، عرش هذا الجمهور الطيّب.
ضرب على خشب الكرسي الجالس عليه، فَسُمِع لذلك قرقعة عالية، عقد الدهش لساني فقلت متلعثماً:
-كيف كان ذلك يا سيّدي ؟! .
- كان هذا العرش وسط البحور السبعة، تحفظه الأمواج العاتية، في أحد الأصباح استيقظتُ فلم أجد العرش تحتي، وأكّد لنا كثيرون أنهم رأوك تسرقه وتسبح مبتعداً به.
-و كيف استعدتموه منّي يا سيّدي؟!.
-أتنكر أنّه لا يزال عندك أيّها اللص؟!.
- كيف ذاك يا سيّدي وأنت تجلس عليه الآن ؟ ثمّ إنني لا أعرف السِّباحة، كم كنت أتألم وأتحسّر وأنا أراقب السابحين في نهر العاصي ولا أجرؤ على النزول إلى الماء، أنا أغرق في فنجان ماء، فكيف أعبر بحوراً سبعة؟!.
استشاط الجالس فوق غضباً، أومأ بيده:
-أيّها الحكيم عقِّله.
كانت صفعة الحكيم أقسى من لسعة السوط:
- العاقل ينتفع بتجارب الماضي.
فقدت السيطرة على نفسي فاندفعت بيأس أصرخ محاولاً الهرب:
- مجرمون.. معتدون.. حبستموني عن بيتي.. أولادي ينتظرون أوبتي إليهم بالخبز، أنا لا أقتل ..لا أسرق، تنحّوا عن سبيلي.
حاولت شقّ طريق لي دون جدوى، جدار العظام متراصٌّ متداخل.. لما أعياني الصراخ والقفز همدت مقهوراً، تميّز الجالس فوق غضباً:
- أيّها المجرم! لقد قلتَ ما لا يقال، يجب أن يقطع لسانك، ولم تعمل بما قاله لك طبيبنا ومعلّمنا ومؤدبنا وحكيمنا كأنّك لم تسمع ما قالوه لك، ما نفع أذنيك إذن؟ يجب أن تصلم أذناك، أيّها المصلح! أصلحْه.
تقدّم أحدهم مني.. انتزع لساني عنوة و.. اقتطعه، ثم صلم أذنيّ غير عابئ بكل مقاومتي وعويلي.
اندفعت إليه بشجاعة اليائس وقوّته، ورحت أضربه، أعضّه، أركله، ودمائي تسيل عليه، تلطّخت عظامه وجمجمته حتى سقطَ أرضاً
هدر كبيرهم متوعّداً:
- مات مصلحنا ..قتلتَه أيّها السفاح، خذوه إلى السجن، قدّموه غداً للمحاكمة، كونوا عادلين معه، نصّبوا له محامياً حاذقاً يدافع عنه.
أمعنت النظر في الهيكل العظمي المستلقي على الأرض بلا حركة، كان مضرّجاً بدمائي، لكنْ.. أنّى لي أن أعرف إن كان حيّاً أم ميّتاً؟! .
حملوه على أكتافهم، ساروا به خلف (كبيرهم) في موكب جنائزي، واقتادوني مسلوب الإرادة.
قضيت ليلتي في السجن أحضّر ما سأقوله للقاضي في قاعة المحكمة غداً، آه.. لساني مقطوع.. فكيف أنقل للقاضي ما أريد؟! لا ضير.. سأفهمه بالإشارات بالحركات.. بالكتابة إذا سمحوا لي، ..لن أعدم الوسيلة، سيساعدني المحامي، لقد أوصى كبير الهياكل أن تكون محاكمتي عادلة، لساني المقطوعُ، أذناي المصلومتان والدماء السائلة خير شاهد على براءتي، على أني الضحيّة، فقط رجوت أن يكون المحامي رحيماً متفهّماً والقاضي عادلاً.
لا أزال أذكر ما حدث منذ بضع سنين، كأنما حدث يوم أمس، تلك المساحة من الذاكرة نابضة لا يخبو بريقها على الرغم من زحف الأعوام، وتراكم الأحداث، تلك المساحة من الذاكرة يكتنفها الكثير من الأسى والقهر، أَهَلْتُ عليها منذ أمد بعيد ستائر الإعراض والتناسي، حاولت طمسها، دون جدوى، كنت حينها فتى يافعاً.. غرّاً، ملء إهابه الحماسة والاندفاع، أُومن مطلقاً أني مَلِكُ هذا الكون، كل شيء ملكي: الأرض، الربيع، الشمس، الزهر، الفراشات، البيادر في مواسم الحصاد، بهذا امتلأ رأسي في تلك المدرسة، وعلى ذلك المقعد الخشبي المحفّر، قرب تلك النافذة المكسور زجاجها، التي يتسرب الهواء اللاسع في أيام الشتاء القارسة منها إلى عظامي الطرية، كنت أنتشي وأنا أسمع أستاذنا (أحمد) رحمه الله يهتف رافعاً سبّابته اليمنى:
-أنتم رجال الغد، أنتم ستملكون مطالع الشموس، وشلالات العطاء، ألستم أحفاد خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح؟.
كان يستحثنا على أن نتبوّأ مكاناً علياً تحت الشمس،آه يا أحداثاً مرّت منذ عديد من السنين، تطفو الآن من ركنها المظلم إلى النور، غداً محاكمتي، لساني مقطوع، يومها كان صوتي عالياً حاداً قوياً، بلا حدود، الآن لساني مقطوع وغداً سأحاكم.
أبي رحمه الله موظف بسيط في مؤسسة الكهرباء، يملأ بيوت الآخرين بالنور، ويملأ بيته بكثير من الأماني والأحلام، وبقليل من الأمتعة والطعام، اقتنع أخيراً أني -أنا الصغير -أستحق كرة جديدة من ذاك النوع الكبير الجميل، ومنحني ثمنَها، وحقَّ الحريّة في انتقائها وشرائها، فقد نلت في مدرستي درجة متقدّمة بين أترابي.
بعد أن دسست النقود في جيبي طارت بي أجنحة الجذل إلى السوق، لكن.. ماذا أرى ؟ السوق شبه مقفر، المحالّ كلها مغلقة، تلبّثت هنيهة، أتأمّل، ثم.. أطلقت ساقيّ للريح على الرصيف معولاً:
- لماذا أغلقتم محلاّتكم؟ النقود في جيبي، أين الكرة الرقطاء اللامعة الشهيّة التي أراها كلّ يوم تتأرجح متدلّية على باب المحل؟ بعد شهور من العذاب والأحلام صار بإمكاني شراؤها، لماذا تغتالون حلمي ؟! لماذا تَحُولون بيني وبين كرتي؟.
لمّا أويت مساء إلى فراشي دامع المقلتين، مسح والدي شعري بيده الحانية، قال:
- الناس يا بني يطالبون بحقّهم ..حرّيتهم.. كرامتهم..
حين غلبني النوم تراءى لي الأستاذ (أحمد) في حلمي رافعاً سبابته اليمنى يهدر صوته: أنتم ملوك الأرض ..لكم الشمس والربيع..
في اليوم التالي، بَرَزَتْ إلى الشوارع التي أقفلت محالُّها، جموعٌ هادرة تهتف، العيون تبرق بتمرّد، والقبضات مشدودة تلوح بتحدٍّ، كان صوتي -على نعومته وطفوليّته- عالياً مفعماً بالإصرار والإرادة، ردّدْتُ ما حفظْتُه عن أستاذي (أحمد) جعلت مقولاته شعارات ساطعة سامية هتفت بها:
- نحن الغد– نحن الشموس الطوالع – شلالات العطاء .
ثمّ.. نَهضَتْ أمام الجموع، سيّاراتٌ مصفحة، تزحف ببطء راعب نحو المتقدّمين، السيارات تتقدّم والجموع تتقدّم، التقيا.. وجهاً لوجه، دِيكَيْنِ عنيدين، كبشين أقرنين، بعد حين.. تقدّمت الآليات تناطح الجمع، بطيئة حازمة، تقهقرت الجموع قليلاً، الآليات تزحف، انكفأ الجمع رويداً رويداً، غيّرَ اتجاهَهُ، عكَسَهُ، الهتافات تعالت من جديد نشيطة ملتهبة، والآليات تابعت ضغطها ومطاردتها.
وجدَتِ الجموعُ نفسَها مدفوعة بلا هوادة إلى أزقة ضيّقة جداً، خفتت الأصوات، تفرّق الناس، ابتلعت أبوابُ الدورِ معظمَهم، سار الباقون فرادى، مطأطئين، يلفهم شعور بالإحباط والاختناق.
في طريقي إلى الدار مررت بالحانوت.. الكرة الرقطاء في شبكتها تنوس معلّقة، تأملتها، هالني أنها فقدت الكثير من بريقها الذي كان يأخذ من قبل بمجامع قلبي، النقود لا تزال في جيبي، لكن.. لم أرغب فيها، باخت شهوة امتلاكها، كان وقت اللعب بالكرة وعهد الطفولة… قد ولّيا معاً.
صدمت أبي سيّارة مجهولة ومات، اضطرّت أمي إلى بيع الثياب البالية على الأرصفة لنأكل خبزنا، كان البرد القارس والحرّ اللاهب قد أنضجاني، ثم تركتني أمي وآثرت اللحاق بأبي، قويت بعدها أواصر الوفاق بيني وبين الجماهير، فما تبدر منها صرخة أو نأمة إلا كنت بين أوائل الهارعين إليها و.. معها.
في يوم.. وفي منعطف الشارع المفضي إلى دارنا، نجم أمامي رجل سدَّ عليّ طريقي، تفرّس في وجهي، ثمّ وضع أصابعه تحت ذقني ورفع نظري إليه وقال مكشِّراً:
- تعال غداً إلى مقرِّنا.. كبيرنا يطلبك.
انداحت تكشيرته، برزت أنيابه صفراء قبيحة، خيّل إليّ أنّ وجهه ورأسه تحولا إلى جمجمة، أطلق ذقني واستأنف سيره، ابتلعه منعطف الشارع التالي.
في اليوم التالي كنت على باب كبيرهم أستأذن للدخول عليه، قيل لي: عُدْ بعد ساعة.
تسكعت في الشوارع ساعة، ثم عدت أستأذن ؛ قيل لي: عُدْ بعد ساعة. ضعت في الشوارع حتى الإرهاق، و..عدت، قيل لي: عد بعد ساعة.. حَبَوْتُ على الأرصفة، ثمّ.. تماسكت على الباب موجوع الرأس والقلب والقدمين ،قيل لي: عُد غداً. في اليوم التالي؛ عدتُ.. و تسكعت على الأرصفة ساعات وزحفت ساعات، ثمّ.. أمسك بي أحدهم من ياقة قميصي من وراء، وسار بي، عُصِّبَتْ عيناي ووُضِعَ في أذني القطنُ.. عبرت ممرات طويلة.. صعدت درجات عالية.. هبطتها، اجتزت ردهات رحبة، ثم.. أوقفت أمام كبيرهم، لم أرفع بصري إليه، وصلني صوته:
- اخترناك من بين الجميع، صوتك قويّ مدوّ، نريدك أن تتعاون معنا.
-فيم أتعاون معكم يا سيّدي؟.
-تشيع بين الناس أن هؤلاء الذين ينادون بالحقوق، بالحرّيات، بالعدل، مدّعون مخادعون مجرمون.
-و إذا رفضت ؟.
- تلقى المصير الذي لاقاه أبوك.
انتفضت بعنف مرعوباً ؛أبي؟! إذن أنتم قاتلوه؟!.
رفعت رأسي، حدجت محدّثي بنظرة متفحصة، تكشيرته باردة، رأسه جمجمة.
-ما قولك الآن ؟!.
- قولي هو: لا.
- خذوه.
رُمِيت في الشارع أعمى أصمّ، نزعت العصابة.. فتحت أذنيّ.. سرت مشلول العقل والروح.
خلال عقد من السنين أو أكثر، مثلت بين يدي كبيرهم مرّات عدّة، صُفع وجهي، وقفاي، وألهبت العصا ظهري وقدميّ، وإثر كلّ زيارة كنت أرمى في الشارع أعمى أصمّ.
مرّت أعوام.. وَهَن في أثنائها صوتي، وباخت الحماسة في صدري، انقضى ذاك العهد، عهد الحماسة، احتفر لنفسه في الذاكرة مكمناً انزوى فيه، صارت زوجتي وأطفالي منتهى همّي، وانكفأت إلى مكتبتي البيتيّة أدفن بين دفّات كتبها جلّ أوقاتي، والآن هأنذا سجين ينتظر محاكمته.
انتهت
من كتاب: الرقص على إيقاع الجرح.
تأليف: أحمد عكاش.
منشورات: دار الإرشاد للنشر - حمص- سوريّة.
تعليق