تأصيل قصيدة النثر*
لما كان من اتهامات لقصيدة النثر ، وصلت حدّ التغريب وتخريب التراث والتكفير في بعض الأحيان ، كان لا بدّ من النظر في مدى أصولية قصيدة النثر و / أو غرابتها عن البيئة العربية ، وفي مدى انسجام تلك الصيغ التعبيرية – بوصفها شعرا- مع البيئة والعقلية العربية الحديثة ، فكانت هذه المحاولة للنظر في مدى تجذّر تلك الحالة الشعرية / الشاعرية في التراث العربي ومدى إمكانية هضمها حديثا .
(1) ( الأثر البيئي ، المؤسس الأول )
كان الأثر الأول والأهم في شكلية الخطاب الإبداعي عند العرب في الجاهلية يتمحور حول بيئة الصحراء ، والنظام القَبَلي وقيمه السائدة في ذلك الوقت (الفروسية ، الاعتزاز بالعشيرة ، الكرم ..الخ ) فكان أهم ما يميز شكلية الخطاب الإبداعي في ذلك الوقت والذي ينسجم مع تلك البيئة :
- التصوير الخطي
يستند التصوير – في تلك المرحلة - على المقابلة أو المقارنة (بتعبير أدق ) بين الأشياء ( مشبه ، مشبه به ، أداة تشبيه)
- الوضوح
كانت تتجه صياغة الخطابات الإبداعية نحو الوضوح التام والذي ينسجم تماما مع التصوير الخطي ، ( الرجل القوي كالأسد ، وجه الحبيبة كالقمر ، سواد شعر الحبيبة كالليل ....الخ ) فيستند التصوير على علاقة منطقية واضحة بين المشبه والمشبه به فلن تجد مثلا تصويرا يربط بين المطر أو القمح بالكرم أو العطاء...الخ ، وحدة البيت ونبذ التضمين أو امتداد الصورة لأكثر من بيت ، بوصفها فاصل صوتي يحدد انتهاء الفكرة عندها ، الأمر الذي ينسجم مع وضوح وقصر التصوير .
- الصخب الموسيقي الخارجي
إن مقطعية الخطابات الإبداعية ، قصر التصوير ، مضافا لها الأهمية الكبرى عند العرب للإلقاء بطريقة مسرحية ، بحيث تبرز مدى قوة الشاعر أمام جمع المتلقين ، كل ذلك أدّى بالضرورة إلى الصخب الموسيقي الخارجي الناتج عن تكرار رتيب – تقريبا – لمجموعة من السواكن والمتحركات ، تفصل بينها القوافي .
- أغراض الشعر
وكان من المنطقي جدا في تلك الظروف والمحددات ، أن تصنف مواضع الشعر بشكل حدّي ( مديح ، هجاء ، رثاء ، غزل ، فخر ، وصف ...الخ ) ، الأمر المعزز لوضوح المعنى المراد .
- منظومة الألفاظ والمعاني
أدى ذلك كله بالضرورة إلى إبراز قضيتين مهمتين جدا ، الأولى تمحور الألفاظ المستخدمة حول متعلقات البيئة المحلية بفضائها الضيق ( السيف ، الناقة ، الصحراء ، الفرس ، أسماء الأشخاص والعشائر ....الخ ) ، الثانية التقيد دلاليا بالمعنى المعجمي للألفاظ ، وبالتالي نبذ الترميز والألفاظ ذات الفضاء الواسع ، فستجد من النادر استخدام ألفاظ أمثال ( بياض ، حالم ، هواء ، نهايات ...الخ) أو استخدام ألفاظ عامة دون تخصيص ..أمثال ( المرأة ، الحرية ، الفقر ، الاغتراب .....الخ )
ومما يدل على أن كل ما تم ذكره من صفات لشكلية الخطاب الإبداعي هو نتاج بيئي صرف ، أنه وبعد النقلة النوعية في حياة العرب إثر تحولهم من الوثنية إلى الإسلام لم تتغير صياغة الخطاب الإبداعي وبقيت كما هي ، بل كان هنالك تغير في جوانب أخرى كزوال المقدمة الطلليّة ، وصف الخمر ، وظهور مواضيع لم تكن سابقا كالمدائح النبوية ، الفضيلة والحكمة ...الخ ، ولكن وبعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانفتاحها على البيئات الأخرى بدأت تتغير شكلية الصياغات الشعرية بشكل واضح كامتداد التصوير وظهور التضمين والتدوير ، وتعدد القوافي والتخلي عنها بشكل كامل - أحيانا - وبدأت بنية الصورة تصبح أكثر انفتاحا على المعنى الواسع ، وبدأت الألفاظ المستعملة تتجه نحو الفضاء الأوسع كالطرب والوجد والفناء ...الخ ، مما أدى إلى تخفيف الصخب الإيقاعي الخارجي بمستويات مختلفة فطفا على السطح الموشحات والزجل وغيرها ، وكان هنالك ظاهرة بالغة الأهمية في العصر العباسي بشكل كبير وهي ذاتية المبدع ، حيث ظهرت خصوصية أسلوب المبدع وتميزه بشكل خاص ، كغموض أبي تمام والمعري ، تفوق الأنا عند المتنبي ، مجون أبي نواس ، ابتكارية التصوير عند أبي صخر الهذلي ، خصوصية العشق عند المتصوفة ..الخ ، ومن ثم في المرحلة التالية بدءً من تفكك الدولة العباسية وبعدها الدولة العثمانية ، بدأت الشخصية العربية تعيش أزمات الاستعمار من جهة من جهة أخرى بدأ التعقد البيئي أكثر تسارعا بعد عصر النهضة والثورة الصناعية في أوروبا ، فكان لابدّ وبطبيعة الحال أن تتغير وبشكل كبير الصياغات الإبداعية الشعرية المعبّرة عن هذه المرحلة وهذه الحالة ، حيث دخلت مفاهيم وألفاظ وتراكيب تصويرية جديدة لم تكن موجودة قلبا ، بل وأكثر من ذلك طال التغيير بنية الخطاب الشعري ككل وليس فقط على مستوى الصورة ، فكانت هنالك دعوات ثورية كثيرة جدا منذ أواخر القرن ما قبل الماضي وعلى مستويات مختلفة تنادي بضرورة تغيير شكلية الخطاب الإبداعي لتواكب البيئة المتغيرة بوتيرة متسارعة وللتعبير عن مدى عمق المأساة العربية في ظل الاستعمار ، منذ شعراء المهجر وصولا إلى قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والنص الحديث في يومنا هذا .
(2) التدوين
يتفق جميع الباحثون تقريبا على أن التدوين كان من أهم المراحل الفارقة في تحول صياغات التعبير الإبداعي ، فبعد أن كان النص الإبداعي يستند على الحفظ والتناقل الشفهي تحول من المسموع إلى المقروء ، من هنا برزت قضايا مهمة جدا منها التخفف من رتابة الشكل الذي كان ضروريا لتسهيل الحفظ ، ظهور الكتابات النثرية والنثرية/ الشاعرية وتداخلها مع الشعرية في كثير من الأحيان ، بل وأكثر من ذلك ظهرت أصوات ولأول مرة في التاريخ العربي تقول بتفوق النثر على الشعر ، كما يروي الدكتور زكي مبارك في كتابه المهم جدا " النثر الفني في القرن الرابع عشر" ، يقول القلقشندي في (صبح الأعشى ) (( إن الشعر وإن كانت له فضيلة تخصه من حيث تفرده باعتدال أقسامه وتوازن أجزائه ، وتساوي قوافيه ......فإن النثر أرفع منه درجة ،وأعلى رتبة ، وأشرف مقاما ، وأحسن نظاما )) ، فبرزت في تلك الحقبة وما تلاها تقنيات شاعرية النثر والتي كان من أهمها الاتجاه نحو عمق المعنى على حساب رتابة الشكل والوضوح فدخل الرمز كمحور مهم في الصياغات الشاعرية النثرية ، كرواية حي بن يقظان لأبن طفيل ، وقصص كليلة و دمنا ...الخ .
(3) علم العروض
إن من أهم ما أفرزه ظهور علم العروض ، هو انتقال أساسيات الحكم على الصياغات الشعرية من الذائقة العامة إلى القوانين المحددة عروضيا ،وكان ومازال لذلك الإفراز مفارقة مهمة جدا فحتى لو اتفقت الذائقة مع أحكام العروض – نسيبا – في ذلك الوقت إلا أن الذائقة محكوم عليها بالتغير والتطور والتبدل والتطور أما الأحكام العروضية فمحكوم عليها بالثبات وقد التفت إلى تلك الفارقة وبشكل مبكر جدا الكثير من كبار نقاد ذلك العصر أمثال قدامة بن جعفر وابن سنان الخفاجي والزمخشري والجاحظ وغيرهم ، وعليه بدأت تظهر تلك الإشكالات الناتجة عن تلك المفارقة شيئا فشيئا تبعا للتغير البيئي الذي تبعته الذائقة بعيدا شيئا فشيئا عن أحكام العروض ، بدءً من الخروج عن أحكام التقفية ومن ثم الخروج جزئيا عن النظام التفعيلي الخليلي ، ومن ثمّ الخروج عن عمود الشعر وأخيرا الدعوى للعودة ما قبل العروض وإسناد الحكم للذائقة أولا .
(4) ( التصوف والإشراق )
يمكن الاستنتاج من هذا العرض مبدئيا :
إن شكلية الشعر اتجهت تبعا للتغيرات البيئية وبشكل طبيعي من الوضوح إلى الترميز والإشارة والغموض ، من التصوير الخطي إلى الرؤيوي المركب ، من الصخب الموسيقي الخارجي الرتيب ، إلى تنويع الإيقاع وتخفيف وتيرة الصخب الخارجي إلى أقصى حد ممكن ، فكانت قصيدة النثر الوليد الطبيعي لتلك التطورات البيئية .
هيثم
________________________________________
* ملاحظة
الموضوع ضخم ويحتاج إلى تفصيلات ، واستشهادات وذكر لمصادر ومراجع كثيرة ، وما ذكر هنا ليس سوى نظرة إجمالية مختصرة جدا لتتناسب مع طبيعة المكان ومرونته الحوارية .
تعليق