شهداء الماء ***عاشور***

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بسباس عبدالرزاق
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 2008

    شهداء الماء ***عاشور***

    تغط في فقر عميق، تلك القرية النائمة بين الصنوبر، تتكئ لوسادة الأشجار التي صممت في لوحة مربعة ، تحضنها الوديان الثلاثة الغارقة في البخل، و حين تفيض بالجود تصب جام بكائها على المنازل، فتفيض المنازل بالطين و الحسرة.
    لأن الماء إحدى مسلمات البقاء، كنا ننخر التراب، نفتش عن غيمة سقطت ذات شتاء.

    -الآن فقط. يا بني لن تذلك النظرات، لن تتوسل الماء.

    سقطت الكلمات باردة، تزحف و تنهش صدره، زجاج هي كلمات الحزن، تنكسر مباشرة بعد السقوط، تجرحك قبل أن تتكور بداخلك، و الحزن مرض ربو مزمن، و الألم إفرازات جهاز المناعة ضد الفرح.

    -هذا البئر ممتلئ بالماء، و لن نستجدي الطريق بعد الآن.

    كنت أعتقد أن البئر كان يبكيها، ربما لأنه ابن ديتها، أحيانا تمنحك الحياة فرصة للتنفس في رئة الموت، هكذا كنا نستنشق رائحة الكفن، على مر الأيام كنا نحدق بحقد نحوه، ألم يختطف واحدة من العائلة ذاك الطريق، هو الآخر ينظر إلينا بصمت غير عابئ بنا، ربما هو يحضر لوليمة أخرى، ينظر إلينا بدون اهتمام بنا لأننا لم نعد نهمه.

    -آه يا ابنتي، من ديتك اشْترِينَا قطعة الأرض و حفرنا البِئر.

    سقطت الدموع فزعة من عينيها، تماما مثلما الحمام عندما يفر إثر صوت بندقية، الدموع هي جزء صغير من الحزن، لذلك هي شظايا زجاج حادة، الرجل يخزن الدموع بعيدا عن عينيه، فلا يبكي كي لا يجرح عينيه. و لأن الكبار يخافون أن يبدو ضعافا أمام الأطفال يبتلعون الحزن، لا يستطيعون هضمه، ، يمكث في الرئة مثل السجائر، مع الوقت يتسلق نحو الرأس، فيصاب الرجل بسرطان اليأس.

    الأطفال يمتهنون البراءة و الشغب، يلعبون ألعابهم الخاصة، يشكلون قوانينها بما يناسب أحجامهم و أحلامهم، حتى الحلويات كنا نلعب بها، كنا نضع قطعة خشب فوق حجر بزاوية مائلة، ثم نقوم برمي الحلوى على تلك الخشبة، فتتناثر الحلوى مثل النجوم و تتخذ من الأرض موقعا لها، هكذا كنا نتصور، الأطفال شعراء بالفكرة، و يكون نصيب من تلامس حبة حلوته الحبات الأخرى الربح، ثم نتقاسم الحلوى و نأكلها بترابها، عادلون هم الأطفال حتى تبتر الحقيقة من جماجمهم النحيفة.

    بتلك الضآلة نلبس أحلاما تفوقنا طولا و حجما، و لم نعرف أن أحلامنا تتقلص ضد أحجامنا و أعمارنا حتى خدعنا في أول منعطف للواقع، فيزياء البشر تؤكد تقلص الأمنيات سواء سلطت عليها صقيع البأس أو جمر الأحزان،الآن أعرف أن كل خيوط البياض في رأسي تساوي عدد الأحلام التي نتخلى عنها خيبة بعد خيبة، حتى يصبح الحلم مجرد قصة أسطورية كنا ننام تحت وقع سردها من والدتي، يوم كانت تسرد على مسامعي قصص الغول و حديدوان و أبو ذياب الهلالي و جازية، و استبدلناها بأفلام الموتى الذين يمشون، و نهاية العالم.

    دخلت البيت بعد ألعاب كثيرة مصممة من تقاليد الأطفال، للأطفال تقاليد و طقوس يعتنقونها منذ ولادتهم، و لكن الحياة لا تمنحهم وقتا طويلا حين يرشدون حتى تسلبهم مبادئ البراءة و الفرح.

    -وين راح خوك **أين هو أخوك**
    -إنه يلعب.
    -حذاري أن يذهب نحو الطريق.
    -لا إنه هنا أمام البيت.

    الأطفال و ألعابهم هي جرعة أكسجين ضئيلة للكبار حتى يستطيعون مواجهة الموت اختناقا، حتى مشاغباتهم تشكل براعم أمل تنمو في أحشائهم.

    في الجزائر نسمي الأطفال عصافير الجنة، إنهم نسمة نزلت في رحم النساء.

    عاشور كان أحد تلك العصافير، يمارس التغريد في جيب أبي، و يتمسك بثوب أمي كأنها شجرة بلوط، كان يستطيع معي إحداث زوبعة في سقف البيت، والدينا كانا يتوسلان بعينيهما أن نضاعف العبث و الطيش، فكنت أختبئ في زاوية خلف الباب بالليل لأخيف أمي، فتدعو علي و لي:

    -ربي يعطيك لهنا** ربي يعطيك الهناء**

    كنا نظن الليل فرصة للتخطيط ليوم آخر من اللعب، فنبيت على أهبة الاستعداد للتغريد و الطيران. أذكر أنني كثيرا ما أضحكت والدي بصوتي و أنا أردد أغنية الطائر الصغير بصوت غليظ:

    الطائر الصغير مسكنه في العش*** و أمه تطير تأتي له بالقش

    سطر واحد أردده و أستسلم للضحك مقلدا والدي بضحتكه الغريبة التي تمزج الحزن و الفرح .

    و كثيرا ما كنا أبناء الحي نتشكل في سرب كالطير و ننشد للشمس و الغروب:

    هيا نلعب قبل المغرب
    في أشكال مثل الكوكب
    هزوا الأيدي يا أولاد
    و اجروا فورا نحو الواد
    دوروا دوروا كالغضروف
    ثم انضموا مثل الصوف ...

    و لكن أحيانا لا يستطيع ريش العصافير حملها بعيدا، فتسقط حتى تؤكد بديهية الجاذبية، قال لي أحدهم ذات درس في الفيزياء، ألم يكن أجدى بنيوتن أكل التفاحة و الصمت، فإن كان جائعا أعطيناه بستان تفاح و كفانا شر الجاذبية، يا أخي أرهقنا نيوتن بخرافاته.

    البراءة لا تستطيع التحليق بالزغب، تحتاج لمحرك ميكانيكي متبجح.

    كنت أشاهد رسومي المفضلة سينان، باللونين العتيقين، ففي تلك الأيام كانت الدنيا بلونين فقط، الفرح و الحزن، حين فاجئتني أمي بصراخ لم أستوعب سببه:

    -ياسين أسرع تعالى.
    -ماذا هناك؟
    -أخوك....

    خرجت من الغرفة لأرى سقوطا لعاشور فريشُه لم يسعفه هذا اليوم، حرارة سنين الجمر أحرقته.

    كان يحمله رجل بين يديه و هو نائم، هكذا تخيلته لحظتها.

    رأسه تقطر منه قطرات الماء الذي نموت من أجله، عوض أن يمنحنا الحياة.

    عاشور عصفور لم يستطع ريشه أن يقف في وجه الجاذبية، فسقط في ثقب الماء، هناك أين انتشله أحد الرجال من البئر.

    نظرت إلى الطريق جيدا، و كان يردد:

    -أقسم إنني برئ.
    التعديل الأخير تم بواسطة بسباس عبدالرزاق; الساعة 10-10-2013, 15:31.
    السؤال مصباح عنيد
    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    الله
    الله
    الله
    ما أجمل هذا المساء بك أستاذي !
    أحببت القص لمرة أخرى
    و أنت صاحب الفضل
    أنت من جذبني إلي هنا
    فكن هكذا
    شجي و رائع و مدهش

    امتناني و محبتي


    تثبت للجمال
    sigpic

    تعليق

    • غالية ابو ستة
      أديب وكاتب
      • 09-02-2012
      • 5625

      #3

      كذلك أنا أقـــسم أن الطريــق -وكل الغــــــرقى
      والحزانى في عالم لا يعرف قيمة الانسان أبرياء
      أخي الأديب بسباس
      منذ كنت طفلة غرقت زميلات لنا في
      برك مياه الامطار وألمزارع لصقها عطشى
      وتخرجت وتغربت وعدت لتعاد قصة الغرق
      وكأن يوما لم يمر والدنيا واقفة مكانها-ذكرتني
      بالحادثة المؤلمة وما زالت الامور واقفة كما هي
      للأسف
      أما القصة فهي من أروع ما قرأت-ما أجمل الصور
      وومضات الفكر داخلها

      سقطت الدموع فزعة من عينيها، تماما مثلما الحمام عندما يفر إثر صوت بندقية، الدموع هي جزء صغير من الحزن، لذلك هي شظايا زجاج حادة، الرجل يخزن الدموع بعيدا عن عينيه، فلا يبكي كي لا يجرح عينيه. و لأن الكبار يخافون أن يبدو ضعافا أمام الأطفال يبتلعون الحزن، لا يستطيعون هضمه، ، يمكث في الرئة مثل السجائر، مع الوقت يتسلق نحو الرأس، فيصاب الرجل بسرطان اليأس.

      أي جمال وأيّ إحساس وتألق
      وفقك الله وشكراً على الجمال
      يا ســــائد الطيـــف والألوان تعشــقهُ
      تُلطّف الواقـــــع الموبوء بالسّـــــقمِ

      في روضــــــة الطيف والألوان أيكتهــا
      لـــه اعزفي يا ترانيــــم المنى نـــغمي



      تعليق

      • محمد عبد الغفار صيام
        مؤدب صبيان
        • 30-11-2010
        • 533

        #4
        أى سحر هذا أستاذ / بسباس عبد الرازق
        سحرتنى لفظا و فكرا ...
        بفلسفية عالية رأينا الماء يمنح الحياة ويسلبها ..عالم الأطفال الأمل و البراءة وعالم الكبار الجزع و المرارة..حتى قانون الطفو لأرشميدس تعطل لصالح قانون الجاذبية لنيوتن !!
        كنت متجددا مبهرا كالنهر باستعاراتك و تشبيهاتك .. شجيا كالناى بسردك و حكيك !!
        "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

        تعليق

        • بسباس عبدالرزاق
          أديب وكاتب
          • 01-09-2012
          • 2008

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
          الله
          الله
          الله
          ما أجمل هذا المساء بك أستاذي !
          أحببت القص لمرة أخرى
          و أنت صاحب الفضل
          أنت من جذبني إلي هنا
          فكن هكذا
          شجي و رائع و مدهش

          امتناني و محبتي


          تثبت للجمال


          الأستاذ الرائع ربيع عقب الباب

          أولا أريد أن أمرر شكري إليك و بقوة
          لنصيحة في ذات رد أن أتبع القص

          و قد أخذت بنصيحتك

          و شكرا لمرورك الرائع المدوي الذي أراح قلبي


          تقديري و محبتي الدائمين
          السؤال مصباح عنيد
          لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

          تعليق

          • مهدية التونسية
            أديبة وكاتبة
            • 20-09-2013
            • 516

            #6
            شهداء الماء وتركيبة من المفردات
            من التشبيهات الجميلة غني هذا النص بها
            كنت رائعا وكفى
            استاذي
            بصمت اخرج


            http://www.youtube.com/watch?v=RkH_701__k0











            لاتسأل القصيدة عن دمها عن حرفها المغدور بهجر المكان
            لاتسأل فويلها الكلمات حين يسيل دمعها على خد الورق!

            تعليق

            • بسباس عبدالرزاق
              أديب وكاتب
              • 01-09-2012
              • 2008

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة غالية ابو ستة مشاهدة المشاركة

              كذلك أنا أقـــسم أن الطريــق -وكل الغــــــرقى
              والحزانى في عالم لا يعرف قيمة الانسان أبرياء
              أخي الأديب بسباس
              منذ كنت طفلة غرقت زميلات لنا في
              برك مياه الامطار وألمزارع لصقها عطشى
              وتخرجت وتغربت وعدت لتعاد قصة الغرق
              وكأن يوما لم يمر والدنيا واقفة مكانها-ذكرتني
              بالحادثة المؤلمة وما زالت الامور واقفة كما هي
              للأسف
              أما القصة فهي من أروع ما قرأت-ما أجمل الصور
              وومضات الفكر داخلها

              سقطت الدموع فزعة من عينيها، تماما مثلما الحمام عندما يفر إثر صوت بندقية، الدموع هي جزء صغير من الحزن، لذلك هي شظايا زجاج حادة، الرجل يخزن الدموع بعيدا عن عينيه، فلا يبكي كي لا يجرح عينيه. و لأن الكبار يخافون أن يبدو ضعافا أمام الأطفال يبتلعون الحزن، لا يستطيعون هضمه، ، يمكث في الرئة مثل السجائر، مع الوقت يتسلق نحو الرأس، فيصاب الرجل بسرطان اليأس.

              أي جمال وأيّ إحساس وتألق
              وفقك الله وشكراً على الجمال
              الأستاذة غالية أبو ستة

              أشكر لك مرورك و سعيد أن نصي نال إعجابك

              الحقيقة أمر من أن ننقلها في بضع سطور بل هي محنة كبيرة تعانيها أوطاننا

              لذلك ربما علينا أن نغوص في مشاكلنا أكثر



              بورك تواجدك فاضلتي

              تقديري و احتراماتي
              السؤال مصباح عنيد
              لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

              تعليق

              • بسباس عبدالرزاق
                أديب وكاتب
                • 01-09-2012
                • 2008

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة محمد عبد الغفار صيام مشاهدة المشاركة
                أى سحر هذا أستاذ / بسباس عبد الرازق
                سحرتنى لفظا و فكرا ...
                بفلسفية عالية رأينا الماء يمنح الحياة ويسلبها ..عالم الأطفال الأمل و البراءة وعالم الكبار الجزع و المرارة..حتى قانون الطفو لأرشميدس تعطل لصالح قانون الجاذبية لنيوتن !!
                كنت متجددا مبهرا كالنهر باستعاراتك و تشبيهاتك .. شجيا كالناى بسردك و حكيك !!

                الأستاذ محمد عبدالغفار صيام

                القاص البارع المبدع

                مرحبا بك اخي عندي في نصي المتواضع
                و اشكر تفاعلك الجميل و تناغمك مع كلماتي

                تقديري و محبتي
                السؤال مصباح عنيد
                لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  أحبك صديقي
                  و اعشق شهداءك
                  لأنهم معنا يحييون مواتا هنا

                  محبتي
                  sigpic

                  تعليق

                  • بسباس عبدالرزاق
                    أديب وكاتب
                    • 01-09-2012
                    • 2008

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة مهدية التونسية مشاهدة المشاركة
                    شهداء الماء وتركيبة من المفردات
                    من التشبيهات الجميلة غني هذا النص بها
                    كنت رائعا وكفى
                    استاذي
                    بصمت اخرج
                    الأستاذة مهدية

                    أهلا بك بيننا فاضلتي
                    و اشكر جميل كلامك على قصتي


                    و ننتظر جديدك دائما

                    تقديري
                    السؤال مصباح عنيد
                    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                    تعليق

                    • بسباس عبدالرزاق
                      أديب وكاتب
                      • 01-09-2012
                      • 2008

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                      أحبك صديقي
                      و اعشق شهداءك
                      لأنهم معنا يحييون مواتا هنا

                      محبتي
                      و إنني أحبتك أستاذي الرائع ربيع

                      عل المنتدى يصبح ضاجا بالتفاعل الأدبي

                      أنتظر جديدك دائما
                      السؤال مصباح عنيد
                      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                      تعليق

                      • سمية البوغافرية
                        أديب وكاتب
                        • 26-12-2007
                        • 652

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
                        تغط في فقر عميق، تلك القرية النائمة بين الصنوبر، تتكئ لوسادة الأشجار التي صممت في لوحة مربعة ، تحضنها الوديان الثلاثة الغارقة في البخل، و حين تفيض بالجود تصب جام بكائها على المنازل، فتفيض المنازل بالطين و الحسرة.
                        لأن الماء إحدى مسلمات البقاء، كنا ننخر التراب، نفتش عن غيمة سقطت ذات شتاء.

                        -الآن فقط. يا بني لن تذلك النظرات، لن تتوسل الماء.

                        سقطت الكلمات باردة، تزحف و تنهش صدره، زجاج هي كلمات الحزن، تنكسر مباشرة بعد السقوط، تجرحك قبل أن تتكور بداخلك، و الحزن مرض ربو مزمن، و الألم إفرازات جهاز المناعة ضد الفرح.

                        -هذا البئر ممتلئ بالماء، و لن نستجدي الطريق بعد الآن.

                        كنت أعتقد أن البئر كان يبكيها، ربما لأنه ابن ديتها، أحيانا تمنحك الحياة فرصة للتنفس في رئة الموت، هكذا كنا نستنشق رائحة الكفن، على مر الأيام كنا نحدق بحقد نحوه، ألم يختطف واحدة من العائلة ذاك الطريق، هو الآخر ينظر إلينا بصمت غير عابئ بنا، ربما هو يحضر لوليمة أخرى، ينظر إلينا بدون اهتمام بنا لأننا لم نعد نهمه.

                        -آه يا ابنتي، من ديتك اشْترِينَا قطعة الأرض و حفرنا البِئر.

                        سقطت الدموع فزعة من عينيها، تماما مثلما الحمام عندما يفر إثر صوت بندقية، الدموع هي جزء صغير من الحزن، لذلك هي شظايا زجاج حادة، الرجل يخزن الدموع بعيدا عن عينيه، فلا يبكي كي لا يجرح عينيه. و لأن الكبار يخافون أن يبدو ضعافا أمام الأطفال يبتلعون الحزن، لا يستطيعون هضمه، ، يمكث في الرئة مثل السجائر، مع الوقت يتسلق نحو الرأس، فيصاب الرجل بسرطان اليأس.

                        الأطفال يمتهنون البراءة و الشغب، يلعبون ألعابهم الخاصة، يشكلون قوانينها بما يناسب أحجامهم و أحلامهم، حتى الحلويات كنا نلعب بها، كنا نضع قطعة خشب فوق حجر بزاوية مائلة، ثم نقوم برمي الحلوى على تلك الخشبة، فتتناثر الحلوى مثل النجوم و تتخذ من الأرض موقعا لها، هكذا كنا نتصور، الأطفال شعراء بالفكرة، و يكون نصيب من تلامس حبة حلوته الحبات الأخرى الربح، ثم نتقاسم الحلوى و نأكلها بترابها، عادلون هم الأطفال حتى تبتر الحقيقة من جماجمهم النحيفة.

                        بتلك الضآلة نلبس أحلاما تفوقنا طولا و حجما، و لم نعرف أن أحلامنا تتقلص ضد أحجامنا و أعمارنا حتى خدعنا في أول منعطف للواقع، فيزياء البشر تؤكد تقلص الأمنيات سواء سلطت عليها صقيع البأس أو جمر الأحزان،الآن أعرف أن كل خيوط البياض في رأسي تساوي عدد الأحلام التي نتخلى عنها خيبة بعد خيبة، حتى يصبح الحلم مجرد قصة أسطورية كنا ننام تحت وقع سردها من والدتي، يوم كانت تسرد على مسامعي قصص الغول و حديدوان و أبو ذياب الهلالي و جازية، و استبدلناها بأفلام الموتى الذين يمشون، و نهاية العالم.

                        دخلت البيت بعد ألعاب كثيرة مصممة من تقاليد الأطفال، للأطفال تقاليد و طقوس يعتنقونها منذ ولادتهم، و لكن الحياة لا تمنحهم وقتا طويلا حين يرشدون حتى تسلبهم مبادئ البراءة و الفرح.

                        -وين راح خوك **أين هو أخوك**
                        -إنه يلعب.
                        -حذاري أن يذهب نحو الطريق.
                        -لا إنه هنا أمام البيت.

                        الأطفال و ألعابهم هي جرعة أكسجين ضئيلة للكبار حتى يستطيعون مواجهة الموت اختناقا، حتى مشاغباتهم تشكل براعم أمل تنمو في أحشائهم.

                        في الجزائر نسمي الأطفال عصافير الجنة، إنهم نسمة نزلت في رحم النساء.

                        عاشور كان أحد تلك العصافير، يمارس التغريد في جيب أبي، و يتمسك بثوب أمي كأنها شجرة بلوط، كان يستطيع معي إحداث زوبعة في سقف البيت، والدينا كانا يتوسلان بعينيهما أن نضاعف العبث و الطيش، فكنت أختبئ في زاوية خلف الباب بالليل لأخيف أمي، فتدعو علي و لي:

                        -ربي يعطيك لهنا** ربي يعطيك الهناء**

                        كنا نظن الليل فرصة للتخطيط ليوم آخر من اللعب، فنبيت على أهبة الاستعداد للتغريد و الطيران. أذكر أنني كثيرا ما أضحكت والدي بصوتي و أنا أردد أغنية الطائر الصغير بصوت غليظ:

                        الطائر الصغير مسكنه في العش*** و أمه تطير تأتي له بالقش

                        سطر واحد أردده و أستسلم للضحك مقلدا والدي بضحتكه الغريبة التي تمزج الحزن و الفرح .

                        و كثيرا ما كنا أبناء الحي نتشكل في سرب كالطير و ننشد للشمس و الغروب:

                        هيا نلعب قبل المغرب
                        في أشكال مثل الكوكب
                        هزوا الأيدي يا أولاد
                        و اجروا فورا نحو الواد
                        دوروا دوروا كالغضروف
                        ثم انضموا مثل الصوف ...

                        و لكن أحيانا لا يستطيع ريش العصافير حملها بعيدا، فتسقط حتى تؤكد بديهية الجاذبية، قال لي أحدهم ذات درس في الفيزياء، ألم يكن أجدى بنيوتن أكل التفاحة و الصمت، فإن كان جائعا أعطيناه بستان تفاح و كفانا شر الجاذبية، يا أخي أرهقنا نيوتن بخرافاته.

                        البراءة لا تستطيع التحليق بالزغب، تحتاج لمحرك ميكانيكي متبجح.

                        كنت أشاهد رسومي المفضلة سينان، باللونين العتيقين، ففي تلك الأيام كانت الدنيا بلونين فقط، الفرح و الحزن، حين فاجئتني أمي بصراخ لم أستوعب سببه:

                        -ياسين أسرع تعالى.
                        -ماذا هناك؟
                        -أخوك....

                        خرجت من الغرفة لأرى سقوطا لعاشور فريشُه لم يسعفه هذا اليوم، حرارة سنين الجمر أحرقته.

                        كان يحمله رجل بين يديه و هو نائم، هكذا تخيلته لحظتها.

                        رأسه تقطر منه قطرات الماء الذي نموت من أجله، عوض أن يمنحنا الحياة.

                        عاشور عصفور لم يستطع ريشه أن يقف في وجه الجاذبية، فسقط في ثقب الماء، هناك أين انتشله أحد الرجال من البئر.

                        نظرت إلى الطريق جيدا، و كان يردد:

                        -أقسم إنني برئ.
                        قلم مميز ورائع
                        سعيدة جدا باكتشافه
                        أحييك عليه أستاذ بسباس عبد الرزاق
                        ومزيدا من التميز أتمناه لقلمك المبهر
                        تحياتي الصادقة لشخصكم الكريم ولقلمكم العذب

                        تعليق

                        • بسباس عبدالرزاق
                          أديب وكاتب
                          • 01-09-2012
                          • 2008

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة سمية البوغافرية مشاهدة المشاركة
                          قلم مميز ورائع
                          سعيدة جدا باكتشافه
                          أحييك عليه أستاذ بسباس عبد الرزاق
                          ومزيدا من التميز أتمناه لقلمك المبهر
                          تحياتي الصادقة لشخصكم الكريم ولقلمكم العذب
                          سعيد جدا و ممتن لاطرائك فاضلتي

                          إحتراماتي و تقديري أستاذة سمية البوغرافية
                          السؤال مصباح عنيد
                          لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                          تعليق

                          • منيره الفهري
                            مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
                            • 21-12-2010
                            • 9870

                            #14
                            قلم مميز بالفعل
                            شكرا استاذنا القدير بسباس عبد الرزاق



                            تعليق

                            • عائده محمد نادر
                              عضو الملتقى
                              • 18-10-2008
                              • 12843

                              #15
                              آه زميل بسباس
                              ماذا فعلت بي
                              نص جميل جميل جميل
                              موجع حد الغوص كنصل يغرق بين الأضلع
                              من أين أتيت بهذه الجميلة وكيف غابت عني
                              يا إلهي كم أحببتك هنا
                              كم أحسست بكل كلمة
                              سرد سلس وشفاف وموجع
                              شجن سكنني حتى شعرت أني هناك قرب عاشور
                              وندت دمعة خفية من بين أجفاني لأني من النوع الذي يقرأ ويتخيل لأني مجبولة على الألم لكني لم اعتده لأعيشه كل مرة بنفس كمية الألم
                              لك طريقة رائعة بالسرد
                              أسلوب مشوق حتى آخر جرعة من الألم
                              أحسنت
                              أبصم بعشرة أصابعي
                              وهمسة لك ليكن العنوان (عاشور ) لأن شهداء الماء تشي بالنص وتخفف من وقعه رأي لك أن ترميه وراء ظهرك لو أحببت
                              تحياتي ومحبتي لك
                              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                              تعليق

                              يعمل...
                              X