محطّات تاريخيّة لمنطقة الماتلين التّونسيّة / بقلم الباحث حاتم سعيد ابو هادي

1- مقدّمة البحث:
بدأت القصة وأنا شاب يافع يدفعه عشقه لمنطقته لمعرفة تاريخها ، تقاليدها و عاداتها في الافراح و المسرات بمجالسة الشيوخ و الاستماع إلى حكاياتهم و ذكرياتهم ومن ثمة تدوينها في دفاتري الخاصة ثم اخراجها بالة راقنة أقوم بكرائها من الشيخ "صالح سلتانة " براس الجبل وكان مشجعي الاكبر الاخ "محمد الحبيب بن عبد الله " رئيس اللجنة الثقافية و مدير فرقة القدس للقادرية بالماتلين و الاخ "عبد المجيد لوظيف " أمين المكتبة العمومية للاطفال " و لا زالت ذاكرتي تحمل عناوين لبعض البحوث من بينها قصة استشهاد "البشير سعيد" وقصائد شاعر الماتلين "عبد القادر عزوز " صاحب المثل المشهور – بهيم وقدم قرعة- و مدائح و أذكار التراث الصوفي في بنزرت على لسان الخال الطيب المرحوم "اسماعيل شعبان " .
كنت أسأل عن أصول العائلات و سبب بعض التسميات و عن الموروث الحضاري في المنطقة وأهم الأحداث التي علقت في أذهان شيوخ مدينتي ،لكن أهم سؤال كان يتردد على لساني :
- لماذا نسمي هذه المدينة "ماتلين" ؟
كانت الإجابات قصصا متنوّعة، طريفة و ممتعة، لكنّها تبدوا خياليّة و لا تستند إلى أسس علميّة واقعيّة، وكان الجميع يدرك ذلك ويعلم أنها مجرّد حكايات للسّمر.
أمّا اليوم و مع تقدّم العلوم و انتشار البحوث و المراجع التاريخيّة بفضل الشبكة العنكبوتيّة، فإن أمتع أوقاتي أن أطالع ما توفر منها و خاصّة التاريخيّة ،ممّا دفعني لمحاولة الإجابة عن نفس السّؤال القديم و الغوص أكثر ما يمكن في أغوار الماضي لاكتشاف تاريخ (منطقة الماتلين)، وقد ساعدني في ذلك ما أشار إليه الدكتور عزّ الدين ڤلوز في أكثر من مناسبة من وجود اسمين لمدينتين أثريّتين "تينيسّة" و "بيني فنتوم".
و إنني إذ أقوم بهذه المحاولة البسيطة سأعمل على جمع كل الوثائق و بيان مصدرها لتمثل نقطة انطلاق لكل باحث ببيان الإشكاليات التي يمكن أن تحدّ من الوصول إلى نتائج دقيقة ،و أخيرا لكي لا يبقى تاريخ الماتلين مجهولا أو متروكا فقط لحكايات السّمر.
بهيم و قدم قرعه
يا جايني بكل ما فيك ** بحمق من غير شرعه
لا كبرت قدام عينيك ** لا حشمت مني بمرعه
تحسابني عصيّده ليك ** من القمح فلاح زرعه
و الله نقدر انبكيك ** من السم نسقيك جرعه
ونخطف المحداف نعطيك**وحدات منى بسرعه
آش اللى جرى عليك*********بهيم و قدم قرعه
يا جايني بكل ما فيك ** بحمق من غير شرعه
لا كبرت قدام عينيك ** لا حشمت مني بمرعه
تحسابني عصيّده ليك ** من القمح فلاح زرعه
و الله نقدر انبكيك ** من السم نسقيك جرعه
ونخطف المحداف نعطيك**وحدات منى بسرعه
آش اللى جرى عليك*********بهيم و قدم قرعه
الشاعر "قدّور عزّوز"

2- لمحة عن منطقة الماتلين الحديثة:
صورة رقم 1خريطة لمنطقة الماتلين (الطرقات الموصلة للجهة)
أ- تحديد الموقع
نحن بصدد تحديد موقع جغرافيّ حديث يقع شمال غرب العاصمة التونسية على خط العرض 37.25 و خط الطول 10.5 تصل أعلى نقطة ارتفاع به في جبل التّوشلة (و يطلق عليه جبل حكيمة) إلى 206 متر (676 قدم) و يمتد شريطه الساحلي إلى أكثر من 6 كيلومتر وهو بالتحديد رأس بحري يعرف "برأس الزبيب أو كاب زبيب" يقع بين رأسين مشهورين هما "رأس سيدي علي المكي" في غار الملح (يعرف برأس الطرف و أيضا كاب فارينا) "و رأس بنزرت قرب الرأس الأبيض" في ولاية بنزرت ،وينتمي إلى معتمدية رأس الجبل ويحمل اسم "ماتلين"
ب- حدوده
يحده البحر الأبيض المتوسط شمالا و مدينة بني عطا شرقا وغابة الرمال غربا و سيدي علي الشباب جنوبا من معتمدية العالية.
ج- سهوله
تعتبر سهول الماتلين الملاصقة للبحر ضيّقة و تزداد اختناقا مع توسّع المدّ العمراني في مختلف الاتجاهات على حساب الأراضي الفلاحيّة وبروز شكل جديد من أشكال المنازل الثانوية للفترة الصيفية أو معدة للكراء ويعتبر أصحابها أجانب حيث يتوافدون من مدن تونسية أخرى .
د- البلديّة
تمّ التّنصيص علي الماتلين كبلديّة منذ 3 ماي 1967 و تشملها إداريا 3 عمادات: الأولى وتضم (ماتلين المدينة، سيدي بوشوشة ورأس الزبيب)، و الثانية (عمادة الماتلين الغربية وتضم العوينة والدّمنة)، والثالثة *(عمادة القرية وتضم القرية وسيدي عبد العزيز و الدّريديّة ) في خطوة جديدة أصبحت عمادة القرية تتبع مباشرة رأس الجبل (بتاريخ 2013).
مدينة الماتلين كما تبرز من جهة بني عطا
ه-السكّان
يبلغ عدد ساكنيها حاليا ما يقارب 15 ألف نسمة ولكن العدد يزداد صيفا و يقلّ في باقي الفصول بسبب تواجد العديد من أبناء الجهة في أماكن أخرى بسبب الهجرة و العمل خارج أرض الوطن، لذلك يطلق عليها : "مدينة المهاجرين"، أما أصول هذه العائلات فتتراوح بين أندلسية ، تركية ، عربية و أمازيغية ، لكنها تشترك في كونها جميعها مسلمة .(إحصائيات سنة 2004 التي شاركت فيها)
و- الأحياء و التجمعات السكنية
تشتهر الماتلين المدينة بعدة أحياء و تجمعات سكنية لعل أبرزها (عين البلد - سيدي عيّاد - حومة القصر - عين شيهرلي - حيّ النّخلة - الدّوامس - حيّ الأندلس- العوينة – سيدي بوشوشة - سيدي عبد الله- رأس الزبيب-الدمنة-سيدي عبد العزيز-الدريدية- القرية ...) وكلّها شهدت تطورا عمرانيا مذهلا تهاوت على إثره البناءات والمعالم القديمة فيها فلم يبق منها سوى القليل .
ز- العيون
تعتبر العيون المائية أحد المميزات الكبرى للمنطقة و هي تنتشر في كل مكان و قد قامت حواليها بعض الأحياء القديمة نذكر من بينها (عين بلد – عين سامورجي – عين شاه ارلي - عين السمار - عين الشفاء - عين الباردة - عين الريحان -عين المغيرة - عين الصغيرة - عين العوينة - عين البيت - غدير العين - غدير القصبة – عين الحمام وغيرها....) .
ح- محيطها
أقرب المدن للمنطقة نجد (بني عطا ) على بعد2.37 كلم ، (سيدي علي الشباب) 5.56 كلم ، (رأس الجبل ) 8.26 كلم ، ( العالية ) 9.38 كلم ، ( العزيب) 10.14 كلم ، (منزل الجميل) 11.83 كلم وقياس هذه المسافات يعتمد على أقرب نقطة التقاء ، كما تبعد عنها (جزيرة كاني قرابة 10 كلم) .
بينها و بين تونس العاصمة قرابة 60 كلم و يمكن الوصول إليها بالطريق السريعة رقم 4 الرابطة بين تونس – بنزرت بالدخول من المحول على مستوى مدينة العالية باستعمال الطريق الجهويّة رقم 70 أو محوّل مدينة أوتيك باستعمال الطّريق الجهويّة رقم 69 باتجاه رأس الجبل (راجع الخريطة الأولى). و بين الماتلين و بنزرت مسافة تقدر ب 32 كلم .

شهد هذا الموقع الجغرافي عديد التحولات بتعاقب الحضارات لما له من أهمية إستراتيجية في الدفاع المبكّر ضد الهجمات العدائيّة الخارجيّة لا سيّما و أنّه يمثّل الواجهة الأمامية الشّماليّة للبلاد التونسية وهو يشرف على خليج ساحليّ متوسّطيّ واسع و كبير يمتد النظر من خلاله إلى تلال رأس الطرف بغار الملح من الناحية الشرقية و تلال رأس بنزرت من الناحية الغربية و يمكن من خلاله مراقبة تحركات جميع المراكب القادمة من بلدان شمال البحر الأبيض المتوسط ، مما جعل المستعمر الفرنسي يتخذ من هذه المنطقة قاعدة حربية متقدمة فيبني على أراضيها مدافع عملاقة مضادة للسفن و الطائرات مستغلا المرتفعات أبشع استغلال بحفرها و تهيئتها للحروب من خلال شبه مدن تحت الأرض بالقرب من عديد المعالم القديمة على جبل التّوشلة و سيدي بوشوشة و باب بنزرت والشريط الساحلي ، و يمكنكم التوسع في هذه النقطة بالبحث عن المواقع و التحصينات الدفاعية للحربية الفرنسية في الماتلين من خلال الانترنت وقد ارتبط هذا الموقع بذكرى أليمة وهي استشهاد المغفور له البشير سعيد في 02 أوت عام 1937 خلال الاحتجاجات العمّاليّة على الشّركة المسؤولة عن البناء .
ي- بروز اسم ماتلين
و يعتبر الكثيرون أن اسم الماتلين يرتبط بشدة مع موجة الاستيطان الذي شجعته مراسيم الدولة العثمانية لتيسير دخول المهاجرين الموريسكيين إبان القمع و التهجير الوحشي في اسبانيا للمسلمين في القرن 16 و 17 ميلادي و أيضا تمليك متقاعدي الجيش الانكشاري للأراضي في أنحاء إستراتيجية من البلاد التونسية ،حيث هنالك من يعتبر أن هذا الاسم يمكن أن يكون قادما من جزيرة يونانية تدعى "ميتيلان" أو من حصن اسباني يدعى "ميدللي" بفضل هذه الجاليات التي اختارت الاستقرار بهذه الربوع .
[aimg=borderSize=0,borderType=none,borderColor=blac k,imgAlign=none,imgWidth=,imgHeight=]http://metlinebledi.e-monsite.com/medias/images/metline-en-espain.jpg?fx=r_600_600[/aimg]
حصن ميتيلان في اليونان حصن ميدللى في اسبانياولكن يمكننا إحصاء مدن أخرى في مناطق العالم بهذا الاسم (كولومبيا- ألمانيا – فرنسا....) ويبقى السؤال : -هل يوجد رابط بين كل هذه المدن التي تحمل نفس التسمية (ماتلين) ؟
3- إشكالية معرفة المواقع الأثرية بالماتلين ونوعيتها :
من أبرز الصعوبات التي تواجه الباحث غير المتخصص في مجال علم التاريخ معرفة المصادر و الوصول إليها باعتماد وسائل البحث الحديثة و أقصد بذلك محركات البحث الموجودة في الشبكة العنقودية التي اعتمدت عليها كليا في معرفة تاريخ الماتلين ، وهو عائق لم أتمكن من اجتيازه إلا بعد فترة طويلة نسبيا ، لعدّة أسباب وهذا ما سأحاول إبرازه تعميما للفائدة في سبيل تمهيد الطريق لكل الإخوة المغرمين مثلي بهذه المنطقة العزيزة .
هناك من المصادر من قدمت الموقع على أساس انتمائه لرأس الجبل - و هذا صحيح لان بلدية الماتلين تتبع إداريا هذه المعتمدية - و هنالك من أبرزه على أنه من المواقع الأثرية في بنزرت - و هذا صحيح أيضا لأنها الولاية التي تنتمي إليها المنطقة ككل - بينما وجدت مصادر قليلة تحدد بدقة هذا الموقع فتبرزه في منطقة الماتلين و تكاد تجمع على أنه في رأس الزبيب - و هذا خاطئ لأن الآثار منتشرة في عدة أماكن مختلفة على الشريط الساحلي كما على المرتفعات - وهو ما يفسر قول الباحثين "أن المدينة العربية قد قامت على أنقاض المدينة الرومانية" ولن اذكر اسم الماتلين لأنه كما يبدو متأخر نسبيا بل هو الاسم الذي اشتهرت به في الفترة الحديثة .....
والسبب الذي جعل بحثي لا يصل إلى نتائج ملموسة منذ البداية هو طريقة كتابة أسماء الأماكن و لنأخذ أمثلة على ذلك بين اللغة العربية و اللغات الأجنبية فالماتلين قد تكتب غير معرفة و قد تكتب بغير همزة (ماتلين – متلين) (METLINE – MATLINE)و رأس الزبيب قد تجدها كاب زبيب وهذه بعض الكتابات ) RAS ZEBIB – RASS ZEBIB- RAS ZBIB – CAP ZEBIB –CAP ZBIB – ( ، و لكن الإشكالية الأهم تتمثل في تحديد اسم المدينة الأثرية بين من يكتبها :
تونايزا TUNEIZA
تونيزا TUNISA
تينيزا THINISA
تينيسّة THINISSA
تونيسّة TUNISSA
تونيزانس TUNISENCE
ولا شك عندي أن خطئي منذ البداية في عدم معرفة طريقة كتابته فاخترت هذا الرسم ( Thynissa ) وهو ما لم أجد له أثرا إلى حدّ اليوم، أما المصادر القديمة فقد كتبت الاسم كالتالي :
تينيزا ( Θινισα ) و تينيسّة ( Θινισσα) أي (Thinis(s)a)

تعليق