الظلّ الأبيض ....
ولأن ظلالنا بيضاء مثل مساحة الفراغ في وجوهنا، وقلوبنا، وأيدينا ..أقدّم اعتذارا للمرأة السورية .. ولكل امرأة تهجّرت، حملت الوطن في ثناياها وآمالها .. فلم تجد مكانا له في الغربة ، أو سرقوه منها في الطريق الأسود ...

...صرتُ مهووسة بالنظافة إذا! لا شيء يهمّني غير تلك المربّعات البيضاء الصغيرة، أتأملها كأنّني في معرض لفنان لم يمسّ لوحاته بغير الأبيض أو بأيّ سوء، ليظنّ الناس في الوهلة الأولى أنه قرّر الاعتزال .. وقد يعي بعضهم أنه كان فقط يرسمهم!
تلك المربعات المرصوفة بشكل متناسق تبدو حذرة تماما، كأنها لا تثق بخطواتي، ولا تنسجم مع جلدي..
الأقفاص غالبا ما تكون مربّعة، أما الدائريّة فهي فقط لمن لديهم هاجس البحث عن الزوايا، وعن كل ما لا يوجد إلا في داخلهم ... ليس لديّ أي هواجس ... !
السجين يتمنى لو أنه عصفور ولد في قفص فلا يحنّ إلى السماء، لكنّي أظن أن الحرية غريزة، وأنّ العصفور يولد من أجل السماء ويعرف بالفطرة تلك النسائم والغمائم الناعمة ... فلا فرق بين عصفور ولد بقفص وآخر ولد فوق غصن إلا الندم. الأخير يجلد كل ليلة نفسه "كانت لديّ فرصة ... رصاصة الصيّاد .. الموت الرحيم ...!"
أذكر بستاننا، ذلك الذي يبعد سنتين وعمر شجرة التين التي اخترقت ،في ليلة عيدٍ، جدارنا المتشقق المطل على البستان. يومها فقط أدركنا أنّ الجدران في الوطن مهما تصدّعت لا تسقط فوق رؤوسنا، وتورق مهما اصفرّت. وبينما كنا نتأملها بدهشة، كان والدي يواري فأسه عن الأنظار خجلا. كانت حجّته أن شجرة التين تجلب الأفاعي حتى غمزته أمّي وقالت بصوت أعلى من العادة، "لا أفاعي في أرضنا... ".
في ذلك البستان الذي حُرِم من الاحتفال بثمار التّين، لتردم آماله وريقاتها الصّغيرة.
لم يكن أبي من تجرأ على فعل ذلك، كذلك لم تكُ تلك الأفاعى التي تصدر رنين جرس كلما دخلت كوابيسي ..
ولا العاصفة التي تحوّل الموت إلى مشهد مغرٍ بالحياة، والترابَ إلى عطر للانبعاث...
كان التراب يرقص كلما مرّغت به قدميّ. يتنفس بي حقا، يشعر بي وبنعومة جلدي، ورائحة الولادة التي تجمعنا..
هناك حيث لم تفقد الأرض أمومتها كنت طفلة التراب، الزهر، الورد الجوري والمطر ... كنتُ فعلا كائنا بشريّا بحواس خمس!
اليوم لا تستفزني سوى ذرّات الغبار، والدّخان، وآثار الأنفاس على النافذة العارية...
لو كنتُ أملك ستارا لكان أبيض حتما، ولولا أن السّنانير التي كنت أستعيرها من جارتنا العجوز ،
لم يحوّلها ابنها لسلاح سمّاه "أبيض"،رأيته بأمّ عينيَ مصبوغا بالأحمر، لكنت أحضرتها معي وحكت غطاء للطاولة ... أيضا أبيض..!
الأبيض يريحني، يحاكي الخواء في داخلي، ولا يطلب منّي أن أشعر بشيء، أو أن أُجبر على التعبير عن شيء.
عندما حملنا أجسادنا الثقيلة في رحلة التشرّد التي لا تنتهي، صرخت بنا امرأة لا أعرفها " لا يجدر بنا البكاء.. إيماننا أقوى.. ممنوع أن تبكوا"
وبالرغم من أنها انهارت بعدها بالبكاء المرير، كانت امرأة ثكلى ترمي منديلها أرضا، وتحجّر الدمع في عينيها...
... هكذا أكملنا طريقنا كألواح خشبيّة تدفعها الريّاح نحو مكان مجهول، الأخشاب لا تُكسر ، وحدها الأرواح قابلة للكسر.
كانت مدينتنا تصغر كلما ابتعدنا، وبعد كلام تلك السيدة لم نلتفت إلى الخلف،
ولم نسترح لبرهة... الأخشاب لا تتألم .. عرفت لماذا لا تصرخ الأبواب والجذوع حين تنهال عليها الفؤوس!
كذلك جدران بيتنا لم تصرخ ...
كل ما كنتُ أفكر به، أنّ أمي دفعت ثمن كذبتها غاليا، وسبقتني الحقيقة إليها قبل أن أواجهها.
أذكر أنّها اعترفت يوما دون أن تقصد حين اقترحت عليّ أن أختار أثاث منزلي يوم أصبح عروسا باللون الأبيض، كما الطرحة..
لو تدرين أمي أيّ طرحة أسدل الزمان على وجهي!
نعم هكذا هو الأمر، كنّا نشعر بأن الغد بيت مؤثث باللون الأبيض، بالأكفان، المناديل، وقطع بلاط مربّعة مرصوفة بحذر...
في المدينة التي قذفتنا إليها الأمواج - بعد أن صار وطننا الجزيرة المحظورة، الممسوسة بالشياطين، بالكائنات الفضائية، الغارقة بالخرافات والأساطير- خدعتنا الشوارع المرسومة بخطيّن متوازيين، والأرصفة المتشابهة...كل شيء كان يوحي بالدّقة والثبات !
كان الدرب واحدا، مفتوحا في الاتجاهين.. أيّ خدعة بصرية كانت تلك!
لا أفهم كيف تتلوى طرقات مرسومة بالمسطرة، ويُمحى الطريق بعد اجتيازه!
كما لا أدري كيف وصلتُ لهذا البيت الصّغير!
وكيف أصبح هذا الرجل الغريب، الذي لا تتضح لي ملامحه مهما حاولت، زوجا لي ... ولماذا يصرّ على استفزازي بلفافات تبغه، التي لا تنطفئ، ولا تنفك تسقِط رمادها وجمرها .. على مربعاتي البيضاء المرصوفة بحذر !
.
.تلك المربعات المرصوفة بشكل متناسق تبدو حذرة تماما، كأنها لا تثق بخطواتي، ولا تنسجم مع جلدي..
الأقفاص غالبا ما تكون مربّعة، أما الدائريّة فهي فقط لمن لديهم هاجس البحث عن الزوايا، وعن كل ما لا يوجد إلا في داخلهم ... ليس لديّ أي هواجس ... !
السجين يتمنى لو أنه عصفور ولد في قفص فلا يحنّ إلى السماء، لكنّي أظن أن الحرية غريزة، وأنّ العصفور يولد من أجل السماء ويعرف بالفطرة تلك النسائم والغمائم الناعمة ... فلا فرق بين عصفور ولد بقفص وآخر ولد فوق غصن إلا الندم. الأخير يجلد كل ليلة نفسه "كانت لديّ فرصة ... رصاصة الصيّاد .. الموت الرحيم ...!"
أذكر بستاننا، ذلك الذي يبعد سنتين وعمر شجرة التين التي اخترقت ،في ليلة عيدٍ، جدارنا المتشقق المطل على البستان. يومها فقط أدركنا أنّ الجدران في الوطن مهما تصدّعت لا تسقط فوق رؤوسنا، وتورق مهما اصفرّت. وبينما كنا نتأملها بدهشة، كان والدي يواري فأسه عن الأنظار خجلا. كانت حجّته أن شجرة التين تجلب الأفاعي حتى غمزته أمّي وقالت بصوت أعلى من العادة، "لا أفاعي في أرضنا... ".
في ذلك البستان الذي حُرِم من الاحتفال بثمار التّين، لتردم آماله وريقاتها الصّغيرة.
لم يكن أبي من تجرأ على فعل ذلك، كذلك لم تكُ تلك الأفاعى التي تصدر رنين جرس كلما دخلت كوابيسي ..
ولا العاصفة التي تحوّل الموت إلى مشهد مغرٍ بالحياة، والترابَ إلى عطر للانبعاث...
كان التراب يرقص كلما مرّغت به قدميّ. يتنفس بي حقا، يشعر بي وبنعومة جلدي، ورائحة الولادة التي تجمعنا..
هناك حيث لم تفقد الأرض أمومتها كنت طفلة التراب، الزهر، الورد الجوري والمطر ... كنتُ فعلا كائنا بشريّا بحواس خمس!
اليوم لا تستفزني سوى ذرّات الغبار، والدّخان، وآثار الأنفاس على النافذة العارية...
لو كنتُ أملك ستارا لكان أبيض حتما، ولولا أن السّنانير التي كنت أستعيرها من جارتنا العجوز ،
لم يحوّلها ابنها لسلاح سمّاه "أبيض"،رأيته بأمّ عينيَ مصبوغا بالأحمر، لكنت أحضرتها معي وحكت غطاء للطاولة ... أيضا أبيض..!
الأبيض يريحني، يحاكي الخواء في داخلي، ولا يطلب منّي أن أشعر بشيء، أو أن أُجبر على التعبير عن شيء.
عندما حملنا أجسادنا الثقيلة في رحلة التشرّد التي لا تنتهي، صرخت بنا امرأة لا أعرفها " لا يجدر بنا البكاء.. إيماننا أقوى.. ممنوع أن تبكوا"
وبالرغم من أنها انهارت بعدها بالبكاء المرير، كانت امرأة ثكلى ترمي منديلها أرضا، وتحجّر الدمع في عينيها...
... هكذا أكملنا طريقنا كألواح خشبيّة تدفعها الريّاح نحو مكان مجهول، الأخشاب لا تُكسر ، وحدها الأرواح قابلة للكسر.
كانت مدينتنا تصغر كلما ابتعدنا، وبعد كلام تلك السيدة لم نلتفت إلى الخلف،
ولم نسترح لبرهة... الأخشاب لا تتألم .. عرفت لماذا لا تصرخ الأبواب والجذوع حين تنهال عليها الفؤوس!
كذلك جدران بيتنا لم تصرخ ...
كل ما كنتُ أفكر به، أنّ أمي دفعت ثمن كذبتها غاليا، وسبقتني الحقيقة إليها قبل أن أواجهها.
أذكر أنّها اعترفت يوما دون أن تقصد حين اقترحت عليّ أن أختار أثاث منزلي يوم أصبح عروسا باللون الأبيض، كما الطرحة..
لو تدرين أمي أيّ طرحة أسدل الزمان على وجهي!
نعم هكذا هو الأمر، كنّا نشعر بأن الغد بيت مؤثث باللون الأبيض، بالأكفان، المناديل، وقطع بلاط مربّعة مرصوفة بحذر...
في المدينة التي قذفتنا إليها الأمواج - بعد أن صار وطننا الجزيرة المحظورة، الممسوسة بالشياطين، بالكائنات الفضائية، الغارقة بالخرافات والأساطير- خدعتنا الشوارع المرسومة بخطيّن متوازيين، والأرصفة المتشابهة...كل شيء كان يوحي بالدّقة والثبات !
كان الدرب واحدا، مفتوحا في الاتجاهين.. أيّ خدعة بصرية كانت تلك!
لا أفهم كيف تتلوى طرقات مرسومة بالمسطرة، ويُمحى الطريق بعد اجتيازه!
كما لا أدري كيف وصلتُ لهذا البيت الصّغير!
وكيف أصبح هذا الرجل الغريب، الذي لا تتضح لي ملامحه مهما حاولت، زوجا لي ... ولماذا يصرّ على استفزازي بلفافات تبغه، التي لا تنطفئ، ولا تنفك تسقِط رمادها وجمرها .. على مربعاتي البيضاء المرصوفة بحذر !
.
4/10/2013
تعليق