ـــــــ
ــــــــــــــــــإنطلاق السهم للهدف ـــــــــــانتهى العام الدراسى الثانى من مرحلة النقل للصف الثانى الإعدادى ؛وأتى الصيف مبكرا يزحف بزفيره البركانى فى أجواء الصعيد ؛يعتلى الركود وجه الحياة ؛يقبع الفلاحين فى ديارهم أغلب أوقاتهم ؛فلم يحن وقت الحصيد للزرع بعد ؛كان أبى مثل غيره ؛كثيرا ما يلجأ إلى ظل شجيرات من نخيل وسدرتين عتيقتين لنا ؛يأخذ قيلولته تحت الشجيرات ؛شدنى الحر لأستظل معه ؛وقد اشتد الحر بى ؛ افترش أبى حصيرا تحته وأسند ظهره للسدرة ؛أويت للجلوس بجانبه ؛فمد يده يطوقنى بها ويقربنى إليه ؛تعودت على هذا الحنين من أبى ؛كانت الساعة تقترب من وسط النهار ؛والمدى يرقص من بعيد من صهج الحر؛ كما يقولون (بحر الشيطان)أو السراب ؛ سألنى هل أكلت ؟ قلت نعم أكلت قال هل تريد نقودا ؟ قلت له هل تريد أن تنسانى؟ ؛تبسم أبى ضاحكا وقال كيف أنساك ياولدى ووضع يده فى جيبه وأخرج حافظته وأوغر يده بداخلها ثم أخرجها بقطعة نقود معدنية وناولنى إياها ؛سررت بها وهممت على الانصراف ،فشدنى وقال وهو يحثنى على الجلوس معه
ماذا تفعل أمك ؟ إين إخوتك وماذا يفعلون ؟كنت أجيب كما رأيتهن ، نظر إلى وهو يلاطفنى وقال : هل تسافر إلى الإسكندرية ؟ ثم صمت ولم ينطق بعدها شيئا :وقف لسانى فى فمى والتصقت شفتاى ؛لا أعرف كيف أجيب ؟وكيف أرد؟؛ظننت أن أبى يقصد أن أسافر معه ؛ فى البداية؛نسافر سويا
فرددت مرتعشا فى قولى نعم ؛أسافر معك يا أبى ؛تبسم ضاحكا ؛وهزنى برفق وقال لا ؛ بل تسافر لوحدك وليس معك أحد ؛قلت لاأعرف ياأبى ولاأستطيع ؛أخاف يا أبى أن أضل الطريق عن العنوان وعن أقاربى فلا أستطيع العودة لكم ولا أستطيع الوصول حيث أرسلتنى ؛قال أبى ؛كيف تضل الطريق وأنت متعلم ؛ألا تعرف القراءة والكتابة ومعك عنوان فى جيبك ؛وأنت رجل ؛هل حسبت نفسك صبيا صغيرا ؛إنك رجل والرجال لاتخاف ؛وأخذ يقص على أقاصيص من زمانه السالف وكأنه يثقل من قلبى ويقوى عزيمتى الضعيفة وجلادتى
ويجرأنى للسفر وحيدا ؛لقد كنت فى الرابعة عشر من العمر ؛ولم تكن لى تجارب فى السفر ؛ولم أخرج عن نطاق القرية أو المدينة التابعة لها قريتى ؛لم أعرف ماذا يريد أبى من سفرى وحيدا ؟ لقدكنت فى داخلى متشوق للسفر ولركوب القطار كما كنت أسمع من أقرانى الذين ألهو معهم طوال الوقت ؛كنت أستمع لما يحكى لى من فخامة المنازل وكثرة العربات والسيارات ونظافة الشوارع ؛واللهجة التى لايتكلمها أهلنا بالقرية ؛والبحر العظيم الذى تغيب فيه الشمس وتشرق فيه؛ والسفن العملاقة التى تجوب غمار البحر ؛وتلاطم الأمواج فى داخله وعلى شطه ؛كل هذا كنت أستمع له مما كانت له رؤية من أقرانى وأصحابى ؛لكن الشيئ الوحيد الذى تملكنى الخوف منه هو أن أضل الطريق ؛
قال أبى :لما رآنى لاأجيب يبدو عليك إنك موافق على السفر ؛سأعد لك هدية تأخذها لعمك وإن شاء الله سوف تسافر عصر يوم الخميس (فى قطار الصحافة)
رجعت إلى منزلنا وأنا أسير بجانب أبى ولاأعى ما يقوله لى ومن يمر بجانبنا ومن يكلمنا ؛لقد غبت عن أبى وغاب أبى عنى قبل السفر ؛
كنت أدور حول نفسى لعلى أجد من أحكى له ومن يعرفنى ويقول لى شيئا عن القطار والمحطة والنزول والركوب ؛فلم أجد أحدا فى هذا اليوم أجلس معه ويقول لى شيئا ؛فبدأت أرسم صورة فى خيالى ؛عن كل شيئ يطرق رآسى ساعة يعتلينى الفزع وساعة تعتلينى الغبطة والسرور ؛سوف أركب القطار والسيارة والترام ؛سأستبدل الجلباب بمنطال وقميص مثل أولاد عمى سأتكلم لهجة مصراوية ؛سأنزل البحر وسأسبح فيه بدل الترعة التى تمتلئ مياهها بالحشائش ؛كانت الصورة عندى متعددة الألوان ؛حسب مايرسمه الخيال فى رآسى من مناظر ولوحات كان الخيال يجسد لى كل شيئ
رجعت إلى الدار وبحثت عن أمى ودون مقدمات وأبى خلفى وقلت : أنا مسافر يا أمى :نظرت تجاهى وتركت يدها ما تمسك به وكأنها تستشف شيئا أواسغربت قولى ثم قالت على البركة خذ أبيك معك ؛قال أبى :سوف يكون كما قلتى ، لكن ليس الآن نحن الإثنين ؛ الآن واحد فقط ؛ ما رآيك ؟ سكتت أمى وطأطأت رآسها وسكت الجميع ما من حس ولاحركة كأن الدار خلت من أهلها
مامن همس بيننا إلا الأنفاس التى تجرى فى الصدور وكأنها متحشرجة فى خروجها ؛أو أن هناك شيئا يعوقها ؛ رفعت أمى رآسها بعد صمت طويل ؛ثم قالت ؛أأتكلم بجد ؛قال أبى نعم ؛ فما هو رآيك ؛ جاء الخبر وسقط على رآس أمى كالصاعقة ؛وتبعته الدموع وقالت لأبى ماذا دهاك يارجل ؟ابنك قاصر وتريد أن تغرقه فى الغربة لايعرف يمينا أوشمالا ؛ ولم يخرج من قبل ولم يسافر ولم يفارقنا وتريد تغريبه ؛ هل نسيت يارجل أن ابنك هذا هو غطاء بيتك وغطاء بناتك
السبعة ؛وحيدنا يارجل وتريد تغريبه ؟ قال أبى وقد ظهرت عليه علامات الجد ؛وهو يخفى عاطفته وماذا فى ذلك ؟أتريديه رجلا طريا خرعا ؟ أم تريديه
رجلا قويا صلبا ؛اتركيه لى كى أشكله بمعرفتى كى يصبح رجلا ؛ فلو ظل بجانبك لكان مثل اخوته البنات لاتفرقيه عنهن ؛اتركيه كى يصبح رجلا بين الناس وبين أبناء عمومته ؛فالغربة مدرسة الحياة ؛ستشكله الغربة وستجعل منه رجلا قويا كما تريدين له ؛أما لو ظل بجانبك لايخرج ولايرى الحياة سيكون البنت الثامنة لنا ؛
رآيت سمات وملامح وجه أمى تتدحرج للتغير وكأنها قد تكون تغيرت ؛لقد بدأت نبرتها وصوتها يتغيران أمام أبى ؛فلما طال النقاش بينهما تركتهما وسرت بعيدا عنهما علهما يتفقان على شيئ فيما بينهما ؛وكأنى بهم ليس لى ناقة ولاجمل كأن الأمر لايخصنى ؛ولكن سريرتى كانت تميل على موافقة أمى على سفرى بالرغم من الخوف الذى يتملكنى وطاف بى من حين لأخر ؛
رجعت بعد هدأت الأمور بينهما وجسلت إلى الطعام الذى أحضرته أمى لأبى وبدأنا فى تناول الطعام ؛وكنت أتحين الفرصة كى أطرح سؤالى الذى يخامرنى على أبى دون أن أغضبه منى ؛ثم تكلمت إليه وأنا أتحاشى النظر إليه بالقدر المستطاع ؛متى يكون السفر يا أبى؟
قال أبى مستعجل على السفر لهذه الدرجة ؛إن شاء الله السفر سيكون عصر يوم الخميس ؛جهز نفسك ؛وربنا معاك ؛أخرج وشوف الدنيا
ولا تركن إلى القعاد هنا فالقعاد يا ولدى كساد ؛والكساد ياولدى مزلاج باب الفقر ؛أخرج لعلك تجد عوضا فى غربتك بين أبناء عمومتك وتعرف على الدنيا الواسعة ؛
ويبدوأن أبى أخذالقرار ورتب كل شيئ لسفرى ؛ومرت اللحظات سريعة مابين حقيقة وخوف ؛اعترى الجميع؛ لم يترك واحدا من أهل بيتنا إلا وقع فيما وقعت فيه؛ وأضحينا فى يوم الخميس وكأن كل شيئ كان معد لرحلتى وسفرى ؛ومرت اللحظات عصيبة كئيبة ؛وبدأ الخوف يدب فى قلبى سريعا وبشدة ؛إننى ذاهب إلى المجهول ؛ لاأدرى كيف ينتهى بى الحال والمطاف هل أنا سائر إلى سعادة أم سائر إلى شقاء لاأدرى ؟ وحان وقت الرحيل ووجدت أبى يعلمنى بتغير ملابسى وكانت أمى قد أعدت لى ماء ساخنا للإغتسال
وراح أبى يجهز لى متاع السفرالذى سوف يعتلى كتفى طوال الطريق ؛أما الآن سوف يحمل على الحمارة التى تنقلنا إلى محطة القطار التى تبعد خمسة كيلو مترعن قريتنا ؛
كنت انتهيت من الإغتسال وبدلت ملابسى وتهيأت للسفر والذهاب إلى المجهول ؛ونظر أبى فى السماء وإلى الشمس وقال لقد حان وقت الرحيل ونظرت إلى أمى كى أستودعها فإذا هى طفل صغير يبكى من شدة الألم واحتضنتنى وعانقتنى وهى تهنهن كالطفل فى صدر أمه وأنا فى صدرها قد راق لى البكاء فانخرطت مثلها أبكى وتجمع اخوتى البنات حولى يعانقونى ويبكين وأصبح النحيب دآب الجميع حتى أبى تخرخرت عيناه ولم يملك نفسه بل غلبه البكاء وصار مثلنا ؛لكنه استجمع قواه وتقدم باتجاهنا وأمسك ذراعى واستخرجنى من بين أحضان أمى وإخوتى وأمسك بقلادة الحمارة وأعتلى ظهرها وطلب من أمى أن ترفع له متعلقاتى وأمتعت سفرى والهديه التى سوف أدخل بها على عمى فوق ظهر الحمارة كى يضعها أمامه وأردفت أنا خلفه
وصنعت أمى ما طلب منها وأردفت أنا خلف أبى ؛وقال أبى على بركة الله وبدأ يدعوا لى بالوصول بالسلامة وأن يحفظنى الله من كل مكروه طوال فترة الطريق ويقطع دعائه ثم يلقى إلى بوصاياه كيف أكون وكيف أسير وكيف أقابل عمى وأبناء عمومتى وكيف أكون حريصا على ما فى جيبى من نقود حتى لاأتعرض للسرقة حتى وصلنا إلى محطة القطار ؛ونزل أبى وقيد الحمارة قبل الرصيف وحمل عنى الأمتعة ولم أحمل فى يدى غير الطعام المعد لى فى رحلة سفرى
وعلى مقعد خالى بالرصيف أجلسنى وذهب إلى شباك التذاكر وقطع تذكرة لى وأعطانى إياها وهو يشددعلى المحافظة عليها حتى الوصول ؛وما هى إلا همسة إنتظار رقيقة حتى جاء القطار وهب المسافرون للوقوف والركوب وحمل أبى أمتعتى وأمسك بيدى واتجه ناحية الباب الذى جاء مقابلا لنا وأدخلنى أبى القطار وسار خلفى وأجلسنى على كرسيا كان خاليا يجلس عليه راكب واحدا فقط
سأله أبى عن محطة نزوله فرد عليه الرجل (القاهرة ) مصر يا عم الحج تبسم أبى وقال بالسلامه إن شاء الله خلى بالك على هذا الولد إنه أول مرة يسافر فيها بعيدا عنى الولد ده عهدتك أمام الله مثل ولدك يا ابن العم تبسم الراكب وتقبل كلام أبى وقال لاتخف فى عينيى الإثنين
ونزل أبى مسرعا لتحرك القطار ونظرت من النافذة لأنظر أبى وجدته يجرى خلف القطار وهو يبكى ويلوح بيده ويقول مع السلامة ياولدى يحفظك الله ويرعاك
وانطلق القطار إلى حيث مستهل غربتى وهو يطوى الأرض تحت عجلاته والدنيا تجرى مسرعة للخلف وهو يتقدم للأمام
مع تحيات سيد يوسف مرسى (من رحى الغربة)
ــــــــــــــــــإنطلاق السهم للهدف ـــــــــــانتهى العام الدراسى الثانى من مرحلة النقل للصف الثانى الإعدادى ؛وأتى الصيف مبكرا يزحف بزفيره البركانى فى أجواء الصعيد ؛يعتلى الركود وجه الحياة ؛يقبع الفلاحين فى ديارهم أغلب أوقاتهم ؛فلم يحن وقت الحصيد للزرع بعد ؛كان أبى مثل غيره ؛كثيرا ما يلجأ إلى ظل شجيرات من نخيل وسدرتين عتيقتين لنا ؛يأخذ قيلولته تحت الشجيرات ؛شدنى الحر لأستظل معه ؛وقد اشتد الحر بى ؛ افترش أبى حصيرا تحته وأسند ظهره للسدرة ؛أويت للجلوس بجانبه ؛فمد يده يطوقنى بها ويقربنى إليه ؛تعودت على هذا الحنين من أبى ؛كانت الساعة تقترب من وسط النهار ؛والمدى يرقص من بعيد من صهج الحر؛ كما يقولون (بحر الشيطان)أو السراب ؛ سألنى هل أكلت ؟ قلت نعم أكلت قال هل تريد نقودا ؟ قلت له هل تريد أن تنسانى؟ ؛تبسم أبى ضاحكا وقال كيف أنساك ياولدى ووضع يده فى جيبه وأخرج حافظته وأوغر يده بداخلها ثم أخرجها بقطعة نقود معدنية وناولنى إياها ؛سررت بها وهممت على الانصراف ،فشدنى وقال وهو يحثنى على الجلوس معه
ماذا تفعل أمك ؟ إين إخوتك وماذا يفعلون ؟كنت أجيب كما رأيتهن ، نظر إلى وهو يلاطفنى وقال : هل تسافر إلى الإسكندرية ؟ ثم صمت ولم ينطق بعدها شيئا :وقف لسانى فى فمى والتصقت شفتاى ؛لا أعرف كيف أجيب ؟وكيف أرد؟؛ظننت أن أبى يقصد أن أسافر معه ؛ فى البداية؛نسافر سويا
فرددت مرتعشا فى قولى نعم ؛أسافر معك يا أبى ؛تبسم ضاحكا ؛وهزنى برفق وقال لا ؛ بل تسافر لوحدك وليس معك أحد ؛قلت لاأعرف ياأبى ولاأستطيع ؛أخاف يا أبى أن أضل الطريق عن العنوان وعن أقاربى فلا أستطيع العودة لكم ولا أستطيع الوصول حيث أرسلتنى ؛قال أبى ؛كيف تضل الطريق وأنت متعلم ؛ألا تعرف القراءة والكتابة ومعك عنوان فى جيبك ؛وأنت رجل ؛هل حسبت نفسك صبيا صغيرا ؛إنك رجل والرجال لاتخاف ؛وأخذ يقص على أقاصيص من زمانه السالف وكأنه يثقل من قلبى ويقوى عزيمتى الضعيفة وجلادتى
ويجرأنى للسفر وحيدا ؛لقد كنت فى الرابعة عشر من العمر ؛ولم تكن لى تجارب فى السفر ؛ولم أخرج عن نطاق القرية أو المدينة التابعة لها قريتى ؛لم أعرف ماذا يريد أبى من سفرى وحيدا ؟ لقدكنت فى داخلى متشوق للسفر ولركوب القطار كما كنت أسمع من أقرانى الذين ألهو معهم طوال الوقت ؛كنت أستمع لما يحكى لى من فخامة المنازل وكثرة العربات والسيارات ونظافة الشوارع ؛واللهجة التى لايتكلمها أهلنا بالقرية ؛والبحر العظيم الذى تغيب فيه الشمس وتشرق فيه؛ والسفن العملاقة التى تجوب غمار البحر ؛وتلاطم الأمواج فى داخله وعلى شطه ؛كل هذا كنت أستمع له مما كانت له رؤية من أقرانى وأصحابى ؛لكن الشيئ الوحيد الذى تملكنى الخوف منه هو أن أضل الطريق ؛
قال أبى :لما رآنى لاأجيب يبدو عليك إنك موافق على السفر ؛سأعد لك هدية تأخذها لعمك وإن شاء الله سوف تسافر عصر يوم الخميس (فى قطار الصحافة)
رجعت إلى منزلنا وأنا أسير بجانب أبى ولاأعى ما يقوله لى ومن يمر بجانبنا ومن يكلمنا ؛لقد غبت عن أبى وغاب أبى عنى قبل السفر ؛
كنت أدور حول نفسى لعلى أجد من أحكى له ومن يعرفنى ويقول لى شيئا عن القطار والمحطة والنزول والركوب ؛فلم أجد أحدا فى هذا اليوم أجلس معه ويقول لى شيئا ؛فبدأت أرسم صورة فى خيالى ؛عن كل شيئ يطرق رآسى ساعة يعتلينى الفزع وساعة تعتلينى الغبطة والسرور ؛سوف أركب القطار والسيارة والترام ؛سأستبدل الجلباب بمنطال وقميص مثل أولاد عمى سأتكلم لهجة مصراوية ؛سأنزل البحر وسأسبح فيه بدل الترعة التى تمتلئ مياهها بالحشائش ؛كانت الصورة عندى متعددة الألوان ؛حسب مايرسمه الخيال فى رآسى من مناظر ولوحات كان الخيال يجسد لى كل شيئ
رجعت إلى الدار وبحثت عن أمى ودون مقدمات وأبى خلفى وقلت : أنا مسافر يا أمى :نظرت تجاهى وتركت يدها ما تمسك به وكأنها تستشف شيئا أواسغربت قولى ثم قالت على البركة خذ أبيك معك ؛قال أبى :سوف يكون كما قلتى ، لكن ليس الآن نحن الإثنين ؛ الآن واحد فقط ؛ ما رآيك ؟ سكتت أمى وطأطأت رآسها وسكت الجميع ما من حس ولاحركة كأن الدار خلت من أهلها
مامن همس بيننا إلا الأنفاس التى تجرى فى الصدور وكأنها متحشرجة فى خروجها ؛أو أن هناك شيئا يعوقها ؛ رفعت أمى رآسها بعد صمت طويل ؛ثم قالت ؛أأتكلم بجد ؛قال أبى نعم ؛ فما هو رآيك ؛ جاء الخبر وسقط على رآس أمى كالصاعقة ؛وتبعته الدموع وقالت لأبى ماذا دهاك يارجل ؟ابنك قاصر وتريد أن تغرقه فى الغربة لايعرف يمينا أوشمالا ؛ ولم يخرج من قبل ولم يسافر ولم يفارقنا وتريد تغريبه ؛ هل نسيت يارجل أن ابنك هذا هو غطاء بيتك وغطاء بناتك
السبعة ؛وحيدنا يارجل وتريد تغريبه ؟ قال أبى وقد ظهرت عليه علامات الجد ؛وهو يخفى عاطفته وماذا فى ذلك ؟أتريديه رجلا طريا خرعا ؟ أم تريديه
رجلا قويا صلبا ؛اتركيه لى كى أشكله بمعرفتى كى يصبح رجلا ؛ فلو ظل بجانبك لكان مثل اخوته البنات لاتفرقيه عنهن ؛اتركيه كى يصبح رجلا بين الناس وبين أبناء عمومته ؛فالغربة مدرسة الحياة ؛ستشكله الغربة وستجعل منه رجلا قويا كما تريدين له ؛أما لو ظل بجانبك لايخرج ولايرى الحياة سيكون البنت الثامنة لنا ؛
رآيت سمات وملامح وجه أمى تتدحرج للتغير وكأنها قد تكون تغيرت ؛لقد بدأت نبرتها وصوتها يتغيران أمام أبى ؛فلما طال النقاش بينهما تركتهما وسرت بعيدا عنهما علهما يتفقان على شيئ فيما بينهما ؛وكأنى بهم ليس لى ناقة ولاجمل كأن الأمر لايخصنى ؛ولكن سريرتى كانت تميل على موافقة أمى على سفرى بالرغم من الخوف الذى يتملكنى وطاف بى من حين لأخر ؛
رجعت بعد هدأت الأمور بينهما وجسلت إلى الطعام الذى أحضرته أمى لأبى وبدأنا فى تناول الطعام ؛وكنت أتحين الفرصة كى أطرح سؤالى الذى يخامرنى على أبى دون أن أغضبه منى ؛ثم تكلمت إليه وأنا أتحاشى النظر إليه بالقدر المستطاع ؛متى يكون السفر يا أبى؟
قال أبى مستعجل على السفر لهذه الدرجة ؛إن شاء الله السفر سيكون عصر يوم الخميس ؛جهز نفسك ؛وربنا معاك ؛أخرج وشوف الدنيا
ولا تركن إلى القعاد هنا فالقعاد يا ولدى كساد ؛والكساد ياولدى مزلاج باب الفقر ؛أخرج لعلك تجد عوضا فى غربتك بين أبناء عمومتك وتعرف على الدنيا الواسعة ؛
ويبدوأن أبى أخذالقرار ورتب كل شيئ لسفرى ؛ومرت اللحظات سريعة مابين حقيقة وخوف ؛اعترى الجميع؛ لم يترك واحدا من أهل بيتنا إلا وقع فيما وقعت فيه؛ وأضحينا فى يوم الخميس وكأن كل شيئ كان معد لرحلتى وسفرى ؛ومرت اللحظات عصيبة كئيبة ؛وبدأ الخوف يدب فى قلبى سريعا وبشدة ؛إننى ذاهب إلى المجهول ؛ لاأدرى كيف ينتهى بى الحال والمطاف هل أنا سائر إلى سعادة أم سائر إلى شقاء لاأدرى ؟ وحان وقت الرحيل ووجدت أبى يعلمنى بتغير ملابسى وكانت أمى قد أعدت لى ماء ساخنا للإغتسال
وراح أبى يجهز لى متاع السفرالذى سوف يعتلى كتفى طوال الطريق ؛أما الآن سوف يحمل على الحمارة التى تنقلنا إلى محطة القطار التى تبعد خمسة كيلو مترعن قريتنا ؛
كنت انتهيت من الإغتسال وبدلت ملابسى وتهيأت للسفر والذهاب إلى المجهول ؛ونظر أبى فى السماء وإلى الشمس وقال لقد حان وقت الرحيل ونظرت إلى أمى كى أستودعها فإذا هى طفل صغير يبكى من شدة الألم واحتضنتنى وعانقتنى وهى تهنهن كالطفل فى صدر أمه وأنا فى صدرها قد راق لى البكاء فانخرطت مثلها أبكى وتجمع اخوتى البنات حولى يعانقونى ويبكين وأصبح النحيب دآب الجميع حتى أبى تخرخرت عيناه ولم يملك نفسه بل غلبه البكاء وصار مثلنا ؛لكنه استجمع قواه وتقدم باتجاهنا وأمسك ذراعى واستخرجنى من بين أحضان أمى وإخوتى وأمسك بقلادة الحمارة وأعتلى ظهرها وطلب من أمى أن ترفع له متعلقاتى وأمتعت سفرى والهديه التى سوف أدخل بها على عمى فوق ظهر الحمارة كى يضعها أمامه وأردفت أنا خلفه
وصنعت أمى ما طلب منها وأردفت أنا خلف أبى ؛وقال أبى على بركة الله وبدأ يدعوا لى بالوصول بالسلامة وأن يحفظنى الله من كل مكروه طوال فترة الطريق ويقطع دعائه ثم يلقى إلى بوصاياه كيف أكون وكيف أسير وكيف أقابل عمى وأبناء عمومتى وكيف أكون حريصا على ما فى جيبى من نقود حتى لاأتعرض للسرقة حتى وصلنا إلى محطة القطار ؛ونزل أبى وقيد الحمارة قبل الرصيف وحمل عنى الأمتعة ولم أحمل فى يدى غير الطعام المعد لى فى رحلة سفرى
وعلى مقعد خالى بالرصيف أجلسنى وذهب إلى شباك التذاكر وقطع تذكرة لى وأعطانى إياها وهو يشددعلى المحافظة عليها حتى الوصول ؛وما هى إلا همسة إنتظار رقيقة حتى جاء القطار وهب المسافرون للوقوف والركوب وحمل أبى أمتعتى وأمسك بيدى واتجه ناحية الباب الذى جاء مقابلا لنا وأدخلنى أبى القطار وسار خلفى وأجلسنى على كرسيا كان خاليا يجلس عليه راكب واحدا فقط
سأله أبى عن محطة نزوله فرد عليه الرجل (القاهرة ) مصر يا عم الحج تبسم أبى وقال بالسلامه إن شاء الله خلى بالك على هذا الولد إنه أول مرة يسافر فيها بعيدا عنى الولد ده عهدتك أمام الله مثل ولدك يا ابن العم تبسم الراكب وتقبل كلام أبى وقال لاتخف فى عينيى الإثنين
ونزل أبى مسرعا لتحرك القطار ونظرت من النافذة لأنظر أبى وجدته يجرى خلف القطار وهو يبكى ويلوح بيده ويقول مع السلامة ياولدى يحفظك الله ويرعاك
وانطلق القطار إلى حيث مستهل غربتى وهو يطوى الأرض تحت عجلاته والدنيا تجرى مسرعة للخلف وهو يتقدم للأمام
مع تحيات سيد يوسف مرسى (من رحى الغربة)
تعليق