ضَوْءُ الكابُوس ...
ينحسر مد ّ الموت تاركا المكان لميتات أُخَر ، أشدّ فظاعة .
و لأنّ الحرب سخية بالمآسي ، فقد أبت ، حتى وهي راحلة ، مشيحة بوجهها الدميم ، أبت إلاّ أن تقذف بهدية أخرى من هداياها في حجر القرية المكلومة المهلهلة ، التي بالكاد تحاول النهوض من ركام الفناء .
صيف 1968 .
وباء التهاب السّحايا ينتشر.
يكتسح نصف سكان القرية .
يرمي على بيتنا الآمن بظلال الفزع و الحزن .
نصاب بالمرض ، ثلاثتنا ، في آن واحد .. أختي الكبرى حورية و الصغرى سوسن و أنا .
و كأنّ الوباء لم يجد في هويّتي الصغيرة ذات الستة أعوام أجمل و لا أدفأ من عيوني ليختارها سكنا و مقاما ..
في غضون أيام من تفشّي الداء كانت عيناي مغمضتين تماما . أجفاني ملتصقة بعضها ببعض كأنّما خيطت بسلك من حديد . أجاهد لكي أفتحها لكن دون جدوى .
لم أكن أرى شيئا ، غير أنّ إحساسي بما حولي كان قويا .
أتلمّس الأماكن بيدي الصغيرتين و لا أنتبه كثيرا لتحذيرات أمي .
الطبيب الفرنسي الذي ظل يعمل بالمستوصف و لم يرحل مع قوافل الراحلين عشية الاستقلال وصف دواءً غير أنّه لم ينفع .. لم يقنع والدي الذي عكف كل ليلة على تكحيل عينيّ بخلطة من عسل النحل و لا أدري ماذا أيضا .
بقيت أسبح في ظلمة دامسة إلى أن كانت ليلة صيفية .
رأيت حلما .
لا . لم يكن حلما . كان كابوسا . لا أذكر منه شيئا على الإطلاق . مرعبا كان ، دون شك .
كل ما أذكره أنني صرخت ..صرخة حادة . كان الوقت رأس الليل أو ذيله . صرختي أيقظت الجميع .
هرعوا فزعين . تجمّعوا حولي .
و استطعت أن أرى ، أراهم .
لا أصدّق ، إلي اليوم ، أنّني أدين بنور عينيّ لكابوس !
في النهاية.. لعلّ الكوابيس المرعبة هي التي تنير لنا الدروب ، و ليست الأحلام .
الأحلام الشفافة الوردية تشوّش الرؤية ، تفقدنا التوازن ، تجعلنا نتعثّر كثيرا لأن نظرنا يكون معلّقا بالسماء .
غمر النور بصري .. غمرتني السعادة .
مؤكّد أنّه لا يستشعر لذّة الانسكاب في فيض النور إلا من عانى من حصار العتمة .
كنت كمن يكتشف العالم من جديد .. نظراتي ظمأى ، تشرب الوجوه و الأمكنة ، تستنشق الحيطان و الزوايا و الأسقف و النوافذ و كل الأشياء البسيطة التي كانت تؤثث طفولتي .
بدا كل شيء جميلا كقلب وردة ، مضيئا كوجه طفل في يوم عيد ..
عادت فرحتي بمراقبة أمي حين تفرش السّجادة في ركن الغرفة للصلاة ، أو تطهو كسرة الخبز فيحيّرني كيف تقلّبها في " الطاجين " و لا تحترق أصابعها ... أبي بحاجبيه المعقودين على الدوام إلا حين يلاعب كلبه أو ينشغل بتلميع بندقية الصيد أو يتابع الأخبار من الراديو العتيق .. أخواتي و الشغب البريء الطافح من ملامحهنّ ، حَوْش البيت المتْرَب أين كنا نرسم بالطبشور لعبة الحَجْلة و نتبارى في القفز تحت موسيقى ضحكاتنا الخضراء ، شجرة المشمش في الحديقة ، كاتمة أسرارنا الصغيرة و مأوى العصافير المغرّدة ، القطّة الرمادية المدلّلة ، دمية القش التي صنعتها لي أمي ... حبل الغسيل .. مرتخيا قليلا ، صبورا ، صامدا صامتا كجبل ، القناديل النحاسية التي كانت أمي تملأها بالزيت و تلمّعها كل مساء ، و كنت أتسلّى بمشاغبة ظلالها المتراقصة على الجدار قبل أن أخلد للنوم .
كل شيء بدا لعيني أجمل من ذي قبل..
أثمن من ذي قبل .
بعد سنوات .. في المدرسة الابتدائية أحببت جدا نص القراءة " ضرير حول المائدة " ، لم أكن أتوّقف عن قراءته . كان يذكّرني بتلك الأمسية الحزينة حين امتلأ الحَوْش بالمعزّين ، و صوت أمي ينزف حزنا تأمرني أن أتناول عشائي ، تضع الملعقة في يدي ، فأغمّسها في التربة.
كان عمي قريبا مني . أخذ يطعمني بنفسه.
شفيت من العمى لكن حورية اشتد بها المرض.
عصرتها كفّ الحمى فأذبلتها يوما بعد يوم . كانت جميلة جدا . نحتفظ إلى اليوم بصورة لها .
أجملنا كانت و أكثرنا حنانا .
بعد أيام من ولادة حورية ، روت لنا أمي ، حضر جنود فرنسيون إلى الدوّار ، بقصد التفتيش .
" ما اسم المولود ؟ " يسأل الجندي الفرنسي / يتكفّل " الحَرْكي " الذي يصاحبه بالترجمة ./
"حورية " ..تجيب أمّي .
و لعلّ" الحركي " أخطأ في ترجمة الاسم فأوصله بمعنى " حريّة " .
" أمازلتم طامعين في الحرية ؟ ".. يسأل الفرنسي مستهزئا .
" بحول الله " ، تقول أمي .
يفتح الجندي الفرنسي الخزانة حيث المئونة ، تروي أمي ، يفتح علبة حلوى الشامية . يتناول منها قليلا .يعيدها مكانها . يلقي نظرة متفحصة على المكان ثم يغادر، يتبعه " الحركي " .
من حسن الحظ أنّ الحركي كان من أبناء الدوّار ، فلم تضطر أمي و لا أختي الكبرى لفعل ما تفعله النسوة في الدور المجاورة ..ما أن يلمحن الجنود الفرنسيين قادمين حتى يسارعن إلى مسح وجوههن بالرماد ، و تلطيخ أجسادهن بروث البقر ، ليبدون بشعات ، مقرفات ، نتنات الرائحة ، فيحجم الجنود عن الاقتراب منهن و ... اغتصابهن .
كانت الحيلة تنجح ، في أحيان كثيرة ..
.
.
.
رحلت حورية ..لأنّ للمنايا أفخاخا ممغنطة تشدّ إليها من تشاء ، متى تشاء ، و كيف تشاء .
أما أنا فقد نجوت من الموت لكي أحيا .
أقصد ...لكي أموت .
هامش :
- الطاجين : نوع من أنواع الأواني الفخارية ويستعمل لطبخ الخبز المنزلي بكل أنواعه
- "ضرير حول المائدة " : نص في كتاب القراءة مأخوذ من كتاب الأيام لطه حسين .
- الحَرْكِي : لقب يطلق على الجزائريين الذين ساعدوا النظام الفرنسي إبّان الاحتلال .
ينحسر مد ّ الموت تاركا المكان لميتات أُخَر ، أشدّ فظاعة .
و لأنّ الحرب سخية بالمآسي ، فقد أبت ، حتى وهي راحلة ، مشيحة بوجهها الدميم ، أبت إلاّ أن تقذف بهدية أخرى من هداياها في حجر القرية المكلومة المهلهلة ، التي بالكاد تحاول النهوض من ركام الفناء .
صيف 1968 .
وباء التهاب السّحايا ينتشر.
يكتسح نصف سكان القرية .
يرمي على بيتنا الآمن بظلال الفزع و الحزن .
نصاب بالمرض ، ثلاثتنا ، في آن واحد .. أختي الكبرى حورية و الصغرى سوسن و أنا .
و كأنّ الوباء لم يجد في هويّتي الصغيرة ذات الستة أعوام أجمل و لا أدفأ من عيوني ليختارها سكنا و مقاما ..
في غضون أيام من تفشّي الداء كانت عيناي مغمضتين تماما . أجفاني ملتصقة بعضها ببعض كأنّما خيطت بسلك من حديد . أجاهد لكي أفتحها لكن دون جدوى .
لم أكن أرى شيئا ، غير أنّ إحساسي بما حولي كان قويا .
أتلمّس الأماكن بيدي الصغيرتين و لا أنتبه كثيرا لتحذيرات أمي .
الطبيب الفرنسي الذي ظل يعمل بالمستوصف و لم يرحل مع قوافل الراحلين عشية الاستقلال وصف دواءً غير أنّه لم ينفع .. لم يقنع والدي الذي عكف كل ليلة على تكحيل عينيّ بخلطة من عسل النحل و لا أدري ماذا أيضا .
بقيت أسبح في ظلمة دامسة إلى أن كانت ليلة صيفية .
رأيت حلما .
لا . لم يكن حلما . كان كابوسا . لا أذكر منه شيئا على الإطلاق . مرعبا كان ، دون شك .
كل ما أذكره أنني صرخت ..صرخة حادة . كان الوقت رأس الليل أو ذيله . صرختي أيقظت الجميع .
هرعوا فزعين . تجمّعوا حولي .
و استطعت أن أرى ، أراهم .
لا أصدّق ، إلي اليوم ، أنّني أدين بنور عينيّ لكابوس !
في النهاية.. لعلّ الكوابيس المرعبة هي التي تنير لنا الدروب ، و ليست الأحلام .
الأحلام الشفافة الوردية تشوّش الرؤية ، تفقدنا التوازن ، تجعلنا نتعثّر كثيرا لأن نظرنا يكون معلّقا بالسماء .
غمر النور بصري .. غمرتني السعادة .
مؤكّد أنّه لا يستشعر لذّة الانسكاب في فيض النور إلا من عانى من حصار العتمة .
كنت كمن يكتشف العالم من جديد .. نظراتي ظمأى ، تشرب الوجوه و الأمكنة ، تستنشق الحيطان و الزوايا و الأسقف و النوافذ و كل الأشياء البسيطة التي كانت تؤثث طفولتي .
بدا كل شيء جميلا كقلب وردة ، مضيئا كوجه طفل في يوم عيد ..
عادت فرحتي بمراقبة أمي حين تفرش السّجادة في ركن الغرفة للصلاة ، أو تطهو كسرة الخبز فيحيّرني كيف تقلّبها في " الطاجين " و لا تحترق أصابعها ... أبي بحاجبيه المعقودين على الدوام إلا حين يلاعب كلبه أو ينشغل بتلميع بندقية الصيد أو يتابع الأخبار من الراديو العتيق .. أخواتي و الشغب البريء الطافح من ملامحهنّ ، حَوْش البيت المتْرَب أين كنا نرسم بالطبشور لعبة الحَجْلة و نتبارى في القفز تحت موسيقى ضحكاتنا الخضراء ، شجرة المشمش في الحديقة ، كاتمة أسرارنا الصغيرة و مأوى العصافير المغرّدة ، القطّة الرمادية المدلّلة ، دمية القش التي صنعتها لي أمي ... حبل الغسيل .. مرتخيا قليلا ، صبورا ، صامدا صامتا كجبل ، القناديل النحاسية التي كانت أمي تملأها بالزيت و تلمّعها كل مساء ، و كنت أتسلّى بمشاغبة ظلالها المتراقصة على الجدار قبل أن أخلد للنوم .
كل شيء بدا لعيني أجمل من ذي قبل..
أثمن من ذي قبل .
بعد سنوات .. في المدرسة الابتدائية أحببت جدا نص القراءة " ضرير حول المائدة " ، لم أكن أتوّقف عن قراءته . كان يذكّرني بتلك الأمسية الحزينة حين امتلأ الحَوْش بالمعزّين ، و صوت أمي ينزف حزنا تأمرني أن أتناول عشائي ، تضع الملعقة في يدي ، فأغمّسها في التربة.
كان عمي قريبا مني . أخذ يطعمني بنفسه.
شفيت من العمى لكن حورية اشتد بها المرض.
عصرتها كفّ الحمى فأذبلتها يوما بعد يوم . كانت جميلة جدا . نحتفظ إلى اليوم بصورة لها .
أجملنا كانت و أكثرنا حنانا .
بعد أيام من ولادة حورية ، روت لنا أمي ، حضر جنود فرنسيون إلى الدوّار ، بقصد التفتيش .
" ما اسم المولود ؟ " يسأل الجندي الفرنسي / يتكفّل " الحَرْكي " الذي يصاحبه بالترجمة ./
"حورية " ..تجيب أمّي .
و لعلّ" الحركي " أخطأ في ترجمة الاسم فأوصله بمعنى " حريّة " .
" أمازلتم طامعين في الحرية ؟ ".. يسأل الفرنسي مستهزئا .
" بحول الله " ، تقول أمي .
يفتح الجندي الفرنسي الخزانة حيث المئونة ، تروي أمي ، يفتح علبة حلوى الشامية . يتناول منها قليلا .يعيدها مكانها . يلقي نظرة متفحصة على المكان ثم يغادر، يتبعه " الحركي " .
من حسن الحظ أنّ الحركي كان من أبناء الدوّار ، فلم تضطر أمي و لا أختي الكبرى لفعل ما تفعله النسوة في الدور المجاورة ..ما أن يلمحن الجنود الفرنسيين قادمين حتى يسارعن إلى مسح وجوههن بالرماد ، و تلطيخ أجسادهن بروث البقر ، ليبدون بشعات ، مقرفات ، نتنات الرائحة ، فيحجم الجنود عن الاقتراب منهن و ... اغتصابهن .
كانت الحيلة تنجح ، في أحيان كثيرة ..
.
.
.
رحلت حورية ..لأنّ للمنايا أفخاخا ممغنطة تشدّ إليها من تشاء ، متى تشاء ، و كيف تشاء .
أما أنا فقد نجوت من الموت لكي أحيا .
أقصد ...لكي أموت .
هامش :
- الطاجين : نوع من أنواع الأواني الفخارية ويستعمل لطبخ الخبز المنزلي بكل أنواعه
- "ضرير حول المائدة " : نص في كتاب القراءة مأخوذ من كتاب الأيام لطه حسين .
- الحَرْكِي : لقب يطلق على الجزائريين الذين ساعدوا النظام الفرنسي إبّان الاحتلال .
تعليق