خاص بأعضاء لجنة ترشيح النصوص

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أبوقصي الشافعي
    رئيس ملتقى الخاطرة
    • 13-06-2011
    • 34905

    #16
    (16)
    شهداء الماء.... عاشور ../ بسباس عبد الرزاق

    تغط في فقر عميق، تلك القرية النائمة بين الصنوبر، تتكئ لوسادة الأشجار التي صممت في لوحة مربعة ، تحضنها الوديان الثلاثة الغارقة في البخل، و حين تفيض بالجود تصب جام بكائها على المنازل، فتفيض المنازل بالطين و الحسرة.
    لأن الماء إحدى مسلمات البقاء، كنا ننخر التراب، نفتش عن غيمة سقطت ذات شتاء.

    -الآن فقط. يا بني لن تذلك النظرات، لن تتوسل الماء.

    سقطت الكلمات باردة، تزحف و تنهش صدره، زجاج هي كلمات الحزن، تنكسر مباشرة بعد السقوط، تجرحك قبل أن تتكور بداخلك، و الحزن مرض ربو مزمن، و الألم إفرازات جهاز المناعة ضد الفرح.

    -هذا البئر ممتلئ بالماء، و لن نستجدي الطريق بعد الآن.

    كنت أعتقد أن البئر كان يبكيها، ربما لأنه ابن ديتها، أحيانا تمنحك الحياة فرصة للتنفس في رئة الموت، هكذا كنا نستنشق رائحة الكفن، على مر الأيام كنا نحدق بحقد نحوه، ألم يختطف واحدة من العائلة ذاك الطريق، هو الآخر ينظر إلينا بصمت غير عابئ بنا، ربما هو يحضر لوليمة أخرى، ينظر إلينا بدون اهتمام بنا لأننا لم نعد نهمه.

    -آه يا ابنتي، من ديتك اشْترِينَا قطعة الأرض و حفرنا البِئر.

    سقطت الدموع فزعة من عينيها، تماما مثلما الحمام عندما يفر إثر صوت بندقية، الدموع هي جزء صغير من الحزن، لذلك هي شظايا زجاج حادة، الرجل يخزن الدموع بعيدا عن عينيه، فلا يبكي كي لا يجرح عينيه. و لأن الكبار يخافون أن يبدو ضعافا أمام الأطفال يبتلعون الحزن، لا يستطيعون هضمه، ، يمكث في الرئة مثل السجائر، مع الوقت يتسلق نحو الرأس، فيصاب الرجل بسرطان اليأس.

    الأطفال يمتهنون البراءة و الشغب، يلعبون ألعابهم الخاصة، يشكلون قوانينها بما يناسب أحجامهم و أحلامهم، حتى الحلويات كنا نلعب بها، كنا نضع قطعة خشب فوق حجر بزاوية مائلة، ثم نقوم برمي الحلوى على تلك الخشبة، فتتناثر الحلوى مثل النجوم و تتخذ من الأرض موقعا لها، هكذا كنا نتصور، الأطفال شعراء بالفكرة، و يكون نصيب من تلامس حبة حلوته الحبات الأخرى الربح، ثم نتقاسم الحلوى و نأكلها بترابها، عادلون هم الأطفال حتى تبتر الحقيقة من جماجمهم النحيفة.

    بتلك الضآلة نلبس أحلاما تفوقنا طولا و حجما، و لم نعرف أن أحلامنا تتقلص ضد أحجامنا و أعمارنا حتى خدعنا في أول منعطف للواقع، فيزياء البشر تؤكد تقلص الأمنيات سواء سلطت عليها صقيع البأس أو جمر الأحزان،الآن أعرف أن كل خيوط البياض في رأسي تساوي عدد الأحلام التي نتخلى عنها خيبة بعد خيبة، حتى يصبح الحلم مجرد قصة أسطورية كنا ننام تحت وقع سردها من والدتي، يوم كانت تسرد على مسامعي قصص الغول و حديدوان و أبو ذياب الهلالي و جازية، و استبدلناها بأفلام الموتى الذين يمشون، و نهاية العالم.

    دخلت البيت بعد ألعاب كثيرة مصممة من تقاليد الأطفال، للأطفال تقاليد و طقوس يعتنقونها منذ ولادتهم، و لكن الحياة لا تمنحهم وقتا طويلا حين يرشدون حتى تسلبهم مبادئ البراءة و الفرح.

    -وين راح خوك1
    -إنه يلعب.
    -حذاري أن يذهب نحو الطريق.
    -لا إنه هنا أمام البيت.

    الأطفال و ألعابهم هي جرعة أكسجين ضئيلة للكبار حتى يستطيعون مواجهة الموت اختناقا، حتى مشاغباتهم تشكل براعم أمل تنمو في أحشائهم.

    في الجزائر نسمي الأطفال عصافير الجنة، إنهم نسمة نزلت في رحم النساء.

    عاشور كان أحد تلك العصافير، يمارس التغريد في جيب أبي، و يتمسك بثوب أمي كأنها شجرة بلوط، كان يستطيع معي إحداث زوبعة في سقف البيت، والدينا كانا يتوسلان بعينيهما أن نضاعف العبث و الطيش، فكنت أختبئ في زاوية خلف الباب بالليل لأخيف أمي، فتدعو علي و لي:

    -ربي يعطيك الهنا

    كنا نظن الليل فرصة للتخطيط ليوم آخر من اللعب، فنبيت على أهبة الاستعداد للتغريد و الطيران. أذكر أنني كثيرا ما أضحكت والدي بصوتي و أنا أردد أغنية الطائر الصغير بصوت غليظ:

    الطائر الصغير مسكنه في العش*** و أمه تطير تأتي له بالقش

    سطر واحد أردده و أستسلم للضحك مقلدا والدي بضحتكه الغريبة التي تمزج الحزن و الفرح .

    و كثيرا ما كنا أبناء الحي نتشكل في سرب كالطير و ننشد للشمس و الغروب:

    هيا نلعب قبل المغرب
    في أشكال مثل الكوكب
    هزوا الأيدي يا أولاد
    و اجروا فورا نحو الواد
    دوروا دوروا كالغضروف
    ثم انضموا مثل الصوف ...

    و لكن أحيانا لا يستطيع ريش العصافير حملها بعيدا، فتسقط حتى تؤكد بديهية الجاذبية، قال لي أحدهم ذات درس في الفيزياء، ألم يكن أجدى بنيوتن أكل التفاحة و الصمت، فإن كان جائعا أعطيناه بستان تفاح و كفانا شر الجاذبية، يا أخي أرهقنا نيوتن بخرافاته.

    البراءة لا تستطيع التحليق بالزغب، تحتاج لمحرك ميكانيكي متبجح.

    كنت أشاهد رسومي المفضلة سينان، باللونين العتيقين، ففي تلك الأيام كانت الدنيا بلونين فقط، الفرح و الحزن، حين فاجئتني أمي بصراخ لم أستوعب سببه:

    -ياسين أسرع تعالى.
    -ماذا هناك؟
    -أخوك....

    خرجت من الغرفة لأرى سقوطا لعاشور فريشُه لم يسعفه هذا اليوم، حرارة سنين الجمر أحرقته.

    كان يحمله رجل بين يديه و هو نائم، هكذا تخيلته لحظتها.

    رأسه تقطر منه قطرات الماء الذي نموت من أجله، عوض أن يمنحنا الحياة.

    عاشور عصفور لم يستطع ريشه أن يقف في وجه الجاذبية، فسقط في ثقب الماء، هناك أين انتشله أحد الرجال من البئر.

    نظرت إلى الطريق جيدا، و كان يردد:

    -أقسم إنني برئ.

    -------------------------------------------
    1(وين راح خوك): **أين هو أخوك**



    أسماء لجنة ترشيح النصوص
    عائده محمد نادر/ تم
    قصي الشافعي / تم
    صبيحة شبر\تم

    أمينة اغتامي/ تم



    كم روضت لوعدها الربما
    كلما شروقٌ بخدها ارتمى
    كم أحلت المساء لكحلها
    و أقمت بشامتها للبين مأتما
    كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
    و تقاسمنا سوياً ذات العمى



    https://www.facebook.com/mrmfq

    تعليق

    • أبوقصي الشافعي
      رئيس ملتقى الخاطرة
      • 13-06-2011
      • 34905

      #17
      (17)


      الحصار
      قصّة قصيرة
      بقلم: أحمد عكاش

      كان ذلك يوم الجمعة، يوم عطلتي، خرجت من الدار بِذهن خليٍّ، لا يشغلني إلا الحصول على خبزنا اليومي،
      انحدرت في الشارع المفضي إلى السوق، لما بدأت تتناهى إليَّ أصوات الباعة، أحسست على نحو مبهم أنّ ثمّة عيوناً تراقبني.. تتبعني، انقبضت لهذا الخاطر، تسارعت خطاي، جاهدت في دفع هذا الهاجس دون جدوى، كانت نظرات مطاردي تنغرس بين كتفيّ باردة يقشعرّ لها بدني، حتى تشكلت بين كتفي بركة من الثلج، التفتّ خلفي بغتة لأنفض هذا الكابوس عن كاهلي، فرأيته.. يسير إثري مباشرة، يضع قدمه حيث أرفع قدمي، تجمّدت الدماء في عروقي، اجتاحتني موجةُ بردٍ مؤلم، كان مطاردي هيكلاً عظمياً.. تقرقع عظامه وهو يتحرك، عظام كفّيه نحيلة طويلة، ومحجراه غائران مثل فُوّهتي بندقيّة، وقف يتأملني– كما خيّل إليّ- بجمود وبرود، فندّت عني آهة يبدو أن أحداً لم يسمعها، لم أدر ماذا أفعل، ولّيْتُه ظهري متجاهلاً، رحت أحثّ خطاي.

      ارتفعت إثري قرقعة عظام مطاردي، كانت بركة الثلج بين منكبيّ توشك أن تجمّد أوصالي، لم أعد أجسر على الالتفات، كثرت القرقعة ورائي، حتى طغت على جلبة الباعة، استجمعت شجاعتي والتفتّ .. خلفي هيكلان عظميان، وقفا قبالتي ..راحت أيديهما تتأرجح.. تقرقع، صرختُ باشمئزاز وغضب:
      -لماذا؟!.
      تماوج صوتي ممطوطاً مرعوباً، لم تفعل صرختي شيئاً، الهيكلان العظميان جامدان مكانهما، الناس في شأنهم، لم يلتفت إليّ منهم أحدٌ، وانضمّ هيكل عظميّ ثالث إليهما صرختُ: مجرمون.
      عقدت العزم على الهرب، ركضت، وضجّت في رأسي قرقعة العظام، لم أستطع الفكاك من مطاردتها، بركة الثلج ذابت عرقاً يسيل خطوطاً على ظهري حتّى يصل إلى أليتي، بدأ جسمي يلتهب، تسارعت خطواتي لكن عبثاً، كانت العيون الغائرة لاتزال تنغرس بين منكبي، وقرقعة العظام تتعاظم كالمرض الخبيث، حتى طغت على الأصوات كلّها، لا شيء في هذا العالم سوى قرقعةِ العظام التي تطلبني بلا هوادة، حانت منّي التفاتة وَجِلة فإذا بالهياكل العظميّة قد صارت عشرات، وصل بعضها إلى جواري، أنا الآن مطوّق فأرسلتها بكل ما بي من قوّة وهلع وحَنَق، صرخة استغاثة:
      - أنجدوني أيّها الناس، القتلة يحاصرونني.
      صرخةٌ في وادٍ ..لم يلتفت إليّ أحد، كلٌّ ماضٍ في شأنه كأنّه لا يرى ولا يسمع، هل غدوت مع هذه الهياكل العظميّة المتزايدة أشباحاً غير مرئيّة ؟.
      تدفقت الهياكل أمامي نهراً مشؤوماً لزجاً، وطفقَتْ تتباطأ.. تدفعني للوراء، كان الحصارقد أحكم حولي، واضطرّني للتوقف.
      جزيرة العظام تلفّني، الناس يمرّون بنا لا يعيروننا التفاتاً، كأننا منظر مألوف سئمه المارّة، هل نحن أشباح؟!.
      كوّرْتُ كلّ ما بقي بي من قوّة ورشقتهم بها:
      -اللعنة عليكم، قَتَلَة مجرمون، إليكم عني.
      ضيّقوا الحلقة حولي ..ما عدت قادراً على الحركة، خارت قواي، فوقفت لاهثاً أنتظر، أنقل نظري في الجماجم المُحْدِ‎قَةِ بي.
      - ماذا تريدون مني؟!.
      الحلقة تضيق والهياكل تنثال نحوي، سدّت حولي الآفاق، حالت الآن بيني وبين الناس في السوق، أين كانت كلّ هذه الهياكل؟ أُسقط في يدي، قلت باستسلام وقنوط:
      - أنا إنسان فقير.. بسيط ..لا أريد أكثر من (ربطة خبز) لأطفالي، نحن لا نحبّ (الكباب الحلبي)، حتى ولا الحمصي، ولا نحبّ لحم السمك، لا نحب الذهاب إلى البحر و(الشاليهات) في الصيف، ولا في الشتاء، لا نحبه، لا نرتاد (الميرندا)، حمّامنا قِدْرٌ نحاسية كبيرة ورثتها عن أمّي رحمها الله، فماذا تريدون مني؟ تنحّوا عن طريقي.
      الحلقة حولي تضيق أكثر، شعرت بالاختناق.
      - أحلامي وخيالاتي كسيحة، لا أطمح إلى السياحة في لندن أو باريس.. لا أسمح لخيالي بالجموح والتفكير بـ (فيلاّ) يُفتح بابها بضغطة زرّ، ويحوي حمّامُها مسبحاً و(تلفزيون) ملوّناً، وأدوات رياضة لتخفيف البدانة، الدُّوار يلفّني.. يكاد يغمى عليّ، دعوني أتنفّس.
      الهياكل جامدة مكانها لا تتكلّم.. لا تتحرّك، فقط تقرقع بعظامها، مطارق تصدع رأسي، جفّ حلقي، يبس لساني ..سكتّ، رحت أقلّب الطرف في غابة العظام الشوهاء المغروسة حولي ،كم مضى على ذلك؟ لا أدري، أُلغي الزمنُ ..توقّف، كان يمكن أن يدوم ذلك إلى يوم القيامة، لكن بغتة.. دون أن أعي ما يجري، طأطأتِ الهياكلُ العظميّة كلّها رؤوسَها باحترام جليّ، ثمّ.. انحنت ببطء، حتى ركعت على ركبتيها.
      - أهذا لي؟! تساءلت في سرّي، وقد أخذت بي الحيرة كلّ مأخذ: هل هذا احترام أم أنهم يبيِّتون لي شيئاً؟ لم يطل تساؤلي، إذ انشق الجمع عن يميني.. تقدّم ثمانية هياكل عظميّة يحملون على أكتافهم عرشاً عظيماً مغطى بملاءة سوداء، وقفوا إلى مقربة مني، أُميط الستار جانباً فبدا لي "هيكل عظمي" يتربع العرش بترفّع مقزّز، تأملته مليّاً لا أعرف ما يراد بي.
      -أهذا السجود المهيب إذن لك؟ من أنت أيّها المشوّه؟!.
      وددت لو أسأله، وطقطق فكُّهُ، هوى عليّ صوته جافّاً حازماً:
      -أهذا أنت إذن؟.
      -نعم هذا أنا، لكن ما معنى هذا كله؟.
      -معناه أن المجرم الكبير سقط أخيراً في يد العدالة.
      -هل تعنيني بـ (المجرم الكبير)؟
      -هل ثمّة أعظم منك إجراماً ؟.
      -والعدالة أين هي؟ أ أنتم تمثّلون العدالة؟.
      -نحن لا نمثّل العدالة، نحن العدالة نفسها.
      -أنا (المجرم الكبير)، وأنتم (العدالة نفسها)؟!.
      جعلت أتأمل الجماجم حولي، اجتاحتني موجة ضحك هستيري، أخفقْتُ في دفعها، فأطلقتها قويّة مجنونة أُفْلِتَ زمامُها.
      أومأ الجالس على عرشه فوق الثمانية:
      - أيّها الطبيب جرّعْه البلسم الشافي.
      تقدّم أحد الهياكل مني وصفعني بعنف قاس، فوجمْتُ.
      - لا تضحك إلا إذا أَمَرَكَ (كبيرُنا).
      التهب خدّي وغلى رأسي، أدركت أنه يتوجّب عليَّ المزيد من الجدّ. من الاهتمام، بل ربما يحتاج الأمر إلى كثير من الحذر أيضاً.
      تابع (كبيرهم):
      - نحن نجهد في سيادة الحق، وأنت تفسد كل شيء.
      -أنا لست مجرماً، الحقيقة أني لا أعرف كيف تُرتكب الجرائم، أنا (عبدو) ابن (أم عبدو) بائعة الثياب البالية، أمّي كانت معروفة في السوق، تحتلّ مساحة محدّدة من الرصيف، صاحب المحلّ المجاور لها كم مرّة قذف برِجله.. بضاعةَ أمي إلى الشارع، فدهستها عجلات السيارات المسرعة، أو لطختها بالطين في شوارع الشتاء الموحلة، فهو يتأذّى من عرض بضاعتها الرثّة أمام محلّه الأنيق، ثم توسّط لها أهل الخير:
      -أرملة فقيرة يتصدّق عليها المحسنون بما رثّ من ثيابهم فتبيعها لتعيش مع ابنها الصغير، لا تطردْها من أمام محلّك، يأجرك الله.
      سمح لها بعرض بضاعتها على الرّصيف أمام محلّه من الصباح إلى الظهر فقط، مقابل أن تكنس له المحلّ.. تمسح بلاطه.. ترشّ أمامه بالماء صباح كل يوم.

      أخيراً مرضت، سعلت أيّاماً ثم بصقت دماً، و..ماتت، نُمي إليَّ أن صاحب المحل كان يكلّفها أحياناً بتلبية رغبات زوجته في بيته، قاسيْتُ بعدها، ثم عملت أجيراً في محل لإصلاح السيارات، تزوجت من بنت فقيرة، رزقت منها ثلاثة أطفال. هذا أنا، (عبدو ابن أم عبدو) بائعة الثياب البالية، لم أسرق يوماً..لم أكذب، لم أخالف أنظمة السير أبداً، نفد المازوت عندنا منذ أكثر من أربعة أشهر، نسخن الماء للحمّام ب"بابور الكاز" فهل أنا مجرم؟.
      انبرى أحد الواقفين حولي: أقرّ بإجرامه يا سيّدي، أربعة أشهر يسخّن الحمّام بوابور الكاز؟! أي مجرم هذا الرّجل ؟! رأس العصابة، أم عبدو –رحمها الله– كانت مخبرة مخلصة لنا يا سيّدي، وابنها هذا -كما سمعتَ يا سيّدي- قليل وطنيّة.
      - لا أذكر أني تقاعست في خدمة أمتي، أو تخاذلت عن التضحية من أجل وطني.
      أومأ الكبير الجالس فوق:
      - أَيّها المعلّم ! اشرح له مزايا الصدق.
      و تلقيتها من أحدهم على خدّي الثاني.. لاهبة قاسية، لم يغل رأسي، فقد وطّنت نفسي على تلقّي المزيد من الصفعات:
      -كل ما يُسمح لك بقوله إذا قال لك كبيرنا شيئاً هو [آمين]، لا تزد عليها حرفاً، أفهمتَ ؟.
      - كيف لي ألاّ أفهم ؟! غمغمت لنفسي،قال كبيرهم:
      - أنت قاتل، متّهم بقتل أحد رجالاتنا العلماء الأجلاّء، كان في مخبره فداهَمْتَه.. اقتدْتَه جرّاً من شعر رأسه إلى مجزرتك.. بَقَرْتَ بطنه حتى اندلقت أحشاؤه على الأرض ،.. تركْتَه ينزف حتى مات، قل لي: أليس هذا أقصى درجات الإجرام؟.
      أوّل مرّة أكتشف أن الضّحك بمقدوره أن يكون مصيبة، فقد راودتني من جديد موجة الضحك الهستيري.
      - جررْتُ عالِماً منكم من شعر رأسه و.. بقرت بطنه.. نزف حتّى مات؟! هل كان العالِم منكم؟! أقصد.. أريد أن أقول.. أنتم.. أنتم هياكل عظميّة يا سيّدي، لا شعر.. لا قلب.. لا دماء لكم، فكيف..
      لم يدعني أكمل، أومأ الجالس فوق:
      - أيّها المؤدِّب أدّبه.
      التهب خدّي من جديد.. فكّرت: إنّ الضرب لن يؤلمني بعد الآن، أحمد الله، فقط أرجو أن أستمرّ قادراً على الكلام لأدافع عن نفسي؟ عاودتني هستيريا الضحك من جديد.
      - يمكنك أن ترتاب بنفسك أو بالشمس الطالعة أو بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يمكن أن ترتاب بما يقول (كبيرنا) أسمعت؟.
      -تمتمت (مثل هذا يسمعه من به صمم)، رفعت رأسي أنتظر الجالس فوق:
      - أنت لصّ، سرقت هذا العرش العظيم، عرش هذا الجمهور الطيّب.
      ضرب على خشب الكرسي الجالس عليه، فَسُمِع لذلك قرقعة عالية، عقد الدهش لساني فقلت متلعثماً:
      -كيف كان ذلك يا سيّدي ؟! .
      - كان هذا العرش وسط البحور السبعة، تحفظه الأمواج العاتية، في أحد الأصباح استيقظتُ فلم أجد العرش تحتي، وأكّد لنا كثيرون أنهم رأوك تسرقه وتسبح مبتعداً به.
      -و كيف استعدتموه منّي يا سيّدي؟!.
      -أتنكر أنّه لا يزال عندك أيّها اللص؟!.
      - كيف ذاك يا سيّدي وأنت تجلس عليه الآن ؟ ثمّ إنني لا أعرف السِّباحة، كم كنت أتألم وأتحسّر وأنا أراقب السابحين في نهر العاصي ولا أجرؤ على النزول إلى الماء، أنا أغرق في فنجان ماء، فكيف أعبر بحوراً سبعة؟!.
      استشاط الجالس فوق غضباً، أومأ بيده:
      -أيّها الحكيم عقِّله.
      كانت صفعة الحكيم أقسى من لسعة السوط:
      - العاقل ينتفع بتجارب الماضي.
      فقدت السيطرة على نفسي فاندفعت بيأس أصرخ محاولاً الهرب:
      - مجرمون.. معتدون.. حبستموني عن بيتي.. أولادي ينتظرون أوبتي إليهم بالخبز، أنا لا أقتل ..لا أسرق، تنحّوا عن سبيلي.
      حاولت شقّ طريق لي دون جدوى، جدار العظام متراصٌّ متداخل.. لما أعياني الصراخ والقفز همدت مقهوراً، تميّز الجالس فوق غضباً:
      - أيّها المجرم! لقد قلتَ ما لا يقال، يجب أن يقطع لسانك، ولم تعمل بما قاله لك طبيبنا ومعلّمنا ومؤدبنا وحكيمنا كأنّك لم تسمع ما قالوه لك، ما نفع أذنيك إذن؟ يجب أن تصلم أذناك، أيّها المصلح! أصلحْه.
      تقدّم أحدهم مني.. انتزع لساني عنوة و.. اقتطعه، ثم صلم أذنيّ غير عابئ بكل مقاومتي وعويلي.
      اندفعت إليه بشجاعة اليائس وقوّته، ورحت أضربه، أعضّه، أركله، ودمائي تسيل عليه، تلطّخت عظامه وجمجمته حتى سقطَ أرضاً
      هدر كبيرهم متوعّداً:
      - مات مصلحنا ..قتلتَه أيّها السفاح، خذوه إلى السجن، قدّموه غداً للمحاكمة، كونوا عادلين معه، نصّبوا له محامياً حاذقاً يدافع عنه.
      أمعنت النظر في الهيكل العظمي المستلقي على الأرض بلا حركة، كان مضرّجاً بدمائي، لكنْ.. أنّى لي أن أعرف إن كان حيّاً أم ميّتاً؟! .
      حملوه على أكتافهم، ساروا به خلف (كبيرهم) في موكب جنائزي، واقتادوني مسلوب الإرادة.
      قضيت ليلتي في السجن أحضّر ما سأقوله للقاضي في قاعة المحكمة غداً، آه.. لساني مقطوع.. فكيف أنقل للقاضي ما أريد؟! لا ضير.. سأفهمه بالإشارات بالحركات.. بالكتابة إذا سمحوا لي، ..لن أعدم الوسيلة، سيساعدني المحامي، لقد أوصى كبير الهياكل أن تكون محاكمتي عادلة، لساني المقطوعُ، أذناي المصلومتان والدماء السائلة خير شاهد على براءتي، على أني الضحيّة، فقط رجوت أن يكون المحامي رحيماً متفهّماً والقاضي عادلاً.
      لا أزال أذكر ما حدث منذ بضع سنين، كأنما حدث يوم أمس، تلك المساحة من الذاكرة نابضة لا يخبو بريقها على الرغم من زحف الأعوام، وتراكم الأحداث، تلك المساحة من الذاكرة يكتنفها الكثير من الأسى والقهر، أَهَلْتُ عليها منذ أمد بعيد ستائر الإعراض والتناسي، حاولت طمسها، دون جدوى، كنت حينها فتى يافعاً.. غرّاً، ملء إهابه الحماسة والاندفاع، أُومن مطلقاً أني مَلِكُ هذا الكون، كل شيء ملكي: الأرض، الربيع، الشمس، الزهر، الفراشات، البيادر في مواسم الحصاد، بهذا امتلأ رأسي في تلك المدرسة، وعلى ذلك المقعد الخشبي المحفّر، قرب تلك النافذة المكسور زجاجها، التي يتسرب الهواء اللاسع في أيام الشتاء القارسة منها إلى عظامي الطرية، كنت أنتشي وأنا أسمع أستاذنا (أحمد) رحمه الله يهتف رافعاً سبّابته اليمنى:
      -أنتم رجال الغد، أنتم ستملكون مطالع الشموس، وشلالات العطاء، ألستم أحفاد خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح؟.
      كان يستحثنا على أن نتبوّأ مكاناً علياً تحت الشمس،آه يا أحداثاً مرّت منذ عديد من السنين، تطفو الآن من ركنها المظلم إلى النور، غداً محاكمتي، لساني مقطوع، يومها كان صوتي عالياً حاداً قوياً، بلا حدود، الآن لساني مقطوع وغداً سأحاكم.
      أبي رحمه الله موظف بسيط في مؤسسة الكهرباء، يملأ بيوت الآخرين بالنور، ويملأ بيته بكثير من الأماني والأحلام، وبقليل من الأمتعة والطعام، اقتنع أخيراً أني -أنا الصغير -أستحق كرة جديدة من ذاك النوع الكبير الجميل، ومنحني ثمنَها، وحقَّ الحريّة في انتقائها وشرائها، فقد نلت في مدرستي درجة متقدّمة بين أترابي.
      بعد أن دسست النقود في جيبي طارت بي أجنحة الجذل إلى السوق، لكن.. ماذا أرى ؟ السوق شبه مقفر، المحالّ كلها مغلقة، تلبّثت هنيهة، أتأمّل، ثم.. أطلقت ساقيّ للريح على الرصيف معولاً:
      - لماذا أغلقتم محلاّتكم؟ النقود في جيبي، أين الكرة الرقطاء اللامعة الشهيّة التي أراها كلّ يوم تتأرجح متدلّية على باب المحل؟ بعد شهور من العذاب والأحلام صار بإمكاني شراؤها، لماذا تغتالون حلمي ؟! لماذا تَحُولون بيني وبين كرتي؟.
      لمّا أويت مساء إلى فراشي دامع المقلتين، مسح والدي شعري بيده الحانية، قال:
      - الناس يا بني يطالبون بحقّهم ..حرّيتهم.. كرامتهم..
      حين غلبني النوم تراءى لي الأستاذ (أحمد) في حلمي رافعاً سبابته اليمنى يهدر صوته: أنتم ملوك الأرض ..لكم الشمس والربيع..
      في اليوم التالي، بَرَزَتْ إلى الشوارع التي أقفلت محالُّها، جموعٌ هادرة تهتف، العيون تبرق بتمرّد، والقبضات مشدودة تلوح بتحدٍّ، كان صوتي -على نعومته وطفوليّته- عالياً مفعماً بالإصرار والإرادة، ردّدْتُ ما حفظْتُه عن أستاذي (أحمد) جعلت مقولاته شعارات ساطعة سامية هتفت بها:
      - نحن الغد– نحن الشموس الطوالع – شلالات العطاء .
      ثمّ.. نَهضَتْ أمام الجموع، سيّاراتٌ مصفحة، تزحف ببطء راعب نحو المتقدّمين، السيارات تتقدّم والجموع تتقدّم، التقيا.. وجهاً لوجه، دِيكَيْنِ عنيدين، كبشين أقرنين، بعد حين.. تقدّمت الآليات تناطح الجمع، بطيئة حازمة، تقهقرت الجموع قليلاً، الآليات تزحف، انكفأ الجمع رويداً رويداً، غيّرَ اتجاهَهُ، عكَسَهُ، الهتافات تعالت من جديد نشيطة ملتهبة، والآليات تابعت ضغطها ومطاردتها.
      وجدَتِ الجموعُ نفسَها مدفوعة بلا هوادة إلى أزقة ضيّقة جداً، خفتت الأصوات، تفرّق الناس، ابتلعت أبوابُ الدورِ معظمَهم، سار الباقون فرادى، مطأطئين، يلفهم شعور بالإحباط والاختناق.
      في طريقي إلى الدار مررت بالحانوت.. الكرة الرقطاء في شبكتها تنوس معلّقة، تأملتها، هالني أنها فقدت الكثير من بريقها الذي كان يأخذ من قبل بمجامع قلبي، النقود لا تزال في جيبي، لكن.. لم أرغب فيها، باخت شهوة امتلاكها، كان وقت اللعب بالكرة وعهد الطفولة… قد ولّيا معاً.
      صدمت أبي سيّارة مجهولة ومات، اضطرّت أمي إلى بيع الثياب البالية على الأرصفة لنأكل خبزنا، كان البرد القارس والحرّ اللاهب قد أنضجاني، ثم تركتني أمي وآثرت اللحاق بأبي، قويت بعدها أواصر الوفاق بيني وبين الجماهير، فما تبدر منها صرخة أو نأمة إلا كنت بين أوائل الهارعين إليها و.. معها.
      في يوم.. وفي منعطف الشارع المفضي إلى دارنا، نجم أمامي رجل سدَّ عليّ طريقي، تفرّس في وجهي، ثمّ وضع أصابعه تحت ذقني ورفع نظري إليه وقال مكشِّراً:
      - تعال غداً إلى مقرِّنا.. كبيرنا يطلبك.
      انداحت تكشيرته، برزت أنيابه صفراء قبيحة، خيّل إليّ أنّ وجهه ورأسه تحولا إلى جمجمة، أطلق ذقني واستأنف سيره، ابتلعه منعطف الشارع التالي.
      في اليوم التالي كنت على باب كبيرهم أستأذن للدخول عليه، قيل لي: عُدْ بعد ساعة.
      تسكعت في الشوارع ساعة، ثم عدت أستأذن ؛ قيل لي: عُدْ بعد ساعة. ضعت في الشوارع حتى الإرهاق، و..عدت، قيل لي: عد بعد ساعة.. حَبَوْتُ على الأرصفة، ثمّ.. تماسكت على الباب موجوع الرأس والقلب والقدمين ،قيل لي: عُد غداً. في اليوم التالي؛ عدتُ.. و تسكعت على الأرصفة ساعات وزحفت ساعات، ثمّ.. أمسك بي أحدهم من ياقة قميصي من وراء، وسار بي، عُصِّبَتْ عيناي ووُضِعَ في أذني القطنُ.. عبرت ممرات طويلة.. صعدت درجات عالية.. هبطتها، اجتزت ردهات رحبة، ثم.. أوقفت أمام كبيرهم، لم أرفع بصري إليه، وصلني صوته:
      - اخترناك من بين الجميع، صوتك قويّ مدوّ، نريدك أن تتعاون معنا.
      -فيم أتعاون معكم يا سيّدي؟.
      -تشيع بين الناس أن هؤلاء الذين ينادون بالحقوق، بالحرّيات، بالعدل، مدّعون مخادعون مجرمون.
      -و إذا رفضت ؟.
      - تلقى المصير الذي لاقاه أبوك.
      انتفضت بعنف مرعوباً ؛أبي؟! إذن أنتم قاتلوه؟!.
      رفعت رأسي، حدجت محدّثي بنظرة متفحصة، تكشيرته باردة، رأسه جمجمة.
      -ما قولك الآن ؟!.
      - قولي هو: لا.
      - خذوه.
      رُمِيت في الشارع أعمى أصمّ، نزعت العصابة.. فتحت أذنيّ.. سرت مشلول العقل والروح.
      خلال عقد من السنين أو أكثر، مثلت بين يدي كبيرهم مرّات عدّة، صُفع وجهي، وقفاي، وألهبت العصا ظهري وقدميّ، وإثر كلّ زيارة كنت أرمى في الشارع أعمى أصمّ.
      أخيراً قال كبيرهم:
      - اذهب، لا خير فيك، لا نريد منك بعد الآن شيئاً.
      مرّت أعوام.. وَهَن في أثنائها صوتي، وباخت الحماسة في صدري، انقضى ذاك العهد، عهد الحماسة، احتفر لنفسه في الذاكرة مكمناً انزوى فيه، صارت زوجتي وأطفالي منتهى همّي، وانكفأت إلى مكتبتي البيتيّة أدفن بين دفّات كتبها جلّ أوقاتي، والآن هأنذا سجين ينتظر محاكمته.


      أسماء لجنة ترشيح النصوص
      عائده محمد نادر/ تم
      قصي الشافعي / تم
      صبيحة شبر\تم

      أمينة اغتامي/تم



      كم روضت لوعدها الربما
      كلما شروقٌ بخدها ارتمى
      كم أحلت المساء لكحلها
      و أقمت بشامتها للبين مأتما
      كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
      و تقاسمنا سوياً ذات العمى



      https://www.facebook.com/mrmfq

      تعليق

      • أبوقصي الشافعي
        رئيس ملتقى الخاطرة
        • 13-06-2011
        • 34905

        #18
        (18)
        التعديلُ الطّفيف
        (قصة قصيرة)
        بقلم: أحمد عكاش

        بعد أن فرغت من نسج هذه القصّةِ، خطوطِها العريضةِ والفرعيّة، وكلّ ما يجعلها قصّة ناجحة، عزمت أخيراً على كتابتها، دلفت إلى غرفتي وأرتجت البابَ خلفي، لأنصرف بكلّ مداركي إلى القصّة، جَلست وَأَحَطْتُ فُوديّ براحتيْ كفّيّ، ورحت أعتصر ذاكرتي مستقطراً منها الأحداث قطرة فقطرة، وما إن توسّمت في نفسي الثّقة الوطيدة بكتابتها، حتّى أمسكت بالقلم، كانت الأوراق قد ضاقت ذرعاً بالمساحات البيضاء، رفعت رأسي مفكّراً، فوقع بصري عليهم حولي، إنّهم أبطال قصَّتي بعينهم، جالسين قبالتي، كلٌّ مستريح على كرسيّ، يرمقونني بعيون وادِعةٍ، وقسمات هادئةٍ طيّبة مستكينة مستسلمة، أعدت القلم إلى موضعه، وشرعت نظراتي ترتحل بين وجوههم، هاهم أبطال قصّتي، أنا لا أضلّ عنهم، انسلخت أشهر وهم يعايشونني، يسكنونني، لَمْ يفاجئني تجسّدهم أمامي، بدهي أن يرى الكاتب النّاجح شخوص أعماله أمامه تضجّ الحياة في عروقهم، تلقفت زمام المبادرة قائلاً:
        -أَهْلاً أصدقائي، أبطال قصّتي؛ عهدُنا ببعضنا قديم.
        هزّوا رؤوسهم موافقين، وعلى ثغورهم برقت ابتسامات الرّضا، وأطرقت الرؤوس إذعاناً.
        -أَنتم ثلاثة فقط، لم أطلق عليكم أسماء، اكتفيت بـ (الرّجل) و(المرأة) و(الشَّاب).
        أغمض الرّجل عينيه بهدوء مسلّماً، ومطَّ شفتيه معرباً عن استهانته بالخطب، واكتفت المرأة والشّابّ بالنَّظر إلَيَّ، كلّ شيء على ما يرام، إِذن فَلأَبدأْ بسرد الحكاية.
        -أظنّكم عرفتم القصّة جيّداً، وأدرك كل منكم دَوْره فيها بالعمق الذي آمله؟.
        قال الرّجل: أجل يا سيّدي، أنا رجل شارفت على الخمسين، أميل إلى البدانة شيئاً، أبيض البشرة، جلدي ناصع البياض مشرق.
        قاطَعْتُهُ: الأهمّ من هذا أنّك طيّب، عطوف.
        الرّجل: ميسور الحال، عندي معمل نسيج، فيه بضعة عمَّال, أَكْسِبُ منه ما يضفي على حياتي الكثيرَ من الرّفاه.
        المرأة: تعرَّف على أبي المُفْلِسِ، وسرعان ما طلب يدي منه، وانتقلت إلى قصره بعدها بأسبوع.
        الرّجل: لم أبخل عليها بشيء، أثقلت يديها وعنقها ذهباً وعقوداً.
        أردفتُ: نقلتها بغناك من حضيض الفقر إلى قمّة الرّفاه.
        الرّجل: أحبّها كما تعلم ياسيّدي.
        سألتُ الشّابّ: وأنت يافتى؟. ما دورك في القصّةِ؟.
        أجابَ متلعثماً: حَفظته يا سيّدي، كنتُ في العاشرة، يتيماً، مات أبي في السّجن، واختفت أمّي بعدها بقليلٍ، لعلّها تزوّجت.
        قلت: أهمّ ميزاتك الإخلاص والوفاء.
        قاطعه الرّجل: رأيته متشرّداً، فحملته إلى بيتي، وكنت له أكثر من أب.
        المرأة: كنت له أكثر من مربية، دلّلته كما تفعل الفتاة بدميتها التي تحبّ.
        الشّابّ: نشأت بارّاً بهما، أَسعدتهما معاً...
        فقلت للرّجل: ثمَّ ماذا حدث لك أخيراً أيّها الرّجلُ؟.
        أجاب الرّجل بانكسارٍ: كنتُ في معملي، وضجيج الآلات يصمّ الآذانَ، عثرت قدمي بشيء على الأرضِ، فسقطت فوق آلة قريبة، فابتلعت الآلة يدي، جذبتني إليها، إلى أن التهمت قسماً من رأسي، قبل أن يتمّكن هذا الشّاب من توقيفها.
        أكمل الشّاب: قبل أن ننتزعه من بين أنياب الآلة كان قد فارق الحياة.
        تابعت المرأة: كان هذا الشّابّ أجدر النّاس بأن يحلّ مكان سيّده في كلّ شيء، في المعمل والبيت...
        قلتُ: وَلِمَ لا؟ وهو البارُ المخلص الأمينُ؟.
        رفع الشّابّ رأسه معتدّاً: العمّالُ كلّهم أجمعوا حينَ التَّحقيق على أنَّ الرّجلَ انكفأ على الآلة، إنّه القضاء والقدر، وطويت صحيفته.
        قالت المرأة: كنّا- أنا وهذا الشّابّ - بحاجة إلى بعضنا، فأعلنَّا الزَّواجَ الحلالَ الطَّيّب.
        سرّني ما سمعت منهم، وجعلت أذهب وأجيء أمامهم، أشعرهم بقيادتي، وأنبّههم إلى أنَّ مَصَائرهم مرهونة بإرادتي، قلتُ:
        -أحسنتم..أحسنتم، أراكم استظهرتم أدواركم، أرجو أن تكونوا قد أدّيتموها بكلّ أمانة، كما رسمتُها لكم.
        تَلقّوا ذلك ببرود مريب، زاغت أبصارهم عنّي يتجنّبون النظر إليّ، فأعلنت لهم:
        -أنا راض عن أدائكم، امضوا في حال سبيلكم راشدين.
        كنت أجاهد أن أدفع عني هاجساً جعل ينخر رأسي، تنحّيتُ جانباً، أرقب ما سيفعلون، وإذ لم يتحرّك أحد منهم، استبدّت بي الرّيبة في أمرهم، أمارات تمرّد تلوح تحت هذه الوداعة التي يتظاهرون بها، أجلت النّظر في وجوههم، إنّهم مطرقون، رفعَتِ المرأة رأسها، وسدّدت إليّ نظرة وَقحة فاجأتني، وقلبت شفتيها:
        - ماهذه القصّة؟.
        أيّدها الشّاب: إنَّها ... تافهة فارغة.
        انتفضت المرأة واقفة: تفتقر إلى التشويق، إلى المفاجأة، شوّهْتَ وُجُودَنا أيُّها الكاتب.
        قفز الشاب وضرب الأرض بحذائه: أنا أرفض أن أكون أحد شخصيات هذه القصة.
        استجديْتُ الرَّجلَ كلماتٍ يداوي بها الجرح الذي أحدثه الشَّابُ والمرأةُ في مسمعي:
        - وأنت أيها الرجل؟ ما قولك؟.
        بدا غير مكترث، تنحنح قبل أن يقول: الحقيقة.. في الواقع لا تعنيني القصّة في شيء، أنا..
        قاطعته المرأة: لهذا أحدثنا في أدوارنا بعضاً من التَّعديل الطّفيف.
        سارع الرّجل: تعديل طفيف؟ أبت هذه المرأة – أيّها الكاتب - إلاّ أن تكون خَائنة، أنا أردتها زوجة صالحة...
        انتفضت المرأة: أنت ماذا؟ أنت لست أكثر من رجل ثلج، الحقيقة أنّ لونك الأبيض لا يذكّرني إلا ببرودة الثلج، ولا يثير بي إلا القشعريرة.
        التفت إليَّ الرجل وقال بلهجة لا تخلو من الحدّة: أيّها المؤلّف! بإمكانك أن توقفها، اجعلها أقلَّ عدوانيّة معي.
        حاولت التشبث بموقف القائد المتحكّم: لا تنسوا جميعاً أنّي قادر في كلّ حين على محوكم من الوجود، وعلى توجيه مقدّراتكم كما تملي عليّ مخيلتي، أنا المؤلّف.
        اعترض الشاب بامتعاض: ليس بعد الآن، انتهى كلّ شيء، فات الأوان، نحن مخلوقات حرّة فاعلة مريدة.
        نهرت المرأة: نحن أحرار، أسياد أنفسنا، نختار ما نشاء، وندع ما نشاء.
        أسقط في يدي، وبدأت أعي أن البساط يسحب من تحت قدميّ قليلاً قليلاً، فبادرني الرجل.
        - احمني من لسانها، أنت المؤلّف، إنها تتنكّر لكلّ فضل لي عليها.
        أعولت المرأة: أي فضل يا رجل الثلج؟ كان أبي -غفر الله له- سكّيراً مفلساً، فأغريتَهُ بالمال وبزجاجات الشراب المعتّق تهديه إيّاها، تشربها معه، اشتريتني منه، وحملتني دمية جميلة تزيّن بها قصرك.
        - أما أحسنت معاملتك ؟.
        - هل من حسن المعاملة أن أدفن وأنا على قيد الحياة؟! هل من حسن المعاملة أن تدفعني للرقص لك عارية على أضواء الشموع الملوّنة، وأنت تتعاطى سمّك الزّعاف؟.
        - أنت زوجتي، من حقّي أن أتمتّع بك، ألستِ زوجتي؟.
        جلجلت ضحكة المرأة: زوجتك؟ وهل أنت رجل حتى يكون لك زوجة؟ أنت رجل ثلج.
        حملق الرجل في وجهي وزمجر: لِمَ كلّ هذه القسوة أيها المؤلّف؟ لِمَ جعلتني أتزوّج امرأة جاحدة كهذه ؟.
        والتفت إلى المرأة وصرخ: أما ألبستك ثياباً من ذهب؟ وأثقلت رأسك وجيدك بالجواهر النادرة؟.
        - أمّا هذه فحقّ، ولكن مقابل ماذا؟ أنت عِنّين لا تصلح للنساء، اشتريْتَ سكوتي بالذّهب واليواقيتِ.
        ضرب الرجل كفّاً على كفٍّ يأساً، وطفق يزرع المكان ذهاباً وإياباً، ويتمتم: فضحَتْني .. فضحتني لا أريد هذا الدَّور أيها المؤلّف، قصّتُك ملعونة.
        حاولت من جديد استلام زمام القيادة: أيها السادة لا أريد أن تكون العلاقة بين شخوص قصّتي عنيفة قاسية، أريدها حميميّة.
        برقت عينا الشاب وهو يرمق الرجل بنظرات ملتهبة، وقال له مشدّداً على كلماته:
        -أما كنت تنهال عليّ ضرباً وتقريعاً لأتفه الأسباب أيّها الرّجل؟.
        -أنت آخر من يحقّ له أن يتكلّم أيّها الجاحد، انتشلتك من ضياعك في الشوارع كالصّوص الأزغب لا يهتدي سبيلاً، ربّيتك علَّمْتك، آويتك في داري، هيّأت لك أُسرة.
        سألني الشّاب: لماذا حرمتني الأسرة أيها المؤلّف؟ لماذا جعلت أبي يموت في السّجن؟.
        أجبته: أبوك كان مناضلاً يدعو إلى العدالة الاجتماعية، فرمت به السّلطة في عفونة الزنزانات، ثمَّ ..، كان لا بد من ضحايا.
        ضرب الشاب جنبه وأعلن: أبي قضى نحبه في السجن ضحية العدالة والحرّية، وهذا الرجل صيّرني عبداً أرى وأسمع وأطيع، ولا حقّ لي بشيء سواه.
        -كان عليّ أن أنشئك رجلاً يُعْتمد عليه.
        -نشأت رجلاً يلهث ساعياً للانتقام، تلصّصتُ على زوجتك، ترقص لك في الأمسيات عارية إلاّ من الذهب يتواثب لامعاً في المعصمين، وفوق النهدين، ويحيط بالخصر النحيل.
        زعقتُ فيهم مستنكراً: هذا عار، شوّهتم كلّ جميل..
        أدار الرجل ظهره للشاب وسرّح نظره إلى السقف كمن يراقب شيئاً فيه
        -ما شعرت يوماً أني مالكها، حتى وهي ترقص، كانت تُقْبِل نحوي متمايلة، كلّ ما في جسدها يرقص.. ينتفض.. يرتعش، حتى إذا سرَّحتُ نظري من شعرها الثائر، إلى جسدها منحدراً إلى قدميها الصغيرتين، انفتلَتْ قبالة النافذة وثبتت أمامها، أبدعت في رقصها وتلوّيها وهزّها، موقنة أنك وراء النافذة تراها وتتابع حركاتها، المحمومة مبهوراً، كنتُ في قرارة نفسي أدرك أنها .. ترقص لك، لا لي.
        ساورني الاشمئزاز فزعقت: أوغاد.. خونة .. كفّوا.. لا أحب الخيانة .. لا أقبل تسربها إلى قصصي.
        أخرجت المرأة من جيبها (علكة)، قذفت بها في فمها وجعلت تمضغها مصدرة فرقعة، وشرعت تتبختر أمامنا: سمّها خيانة إذا راق لك أيها المؤلّف، أنا أسمّيها ممارسة طبيعيّة لحقّ طبيعيّ، نعم أيها الرجل أنت تعلم حقّ العلم أنّي كنت أبات أوّل الليل معك في سريرك، وأمضي بقيّة الليل في سرير هذا الشاب، وكنّا جميعاً -أنا وأنت وهو- نسكت.
        صرخ الرجل: ساقطة .. خائنة، وهو خنزير غادر.
        وصل إليّ صوت الشاب رصيناً أجشّ: لما أغرتني بقتل زوجها خفت بادئ الأمر، قالت: ادفع به إلى فم إحدى الآلات الدائرة، فتلتهمه، وماذا بإمكانك أن تفعل له؟ قضاؤه شاء له هذا.
        كانت الآلة تدور وتدور، والهدير يملأ الأجواء، والرجل قد اقترب من آلة عظيمة .. فقفزت إليه..
        (قفز الشاب على الرَّجل وأخذ بعنقه من خلف، ويده الأخرى على مؤخرته).
        أمسكت برقبته وجذبته من مؤخرته، ودفعت به إلى الآلة، دفعت بكل ما في نفسي من حقد وكره ورغبة في الانتقام، اتّقى الرجل الآلة بيده فالتقمتها، وجعلت تلوكها.. سحبَتْه إليها، ولما دنت من رقبته دفعْتُ برأسه إليها بعنف..حين تنبهت إلى عامل قادم إلينا، كانت الآلة قد التهمت معظم الرأس.
        بادرت العامل بالشتم: أسرعْ أيها المغفّل، أوقفْ هذه الآلة اللَّعينة.
        أخذت بتلابيب العامل، جذبته إليّ بخشونة، وقدحت عيناي شرراً وأنا أهتف به.
        -عثرت قدمه بكعب الآلة، فهوى عليها.. فتلقفته، أرأيت شيئاً غير هذا أيها الغبي؟!.
        سارع العامل: لا يا سيدي، هذه هي الحقيقة كلّها، أقسم إني لم أَرَ إلا الحقيقة التي تراها أنت.
        طفح كيلي، جاشت نفسي غيظاً ويأساً، فجعلت أدفع بهم خارجاً: أنا بريء ممّا اقترفتم، اخرجوا من مكتبي، لا أرغب في رؤيتكم فيه، ملعونة هذه القصّة التي كنتم أبطالها، لا أريد كتابتها، سأكتب واحدة أخرى، عن المطر والحبّ والفراشات والأغاني، شخصيّاتها طيبون مسالمون، يحبّون الشّمس والقرنفل البريّ، ورغيف الخبز، أمّا أنتم فاذهبوا إلى الجحيم.
        طردتهم من مكتبي خاسئين، وأغلقت الباب وراءهم، ترنّحت في سيري إلى كرسيّ قريب ارتميت فوقه مكدوداً يتصبّب جبيني عرقاً، تنفّست بعمق، وقبل أن يثوب إليّ شيء من قواي الخائرة، تذكّرت أني لمّا دخلت مكتبي لأكتب القصّة، كنت قد أرتجت القفل من الداخل، فتساءلت: كيف أمكن لهؤلاء الأوغاد أن يدخلوا ؟، وقبل أن أهتدي إلى إجابة مقنعة، قرع الباب بعنف، تحاملت على نفسي، لأفتحه، فظهر شرطي منتصب أمامي، دخل والباب مرتج .. سار حتّى توسّط الغرفة، استلّ سجلاً ضخماً من تحت إبطه، فتحه بهدوء وجعل يسأل:
        -أنت كاتب القصّة؟.
        - أيّـة قصّة يا سيدي؟.
        -القصّة التي أدّتها هذه الشخصيات.
        -أيّـة شخصيات؟ أنا لم أكتبها، هممت بكتابتها ثم تراجعت، وطردت شخصياتها كلّهم، إنهم حثالة.
        -ثمة مؤلف وشخصيات، وفي معمل النَّسيج رجل قتيل .. أنت المسؤول.
        -يا سيّدي الشرطيّ! في الأحداث لَبْسٌ على نحو ما .. إنها -على كلّ حال- قصّة من نسج الخيال.
        -قصّة من نسج الخيال؟ خرج من عندك منذ قليل رجل وامرأة وشاب، تداولتم فيما بينكم حديثاً مطوّلاً، هل كان هذا الاجتماع السرِّيُّ داخل مكتب مغلق من نسج الخيال؟.
        -أحلف لك يا سيدي إنها مجرّد قصّة تافهة.. خيال.
        -خيال؟! فما هذه الدماء المهدورة إذن؟، ما هذه الأشلاء المبعثرة؟، ما هذه الرأس المهشومة؟، ما هذه الانتهاكات المشينة؟ أهذا كلّه خيال؟.
        - يا سيّدي! لم تتقيّد هذه الشخصيّات بما أُريدَ منها، عاثت فساداً كما يحلو لها، أنا بريء منها وممّا جنت.
        أعاد الشرطي السجلّ إلى تحت إبطه، وامتشق من تحت إبطه الآخر (أصفاداً)، جمع بها معصميَّ، ولم يتح لي بعدها نطق كلمة واحدة، لا ريب أنّ عينيَّ جحظتا وأنا أرى الشرطيَّ يرفع الرّتاج ويفتح الباب، ثم يدفع بي بعنف إلى الخارج.



        أسماء لجنة ترشيح النصوص
        عائده محمد نادر/ تم
        قصي الشافعي / تم
        صبيحة شبر\تم
        أمينة اغتامي/ تم



        كم روضت لوعدها الربما
        كلما شروقٌ بخدها ارتمى
        كم أحلت المساء لكحلها
        و أقمت بشامتها للبين مأتما
        كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
        و تقاسمنا سوياً ذات العمى



        https://www.facebook.com/mrmfq

        تعليق

        • أبوقصي الشافعي
          رئيس ملتقى الخاطرة
          • 13-06-2011
          • 34905

          #19
          (19)
          البحث عن فكرة

          حسن لختام


          في إحدى الليالي الخريفية، قرّرت الذهاب إلى حانتي المفضلة. كنت أريد أن أنسى هموم الكتابة،و متاعبها ولعنتها الأبدية.. قد صدق "حنا مينة" في قوله:" ملعونة الكتابة إلى يوم القيامة". جلست في ركن خلفي من الحانة،حتى أتمكن من مراقبة كل شىء فيها..روادها، إكسسواراتها وكل ما يدور بداخلها. كانت الحانة ممتلئة عن آخرها. أشخاص كثيرون يرتادون الحانات ليلا، للتفريج عن متاعبهم ومشاكلهم اليومية..الخمرة، تلك المعشوقة الأزلية، تجعلنا نفرغ ما بدواخلنا من آهات ومكبوتات وعقد ونزوات..إننا نؤدي البعض من طقوسنا فليباركنا الإله"ديونيزوس". في تلك الحانة،كنت أرى الأقنعة تتساقط الواحد تلو الآخر.. كنت أرى الأشخاص على حقيقتهم بعيدا عن الكبرياء والتصنع. في أحايين كثيرة أخلاق الإنسان الحقيقية تتجلى عند احتساء النبيذ. ماأروع أن تستمع الى الأشخاص وهم يتحدثون لغة أعماقهم وذواتهم الذاخلية.
          كم تبهرني تلك الأجواء الليلية الساحرة داخل الحانة ..ضجيج الزبائن..رنين دراهم بائعي السجائر بالتقسيط..صياح بائعي الفول والحمص..موسيقى " راديو كاسيت " .. الكل يؤلف سيمفونية ليلية عجيبة ليست كباقي السيمفونيات. بدأت أشرب بكل حواسي، فسحر المعشوقة الأزلية يضاهي سحر امرأة جذابة وفاتنة..سحر يأسر النفس والقلب، ويجعل المرء يكتشف إكسير الحياة و السعادة .
          سكرت بما فيه الكفاية. سكرت معي حتى أفكاري وشخصيات قصصي، ربما تفصح لي عن سبب امتناعها عن الخروج من العدم إلى الوجود . أجهزت على كل المبلغ الذي كان بحوزتي.. لم يبق منه ولو فلسا واحدا. غادرت الحانة في وقت متأخر من الليل. كان الجو مضطربا، ينبىء بحدوث شىء ما ليس في صالحي.كنت أحس بإحساس غريب..فغالبا ما يصدق حدسي، وتتحقق تنبوءاتي. الشوارع فارغة إلا من مرور بعض سيارات الأجرة، وبعض دوريات الشرطة. توقفت لأنادي على سيارة أجرة تأخدني الى بيتي، فقدماي كانتا لا تطيقان المشي. تذكرت أن جيوبي فارغة كفراغ خيالي. أطلقت العنان لقدماي-رغما عنها- لتأخدني الى بيتي، كما أطلقت العنان لخيالي علّه يجود عليّ بفكرة أجعلها موضوع قصة أدبية مشوّقة. بدأت أمشي ببطء، تائها في صحراء خيالي . كنت تارة أمشي بخطوات بطيئة، وتارة أخرى بخطوات سريعة..كنت أمشي على إيقاع أحداث القصص التي ينسجها خيالي..عندما تتصاعد الأحداث أسرع في المشي، وعندما تتراجع تتثاقل خطواتي. ما يحيّرني هو أنه عندما أكون خارج بيتي يراودني خيالي ويطاوعني، فيجود عليّ بقصص أنسج أحداثها بسلاسة مدهشة ، بل أشعر أنني أتحرّر من الرقيب الذي يحاصرني، و يسيطر عليّ ..ويخنق أنفاسي.
          بعد فترة، وجدت نفسي أمام باب بيتي. لم أعرف كيف وصلت بتلك السرعة. أخرجت مفتاح البيت من جيبي، وهممت بفتح الباب، لكني توقفت فجأة. بعد مهلة تفكير، قرّرت أن أقوم بجولة في الحي، خاصة أنه لم تكن لي رغبة في النوم. ربما يساعدني هدوء الحي على اقتناص فكرة رائعة أو مشهد إنساني عابر. كان الحي هادئا، إلا من مواء بعض القطط ونباح بعض الكلاب المتسكعة. أخدت أمشي جيئة وذهابا، دون وعيي. بعد لحظة، عثرت على فكرة..راقت لي، فبدأت في تطويرها، وزرع الحياة في شخصياتها. ماأعظم عملية الخلق والإبداع. عدت أدراجي في اتجاه بيتي. امتلكتني رغبة جارفة في الدخول الى مكتبي، وتحرير ماجاد به عليّ خيالي في تلك اللحظة السحرية من الليل.
          فجأة، توقفت بالقرب مني دورية للشرطة. نزل منها شرطيان بخفة فائقة، كأنهما يبحثان عن مجرم خطير. وقف أحدهما على يميني والآخر على يساري ، ثم خاطبني أحدهما:
          -ماذا تفعل في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ثم أضاف، دون أن يترك لي فرصة للجواب، قائلا:
          -بطاقة هويتك. بدأت أفتش، باندهاش كبير، في جيوبي الخاوية عن بطاقتي الوطنية قائلا:
          -أنا إبن الحي..أبحث عن فكرة، ثم أضفت بحماس شديد، مُشيرا بإصبعي:
          -هناك، يوجد بيتي..في تلك الواجهة المقابلة.
          خاطب أحدهما الأخر قائلا:
          -سكران، ويعربد..يجب أن نأخده للتحقيق في هويته.
          احتججتُ على قولهما بشدّة، لكن الكلمة الأخيرة كانت لهم.


          أسماء لجنة ترشيح النصوص
          قصي الشافعي / تم
          عائده محمد نادر/ تم
          صبيحة شبر\تم
          أمينة اغتامي/ تم



          كم روضت لوعدها الربما
          كلما شروقٌ بخدها ارتمى
          كم أحلت المساء لكحلها
          و أقمت بشامتها للبين مأتما
          كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
          و تقاسمنا سوياً ذات العمى



          https://www.facebook.com/mrmfq

          تعليق

          • أبوقصي الشافعي
            رئيس ملتقى الخاطرة
            • 13-06-2011
            • 34905

            #20
            (20)
            البحث عن مكان لدفن السيد مسعود
            حسن لختام

            كنت أنتظر بفارغ الصبر قدوم "الأتوبيس" ليلقي بي قرب الجامعة. ذلك اليوم كانت عندي محاضرة مهمة في علم"اللاهوت". بعد طول انتظار ظهر الشبح، فرميت بنفسي داخله كبقية الحشود. صراخ وازدحام، وسب وشتم بين الركّاب..لامكان للوقوف ولو برجل واحدة. كان "الأتوبيس" يتقدم ببطء شديد، وكانت درجة الحرارة لاتطاق.
            كنت أشعر بالإختناق، حتى أنني قرّرت في لحظة من اللحظات أن أقفز من النافذة، وأنفذ بجلدي وروحي من تلك المأساة. لكني تراجعت عن قراري. فإن قمت بحركتي الجريئة تلك، سيتهمونني- بالتأكيد- أني سرقت شيئا ما من أحد الركّاب، وأحاول الهرب عبر النافذة . فقرّرت النزول عند أول محطة.بدأت أتقدّم بصعوبة بالغة نحو باب الخروج. كنت أقاوم أمواجا بشرية هائلة لكي اتقدّم بخطوة واحدة. فعلا، كان الأمر لايصدّق.
            فجأة أثار انتباهي صندوق خشبي ليس غريبا عنّي، يحمله أربعة اشخاص على أكتافهم. أصابتني الدهشة، ولم أصدّق مارأته عيني. تساءلت في نفسي:
            -هل أنا على وعي أم سكران؟
            تأكدت أنني لم أتناول شيئا يفقد العقل ذاك الزوال، فغالبا ماكنت أتناول كمية كبيرة من النبيذ ذي المفعول القوي. همس أحد الركّاب في أذني قائلا:
            -سمعتهم يقولون أن حارس المقبرة منعهم من القيام بعملية الدفن; إنهم لايتوفرون على شهادة التصريح.
            تجمدت في مكاني، ولم أنطق بكلمة. ثم أضاف الراكب، الذي كان ملتصقا بي من شدّة الإزدحام، وهو ينظر إلى النعش بفضول زائد قائلا:
            - يقولون كذلك أنه توفي إثر سكتة قلبية مفاجئة، بعد سنوات من القهر والإستبداد في حق أهله وذويه، وكل خلق الله. إنه يدعى "السيد مسعود" والذين يحملون النعش هم أبناؤه..طالما تمنوا من الزمن أن يعجّل برحيله، ويخلّصهم من جبروته وطغيانه.
            "الأتوبيس" يتقدّم وهو مكدّس بمختلف الأجساد الآدمية..أياد تقبض بقوة بالمشاجب، وأخرى تتمسك بالنعش تفاديا للسقوط أثناء اهتزاز "الأتوبيس" بسبب الحفر المثناثرة على طول الطريق.
            توقف "الأتوبيس" أمام مستودع الأموات. ترجّل الأشخاص الذين يحملون النعش، وانطلقوا كالسهم داخل المستودع. دفعني الفضول، لمعرفة نهاية تلك القصة الغريبة، إلى أن أقفز خارج "الأتوبيس" بحركة خفيفة وسريعة، غير آبه بالركاب. تهاطل عليّ وابل من السب والشتم بسبب حركتي البهلوانية، التي أزعجت كل من كان يعترض طريقي. تابعت سيري، ولم أعر أي اهتمام لتلك الشتائم واللعنات.
            توقف الأشخاص الذين يحملون النعش أمام مكتب الطبيب المختص بالأموات. ارتكنت في زاوية مقابلة لهم، وبدأت أراقبهم دون أن ألفت الإنتباه. بدأ الجميع ينتظر..طال الإنتظار، ولم يظهر الطبيب المزعوم.
            تدخّل طبيب آخر لحل المشكلة. فوجىء الطبيب بأن الجثة قد أُخد منها القلب والكبد، وأعضاء داخلية أخرى. تفاديا للمشاكل قام الطبيب بتسليم الأبناء شهادة التصريح بدفن الميّت. حُملت الجنازة على الأكتاف، وانطلق الجميع مهرولين باتجاه إحدى مقبرات المدينة. صرخ أحد المارّة قائلا:
            -ليس من السنة التعجيل بالدفن.
            ردّ عليه شخص آخر بثقة عالية في النفس قائلا:
            -بلى، إنه من المفروض والمؤكد التعجيل بدفن الميت.
            تابعنا سيرنا، دون أن نعرهما أدنى اهتمام. اكتفيت فقط بالردّ عليهما في قرارة نفسي قائلا:
            -لاحاجة لنا بالفتاوى..ادخرا فتواكما لنفسيكما، أو اذهبا إلى الجحيم.
            بعد فترة، وصلنا المقبرة وهمّ أبناء السيد مسعود بالدخول. لكن حارس المقبرة منعهم من ذلك. أخبرهم بأنه تمّ إيقاف الدفن بتلك المقبرة منذ مدّة طويلة. ثم نصحهم بالتوجه إلى إحدى المقبرات الحديثة العهد، تتواجد خارج المدينة.
            بعد أن استعاد الحاملون للنعش أنفاسهم، انطلقوا، مرّة أخرى، مهرولين باتجاه المكان المحدّد. أطلقت بدوري العنان لساقيّ خلفهم.. كنت ألهث من شدّة التعب، وبدأت أُحس بوخز يؤلمني في باطن قدمي .. تمنيت أن تنتهي تلك التراجيديا في أسرع وقت، حتى أتمكن من العودة إلى الجامعة لحضور المحاضرة المرتقبة ذاك اليوم.
            أخيرا وصلنا المقبرة المحدّدة. هذه المرّة، لحسن الحظ، نجح أبناء السيد مسعود في إيجاد مكان لدفن والدهم.
            وُري جثمان السيد "مسعود" وانتهى أمره. لكن، بقي قلبه بكل مكنوناته..بما فيها ذاكرته.




            أسماء لجنة ترشيح النصوص


            قصي الشافعي / تم
            عائده محمد نادر/ تم
            صبيحة شبر\ تم







            كم روضت لوعدها الربما
            كلما شروقٌ بخدها ارتمى
            كم أحلت المساء لكحلها
            و أقمت بشامتها للبين مأتما
            كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
            و تقاسمنا سوياً ذات العمى



            https://www.facebook.com/mrmfq

            تعليق

            • أبوقصي الشافعي
              رئيس ملتقى الخاطرة
              • 13-06-2011
              • 34905

              #21
              (21)

              الفرج
              ابن عسكر
              تحت جناح الليل البهيم؛وسجل هائل فى أورقة الزمان ؛يتأرق جفنه؛والدنيا تداعبه؛
              يناشدها المرور،لم يكن بخلده شئ يعوق مسيره،فراغ هائل، ومتلبات الحد الأدنى محجوزه أمامه
              ،يوقظه هاتفه المحمول،تمتد يده تقترب رويدا رويدا تلتقط أذنه الصوت القادم، ينتشى من رقاده،
              ينساب الدم إلى وجهه الذابل ،يتصبب عرقا،يكاد يقفز من الفرح ،تلتمس الوجدان الصدق ،إنه الفرج
              ويسبح فى مجراه الجديد ،وقد كبلته الدنيا بقيود من حديد




              أسماء لجنة ترشيح النصوص
              قصي الشافعي / تم
              عائده محمد نادر/ تم
              صبيحة شبر \ تم
              أمينة اغتامي/تم




              كم روضت لوعدها الربما
              كلما شروقٌ بخدها ارتمى
              كم أحلت المساء لكحلها
              و أقمت بشامتها للبين مأتما
              كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
              و تقاسمنا سوياً ذات العمى



              https://www.facebook.com/mrmfq

              تعليق

              • أبوقصي الشافعي
                رئيس ملتقى الخاطرة
                • 13-06-2011
                • 34905

                #22
                (22)

                الشقة المقابلة / ابن عسكر

                الشقة التى تقابله قبل الولوج إلى شقته مصفدة نوافذها ؛لايطرقها الهواء ؛هادئة ساكنة؛المصادفة صنعت المواجهة المرأة التى دلفت للتو لداخلها؛تشاطر القمر إكتماله؛باب الهوى فى القلب إنفرج على مصراعيه؛زاد احتماله؛ظننا إنها وحيدة؛داعبته هواجس الليل ,وأحرقته؛تملكته الرغبة للمثول ؛
                تقدم وطفله الذى حمل به فى ليله يئن؛يطل بعلها متسللا من شقة الباب الموارى ؛تناطح الرأس رأسه عند الإستقامة ؛يقر فى قرارته يا ليته قرأ الخطاب ولم يضع رأسه عند الباب



                أسماء لجنة ترشيح النصوص
                قصي الشافعي / تم
                عائده محمد نادر/ تم
                صبيحة شبر\ تم
                أمينة اغتامي/ تم



                كم روضت لوعدها الربما
                كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                كم أحلت المساء لكحلها
                و أقمت بشامتها للبين مأتما
                كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                https://www.facebook.com/mrmfq

                تعليق

                • أبوقصي الشافعي
                  رئيس ملتقى الخاطرة
                  • 13-06-2011
                  • 34905

                  #23
                  (23)

                  سيف النهار = مالكة حبرشيد
                  =========
                  توضأ الوجع ببرق الوعي ؛ استعدادا لصلاة الفتح .
                  عند التكبيرة الأولى .. انشقت أبواب السماء،
                  تعلن رفع الحصار عن الظنون والأفكار المعتقلة،
                  ... منذ أن هتك الظلم حجاب الشمس.
                  التراتيل أشلاء تنكش قبر الأمل ، تكنس عتبات الحياة،
                  من بقايا العجز ، ووخزات الخوف ، وما خلفه زجر الماضي
                  وسوط الصبر الذي أمضى عقودا طويلة ، في جلد الذوات.
                  وسط الميدان. سطع النور من جثة الشهيد ،
                  يبعث النبض في صقيع الذاكرة المثخنة بالذل والإهانة .
                  تحت المئذنة امرأة شلحت ثيابها ، تعلقت بحلمتي العراء؛
                  تستمد القوة من القهر ؛ لترضع الطفل الذي شق نواحه عنان السماء.
                  فيشتد ساعد الرفض ، وينمو التمرد،
                  ليوقف زحف السنين العجاف ، نحو المساحات الخضراء .
                  مازال الليل يتوسد التناهيد ، وصغار الحلم تلهو وسط طقس خلق الأشلاء ، ملائكة تدك الجدار .. فالجدار فالجدار.
                  تتداعى الكراسي ، والأسرار المكنونة خلف المرايا،
                  صيحات الموتى تفتح معاقل الجهل ، النور يتسرب إلى صدر الفجيعة،
                  يوقد النار في جذع شجرة ، تحت ظلها ينام الأمير.
                  على الجنبات شقائق النعمان ، تعزف الأناشيد.
                  تتهاوى النوتات ، كما تتهاوى عبالة اللقلاق. تخلت الأغصان عن دورها ، استجابة للدمع المتخثر ، في الساحات وعلى الأرصفة.
                  الملك في عربته المعتادة ، تجرها غزلان متعبة متهالكة،
                  يصرخ فيهم بأعلى ظلمه =تحركوا أيها السفلة ...لابد من صعود هضبة العصيان ، قبل أن تكتمل دورة الغروب .
                  أقيموا صلاة الخضوع ، ليلي مازال طويلا ، كيف ينجلي وهو في أوله؟
                  براءة شرسة تشد العربة نحو الأسفل ..تعلن انتهاء رطانة اللئام.
                  سواد الماضي يعتلي شوارب الفحولة المزيفة ،
                  قرابين الموت ما عادت تجدي ، لإطالة حياة مرهونة بحقن القمع،
                  ومهدئات التخويف ، وما جد فيه العرافون من خرافات التهويل .
                  تخر الأبراج الوهمية ، لاستكبار الشمس ، بعدما طعنها سيف النهار ،
                  وصار الشهيد نجما ثاقبا لرخام الصمت !


                  أسماء لجنة ترشيح النصوص
                  قصي الشافعي / تم
                  عائده محمد نادر/ تم
                  صبيحة شبر/ تم
                  أمينة اغتامي/تم



                  كم روضت لوعدها الربما
                  كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                  كم أحلت المساء لكحلها
                  و أقمت بشامتها للبين مأتما
                  كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                  و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                  https://www.facebook.com/mrmfq

                  تعليق

                  • أبوقصي الشافعي
                    رئيس ملتقى الخاطرة
                    • 13-06-2011
                    • 34905

                    #24
                    (24)

                    ضاع العمر يا ولدي= مالكة حبرشيد
                    ===============

                    عبارة نقشها الصبر على جدران الحقيقة،
                    مذ انتابني أول مخاض ؛
                    كي أضع الابتسامة جنينا معاقا،
                    لا يستوي على ملمح.
                    أقامت الدمعة حفل عقيق بحضور ما مات مني.
                    أما ما تبقى،
                    فقد كان عند براح المدينة الساخرة؛
                    حيث الوجوه تعاقر العصي التي وضعها الواقع عائقا،
                    في طريق عجلة الزمن.
                    كان حفل الحب كبيرا،
                    بما يليق بعصفورين بلا وطن ..
                    بلا حدود ترسم خارطة الامتداد.
                    العيش في قفص صديء.
                    وكنا وليمة العشق،
                    إلى أن نسفت نبضي قذائف الكذب ..
                    صار الحب معاقا ، يحتاج إلى كرسي متحرك
                    كي يجوب أروقة المتاهة.


                    قدري - منذ نعومتي- أن أكتب دون مقدمات،
                    أهذي كثيرا عند منتصف البوح ، أفر منطوية على آخر جرح؛
                    كي لا يزهر الصمت ، وتفوح رائحة الموت.
                    أدرك أني أدمنت كأس الهروب ،
                    وأن الهزائم تتعقبني،
                    أن عيونا بلورية هناك في الأفق - حيث امتدادي - ترصد كل سكناتي،
                    و كلما فكرت في تقسيم أشلائي بين ورثتي الطيبين ؛ لاح الذعر من بين شراييني - التي جففها الانتظار- ليحتفل وحده بمأتمي،اعتقادا منه أني كنت الطريدة المبتغاة ؛ فلا تنازل عن رفاتي ، مهما بكت الذكريات الظامئة في الزوايا ، اهتزت الصدفات استجداء، ومهما أعلنت على مرأى ومسمع العاصفة توبة نبضي الجريح.


                    أحتاج دما لا يغادر صهوة الريح ؛ لأشعل الروح فيما تبقى مني.
                    ترى ماذا يشتهي طائر جريح ، حين يصاب بأكثر من رصاصة ، ولم تزهق روحه ،غير العودة من العتمة ، التواثب نحو النور ينطوي على أنينه ؛ عله يستجمع ذواته، ليتحدى ركام العجز ، وعوائق الضعف ؟
                    كنت كاذبة جدتي ، حين قلت إن الحلم طائر فينيق ، مهما انجرح يستجمع نفسه، ينهض من الرماد أقوى من ذي قبل!
                    ما بها أحلامي لا تغادر غرفة الإنعاش ،
                    ما به حضوري لا يبرحه الغياب ؟
                    وعيوني تحصد الأجوبة في غرفة باردة،
                    لا يدفئها غير تنفس اصطناعي-لا يسمن ولا يغني - ، لكنه يطيل المخاض، من أجل حياة أدرك جيدا ، أنها تحتاج المال والبنين ؛ لأنهما زينة الحياة . لكني لم أقرأ في كتب الأنبياء:كيف يموت المال ، ويعتاش البنون على الجوع والظمأ ؟
                    كيف تموت الأبجديات ، وترسم القصائد لوحات الحب ، على جدران هدتها المنايا ؟

                    سقطت كل التفاصيل . فقدت بوصلة كانت تقودني في دروب الغربة . لا عاصم اليوم من الرحيل ؛ فقد انتهى زمن المعجزات.
                    جمعت ذكرياتي في حزمة كبيرة، قبلت شجو العلاقة المنزوي في ركن الهزيمة ، ثم اتجهت نحو ثقب حفرته- منذ خيبة واستسلام - في غرفة كنت فيها ذات وهم شهرزاد، لأخرج من جلدي، بعدما تخلصت من دمي في نحنحة اللامبالاة.
                    استنفذت كل قصائدي ، وما أعددت من حكايا لصغار الحلم ، الذين كانوا ينامون كل ليلة في حضني ، شتلت الأماني على امتداد مسافات الاحتراق.لكنها لم تستوشجرا ، ولا أعطت ثمارا تغذي من عيون السهاد ؛ لتكون أرحم حين أختنق في مكعب الصمت ؛ حيث أدور ...والزوابع تقرضني في عتمة الدار.

                    من يشتهي قصيدة عمياء ، تنهدها الأرق ، وهو يمتطي سريع الانسحاب ؟ وأحسنت شاعرة فاشلة صياغة ألوانها الغامقة ، تزكية رائحتها الكريهة التي أزكمت أنوف الأسراب المحلقة خلف الندى ؛ فأغمضت الغيوم عينيها ، ابتلعت زخاتها؛ كيما تروي زهرة الصبير العنيدة في صحراء العمر القاحلة.

                    المطبخ كما هو ، لا يتغير لونه ولا رائحته ، وأنا جزء منه ، بل أناتوابله التي تتراقص في الإناء لتطلع الطبخة شهية ، وليمة تليق بقناص أجاد ترويض الكابوس ؛ لتصبح البندقية زهرة تناغي ما تبقى مني .
                    كل ليلة..تسقط الدمعة في راحته هدية ، فيخضر الحزن ، يزهر الوجع ، وينتشي بلحظات مغلقة بين قفلين لا مفاتيح لهما غير كلمة سر .. تقول=اسبحي في النار، أينعي في اللهيب بين الصدى والخواء.
                    السرير في هدوء تام ، خلص الأبجدية من أحجياتها ، وانتهى رسم الذاكرةالمغلقة عند محطة فجر يجيد إمساك رجفته الغامضة ؛ لأسقط في يم الاعتياد، وأنا أحضن صدفاتي التي مازالت تحتفظ بشظايا الأمل في قلوب كفوفهاالصغيرة.
                    سؤال الليل عادة ما يفضحه النهار
                    وهذا جواب الشمس يقول =لا تختالي
                    في منظومة الكذب أيتها البومة العمياء
                    أنت عائدة إلى الوراء
                    مهما ترجمت نعيبك بالهديل ...
                    ومهما رصعت الندامة بلؤلؤ الضحكات الصفراء....
                    مرصودة أنت في عدسات الحقيقة ...
                    رواية مجهولة الأوصاف ...
                    مهما أمعنت في انتقاء الكلام
                    لن يكفي ذلك مكياجا ؛ لتجميل ملامح سيدة استنفذت سنابلها ...وردها قربانالآلهة لا تشفع !!



                    أسماء لجنة ترشيح النصوص

                    عائده محمد نادر/ تم
                    صبيحة شبر/ تم
                    قصي الشافعي/ تم

                    أمينة اغتامي/تم



                    كم روضت لوعدها الربما
                    كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                    كم أحلت المساء لكحلها
                    و أقمت بشامتها للبين مأتما
                    كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                    و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                    https://www.facebook.com/mrmfq

                    تعليق

                    • أبوقصي الشافعي
                      رئيس ملتقى الخاطرة
                      • 13-06-2011
                      • 34905

                      #25
                      (25)

                      حتى الكبار يخطئون

                      عبير هلال

                      كانت الفكرة تلحُ علي من أمد بعيد ولا أعلم لمَ قررتُ الولوجَ إليها من اضيق الأبواب، نزعُ رداء جسدي البالي هوَ أول ما خطرَ على بالي..
                      بعدَ أن لفحني الصقيع وامتدت يد جبروته لتصل شفتيّ العاريتين، تذكرُتني واستأنست روحي للجبال التي كانت تزحف عليها الثلوج بمهارة جنود مدججين بالسلاح. حتى الأشجار كانت أغصانها تتراقص فوقي، تنحني هامتها بدعابة لطيفة ثمَ ما تلبث أن ترتفع بتحد لتتمايل باحتراف غجرية معلنةً العصيان على برودة الطقس.. تتسلل من بين تلك الأشجار حبيبات ثلج لتصفعني على وجهي .. ربما لتبشرني أنني لا زلتُ حيا. أطرافي متجمدة، لم أعد أعلم إن كنتُ هنا او هناك.. أشعر أنني أصبحتُ في كل مكان ..صدقاً لا ادري لمَ اخترت اليوم بالذات لألحق بها ..انطلقتُ منذ بشائر الصباح الأولى بسيارتي وأنا أشاهد كيفَ انفتحت أبواب السماء على مصراعيها- برقٌ ورعد وعواصف لم أشهد لها مثيلا..يا لضجيج تلكَ العواصف!! تكاد تقتلع الأشجار من جذورها ..أشجار وأشجار وأشجار هذا كلُ ما أراه ..لم أر بيوتا ولم المح حتى زجاجا متناثرا منها ..أحسستني أكادُ أقفز بسيارتي من هول دويها .. ابتدأت الثلوج تكسو الأرض ..ارتطمت سيارتي بشيء ما، اظنه جذع شجرة قرر اعلان العصيان عليها فتولت أمرهُ العاصفة..زأرت سيارتي المسكينة، ثمَ توقفت فلم أعد أسمع انفاسها ..رأسي أصبحَ يؤلمني اثرَ اصطدامه بزجاجها نظرا لتوقفها المفاجيء ..الحمد لله لم ينفصل رأسي عن عنقي.. تحسستهُ بأصابعي وجدتهُ ينزف. غادرتُ سيارتي لأضعَ الثلج عليه حتى يتوقف النزف.. وجدتني أهوي على الأرض ..استفقت من غيبوبتي بصداع رهيب لا يغفو ..ليتني أستطيع النهوض، على الأقل اختبيء بسيارتي وأموت بكرامة جندي دافعَ ببسالة ضد الطبيعة الغاضبة. نهضتُ بصعوبة وسرتُ كالمترنح..يا الهي!! أين أنا؟ كل ما أعرفه أنني في غابة ما ..مشيت ببطء شديد حتى وصلت لسيارتي ..يا للهول !! إنها حطام!!وكأن كتلة مشتعلة خدعت نيزكا وقررت أنها وجدت ضالتها ..
                      تناهى لسمعي أصوات، ظننتني أحلم وإذا بشبحين يندفعان نحوي وجفون عينيّ بالكاد استطعت فتحهما .. كانَ احد الرجلين يحمل بيده بطانية دثرني بها حين اقتربا مني بسرعة الفهد الصياد.قد رأينا السيارة المشتعلة فهرعنا لننقذ من بها فلم نجد أحدا.. حملنا أكواما من الثلج ووضعناها عليها والحمد لله سارت الأمور على ما يرام..بحثنا مطولاً فلم نجد أحداً..هل معك آخرون؟؟ قالَ احد حراس الغابة وهوَ يلهث ..كان يتحدث إلي وأجيبه بهزة من رأسي وشريط سينمائي يعبر مخيلتي عن فترة مضت وصنبور مياه باردة كان
                      يتدفق من عينيّ الحزينتين..قيلَ لي الرجالُ لا يبكون.. ولكنني أبكي وأبكي وأبكي ودموعي ترفض التوقف ..لا ليس من الآلم فأي آلم مهما كان موجعا بإمكان جسمي احتماله، بكائي كانت له أسبابه- طردي لمربية بيتي المسكينة حين أخبرتني أنها حامل..طردتها شرَ طردة.رفضت الإصغاء لما ستقوله لي..قلتُ لها وأنا ازجرها بعنف: أنا من رباك وعلمك بأفضل مدارس وأرسلتك لجامعة من أرقى الجامعات على الإطلاق، لا يدخلها إلا الارستقراطيون ، توليت بنفسي تثقيفك، لم أرسلك للعمل حتى لا يحاول احد أفساد جمال روحك التي ترفرف في اجواء بيتي. معك عشر دقائق لتاخذي ما تشأئين من البيت وغادري .لا أود رؤيتك بعدَ الآن..
                      أحضرتها لي قبل ثلاثة عشر عاما أخت حبيبتي لتطلب مني أن أمنح الطفلة اسمي بناء على أمنية حبيبتي قبل أن تفارق الحياة ..لا زلتُ أذكر كيف وجدتهما وأنا عائدٌ منهك من عملي ، تجلسان على مقعد الحديقة الخشبي تتهامسان- شابة وطفلة ترتجفان من البرد..جئنا بالطائرة ونحن منهكتان تماما..اسمح لنا بالدخول..لو سمحت الطفلة تتضور جوعا – رفضت ان تأكل أي شيء بالطائرة ..
                      -حبيبتي ساندرا..ما اجمل طفلتك..!! سأعتني بها وكأنها ابنتي..لا يهمني أن أعرف من هوَ والدها، يكفيني انك والدتها والأنثى الوحيدة التي خفق قلبي بالحب لها وسيظل وفيا لها حتى الممات.
                      سافرت خالتها في اليوم التالي قبل أن تنهض الشمس من غفوتها لتداعب الكرة الأرضية بأشعتها القرمزية..تعمدت ذلك حتى لا تراها الصغيرة وتلحق بها..عانيتُ كثيرامع الصغيرة حتى اقتنعت انه لم يعد لديها احد غيري.. اللعنة علي، كيفَ سمحت لقلبي ان يتحجر حين عدتُ البارحة من سفري بعد غياب دام ثلاثة شهور عنها بهدف عقد العديد من الصفقات التجارية والتأكد من سيرها على ما يرام والإطمئنان أن سيارتي الجديدة ستكون بحوزتي ما أن انزل في المطار.. أشواقي لأميرتي ناريمان جعلتني اتمنى أن أستلف من الدهر المزيد من العمر والصحة حتى أكون بكامل لياقتي البدنيةحتى أعوضها عن غيابي الطويل والمتكرر عنها..توقعت أن اجدها تنتظرني أمام باب البيت كعادتها ، لكنها لم تكن هناك..خابَ ظني كثيرا.. وجدتها تنتظرني في حجرتها وهي تبكي بحرارة كقط مبلل يوشك على الغرق، نظرت إليَ حين ولجتُ حجرتها فصفعتني رؤية عينيها المحمرتين..حاولت الإقتراب منها، رجعت للوراء.. أنا حامل.. شعرتُ بالأرض تميد بي ، تهتز تحتي كأنها تنوي ابتلاعي.. ماذا تقولين؟؟
                      سمعتني، أنا حامل..كلُ ما أذكرهُ بعدها أنني صفعتها بقوة..شعرتها ريشة ترتعش في مهب الريح.. غادرت بيتي بعد عشر دقائق منكسة الرأس بناء على أوامري الدكتاتورية ..تحملُ بيدها حقيبة صغيرة والدماء تنزف من شفتها السفلى .. أغلقتُ بعدها بابً بيتي وقلبي..رنات مطولة على جوالي أجبرتني أن أضعه على أذني: مرحباً، أنا اصالة، محامي شقيقتي المرحومة ساندرا قرر انه بعد غد سيقرأ وصيتها حسب وعده لها ما ان تبلغ ابنتها العشرين.. لا تتأخرا ..
                      - ناريمان، ابنة شقيقتك لم تعد معي ..قد طردتها..قلت وأنا اصك على اسناني
                      - ما الذي تقوله ؟؟ أظنني لم اسمع جيدا ..طردتَ ابنتك، أيها الغبي..انها ابنتك من لحمك ودمك..هل برأيك كنت سأتعنى السفر كل هذه المسافة وأترك زوجي وأنا حامل بشهوري الأولى لأحضرها لك شخصيا لو انها ابنة رجل آخر..دمائك تسري في شراينها، أيها التعس. أغلقت جوالي وارتميت على مقعد مكتبي..بعد نصف ساعة تقريباً سمعتُ طرقاً على باب بيتي وإذا به فادي-المهندس الشاب الذي يسكن قبالتنا ..سيدي يجب عليَ التحدث معكَ ..أدخلته لمكتبي ولا أعلم لمَ شعرت أن قلبي يكاد ينتزع من صدري ..ما الذي جاء به هنا؟؟ جلس قبالتي والتوتر يعلو قسمات وجهه: سيدي، لست ادري ما أقول لك أو كيف سأبدأ كلامي..سأحاول الإختصار قدر استطاعتي وآمل أن تتفهم الوضع، أنا وناريمان نحب بعضنا بعضا..لم تكن في نيتنا الزواج في فترة غيابك، لكن حدثَ ما لم يكن بالحسبان..
                      أنتَ يا سيدي كثير السفر ونسيتَ او تناسيت أن ناريمان أصبحت شابة فائقة الجمال..
                      - لم استطع اخباره أنني كنت اهرب لأنني أرى والدتها بها بعينيها العسليتين كثيفتي الرموش وشعرها الكستنائي الطويل..قامتها الفارعة حتى تورد خديها حين تخجل.. برغم فقداني لها بوقت طويل إلا أنني لم أنسها لحظة..اراها بكل الوجوه الأنثوية ..اسمع همساتها الدافئة في أحلامي.. أصحو لأجدني وحيدا في غرفة باردة يكسوها السواد والعرق يتصبب مني.. ليتني لم اتخل عنها يوم أخبرتني أن والدها أجبرها على خطوبتها لابن عمها ..شعرتني احترق حين وجدت خاتم الخطوبة يلمع في اصبعها ..
                      كأن يجب أن أخطفها حينها ، لا أن أخبرها انها خائنة ولم تنتظرني كوعدها لي، قلت لها الوداع وتركت على شفاهها وردة ندية وفي قلبها غصة أبدية..
                      أعادني إلى الواقع صوت فادي : رحمة الله كبيرة يا سيدي، لقد شاء أن أتواجد بالوقت المناسب لأنقذها من براثن ذئب مفترس – صديقك الذي وثقت به واتمنته عليها..انقذتها منه وتزوجتها فورا حتى تكون تحت حمايتي..
                      - يا رب العالمين، رحماك.

                      انتفضتُ ونهضت من مكاني ..وتسمرت عيني على الحارسين: اعذراني يجب أن اجدها.. نظرَ إليّ الحارس الذي كان يعيد الحرارة لجسدي البارد مشدوها حين دفعته عني بعيدا..فتحت الباب على مصراعيه وفردت يديّ على دفتيه وتأملت الأرض المكسوة بالثلوج العذراء.. رفعتُ كفيَ للسماء بتضرع: يا رب، أرجوك، دعني أكون أنصع من الثلج..توجهت بنظري للبعيد ورأيت ما لم يرياه -أنوار متلألئة تتراقص في الأفق ..
                      غادرت مخلفاً ورائي آثار أقدام على الثلج .. وكان يتناهى لسمعي : حبيبي تعال..!!
                      حبيبي تعال!! لا تتوقف .. لم يبقَ إلا القليل!!


                      أسماء لجنة ترشيح النصوص
                      عائده محمد نادر/ تم
                      صبيحة شبر/ تم
                      قصي الشافعي / تم
                      أمينة اغتامي/تم




                      كم روضت لوعدها الربما
                      كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                      كم أحلت المساء لكحلها
                      و أقمت بشامتها للبين مأتما
                      كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                      و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                      https://www.facebook.com/mrmfq

                      تعليق

                      • أبوقصي الشافعي
                        رئيس ملتقى الخاطرة
                        • 13-06-2011
                        • 34905

                        #26
                        (26)
                        اطلق يديّ / عبير هلال


                        كانت تجلس في شرفة بيتها حين وصلها هاتف من شقيقتها من والدها التي تجاوزت الأربعين،تدعوها للعيش معها،رغمَ أن علاقتهما كانت دوماً متوترة، ولا يوجد أي رابط مشترك بينهما.. أخبرتها بانفعال وتوتر أنها تريدها الحضور فورا لأن زوجها اختفى دون سابق إنذار مخلفا رسالة يقول فيها إنّه قرر الزواج من سكرتيرته بعد انتهاء إجراءات الطلاق، عسى أن تنجب له أطفالا . كانَ ذلك من أصعب الأمور التي اضطرت للقيام بها .لم تتوقع التأقلممعها البتة؛ فمسافة شاسعة كانت تفصل بينهما.. مسافة أفكار تحديدا . سلوك زوج أختها كان دائما يثير استغرابها واستهجان شقيقتها إذ كان يرفض أن يعتني سواه بخيله وإسطبله ، رغم تربعه على نبع ثراء. ..
                        بعدَ أيام من
                        التحاقها بها أحضرت شقيقتها سائسا وطاهياً أضافيا بعدما قررت أن زمن الاختناق قد ولى. أصبحت شقيقتها تركب حصانها كل مساء وتنطلق به لساعات طويلة تاركة شعرها المنسدل يتراقص على نغمات النسيم العليل.فيما مضى لم يكن زوجها يسمح لها بركوب الخيل إلا بصحبته..كانَ غيورا للغاية وحاد الطباع..
                        لاحظت أنّ السائس صار يغدق عليها بنظرات إعجاب
                        .. و لاحظت عدة مرات أنها حين تمر من أمامه يتوقف عن عمله ويحدق بها مطولا . اتكأت على نافذتها تستنشق الهواء ذات ليلة و قد جافاها النوم .. تفاجأت بعد فترة بظلٍ يدخل من باب الحديقة الخلفية وهوَ يلتفت يمنة ويسرة ، وكان قبلها نور غرفة شقيقتها المقابلة لغرفتها قد أنارعدة مرات. بالرغم من خوفها الشديد، قررت أن تستكشف ما يجري..غادرت غرفتها بهدوء ، اختبأت خلفَ شجرة الجميز المقابلة لغرفة شقيقتها.. راعها أن الأخيرة كانت بملابس النوم تتبادل القبل الحارة مع رجل يودعها عند المدخل ،ثمّ فجأة لمع وجهه بالضوء .. - يا الهي! إنهُ.. ! عضت على يدها اليسرى بأسنانها بغضب. الصدمة كانت أكبر من أن تحتملها، اخترقتها كالصاعقة .. جلستا ذلك الصباح على مائدة الطعام الضخمة قبالة بعضهما - زوجة مهجورة وعانس - تنظران لبعضهما نظرات طويلة: نظرات الأولى حائرة والثانية تجمع ما بين الخيبة والغيرةوالاشمئزاز ..تتحرك الشفاه وكأنهما تودان التحاور ولكن لا همسة أو تنهيدة تصدر عنهما.. المهجورة ادعت أنها تتأمل الصورة الزيتية المعلقة على الحائط ،أمّا العانس فقد تظاهرت بأنّها تراقب النادل و هو يضع الطعام. لم تتوقف اللقاءات السرية الليلية بين الشقيقة و حبيبها ، كانت العانس تتساءل كيف اشتعل الفتيل بينهما!!
                        ذات أمسية توجهت إلى الإسطبل ، قبل أن تدخل تناهى إليها صوت ابن الخادم يخبر السائس بأنّ السيدة مريضة ولن تركب حصانها و أنّ عليه أن لا يخرجه للساحة. اصطدم بها الفتى وهوَ يغادر متمتما عن كسل السائس ولا مبالاته.. وجدتهُ مستلقياً على التبن.. ما إن رآها حتى ابتسمَ لها ونهضَ من مكانه . - يا للمفاجاة السارة .. ما الذي أحضر سيدتي أخيراً هنا .. عليَ ان أشكر الأقدار ..كم أنت رائعة الجمال، سيدتي!! أجمل أنثى رأيتها في حياتي.. اقتربت منهُ قليلاً كالمسحورة لتجرب مذاق الشهد الذي كانت تتذوقهُ شقيقتها سراً وهي تظن أن لا أحد يعلم عن علاقتها بسائسها..ضمها السائس الوسيم بينَ ذراعيه وتبادلا القبل .. همست لهُ : ليس هنا عزيزي ، فربما يرانا أحدهم .. أمسكت يدهُ و لم تأخذه لحجرتها كما كان يظن.. همست له بدلال مرة أخرى: أخاف أن ترانا شقيقتيأو خدامها.. _ لا يهمني المكان حبيبتي طالما نحنُ معاً .. سارَ معها إلى أن وصلا كوخا صغيرا قرب الحديقة كانيُستخدم لوضع المعدات . -هنا لن يزعجنا احد..
                        دخلا الكوخ و أغلقا الباب بهدوء: نحن لوحدنا تماما يا
                        فاتنتي .لو تعلمين كم انتظرتُ هذه اللحظة .. نحن لوحدنا تماما.
                        - أجل عزيزي.. أيها الوسيم.. هل أبدو لك جميلة ؟؟
                        -
                        نعم. بل رائعة الجمال ..منذ اليوم الأول الذي قدمت فيه للعمل هنا لفت نظري بقوامك الممشوق وجمالك الفتان.. كنت بالنسبة لي السوسنة التي تعوم فوق سطح البحيرة دون خوف من الغرق.
                        -
                        لكنني بالأربعين وأنت بالعشرينات من عمرك .
                        - مع هذا فأنت بقمة الأنوثة والرقة والجاذبية. أنا مغرمٌ بك..
                        _ أحقاً؟؟
                        تنحنح قليلاً ثمَ قال بصوت يكاد يكون مختنقا:" نعم جداً.. ها نحن أخيراً لوحدنا ..عصفوران يريدان التحليق بعالم الحب .
                        - عزيزي..عزيزي.. ألستَ خائفاً أن تعلم شقيقتي عنا..
                        - شقيقتك ؟؟ وما دخلها بنا، سيدتي المذهلة؟؟
                        - آه منك أيها الرائع ..كيفَ لم أنتبه لك سابقاً ..
                        - من الأن وصاعداً سترينني بعيون كل الرجال .. سأجعل اسمي يتردد على لسانك ملايين المرات ..
                        ُفتحَ الباب فجأة.. كانت سيّدة البيت تقف هناك وعيونها تقدح شرراً.. : عزيزي الغالي، يا للروعة أنت بكامل أناقتك .
                        نقّلت عيونها بينه وبين شقيقتها، ثمَ أطلقت النار من البندقية التي كانت تحملها بسرعة البرق قبل أن تعطي أيّامنهما فرصة للرد عليها.
                        -
                        يا الهي!
                        -
                        صه..قلتُ لك أنني ماهرة في إطلاق الرصاص.. لقد علمني زوجي..في هذا أشهد أنهُ كان بارعاً..
                        - قلتُ لك أن هذا الحقير كانَ ينوي الاستيلاء على ثروتك .
                        - للأسف الشديد عرفت متأخرة..لقد صدقته حين أخبرني انه يود الزواج بي لأنه أحبني وإنني نصفه الآخر الذي وجدهُ أخيراً..
                        -أخبرتك أنني سأكشفه أمامك، فأنت بالبداية رفضت تصديقي..
                        - لقد رسم لي الحياة بريشة وردية ..
                        - هيا بنا لندفنه بسرعة في حوض الزهور الضخم..
                        نمت الزهور في الحوض .. استُبدلت الطاولة الكبيرة بأخرى صغيرة .. كانت الزوجة المهجورة تتنهد كلما روت الزهور ..
                        -هيا للداخل
                        أختي الحبيبة ، فالطقس بارد جدّا ..
                        - اصبري قليلاً، سأقطف جزءا من العنب وألقي الحصرم بعيداً.. لن أتاخر ..
                        توجّهت نحوَ الحوض مرة أخرى بتؤدة ..قطفت وردة.. شمّت عبيرها.. ضمّت الشال لجسدها أكثر وأكثر.. مسحتياقوتتين غافلتاها لتهربا من مقلتيها.. لمست الحوض برقة متناهية ،قرّبت شفتيها من الحوض و همست: لا تقلق علينا عزيزي ..غداً سيحضر السائس الجديد.. و أنت يا زوجي الحبيب افرح، وجدت لك أنيسا .. ستبقيان معي للأبد..بعد الآن لن تأخذكما منّي أية أنثى..


                        أسماء لجنة ترشيح النصوص
                        عائده محمد نادر/ تم
                        صبيحة شبر/ تم
                        قصي الشافعي / تم
                        أمينة اغتامي/ تم



                        كم روضت لوعدها الربما
                        كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                        كم أحلت المساء لكحلها
                        و أقمت بشامتها للبين مأتما
                        كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                        و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                        https://www.facebook.com/mrmfq

                        تعليق

                        • أبوقصي الشافعي
                          رئيس ملتقى الخاطرة
                          • 13-06-2011
                          • 34905

                          #27
                          (27)

                          حنان / عبير هلال
                          كانت حنان تذرع حجرتها ذهاباً وإياباً بينما كانَ والدها يغطُ في نوم عميق أو هذا ما تراءى لها.
                          فجأة شعرت أنَ قواها خارت، فارتمت على سريرها تستمطر سلوى تغرد في حمم أحزانها ..
                          عيناها الجميلتان جحظتا وهما تتأملان شيئا ما كانَ يداعب سقفَ حجرتها..
                          لم تعد تعلم هل هي في حلم أم يقظة؛ فقد رأت سلةً كبيرةً تهبط عليها من السقف المثقوب.. سألت نفسها بتعجب: متى؟ ومن ثقبهُ ؟؟
                          وما الذي تحويه السلة التي تهبط رويداً ..رويداً، فوقَ رأسي مباشرة؟؟إن لم أتحرك فربما ستهشمهُ، وإن أوقفتها فلن أعلم ما بداخلها..
                          قررت أن تبقى مكانها وتغامر.
                          فجأة سمعت صوتَ ارتطام شيء ما بداخل عقلها.. أحست أفكارها بالرعشة تلوَ الرعشة.. اللعنة عليها!.. سأرد لها الصاع صاعين؛ صفعتني بعدَ أن اتهمتني بأني أود خطف خطيبها منها، لمجرد أنني كنتُ أناقشهُ بخصوص محاضرة في حجرة مكتبه بالجامعة، وبعد أن أخبرها أنني... اعتذرت لي..
                          قد ظنت الغبية أنني سامحتها.. ستدفع الثمن غالياً.. ما ذنبي إن كانَ خطيبها ينظر إليَ كالأبله، ولا يشيح بصرهُ عني وهو يلقي محاضراته..
                          نهضت من سريرها بعصبية وتوجهت نحوَ زهريتها الموجودة على منضدتها.. تأملتها مطولاً، ثم انتزعت منها الورود وطرحتها أرضاً، ثمَ عادت للإستلقاء على سريرها كالأميرة النائمة بعدَ أن انفرجت عن شفتيها ابتسامة قهر وغيظ لو وزع على الكون لأحرقهُ.
                          "هدايا كثيرة تلمع داخل السلة.. لم يبقَ إلا القليل، وسأمسكها بيدي بكل قوتي.. هل هي هدنة من نوع ما! أم رفيف النور يعانق نرجسية فكري اللحظية ليطببها؟!
                          بينَ كومة قصصه يجلس كطير جريح يغترفَ منها ما يشاء ، يمسح عرق أوهامه الحبلى بخطيئة ربما لبسها طيف الأنانية.. تخيلها كزهرة نيسان تصعد من فنجان قهوته وهيَ تمسح عن أطرافه آثار أحمر شفاهها .."سأثبت لها وللجميع أنني الأفضل فربما ستتنفسني عشقاً في مروجي الدافئة.."
                          ترمقهُ من سريرها وتتأمل آثار الصفعات التي أهدرتها هباءً على وجنتيه بعدَ أن قبلها عنوة.. نظرت إليه بتعال ثمَ قالت: "أنتَ الأفضل وماذا بعد؟"
                          - لا تصرخي..!! سيسمعك والدك.
                          -" لن أسامحها أبداً.." قالتها وهي تمسح ياقوتة أبت إلا أن تقف لبرهة على شفتها العلوية تستنشق عبيرها.
                          "- إذن اصفعيها كما صفعتك ثمَ بعدها.. انسي الموضوع.. أريد أن أصبح أفضل كاتب على الإطلاق!!.. لا أريدك أن تجلسي بقربي حتى لا تقطعي حبلَ أفكاري، اجلسي مقابلي.."
                          كان يراقب شفاهها القرمزية ويحسد تلك الدمعة التي لا زالت تتأرجح بدلال على شفتها ..
                          تمددتْ مرةً أخرى على السرير وفتحت ذراعيها لتستقبل الهدايا الجمة..
                          أخذهُ خيالهُ للبعيد.. هناكَ في الحقل الأخضر راقصة هيفاء تتمايل كالزان.. بينما خصلات شعرها الناعمة كالحريرتبعثرها الرياح.. يحاول الراقص أن يقتربَ منها ليرفعها للأعلى، لكنها تبتعدُ عنهُ تدريجياً.. ينظر إليها فتنعكس صورتهُ بعينيها وكأنهما القطب المتجمد..
                          يعاقر خمرَ إلهامهِ من خلالهما، ليرى راقصتهُ الفريدة قد عادت تذرع الحجرة وهيَ تتمتم بجمل غير مترابطة :"تباً ..السقف لم يعد مثقوباً.. !! هل أسامحها ؟؟..
                          متى سيسدل الستار وينتهي العرض الأخير؟؟" الرقصة الأولى ستكون معي على ضوء القمر بعدَ أن أصدر مجموعتي القصصية الأولى..سأجعلها تتزلج داخل دمائي فربما تصب عواطفها المتدفقة كالحمم في صميم قلبي.. آآآآآآآه، كم أتمنى أن أغزل لها حروفاً مرجانية ."
                          لا يزال يذكر أطواق الياسمين التي كانت تضعها على شعرها، ومشيتها الملوكية وكأنها عرفت أنها من أجمل الإناث على الاطلاق.. لمَ وافقَ والدها على زواجها به بالرغم من أنها كانت تحب رجلاً ثرياً يفوقهُ وسامةً.. إنهُ يراهُ الآن من نافذة ذاكرته، يطل على أبراج قلبها!! كم يود أن يثبت لها أنهُ الأفضل.. فربما تنسى الآخر وتراهُ لتنفتح لهُ أحد نوافذ الأمل.
                          كسرَ القلم الذي كانَ يمسكهُ بيده وكأنهُ يود أن يدك عنقَ أحدهم.. تأملها وهيَ لا زالت تنفث دخان الغضب، وهمسَ لنفسه: الحب عجيب.. كالنسمة يهب على القلب ليداعبه بطراوة.. يا ترى ما الذي أعجبني فيها!!
                          لا يعلم ما الذي دهاهُ ليغادرَ حجرتهما التي أُجبر على العيش معها فيها بناء على رغبة والدها الملحة!. تسلل بخفة على أطراف أصابعه لحجرة والدها، أخذَ مفتاح درجه الذي يرفض إعطاءهُ لأحد، مر من أمام حجرة نومه مرة أخرى، نظرَ إليها مطولاً.. كانت تجلس على حافة النافذة تتأمل اللاشيء، وكأنها ستجمع كل العواصف بقبضة يدها، لتلقيها بكل قواها على شبح ما يتربص لها في الزوايا.
                          لم تلتفت إليه.. فتحَ درج مكتب والدها.. أمسك الرسالة بيد مرتجفة يود قراءتها..
                          سمعَ خلفهُ صوت إغلاق باب، استدار ليعاتبها لأنها أجفلتهُ.. وإذا به وجهاً لوجه مع والدها..
                          كانَ ينظر إليه، ولكن ليسَ بغضب كما توقع، ولكن بحزن وتوتر..
                          - "توقعت أنك ستفتح الدرج بأي يوم.." قالها عمهُ وهوَ يقفُ مرتكزاً على الباب .." اعلم شيئاً واحداً.. هيَ تحبك، وأصرت على الزواج بك رغمَ معارضتي الشديدة، راهنتها أنكَ ستطلقها خلالَ عام فقالت:" لن يتركني.. مهما فعلت..".
                          قلت لها يومها:"لكنهُ يعتقد أنك تحبين سامر..!! " فردت: أجل، لأنكَ أوهمتهُ بذلك."
                          -"إن طلقك بعدَ عام فستفعلين كل ما آمرك به، وإن لم يفعل فخذي المفتاح من حجرتي، تنتظرك رسالة هامة في مكتبي."
                          -"رسالة؟؟ "
                          -"أجل..رسالة .."
                          نظرَ لعمه بامتعاض، ثمَ ضربَ المكتب بعنف بقبضة يده وكأنهُ يود أن يزلزل كل أنحاء البيت بمن فيه..
                          سألهُ عمهُ وهوَ يفتح لهُ باب القفص :"ألن تقرأ الرسالة؟.. فهيَ تهمك كما تهمها حيث قاربَ العام على الإنتهاء.."
                          ناولهُ الرسالة مرة أخرى بعد أن سقطت منهُ..
                          غادرَ البيت مسرعاً لا يلوي على شيء وهوَ يضغط على الرسالة بأصابعه وكانهُ يود أن يعتصر أنفاسها..
                          لم ينتبه أن زوجتهُ كانت تراقبهُ بكدر.."هل قررَ أخيراً أنني لا أستحقُ العناء وإنني قشرة جوفاء..؟! " تفرست بالمرآة وكأنها تكلم الماضي القريب الذي لا زال يثير سخطها وحنقها.. " هل أسامحها يا ترى؟ لو كنتُ مكانها لغلفت قلبي الغيرة، وربما لفعلت مثلها..
                          اللعنة على هذا التحدي السخيف يا والدي..اللعنة عليه.. لقد خسرتُ زوجي؛ الرجل الوحيد الذي أحببت وفضلت على المال." انهمرت دموعها مدراراً.. حاولت مسحها بعصبية بمنديلها الذي طرزت عليه أول حرف من اسميهما.
                          وقفَ طويلاً أمامَ البحيرة، ثم صرخَ بأعلى صوته:" ذلكَ الرجل دمر حياتنا؛ لقد أوهمني ملايين المرات أنها أجبرت على الزواج بي.. أكرهه لأنهُ وضعَ حاجزاً بيني وبينها.. أكرهه..
                          طيلة هذا العام وأنا أظنها تود التخلص مني والعودة لوسام."
                          سمعَ رنينَ جواله وصوتُ بكاء مرير:"أرجوك، عد لي.. سأذبل وأموت بدونك..أحبك..أحبك .."أغلقَ الجوال وهوَ يرتجف وفتحَ الرسالة ليقرأها كالمخدر..
                          ابنتي الحبيبة! أعلم أنك تظنين أنني رجلٌ بلا قلب، لكنك ستتفاجئين حينَ أقول لك أنني تحدثت مع سامر الذي كان يلح على الزواج بك، وحينَ أخبرتهُ أنك مريضة، أخبرني أنهُ لم يعد يريدك. بينما حين كررت نفس الكلام لزوجك، قال لي إنه يعلم أنك مغرورة لدرجة لا تطاق، ولكنهُ سيجعلك تحبينه كما يحبك، وأنهُ سيفعل المستحيل لأجلك..
                          أجبرتك على مضايقته؛ لأرى مدى حبهُ لك وهل سيحتملك، حتى أتأكد أنني حينَ أموت سأتركك بينَ أيد أمينة..
                          أنا مريضٌ جداً وقد أخبرني الطبيب أنني سأموت عما قريب؛ فقد استفحل بجسدي الهزيل المرض..
                          زوجك رجلٌ رائعٌ.. قد أحسنت الإختيار..

                          طارت أوراق روايته من النافذة المفتوحة ليبتلعها الفضاء.. بينما كانت أطواق الياسمين تتهادى على سطح البحيرة والقوارب الشراعية تستعد بألق لبدء السباق المصيري.



                          أسماء لجنة ترشيح النصوص
                          عائده محمد نادر/ تم
                          صبيحة شبر/تم
                          قصي الشافعي / تم



                          كم روضت لوعدها الربما
                          كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                          كم أحلت المساء لكحلها
                          و أقمت بشامتها للبين مأتما
                          كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                          و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                          https://www.facebook.com/mrmfq

                          تعليق

                          • أبوقصي الشافعي
                            رئيس ملتقى الخاطرة
                            • 13-06-2011
                            • 34905

                            #28
                            (28)

                            انتحار / صبيحة شبر

                            مازال ذلك المنظر ماثلا في ذهني ، رغم محاولاتي العديدة لقلعه من ذاكرتي المجهدة ، كل الصور تغرس في عقلي ، ولا املك حيالها نسيانا ، أصغي الى حديثها المتكرر ، وأجهد مرات عديدة أن اقلع تلك النبتة الحنظلية ، التي تطارد سكينتي الداخلية باستمرار ، ماذا يفيدني التذكر ؟ مآسي كثيرة جلبت لحياتي أياما سودا ، مستمرة بظلالها المقيتة ، ضاغطة على أنفاسي ، سالبة مني حلاوة الأيام ، وطعما فاترا بالجميل المباغت الذي يهل علينا قليلا ، ثم يرحل ويذوب في عتمة أيامنا المظلمة وليالينا البائسة.
                            صعدت إلى غرفته الصغيرة كعادتي كل صباح ، كان الأحب إلي والأقرب إلى نفسي الموجعة ، التي أنهكتها المتاعب ، وتركتها خائرة القوى.
                            ورغم أن كلهم أعزاء ، الا أنني وجدت في كلماته القليلة ،التي كان يلقيها محاولا الدفاع عني ، ضد عمليات اعتداء مدروسة ، تقام لسلب الأمان من روحي المعذبة ، والقضاء على الطمأنينة المسلوبة.
                            حياتي بائسة ، لم أجد ما ترنو إليه الفتاة عادة ، من صدر حنون ، كانت كلماته القاسية ، تستقبلني في مقدم صباحي ، وتودعني إذا ما أظلمت الدنيا ،وودعت ضياء النهار ، وذهب كل مخلوق إلى حضن حبيبه ، يستدر منه الرأفة والحنان الذبيح ، ورغم أن الله قد منّ علي بصفات الحسان ، لا إنني كنت أختلف ،عن المحظوظات ببعض النعيم ، حياتي سارت خائبة ، مترعة بالمرارة وحافلة بالحرمان.
                            لماذا تكون الحياة نحوي بهذا البخل الأصم ؟ ولماذا أجد غيري ، يغدق عليهم الأحباب ، كؤوسا من بهجة وحبور ؟ ولماذا تمر أيامي كالحة الظلمة ، عسيرة على الاحتمال؟.
                            ولدي ذاك كان الحبيب ، والأخ والرفيق ، بعد إن ادلهمت أيامي ، وزاد بؤسها ، وثقل علي ، ان ألفي حياتي علقما لا يستساغ
                            صعدت درجات السلم الطويلة ، وأنا أحلم بان أمتع عيني برؤية عزيز أثير ، ولكن حلمي تبدد ضائعا ، كغيره من الأحلام التي ما فتئت تسكن قلبي المعنى ، منتظرة فرصتها لملامسة النور.
                            كثرت الخصومات بيننا في الآونة الأخيرة ، ورغم ان أيامي لم تذق طعم السرور ، ولا جربت التوافق ، ولا لمست حلاوة اللمسات ، التي تنعش الفؤاد ، وترعش القلب ، وتجعل البدن مرتويا ، والعقل هادئا ونسمات من الحبور ، تهب على المخلوق ، بل كانت الرتابة تخنق الأنفاس ، وارتفاع الصوت ، يهدد بالويل والثبور ، يئد كل ما ما حلمت به من جمال
                            ارتفع زعيقه كالعادة :
                            - يا لهذا الجمال الآسر ، إنها جارتنا حسناء ، رائحتها تنعش النفس وتسبي الكيان . ، ولا تبعث منها روائح البصل والثوم
                            لم اجب أنا ، إنها عادة له ، يجري خلف الحسناوات ، وأنا اكدح ،للمحافظة على سلامة المنزل ، الذي اخترقته السهام ، وكأنه أحب أن يزيد ناري اشتعالا ، أضاف:
                            - الا تشعرين ، إنها أنثى ، هل تدركين ، معنى أن تكون المخلوقة أنثى وبهذا الجمال ؟
                            كيف أجيب ؟ وقد جعل حياتي جحيما ، لا يطاق ، وسرق البسمة من أيامي ، المترعة بالخنوع ، و أرغمني على رؤية النجوم ، في سماء الظهيرة الملتهبة ؟
                            - أنت : يا من يمتزج الثوم والبصل ، برائحتها النتنة ، الا تفهمين ؟
                            لم اقو على الجواب ، ولقد فقدت من كثرة لسعاته ،ما حملته في قلبي من عطف في سالف الأيام ، عزت علي نفسي ، وصعبت حالتي وأنا أناضل من اجل لاشيء ، وأقدم التضحيات عبثا.
                            أسمع صوت ولدي:
                            - رحمة بأمي ، إنها تشقى طول النهار ، وتقدم لنا المال والطعام ، وكل ما نريد.
                            - اخرس ، يا ولد ، لقد أفسدتك أمك بتدليلها.
                            فرحت في البداية من دفاع ابني ، ولكن مالبثت الغمة أن استوطنت قلبي ، حين فكرت بالأمر جليا ، كان أبوه معروفا بلؤم الانتقام.
                            ارتقى ولدي درجات السلم ، فشعرت ببعض الاطمئنان الذي زال سريعا:
                            - ابنك هذا بحاجة إلى تربية.
                            قضيت ليلة ليلاء مسهدة ، تمضّني الأفكار ، وتتلاعب بفؤادي المنغصات ، أحاول أن أهديء غليان نفسي ، ثم تغلبني المخاوف ، وأمضي الى تهدئتها من جديد :
                            - انه ولده أيضا
                            استيقظ في صباح كل يوم ، راغبة في الاستماع ، إلى كلمات ولد بار عزيز ، ولكن ذلك اليوم لم أجده في سريره ، ، بحثت في كل مكان اعتاد ، اذ يذهب اليه ، ثم عدت الى غرفته مجددا ، كان معلقا بحبل على الجدار ، وقد أبعد الكرسي الصغير.


                            أسماء لجنة ترشيح النصوص
                            عائده محمد نادر/ تم

                            قصي الشافعي / تم
                            أمينة اغتامي/تم



                            كم روضت لوعدها الربما
                            كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                            كم أحلت المساء لكحلها
                            و أقمت بشامتها للبين مأتما
                            كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                            و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                            https://www.facebook.com/mrmfq

                            تعليق

                            • أبوقصي الشافعي
                              رئيس ملتقى الخاطرة
                              • 13-06-2011
                              • 34905

                              #29
                              (29)

                              الرهان / صبيحة شبر
                              كتمت خوفي وترددي ، وأبقيت هلعي الشديد في داخلي ، وأنا أرقب علامات خوفها ، وارتياعها وهي ترتسم على ذلك الوجه الوديع ، كانت صديقتي ،، وكلهم يقولون أنها رائعة ،، وأنا أغار منها كثيرا ، يمضني شعور كبير أنها الأقوى والأفضل ، حين يعقدون تلك المقارنات التي طالما يقومون بها ، دون أن يبالوا ماذا يكون موقفي حيالها ، وأنا اسمعهم يرددون باقتناع أنها الأجمل والأقوى والأشد ذكاء ، والأكثر هدوءا ، والأقرب مدعاة للثقة والإطمئنان ، وتلك الصيغ الكثيرة للمفاضلة بيننا نحن الصديقتين .
                              تحاول أن تخفي خوفها الشديد ،، وهي تجرّني على الأرض جرا ، بهدوء وتتصارع في داخل نفسها قوتان كبيرتان ، دون أن تجد ميلا إلى تفضيل واحدة على الأخرى ، وأنا أراقب ذلك الصراع ،، الذي تحاول صديقتي أن تخفيه ، ولكني ألاحظه على محياها الهادئ بوضوح ...
                              تتمنى أن ابكي ، أن يتعالى صوتي، طالبة منها التوقف عند هذا الحد ، فأنني قد تألمت حقيقة لا جدال فيها ، حين ترى ألمي، تقرر التوقف عن سحب جسدي على الأرض ،، والإكتفاء بتلك اللحظات العنيفة ،، من النزال القائم بيننا والذي تنتظره بقية الصديقات بشوق..
                              لكن الارتياح المؤقت ،،الذي يبدو على ملامحها المعبّرة ، سرعان ما يتلاشى ،،حين تنطلق ضحكتي مجلجلة ، طاردة منها كل توقع بالانتصار
                              تواصل سحبي على الأرض ، تحاول أن تبدي عنفا غير موجود ،، في شخصيتها الرزينة الهادئة ، وأنا امنّي النفس إن تنتصر إرادتي أخيرا ،، وان أتمكن من قهرها ، والفوز عليها لتحكم الحاضرات المترقبات ،، إنني كنت الفائزة عليها وللمرة الأولى في الحياة ، ولا أظن انه ستكون هناك ،، محاولات أخرى للفوز.
                              تعود إلى سحبي على الأرض ، متمنية أن ينطلق لي صوت يدل على الألم ونفاذ الصبر ، ولكني ما أن أرى تلك الرغبة واضحة ،،على ملامح وجهها الأبي ، حتى تنطلق ضحكتي مجلجلة ،،منتصرة على آلام جسدي الكثيرة ، وعلى جراحه الآخذة بالازدياد..
                              كانت تعاملني بحميمية لم أعهدها من غيرها من الناس ، أبوها المنعم الكريم يحضر لها من كل شيء اثنين اثنين ، ويطلب منها أن تكون رفيقة بي ،، أنا اليتيمة المحرومة من حنان الأم وعطف الأب ، والذي يتولى الإحسان ألي أشخاص كرماء...
                              تحاول أن تخفي عنها ،، شعورا بالقلق والهزيمة ، هي المخلوقة الرقيقة ، التي لم تعتد على العنف ، كان كلامها خافتا ،، يكاد لا يسمع من رقته ، والناس ما فتئوا يقارنون بيني وبينها ، وأنها أفضل مني في جميع الصفات ، وأنني محرومة ولكني لم أعد بذلك الحرمان ،، لأنني تمتعت بفضلهم ، وإكرامها هي ، تعرض علي المشتريات ،، التي جلبها أبوها المنعم ،، وتقترح أن أختار أنا أولا ، لم أجدها ناقمة علي ،، أو مظهرة لي شعورا بالتفضل ، تعاود محاولة سحبي على الأرض ، ينهكني الألم الجسدي المتضاعف ، ولكن شعوري المتزايد أنني ، يمكن أن أحقق الانتصار عليها هذه المرة ، يخفف عني الألم المستعر ، الذي أخذت أجزاء جسدي تئن منه..
                              تسيل الدماء من جروح جسدي ،، وحين تلمحها يبدو على ملامحها الرقيقة معالم الندم ،، حين ألمح ذلك الإحساس تنطلق ضحكتي عالية ، لوأد كل شعور بالألم داخل نفسي..
                              خمسة فتيات يلعبن، مع بعضهن البعض كل مرة ، فكرن هذه المرة بلعبة جديدة مغايرة ، تحمل إلى نفوسهن المتعبة الملولة بعض التوهج الجميل..
                              تسحبني على الأرض محاولة ،، أن تطرد ذلك الشعور الذي يمضها ،أنها تنتهك كرامة إنسان ، لم توجه لي يوما كلمة جارحة ،، أو تسبب خدشا بالكرامة ، عاملتني وكأنني أخت لها وقد حرمت هي من الأخوات..
                              تتزايد جراح جسدي ، أحاول أن اصرخ ملتمسة منها ،،أن تكف عن سحبي على الأرض ، ولكن خشيتي من الانهزام أمامها ككل مرة ، يمنحني قوة على الإصرار ، بأنها لن تر هذا اليوم هزيمتي ، وأنني يمكن أن أحقق عليها بعض الانتصار
                              كل مرة يقارنون بيننا ، تكون هي الأجمل والأقوى والأفضل ،،/ وأنا المسكينة اليتيمة ، التي توفي أبواها ، ووجدت لها أبوين بديلين وأختا حنونة..
                              خمسة فتيات يلعبن كل يوم ، فكرن أن يأتين بلعبة جديدة ، من تستطيع أن تتغلب على الأخرى، وتجعلها تنتحب تكون المنتصرة...
                              كانت الأقوى دائما والأكثر مروءة والأجمل ، وكل مرة يقارنون بيننا تكون الأحسن ، وأنا اليتيمة الفقيرة التي منحها الله أبوين محبين عطوفين..
                              تكبر الفرحة بنفسي ، وتنطلق الضحكة مجلجلة، أنني قد حققت الانتصار عليها ،المرة الوحيدة في الحياة
                              تحاول أن تعود إلى سحبي من جديد على الأرض ، ولكنها تتوقف ثم تقول
                              - لا أستطيع الاستمرار ، كوني أنت الفائزة



                              أسماء لجنة ترشيح النصوص

                              عائده محمد نادر/ تم

                              قصي الشافعي/ تم

                              أمينة اغتامي/تم



                              كم روضت لوعدها الربما
                              كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                              كم أحلت المساء لكحلها
                              و أقمت بشامتها للبين مأتما
                              كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                              و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                              https://www.facebook.com/mrmfq

                              تعليق

                              • أبوقصي الشافعي
                                رئيس ملتقى الخاطرة
                                • 13-06-2011
                                • 34905

                                #30
                                ( 30)


                                مرآة الكاهن

                                صبري رسول






                                اقرَأْ فَأْلكَ عن حياتك التَّعيسة يا بني، كي تعرفَ ما يخبِّئه لك الزَّمان من مفاجآت، فحظُّك المرسوم في مرآة الكاهن سيظهر لك. أمي لم تنقطع عن ترديد طلبها هذا على مسامعي خلال سنواتٍ طوال. يقفُ المرءُ أمامَ مرآةِ الكاهن الجبلي يحبسُ أنفاسَه، يجمّد نظراته، فيقرأ حظه، يرى ما يتمناه، أو ما قد يحدثُ له في قادم الأيام، وقد لا تتحقّق الأمنية، لكنَّها تظهر شفافةً على سطح المرآة، ويقرأُ الكاهن تعويذاتِهِ ماسحاً يدَه على ظهر الباحثِ عن فأْلِه، ينفخ على وجهه، ثمّ يدسّ ما يمنحُهُ له المتمنيُّ في حزامِ معطفه.
                                الشَّاب الباحثُ عن عشقٍ ضائعٍ، لا يجد بداً من اللّجوءِ إلى كاهن الجبل، وكشفِ صفحتِهِ المجهولة في دنيا العشق، فبعدَ أنْ ينهشَهُ اليأسُ، ويفقدُ الأمل، يلجأ إليه، ليرى ما تبثّه المرآةُ على بريقِ سطحِهِ المصقول، تتعلّق أنظارُهُ بوجهِ الكاهن الغارقِ في عمق الماضي. وجهٌ لا أحدَ يملكُ العلومَ الكافيةَ لفكِّ الغموضِ المنقوشِ في ملامحِ هذا الوجهِ الخالي من تعبيرات الفرح والحزن، والألم، والحنان، واليأس، والأمل. الابتسامةُ الكسيحةُ الوحيدةُ على شفتَيه تغيّرُ ملامحَ الشَّاب، مع بقاء غموض وجه الكاهن على ما هي عليه، فتخضرُّ خفقاتُ ضلوعِهِ، يمعّن النّظر في انعكاسِ الصُّورة فيها، فيرى فتاتَهُ ميّاسةً في بستانٍ خرافيٍّ، تلوّحُ له بإشارةٍ تنمُّ عن شوقِها له ورغبتِها في العيش معه. يدسُّ على عجلٍ ورقةً نقديّةً في عبِّ العجوز، وينصرفُ مسرعاً على جناحِ الأمل.
                                الأمّ المكلومة بعد أنْ يبحَّ صوتُهَا المختنقُ بكاءً على طول غيابِ ابنها، لم تجد ما يتعلّق به قلبُها سوى تعويذات الكاهن، ومرآته الكاشفة، تجمعُ بضعة فرنكاتٍ من مبيعاتِ منتوجها من البيضِ واللّبن، وتذهبُ خفيةً من زوجها السَّاخر من الكاهنِ المشعوذ وقراءته الطَّالع للمراهقينَ والنِّساء وفاقدي الأمل من تحقيق أمنياتهم. تُظْهِرُ المرآةُ بوضوحٍ أكثر من انبثاقِ النُّورِ الأصفر الفاتح بعد ساعات الفجر، قامة ابنها بملامحه لحظةِ وداعه، تُظهِره قادماً من عمق المسافات المجهولة، يحمل فرحاً لأمه؛ فتضعُ الأمّ فرنكاتِها في يد الكاهن، وتخرجُ مسرعةً إلى بيتها.
                                المزارعُون ومالكو الأراضي لم يجدوا سبيلاً لتخفيف ألم خوفهم من انحباس المطر، وبخل السَّماء، بعد أن كلَّت عيونُهم في تحديقها ومراقبتها لسحبٍ تجرُّ ذيلها النَّاشف مع رياحٍ مغبرَّة، غير المرآة الكاشفة لحالة مزارعهم، وحين تضعُها الكاهنُ أمامهم، يكتشفونَ حقولاً وبساتين ومزارعَ تضمخُ بالاخضرار، موحيةً بموسمٍ وفيرٍ يخلّصهم من خوفَ الشّح وضيق الحال.
                                أصبحَ الكاهن ومرآته القارئة في خاصرة الجبل مزاراً لكلّ مَنْ فقدّ أمله في تحقيق أمنياته، يرونها تتحقَّقُ في عمق المرآة، واضحةً شفافةً كقوة الضَّوء. هذا جعل أمّي تدوّخني صباح مساء طالبةً مني زيارة المشعوذ وقراءة الطالع في مرآته، ونزولاً عند رغبتها، وافقتُ على الأمر، مشترطاً أنْ نصطحبَ معاً، ليقرأَ كلٌّ منّا فألَه.
                                بدأتُ أولاً، نظرتُ إلى وجه الرجل الطَّاعن في السّن، لم ألمح أي تغييرٍ في سحنته الجامدة، وهو يقرّبُ إليّ سطحَها العميق، ارتجفَ قلبي، وتعلَّق شيءٌ غير محسوس في حلقي، منعني من ابتلاع الرّيق، شجَّعتني أمّي: انظرْ بقوّة ما يظهر لك، واعرف مصيرك يابني! وعندما استوى سطح المرآة أمام نظري، رأيتُ بحراً هائجاً، أمواجُهُ زاحفةٌ ترتفع كالجبال، في جانبٍ آخر كان ثمّة ما يشبه فوّهة جحيمٍ، تلفظُ إعصاراً من النَّار، تلتهمُ كلّ شيء، أما عاصفة الغبار تلتفُّ حول الأمواج والنيران تبتلعهما، وتزدادُ سرعة رياحِها لتغطّي السمّاء وتحجبَ كل شيء، وتحجب معها أربعةً من مكوّنات الكون.
                                تراجعتُ خائفاً أمامَ دهشة أميّ، لم أتمكّن من نقلِ ما رأيتُه إليها، اكتفيتُ بإشارة صوتيّة إليها لقراءة طالعها. وقفتْ أميّ صامتةً، لا تنظرُ إلى جهةٍ محددةٍ، والكاهن يقرّبُ سطحها إليها، استرقْتُ النَّظر إلى صورٍ وأشياء لم تنكشفْ لي بوضوح، لكنّها بدتْ لأمي سوداء قاتمة، أكثر من كثافة الظلام، لأنّها لا تبصرُ ظاهر الحياة، فاختنقَتِ الحياةُ في حلقي، كسواد العتمة في حياة أمي عند فقدِها البصر.




                                أسماء لجنة ترشيح النصوص
                                عائده محمد نادر/ تم
                                قصي الشافعي / تم
                                صبيحة شبر/ تم
                                أمينة اغتامي/ تم



                                كم روضت لوعدها الربما
                                كلما شروقٌ بخدها ارتمى
                                كم أحلت المساء لكحلها
                                و أقمت بشامتها للبين مأتما
                                كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
                                و تقاسمنا سوياً ذات العمى



                                https://www.facebook.com/mrmfq

                                تعليق

                                يعمل...
                                X