فتى من العامرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سعيد ماروك
    أديب وكاتب
    • 12-09-2012
    • 52

    فتى من العامرية

    1-


    حملت دفترين دون تمييز و عند عتبة البيت صحت:
    -أمي أنا ذاهب عند سمير.
    جاءت مسرعة ماسحة يديها بخصرها. ماذا كانت تعمل ؟ لست ادري ، هي دائما لها ما تعمله.
    - ستذاكر عنده في البيت؟
    - ماذا ترين بيدي ، أليس دفترين؟
    - حسنا.
    أرادت أن تقول شيئا، طبعا تافها ، و هي ترتب لي كم القميص ، مع أنه لم يكن معوجا، و في الأخير أعادت قولها.
    -حسنا.
    خرجت من البيت قاصدا صديقي سمير، انه يكبرني بسنة واحدة و قد فشل السنة الفارطة في اجتياز امتحان شهادة التعليم المتوسط ، "البيام"، دائما يريدني أن أزوره في البيت لنراجع الدروس، أنا اكره المراجعة، هو كذلك يكرهها لكنه مجبر على ذلك، لست ادري أن كان يفعل ذلك تمويها أم انه فعلا يريد النجاح، فسمير محدود الذكاء حتى لا أقول غبي أو كسول.
    حين وصولي لبيتهم وجدته خارجا يتكلم مع احدهم ، رآني ، ترك محدثه و قصدني مبتسما.
    - هيا ندخل ، لقد أوشكت على إنهاء حفظ التاريخ.
    - ما بك ملهوف هكذا؟ ما رأيك أن نقوم بجولة إلى السي عثمان؟
    و أخرجت أربع سجائر من نوع ريم.
    صرخ " خبئها يا أحمق ، أتريد أن يذبحني أبي ، انه هنا في البيت، أجننت؟
    - ما بك هكذا ترجف؟لم أكن أظنك خوافا لهذه الدرجة.
    - من قال إني خائف؟
    - و أنى لأبيك أن يرى ما بجيبي؟ هيا بنا ، فرأسي ثقيلة علي و لا يداويني إلا فنجان قهوة شديدة الضغط عند عمك عثمان.
    - كم سيجارة عندك؟
    - أربع و عندي عشرون دينار للقهوة، هيا أتركك من تاريخ الخُرطي1 ،و جغرافيا الـ...".
    طبعا النقاط المتتالية بدل الكلام البذيء، أنا استعملها حتى لا أخجل إذا ما قرأها أبي أو أمي.
    غمزني سمير و قال "انتظر دقيقة، فأنا كذلك بدأ "الزبل" يطلع لرأسي من الحفظ، انتظرني أقنبلهم بكذبة"
    دخل البيت و في لحظة نط قربي كالكلب المتحرر من الربط، وصاح:
    - واوووو!! السي عثمان.... "بْراس مزيرة2 " " واحد ريم3" "نعل بوها قراية".
    لم اسأله ماذا قال لوالديه، كيف كانت كذبته ، فقط سرنا نحو مقهى السي عثمان التي لا يقصدها أبوه ولا أبي و لا أحد من أخوالي.عند ظهور المقهى و من بعيد لاحظت وجود المختار النادل، انا اكره جدّه، و سمير كذلك.
    - ماذا نفعل؟
    - لا تعره اهتماما ، ندخل و مولانا ربي ،و إذا أزعجنا نـــ.....".
    لم نكد نجلس حتى تسمر المختار أمامنا.
    - هيا!!! هيا طيروا بعيدا.
    قلت: ما بك؟ هل نبدو لك شحاذين ، نحن لم نطلب منك شيئا ، ثم انك نادل هنا و لست صاحب المقهى.
    - هيا أغلق فمك، و عد إلى بيتكم و إلا أخبرت أباك ، عن السجائر و و و ..هه؟
    ارتبكت نوعا ما مما قاله ابن اللقيطة المختار و لكنني تمالكت نفسي وهممت بالكلام غير أن سمير سبقني.
    - اسمع يا أنت !نحن نسدد بأموالنا، و لا دخل لك أبدا بما نفعله.
    - أممممم!!! آنت كذلك تعلمت الكلام ، أيها " البز"4، هيا ، هيا قوما واذهبا بعيدا .
    و قام بشد سمير من رقبته، غير أن سمير انتفض صارخا في وجهه: "أنزع يدك ايها الكلب، ينعل بوك"
    قام رجلان ممن كانوا جالسين، و قد أحسا أن الجو سيزداد سوءً و أمسكا المختار من يده.
    - أعطهما ما يريدان يا المختار، إذا لم يربهما والداهما فهل ستقوم آنت بذلك؟

    هممت بالرد على الرجل المتدخل كونه نعتنا بعديمي التربية ، غير أنني أحجمت خوفا من أن ينقلب في صف المختار و لا نشرب القهوة "بْراس"و لا ندخن الريم.
    قال المختار:
    - أقسم بالله على أن لا تشربا القهوة من يدي، و أقسم بالله أن أخبر والديكما.
    تمتم سمير : اليوم فقط علمت لماذا بقيت فرنسا قرنا و زمارة5 هنا.

    صرخ فيه المختار:" ماذا قلت يا ولد ....؟ ماذا قلت ؟؟؟
    اعترض الرجلان طريق المختار و قاما بتهدئته قائلين:" إلعن الشيطان يا المختار و صل على النبي".

    لا زلت لم أفهم لماذا يحشرون الشيطان دائما و يلعنونه، مع أن سمير هو الذي أغاظ المختار و ليس الشيطان. بعد برهة أتانا أحد المشتغلين بالداخل بفنجان قهوة ساخن.
    قال سمير : أضف لها دمعة حليب.
    صديقي سمير يحب استعمال كلمة دمعة،بدل قليل من الحليب ، و يحب كذلك أن يحمل السيجارة بين إصبعيه ثم يضرب عقبها ضربات خفيفة على الطاولة، وددت سؤاله عن ذلك غير أنني تراجعت.
    شربنا القهوة مناصفة والمختار اللقيط قبالتنا يكاد ينفجر غيظا كلما مطط سمير شفتيه نافثا الدخان عاليا إمعانا في زيادة غيظه و حنقته.
    قال سمير
    - أنا خائف من امتحان الرياضيات.
    - طز.


    ــــــــــــــــــــــــــــــ
    1 الخُرطي : كل حديث تافه لا قيمة له.
    2 بْراس مزيرة: قهوة مضغوطة ، كابوتشينو.
    3 واحد ريم: سيجارة واحدة من نوع "ريم".
    4 البز: هو الطفل الصغير ما دون العاشرة.
    5 قرنا وزمارة: دلالة على القدم.


    -2-

    والله إني خائف من الرياضيات يا إبراهيم، انتظر منك المساعدة اليوم.
    - اصرف نظر عن ذلك يا سمير، لن أعود معك إلى البيت، عندي أشغال.
    أشغال !!! لم يسألني سمير عن طبيعة هذه الأشغال، أظنه موقن أنني أكذب، أنا فعلا كذلك.
    أكملنا شرب فنجان القهوة الوحيد و المختار بن الزانية لما يزل يستشيط غضبا ، أظنه هو "البز" ما دام منشغلا بنا نحن "البز" على حد زعمه.
    قام سمير و قال: " هيا لنعد"
    - اذهب أنت، عندي أمور علي معالجتها.
    - كفاك تلاعبا، هيا بنا ، لم يبق "للبيام" سوى يومان.
    - اذهب أنت سأبقى هنا ريثما أكمل السجائر.
    - وإذا سألتني عنك أمك.
    - "تروح تــ..." ، قل ذهب عند أبيه ، أو قل لها.. اسمع.. قل ذهب عند أبيه.
    خرج سمير و بقيت وحدي جالسا على تلك الطاولة الصدئة رغم أنها من الخشب ، لا أفكر في شيء محدد، أشعلت سيجارة و ارتشفت آخر قطرات قهوة كانت مترسبة في قاع الفنجان الأجرب...فجأة خطرت ببالي فكرة الذهاب عند أبي...وقفت...ثم عدت جالسا، ألغيت الفكرة، أنا دائما أختلق الأفكار ثم ألغيها...كرهت أن أذهب عند أبي و لا أجده بالبيت ، فتستقبلني جدتي ، و تخنقني بضمها و شمها و عناقها المبالغ فيه...كرهت سماع كلمتها السرمدية، حيث كلما تفوهتُ بكلمة إلا نطقت " كيتي أنا!!"، من حسن حظها أن الله لا يستجيب لها و لا يأخذ بكلامها و إلا لكانت اليوم من فرط كياتها مكوية من كل جهة و لأصبحت فحمة جالسة القرفصاء لا تكاد تحط أردافها على البلاط ...و إذا كنت عندها و أخطأتُ ... مثلا يعني... اتجهت نحو المطبخ مع أني لم أكن أنوي الذهاب اتجاهه،
    تبعتني و قالت: انك جائع يا ابراهيم؟ آآه ، كيتي انا!!!.
    و تعود مسرعة إلى خزانتها الخاصة ،دون سماع ردي، وتأتيني بحبتي خوخ، أو برتقال،أو موز، أو علبة بسكويت... دائما تجد عندها شيئا مخبأ.
    و إذا قلت لها: لا أنا لست جائعا، دست الفاكهة أو أي شيء آخر في جيبي ، غامزة لي عاضة شفتها السفلى و هازة رأسها، كأنها تقول: انا أعلم انك جائع و لكنك تكذب و تداري.
    اللعنة !!! كم أكره من يتظاهرون أنهم يعلمون بما أشعر وأحس، و إن أردتم معرفة الحقيقة ،فأنا أمقت جدتي حينما تضمني و تقول "كيتي انأ.." و تبكي أو تحاول أن تظهر لي أنها تبكي ، مع أنني لم أر في حياتي دمعة من دموعها... أظنها تكذب مثل النساء الأخريات.ما يقتلني هو عدم سماعها لردودي و لكم رغبت أن أشدها من رأسها و أصيح في أذنها " اسمعي لي و لا تقولي "كيتي أنا" ". ولكن شد العجائز من الرأس عمل عيب.

    خرجت من المقهى..تحسست جيبي، لم يبق لي سوى سيجارة واحدة...مشيت و في طريقي سألت احد المارة عن الوقت، رد علي:" الخامسة و ثلاث دقائق"، ابتسمت في داخلي، أضحكتني "الثلاث دقائق"، لم أدر لم أضافها...مشيت أقتل الوقت مثلما يقولون، إذ لم يبق للماتش سوى ساعة و سبعة و عشرون دقيقة... كنت أمشي و أقوم بعملية الطرح... الماتش سيبدأ على الساعة السادسة و النصف و الرجل قال لي أنها الآن الخامسة و ثلاث دقائق... الأمر واضح جلي إذن، لا يحتاج هذا إلى فطنة أو ذكاء ، فجأة لمحت رحاب عند بائع الايسكريم.

    رحاب بن دالي، زميلتي في القسم، درسنا مع بعض منذ الابتدائي ، كنت أجلس إلى جانبها بداية العام غير أني غيرت مكاني، ليس لأنها بشعة أو سلعة قديمة أو شيئا من هذا القبيل، بالعكس، رحاب فتاة جميلة ، أكيد أنها ليست "انجلينا جولي"،ولكنها جميلة و ذات قوام ساكسي و ابنة عائلة و كل شيء، كل ما في الأمر أن رائحة فمها كريهة، صدقوني هذا هو سبب تغييري لمكان جلوسي في القسم.أذكر أنني كنت كل يوم اشتري علبة لبان "اكسيون" ، و أتظاهر أنني افتح واحدة أمامها كي احفزها لطلب واحدة مني ، و هذا ما كانت تفعله ، رحاب لا تستحي من طلب حبة اكسيون، و كنت جد كريم في إعطائها ذلك.
    المصيبة ، أنها كانت إذا كلمتني تقترب مني و يوشك وجهها يلامس وجهي وبالتالي أحس نفسها يتغلغل في خيشومي ، بل ينتشر عبر بلعومي و يستقر في معدتي فأحس رغبة في القيء، و ما كان يزيدني جنونا هو أنني لم أكن اقدر على فعل شيء، اقصد لم يكن باستطاعتي قول شيء، فمن غير المعقول أن أقول لأحد أن رائحة فمه نتنة، فما بالكم ببنت قالوا لها أنها جميلة. أقصى ما كنت أستطيع فعله هو غلق انفي بحركة أتظاهر فيها أنني احكه، أو أدير وجهي نحو اليمين، غير أني كنت أتضايق حين أدير وجهي يمينا زيادة إلى أن الأستاذ بن الزانية كان يصرخ في وجهي " انتبه !! " ، و كم أكره أن يصرخ احدهم في وجهي لمجرد أني أدرت وجهي يمينا و كأن الدرس سيهرب أو كأنه يلقي علينا الدروس الربانية التي إذا ما أدرت وجهك يمينا و لم تنتبه فسيكون مصيرك جهنم.
    غيرت مكاني و تراجعت للوراء بجانب زميل اسمه عكاشة ، عكاشة سنوسي أو بن سنوسي...لا يهم.

    لمحتني رحاب من بعيد، أشارت إلي ملوحة بذراعها أن آتي...قصدتها فرحا فلربما دعتني لأكل الأيسكريم، وقفت ثلاثة أمتاربعيدا عنها... نعم ، نعم أنا أبالغ أحيانا، اقتربت منها، كانت تلعق مخروط ايسكريم ابيض وردي، قالت:
    - كيف الأحوال إبراهيم؟ هل من مذاكرة؟ شيء صدع رأسي في الرياضيات؟
    اللعنة على هذه الرياضيات... و اللعنة على أسئلة رحاب ، دئما ما تطرح علي ملايين الأسئلة دفعة واحدة... ظننتها دعتني للأكل و إذا بها تسألني عن الدراسة و الزبل.
    - صدقيني لم أبدأ بعد.
    - أنت لم تبدأ؟؟؟؟ أنت دائما تقول هذا ثم في الأخير تفاجئنا و تتحصل على أحسن معدل.


    -3-


    بينما كانت تتكلم كنت أتأمل شفتيها...كان لون الأيسكريم الوردي يتماهى في لون شفتها السفلى...و لم تنبعث أي رائحة كريهة ، إما أنها شُفيت أو أن الأيسكريم غطى الأمور.. أظنه الأيسكريم صدقوني... لست ادري لِم رغبت في شدها من شعرها و جرجرتها...قالت:
    - أود استفسارك في قسمة جذر تربيعي على آخر.
    - أمر تافه ، فقط اقسمي ما تحت الجذرين.
    - ماذا قلت؟
    لقد سمعتْ ما قلتُ و لكنها غبية حمقاء بليدة...ألا تحس أنني أرغب في أكل الأيسكريم؟ عليها اللعنة... الفتيات لا يدفعن ثمن مخروط أيسكريم أبدا ، ليس لأنك رجل و من الشهامة و المروءة أنك المعني بالدفع ، إطلاقا ، ليس هذا هو سبب إحجامهن عن الدفع ، إنما عشرة دنانير ثمن المخروط تبدو لهن ثروة و لا يجب تبديدها سدى من أجل صعلوك مثلك.
    كان الأيسكريم يذوب على إصبعها بينما عيناها مشدودتان نحوي رغبة في سماع توضيح ماقلت.
    - اقسمي ما تحت الجذرين فقط و لا تتذاكين زيادة عن اللزوم...اقسمي فقط.
    أرادت أن تستفسر أكثر غير أني أوقفتها قائلا:
    - اسمحيلي، عندي أشغال مهمة، أبي في انتظاري.
    - أوكي.
    تركتها تلعق المخروط كالبلهاء وانطلقت نحو السوق، في طريقي صادفتني علبة طماطم مصبرة فارغة... ومن غير المعقول أن أتركها مرمية على قارعة الطريق...تفوه !! الناس يرمون بقاياهم حيثما اتفق.
    بقدمي اليمنى، وبحركة أسرع من البرق دحرجتها على قدمي اليسرى و في لمحة من البصر كانت العلبة في مستوى حجري، و بكل ما أوتيت من قوة ركل ، ضربتها ضربة مقصية، طارت إثرها بعيدا ، وبينما هممت لأنحني حتى أشد قدمي علّني أخفف من شدة الألم ... سمعت أحدهم يصفق صائحا " وااااايْ !!!!"
    كان ذاك أحد أبناء بختي الجزار، طبعا لم أشد قدمي أمامه رغم أن الألم كان رهيبا، تحملت ذلك شادا أنفاسي وواصلت طريقي غير آبه أين وقعت علبة الطماطم.

    دخلت الحديقة المقابلة للمسجد، جلست على أحد الكراسي المغروسة هناك...الحديقة قاحلة ، لست أدري من ابن المعتوهة الذي بناها بهذا الشكل ، أقصد الأحمق الذي أنشأ هذه الحديقة كي يرتاح فيها الناس...فالناس لا يفعلون شيئا ، لا يتعبون لدرجة الحاجة إلى حديقة بها ثلاثة مسابح...ثم أين هو الماء؟ اين ذهب الماء يا ابناء الكلب؟ المسابح فارغة... تمنيت لو كان بها ماء ، قيل أن فرنسا هي التي تركتها لنا ، لم أعد أصدق أحدا ، فكلما سألت عن شيء قيل فرنسا هي التي بنته...طز.

    أخرجت السيجارة من جيبي و لكني عدلت عن إشعالها فقد كان بقربي كومة شيوخ ملتفين، منهم الجالسين ، متحلقين حول اثنين منهم يلعبان "الدامٌة "... خبأت السيجارة خشية أن يراني أحدهم فيخبر أبي...الشيوخ يأخذونها على الطائر و لكم يسعدون حين يخبرون أبي !!! مغفلون يظنون أنهم يفعلون الخير.
    قبعت في مكاني جالسا، أتأمل زجاجات الخمر المرمية أينما التفتُ ، زجاجات بالملايين و من كل الأنواع ...قبعت هناك على الكرسي البارد...لا أفعل شيئا ، أبلها ضالا.

    يتبع
  • سعيد ماروك
    أديب وكاتب
    • 12-09-2012
    • 52

    #2
    -4-

    أوشكت الساعة على السادسة والنصف،موعد ماتش الكرة بين فريق برشلونة و اتليتيكو...اتجهت صوب بيت عمتي، فأنالا أحب مشاهدة ذلك في المقهى.عند باب عمتي كان نور الدين،ابنها، رفقة ثلاثة من أصدقائه يتأهبون للدخول..نور الدين مثلي، مناصر لفريق برشلونة أما الأخرون فأظن أنهم من مناصري فريق " الريال".
    دخلت فقابلتني عمتي فتيحة...تشبه أبي كثيرا عمتي هذه، قالت:
    - كيف حالك إبراهيم؟
    - بخير.
    - و أبوك، كيف حاله؟
    - لابأس، تركته في المحل، إنه يبلغكم سلامه.

    أنا أكذب كثيرا...خاصة في مثل هذه المواقف، فأنا لم أقابل أبي منذ يومين و لم يكلفني أبدا بتبليغ سلامي لأحد.كل ما في الأمر أنني كلما سئلت "كيف حالك" أرد"بخير" أو"الحمد لله" حتى ولو كانت رجلي مكسورة أو ضرسي يؤلمني أو ضربني أحدهم في رأسي و أحدث لي ثقبا في جمجمتي،، دائما أرد نفس الرد حتى أتفادى كثرة الكلام الزائد و ما ينجر من أسئلة أخرى...أنا أكره الأسئلة الأخرى...أقصد، مثلا "لماذا لم تأخذك أمك للطبيب؟" أو " هل رأت أمك الجرح؟ هل قدمت أمك شكوى ضد من ضربك ؟ أو ببساطة " لماذا انت لست بخير ؟"
    لذلك أرد مباشرة بكلمة"بخير" حتى أغلق للسائل فمه، وهذا ما حدث لعمتي فتيحة.
    قالت: هل شربت القهوة؟
    - نعم، نعم شربت...سأدخل غرفة نورالدين، الماتش سيبدأ الآن.
    - حسنا.
    عمتي فتيحة أكبر من أبي ، أو هكذا يبدو لي ، لم تكن تزرنا إلا لماما ، أقصد لم تكن تزور بيت جدي كثيرا، لست أدري لم، ولكنها منذ عامين، منذ أن فارقت أمي أبي أصبحت كثيرة الترداد على البيت، ودائما ما تأتينا بقارورتي حليب بقر، إن أردتم الحقيقة أنا أكره حليب البقر، كلما شربته لصقت رائحة الروث في حلقي كأنني شربت عصير الزبل أو ما شابه، و لكنني لا أستطيع إخبار عمتي بذلك كي لا أحرجها ثم انها لا تأتي به لـ"بز" مثلي بل لجدي.

    تسمرت قبالة التلفزيون في انتظار بداية المقابلة...دخل نورالدين و أصدقاؤه بعدما سبقتهم جلبتهم و ضوضاؤهم..نطق أحدهم:
    - اليوم يوم الخسارة و ربي كبير.
    رد عليه دينو(هكذا ينادوا على نورالدين):
    - عندي إحساس أنكم اليوم سترون الفن الكتلاني ، سترون السحر، سيلقنكم إينيستا شطرنج الكرة،أنا لا أفهمكم يا "رياليون"..لو كنتم فعلا ذوي روح رياضية لناصرتم أحسن الفريقين لعبا، وليس الأتليتيكو لمجرد أنها تلعب ضد البارصا.
    - يا أخي...أتركك من الكلام الفارغ...بارصاك هذه يهود ، عنصريون ويكرهون العرب.
    - ماهذا الهراء؟؟؟ أتظنني في غزة أم أنني الآن في مسجد؟ انكم لا تريدون الإقرار بالحقيقة،"ميسي" أحسن لاعب في الكون أما"كريستينا" التي تتبجحون بها فأحسن لها أن تقوم بعملية تجميل حتى تنال اعجاب الجماهير..."ميسي" أحسن لاعب، والبارصا أحسن فريق و لا تهمني ديانتهم.

    - لا يا أخي..أهم شيءهو الديانة، فالريال يلعب ضمنها أربعة أو خمسة مسلمون، زيادة على "بن زيمة" الجزائري...ثم يا أخي أنا أناصر الجزائري أينما كان ... ألست جزائريا أنت؟
    - بن زيمة جزائري؟؟؟ هيا يا صاحبي ... بدأت تخلط الأمور،، كفى واتركنا نتفرج...سيبدأ الماتش الآن.
    أنا أحب نورالدين ابن عمتي كثيرا...رجل متوازن منطقي كما يقولون ، عيبه الوحيد هو مصادقته لمثل هذه الحثالة...قال "مسلمون!!!" ، "مسلمون الــ...."، رغبت في القرب من نور الدين و الهمس في أذنه " أطرد لهم جدهم خارج البيت و ليذهبوا يشاهدوا الماتش في المقهى أو في المقبرة.." لكني خشيت أن ينهرني قائلا: " و أنت ما دخل والديك" ، نور الدين دائما يرد بهذا الرد.

    بدأت المقابلة...دخلت عمتي حاملة صينية القهوة، فجأة امتلكتني رغبة في إشعال سيجارتي المخبأة، عدلت من جلستي مسترخيا على الوسادة المنتفخة ورائي... وبينما عمتني منحنية تضع الصينية على الطاولة ، انتفض نور الدين صائحا:
    - آآآآآآآآآآآآ الرب !!!.
    انقطعت الكهرباء...خرجت عمتي مسرعة فالإخوة الآخرون تذمروا بدورهم كل على بطريقته
    - اللعنة عليهم ..اللعنة!!!
    انطلق نورالدين يصرخ
    - هيا...بالله عليكم قولوا لي، لماذا قطعوا الكهرباء الآن ...هه؟ لماذا؟ لامطر و لا ريح
    ولا الزلزال الذي يدكدك رؤوسهم...لماذا إذن يقطعون الكهرباء أولاد الـ...؟
    دسست وجهي استحياء...يبدوأن نورالدين لم يملك نفسه من الغضب فنسي وجودي و راح يتلفظ "بكلام العيب!".
    قال ذاك الريالي: إصبر قليلا يا دينو، تُراه عطل بسيط و ستعود.
    - أهذه عيشة نحياها؟ نحن في الألفين و إثني عشرة ولا زلنا نعاني انقطاعات الكهرباء...مائتي مليون دولار...ولازلنا جامدين قبالة مشكلة الكهرباء...لعن الله رب هذه...
    وقام واقفا..خرج و تركنا..قبعنا صامتين و من خارج البيت تأتينا أصوات التذمر و الاحتجاج، لعنات و كفريات بالمقلوب و كلام يتقاطر بذاءة...أنا بدوري كنت ألعن و أكفر و أسب، لكن في سري...كهرباء الــ.....لم يحلو لها الإنقطاع إلا في هذه اللحظة...ألم يكفها اليوم بطوله؟ أين أذهب الآن؟ ماذا أفعل؟
    مددت يدي و صببت فنجان قهوة، وكي أبدو مهذبا ... و صاحب البيت كما يقولون ، سألت أحد المتواجدين
    - أصب لك فنجانا؟
    هز رأسه بالنفي، سألت الآخرين فلم يرغب أي منهم في ذلك ، فقط قبعوا متذمرين يتكلمون عن الكهرباء.
    قلت في سري: " إشربوا الـبول".
    مرت قرابة النصف ساعة، قرُب الشوط الأول على الانتهاء و لما تعد الكهرباء اللعينة...نور الدين داخل خارج إلى البيت...عمتي في المطبخ تحضر العشاء على ضوء هاتف نقال، و حفيدها الرضيع يثغو، لست أدري إن كان يبكي جوعا أم أنه " عملها" و يحتاج إلى تغيير حفاظاته.
    سمعت عمتي تصيح: محمد!! محمد!!
    كانت تنده ابنها ذا الست سنوات ليشتري لها شمعة ، غير أنه عنيد غليظ الرأس ، كان يأبى صائحا: "لا أذهب ، لا أذهب ، لا أذهب".
    اللعنة! الأطفال دئما يكررون الكلمة ثلاث مرات دلالة على الرفض. صاحت في وجهه:
    - هيا اذهب و إلا أخبرت نورالدين.
    بينما محمد منتش ، يلعب فيما لا يعلمه الا هو مرددا كلمة "لا اذهب" و كأنه يغني، دخل نورالدين حالك الوجه، مكفهر السحنة و من شدة غضبه انتشل الطفل مما كان "يخربشه" ورمى به و لم نسمع إلا صرخة واحدة أطلقها الطفل تبعها هدوء...سكوت... ثم بكاء متواصل.
    - إغلق فمك...اغلق فمك و طر اشتري لها شمعة حالا.
    دخل نور الدين الغرفة و الظلمة تكاد تخفي كل شيء.
    - يبدو أن الكهرباء منقطعة في كامل الولاية...ولاية الــ....القوانين يحسنون تطبيقها قبل أن تصدر، أما الكهرباء فيقطعونها لمجرد أن تضرط ذبابة... وتقولون لي "لا تهجر البلد"، لعنة الله على هكذا بلد.

    خرج نور الدين وأصدقاؤه ولم يعودوا، وبقيت وحدي في الظلمة...أظن أن الشوط الثاني قد بدأ، والله أعلم إن كان "ميسي" قد سجل هدفا...أحبه كثيرا ميسي.
    وددت لوكانت عندي ساعة أو هاتف نقال لأرى كم من الوقت تبقى...بقيت هناك مستلق على ظهري ، وسط الظلمة اسمع شنشة مطبخ عمتي وصراخ الرضيع ممزوجا بضجيج محمد المحتج على عمتي كونها أخبرت نورالدين، مع أنها لم تخبره بأي شيء ، أنا أشهد على ذلك.
    كنت وحدي ، أعد من واحد إلى عشرة متيقنا أن الكهرباء ستأتي عند العشرة ، ولكنها لم تأت، فأعيد الكرة، بعد الكرة ، اظنني حسبت إلى غاية المئة، وفي الأخير استسلمت، وبقيت في الظلمة انتظر النور كي أغادر بيت عمتي، أظننني لم اعد أحس بغضب أو غيض من ضياع الماتش، لا يكون الغضب إلا في بداية الأمر ثم سرعان ما يظهر لنا أننا كنا تافهين وحمقى و نضحك في أعماقنا على تصرفنا ساعة الغضب...انا أتفلسف بعض الأحيان ..أقر بذلك .



    5
    كانت الريح تزمجر، وأغصان شجرة التين تكاد تتساقط في صحن البيت، كنت مندسا تحت اللحاف، متلذذا، داعيا الله أن يجعل أمي تنسى إيقاظي لشراء الخبز و الحليب كعادتها، فأمي عنيدة و إذا ما دخلت الغرفة لإيقاظي فما علي إلا النهوض و تلبية أوامرها، لا مجال للمماطلة أو خطف دقيقة أو دقيقتين أغفو فيهما، لأنها تقبع عند رأسي و تظل تلهج "قم يا إبراهيم".... " يا إبراهيم قم"، ببغاء قد دُرِّب على هذه العبارة، ولا يهدأ لها بال إلا إذا رأتني خارجا و بيدي ثمن الخبز و الحليب.
    لم تأت أمي اليوم على غير عادتها، فجأة سمعت جلبة و أحدهم يدق على الباب الخارجي و سمعت ختختة، و إذا بأمي تطلق صرخة مدوية " حـــوجي آآآآآنا !!"، تبعتها صرخة جدتي، قفزت من مكاني مسرعا حتى كدت أرتطم بباب الغرفة، فوجدت أمي و جدتي عند الباب و طفلة مشدوهة قبالتهما.

    • متى حدث ذلك؟؟؟ و هل تم دفنها؟؟؟ متى سيكون الدفن؟؟؟

    كانت أسئلة أمي تتساقط على الطفلة ، والطفلة حائرة بين أن تجيب أمي أو جدتي، أخذتني بها رأفة المسكينة، لا شك أنها تلعن في سرها الشخص الذي أوكل لها مهمة إخبار عائلتنا بوفاة خالتي كلثوم .
    كانت أمي تصرخ و تلطم خديها، وفخذيها، وما إن غابت الطفلة حتى عادت إلى طبيعتها كأن لا شيء قد حدث، التفتتْ نحو جدتي:
    • أرأيت، الكلاب ابن الكلاب؟ جعلوا منا آخر من يعلم.
    • سامحهم الله. ردت جدتي.
    • لماذا؟ لماذا لم يخبرونا من قبل؟ماذا سيقال عنا الآن؟ كيف سيكون موقفنا؟.

    تلك هي أمي، تحب دائما التظاهر بأنها صاحبة المهمات العظيمة و أن من دونها فالميت لا يموت على ما يرام، من دونها سيصعب على أهل الميت التحكم في الوضع، لذا كان من واجب خالتي كلثوم التأني و تأخير موعد وفاتها يوما أو يومين حتى يتسنى لأمي العلم بحالتها ومتابعة احتضارها ثانية بثانية... مخبولة جدا أمي ... اقسم بالله أنها مخبولة.
    إن كنتم ترغبون في معرفة الحقيقة، فكلثوم هذه، رحمة الله عليها، ليست خالتي ، بل خالة جدتي ، لذا فموتها غير ذي تأثير على جدتي فما بالكم بأمي ، كل ما في الأمر أن أمي صاحبة واجب، خاصة في مثل هذه الأمور... صلة الرحم كما يقولون. ألم أقل أنها مخبولة؟
    بدأت أمي تقفز هنا و هناك، تلملم الأشياء من هنا لتضعها هناك، أطفأت الموقد، أوقفت عداد الكهرباء، أغلقت صنابير الماء، النوافذ كلها... فهناك جنازة ستقام ، ما يعني أن بيتنا سيغلق لمدة ثلاثة أيام على الأقل.
    قالت: اذهب عند أبيك، أو تعال معي عند خالتك.
    أنا أكره الجنائز، و أكره الذهاب عند خالتي ، أنا لا أعتبرها قريبتي حتى.

    كانت خيمة الجنازة قد رُفعت، و الناس متجمهرين على جانبيها، وأهل الميتة مصطفين يتلقون العزاء... كانت أمي طيلة المشوار من بيتنا إلى الجنازة هادئة ، لا يعلم فيما كانت تفكر فيه سوى هي و خالقها.... فجأة و قبل دخولها المنزل... عند العتبة ... أطلقت صرخة مدوية " حـــــوجي آآآآآآنا".
    سمعها كل الرجال... و كل النساء، و حتى الأطفال، وهرعت امرأتان إليها غير أنها سقطت مغشيا عليها... عند عتبة البيت، أمي تحب كثيرا السقوط عند عتبة البيت، فبذلك تضمن أن يراها كل الحاضرين، رجالا و نساء.
    لكَم وددت أن تنشق الأرض و تبلعني تلك اللحظة. انتحيت جانبا ـ وقبعت وحدي أتفرج على الجنازة...لم أر أحدا من أهل الميتة يبكي، فقط كانوا مصطفين مكتفيين بتلقي عناقات الناس، متمتمين بما لست أدري.
    في الجانب الأيسر من الخيمة كانت هناك ثلاث طاولات عليها صينيات القهوة، هممت بالتوجه نحوها فقد كان بطني فارغا وكنت أحس جوعا رهيبا، لم تترك لي أمي فرصة لتناول فطور الصباح، تأملت وجوه الحاضرين علّني أرى جدي أو أحد أخوالي غير أنهم لم يكونوا هناك. قبعت في مكاني وصينيات القهوة في مكانها ، لا أحد يقترب منها، الرجال مؤدبون ولا يشربون القهوة في المآتم، و إذا عرض عليهم أحد فنجانا ، اعتذروا بأدب و لباقة... أظنهم ينافقون، صدقوني إنهم ينافقون في مثل هذه المواقف.
    تمنيت لو يعرض علي أحدهم فنجان قهوة، لا يهم أن كان مرفوقا بحبة بسكويت أو خبز أو أي شيء... صدقوني لن أنافق مثلهم.... سأوافق على طول... المشكلة أن المكلف بتوزيع القهوة في هذا المأتم لا يأبه بأمثالي...كان يمر أمامي دون أن يراني، أو كان يتظاهر بعدم رؤيتي...
    أحسست انه يكرهني أو شيئا من هذا القبيل... لأنه عرض القهوة على كل الناس إلا أنا... كأنني لست من الناس.... و لكني لست سهلا كما يظن... لم أسكت.... أشبعته شتما و سبا ابن اللقيطة.... في سري طبعا.
    مرت قرابة الساعة وأنا في مكاني ، جالس عند عتبة بيت من البيوت هناك قرب الجنازة، مللت الجلوس فارغا.... قمت واقفا هاما بمغادرة المكان، وإذا بأحدهم يقف أمامي
    • أنت إبراهيم ابن زهور؟
    • نعم
    • أمك تحتاجك في أمر.

    عند عتبة البيت كان يظهر من أمي رأسها، اقتربت منها ، قالت " أين كنت؟؟ منذ الصباح و أنا ابحث عنك.
    أمي دائما تبحث عني منذ الصباح. اللعنة !! أنا اكره أن يبحث عني احدهم لمدة دقيقة أو اقل ، ثم يقول لي "بحثت عنك منذ الصباح".
    • ماذا هناك؟
    • اسمع ، اسمعني جيدا...خذ هذه.
    • و دسّت في جيبي منديلا ابيضا به شيء ما، شيء صلب ، ربما كان قطع حلوى.... أمي مخبولة ولكن لها نفحات حنان.
    • اسمعني جيدا.... اذهب حالا للبيت، افتح الدرج الأيسر من خزنتي و ضع المنديل بما فيه داخل المحفظة الصفراء.... فهمت؟؟ الدرج الأيسر به محفظة صفراء، ضع المنديل بداخلها، و لا أراك هنا، لا تعد إلى هنا أبدا.

    تركتها متوجها نحو منزلنا و بجيبي المنديل، لم يكن به قطع حلوى كما ظننت و إلا لما كانت أمي تلح في وصاياها...كنت أعلم أن به شيئا لا تريد أمي أن يعرفه غيرها ، و أنا طبعا.
    التعديل الأخير تم بواسطة سعيد ماروك; الساعة 04-11-2013, 14:10.

    تعليق

    • الاديبة منى البنا
      أديبة وكاتبة
      • 31-10-2013
      • 32

      #3
      جارى القرأة والمتابعة مستمرة

      تعليق

      يعمل...
      X