بلهجة آمرة لم تكن تحتاج لتقولها فيما مضى ، قالت أمي
اذهب وساعد أباك ، لقد احضر لكم حقائب الفاكهة . . ذهبت متثاقلا لا رغبة لدي بحمل كيس واحد مما احضر أبي . لم اعد افرح بتلك اللحظات التي كنت انتظره فيها منذ لحظة خروجي من المدرسة حتى عودته بعد العصر وأنا اجلس تحت ظل زيتونة قديمة قدم التاريخ المهتريء فأحيانا أغص بنوم عميق فاستيقظ على لمسة أبي يوقظني لأحمل معه كيسا مليئا بخليط من الطعام والحلوى، فافرح وتتلألأ عيناي تلألؤ أشعة الشفق فوق سطح البحر الهاديء ، وأنسى النظر إلى وجهه يغتبط من الفرحة المزهرة بين قسمات وجهي لأجل قطعة حلوى رخيصة أو تفاحة منخورة أو موزه ذابلة، يلف السواد قشرتها كما يلف الفقر حال بيتنا ذاك . كان يشتريها أبي من بقايا البسطات آخر النهار فيكون ثمنها ارخص لأنها بقايا بضاعة كاسدة لا يجب أن تبينت للغد فيدب الكرم على البائع فيزيد بالوزن ويرجح العيار ..
أدخلت الأكياس إلى المطبخ، ولكن دون أن يغتبط أبي هذه المرةـ لأني لست فرحا بما احضر من أجود أنواع الفاكهة وافخر أصناف الحلوى .فالفاكهة لا تفارق طاولة الطعام بمطبخنا الفخم . مددت يدي فالتقط تفاحة شرع الذبول يسري في قشرتها، موضوعة بين أنواع الفواكه الكثيرة في طبق كبير ،لا تجد من يأكلها، ولا يلتفت إليها . أخذني الخيال إلى تلك اللحظات التي كان فيها أبي يطلب من أمي طبقا من العنب مما احضر ذاك النهار، فترد عليه أمي ( لم يبق شيء . أكله الأولاد ). فيتبسم ابتسامة الحيرة ، ابتسامة مخنوقة تتأرجح مابين فرحته بأننا أكلنا ،وأسفه انه لم ينل منها ما يرد به ما تشتهيه نفسه . ، ولكن أمي كانت تشعر بتلك الرغبة الهاربة من النفس فتأسف أنها لم تبق له شيئا، فتحاول في المرة التالية أن تخفي عنا جزءا يسيرا مما احضر، عله ينال منه نصيب ، ولكننا كنا نتسلل إليه ونبحث عنه بين زوايا بيتنا الصغير، حيث لا شيء يمكن أن يختفي فيه . فنغنم به لتبقى ابتسامة أبي مخنوقة دائما.
في هذ1ا البيت الواسع اشعر بالضيق والأرق . كل شيء سهل المنال وسريع الاستجابة . فالحداثة لم تبقي لنا ما نبذله من جهد وكد حتى نحصل على ما نريد.هناك كنا ننتظر الأشياء فتهديك الحياة هدية مفرحة، وهنا صارت تنتظرنا الأشياء فتنتزع منا نوعا من البعد لم نألفه، فالوقت أصبح طويلا وكل شيء صار يغدق الملل فيزرع في النفس الخمول على مقاعد الوقت المهدور . كان للصمت ضجيج يؤنس الروح رغم الشح والعجز فيقتنص اللحظات الهاربة لتحفر في الذاكرة البريئة أخا ديد يتعثر بها الشقاء فتشعر بكل لذة من اللذ ائذ
وقفت بباب غرفتي الكبيرة بأثاثها الجميل فتذكرت مكان فرشتي في غرفتنا الصغيرة بين إخوتي الستة .كنت استيقظ على رفسة من علي أو لكمة من احمد آو رائحة قدمي سليم حين تستقر على انفي .
أين أنا من هذا الرياش الماتع ورائحة العطور تفوح من الستائر والزهور تكلل المرايا!! ، ولكن أي مرايا! أنها لا تشبه مرآة أبي المكسورة ،التي لا تعدو كسرتها حجم علبة الكبريت ،كان يحلق ذقنه يمر على وجهه الكبير جزءا جزءا ،لأنها لا تظهر كامل صورته، فان أظهرت شاربه الأيسر يختفي الأيمن، وإذا مسكتها أمي لتزيل بعض شعيرات نبتت على وجهها يهرب نصفها فلا تصطادهن المرآة ,فيكبرن حتى إذا هبت النسائم ودغدغت ما تحت انفها، تتراقص شمالا تارة ويمينا أخرى فتنزعج فتضطر لتمرر المرآة على الشعيرات المتمردة فتنسلها وتستريح .
توجهت للحمام لانفض عني غبار الذكريات وأنسى بيتنا القديم ، وكنت عبثا أحاول، فكل زاوية هنا، تجعلني امرر الذاكرة بين جدرانه الدافئة . هنا الهدوء والانزواء والخصوصية والارتقاء وهناك الصخب و العبث واللهو والبساطة ولا شيء لك ...
هناك كان صوت هدير البابور يصدح طوال اليوم ما بين الطبخ أو تسخين المياه للاستحمام أو غسيل الملابس الذي كان يترك أمي تتألم من يديها، فيحنو عليها أبي فيدلكها ليخفف عنها بعض الألم..
عند الاستحمام كنا نتجرد من ملابسنا يوم الجمعة لنستحم استعدادا للمدرسة في اليوم التالي. ندخل جميعا ونخرج فرادى بعد أن تفرغ أمي من فركنا بالليف والصابون ، وإزالة ما علق على أجسادنا فيما مضى من أيام، فيتولى أبي تجفيفنا وتلبيسنا ونحن نرتجف من البرد . حتى أن أخي عليا، كان يهرب من البيت لا يريد الاستحمام لخوفه من الماء حين ينساب على وجهه فيشهق ويشعر بالاختناق وضيق النفس . ولكنه اليوم يغفو بالمغطس .
هذه غرفة الضيوف. أرائك فاخرة وستائر باهرة ومناظر ساحرة ، وحوض السمك يتربع على منضدة تسلب الأسماك متعة النظر وتحصد من العيون سحر البصر، .في وقت كنا لا نملك غرفة للضيوف إنما حصير حقير يفترش الأرض فيغطي ثقوبا حفرتها الفئران ومسالكا تسلكها الصراصير التي تصدر أصوات الصفير الذي طالما توعدناه فاحدث تلك الموسيقى العجيبة التي تشبه اليوم أنغام أخي عامر وهو لا يروق له المقام إلا بسماع الروك أند رول وكأنه نبت غربي المزاج فاستعذب الضجيج وألف الصخب .
خالي فراس. حل ضيفا في بيتنا القديم بعد طول غربة في ليلة لا نسيم فيها ولا عليل، ينساب العرق فيها بين الأكتاف, انسياب الشلال في النهر . منزلنا كان غرفتين متجاورتين حين تنتقل من غرفة إلى أخرى لا يرحمك المطر، ولا ينزاح الثلج عن العتبات فتزور بالخطى ازورارا تخشى السقوط والانزلاق على مصطبة إسمنتية ملساء تزخر بالثقوب العامرة بقوارض الأرض في نهايتها مطبخ صغير يجاوره حمام حقير يضيق بالواقف ولا يريح القاعد .
وحين كانت الغرف ملتهبة، لا بد لنا من النوم في فناء البيت الضيق، فافترشنا الأرض نتقلب ،نلتحف السماء، نتناجى بالأحاديث حتى إذا أخذتنا الغفوة . استيقظنا على صوت خالي يتساءل عن الذي يمر على رقبته أو يعبث بأذنيه . فترد أمي ببسمة خجلة وبصوت يهون الأمر على أخيها ليحتمل مصاعب ليله بائسة ( هذه عسس صغيرة لا تؤذي نم واسترح ولا تهتم ) فيرد خالي مستغربا وكأنه أصابه الوجل من كلمة عسس . ما هي العسس ؟؟؟ آوه لا تقلق إنها فئران صغيرة قالت أمي مستهترة بتلك المخلوقات التي ما عادت تراها اليوم.
ماذا قلت ؟ فئران ؟؟؟ يا ويلي .. وعلى رقبتي وتقبل أذني . والله لن أبقى هنا ساعة واحدة.... فصار ينتفض ويتعالى وكأنه هبط من السماء على من صعدوا من بين حنايا الأرض . فأخذت أمي تهدئ من روعه وتخفف عليه الأمر ليحتمل الليلة فقط . وبقيت تسهر معه طوال الليل لا تنام وفمها يفتح متثائبا ،ويغلق بارتداد طرفها المتواصل ورأسها الذي يهوي إلى صدرها كل حين، ثم ترفعه لتنظر إلى الساعة المعلقة في جوف المنزل، تتمنى أن يطرد النور عتمة الليل ليذهب أخوها فتستريح من عناء السهر بعد يوم عمل شاق. وذهب خالي ولم يعد حتى بالأعياد .
مللت هذا الحي وأهله فلم اعد العب الكرة بالشوارع مع أترابي وحين أمل المنزل اجلس على عتبة البيت لأرقب صاحبات الذوات وبنات الحي الراقي وهن يرافقن الكلاب والقطط في ساعات ما قبل الغروب، وإخوتي يعكفون على حواسيب لهم لا يبالون برغبتي لقربهم وأبي يلبس الجوخ والديباج الفاخر، يجلس على شرفة فخمة يتصنع قراءة الجريدة، يقلد رجالات الحي من المثقفين والأطباء وأصحاب السياسة، يعقد حاجبيه كلما رأى جليسا من جلسائه السابقين ، يتعلم الشكليات وأسس التعامل مع الواقع الجديد حتى لا يكاد أسبوعا يخلو من دعوة غداء لناس لم نألف لهم شكلا ولم نستحسن لقدومهم خطوة .وأمي تسكب فنجان قهوة بآنية فاخرة تتصنع التمدن المضحك فتسلك الأساليب الارستقراطية بأناقتها المفتعلة ولكنها تفشل حين تكشف عن ساعديها لتبدي أساور الذهب اللامعة مفتخرة بما حازت، فتظهر الفرحة في قسمات المحروم فاضحة . استصغرت في عينيها أهل حينا القديم وناسه الطيبين الذين تأسوا على وفاة عمي المغترب منذ سنين والذي لم يتزوج . وفرحوا حين ترك لنا ثروة كانت اكبر من تفكيرنا وأعظم من أحلامنا وأضخم من أن يديرها والدي البسيط، فالمال بلا رأس لا شك ذاهب ..
اذهب وساعد أباك ، لقد احضر لكم حقائب الفاكهة . . ذهبت متثاقلا لا رغبة لدي بحمل كيس واحد مما احضر أبي . لم اعد افرح بتلك اللحظات التي كنت انتظره فيها منذ لحظة خروجي من المدرسة حتى عودته بعد العصر وأنا اجلس تحت ظل زيتونة قديمة قدم التاريخ المهتريء فأحيانا أغص بنوم عميق فاستيقظ على لمسة أبي يوقظني لأحمل معه كيسا مليئا بخليط من الطعام والحلوى، فافرح وتتلألأ عيناي تلألؤ أشعة الشفق فوق سطح البحر الهاديء ، وأنسى النظر إلى وجهه يغتبط من الفرحة المزهرة بين قسمات وجهي لأجل قطعة حلوى رخيصة أو تفاحة منخورة أو موزه ذابلة، يلف السواد قشرتها كما يلف الفقر حال بيتنا ذاك . كان يشتريها أبي من بقايا البسطات آخر النهار فيكون ثمنها ارخص لأنها بقايا بضاعة كاسدة لا يجب أن تبينت للغد فيدب الكرم على البائع فيزيد بالوزن ويرجح العيار ..
أدخلت الأكياس إلى المطبخ، ولكن دون أن يغتبط أبي هذه المرةـ لأني لست فرحا بما احضر من أجود أنواع الفاكهة وافخر أصناف الحلوى .فالفاكهة لا تفارق طاولة الطعام بمطبخنا الفخم . مددت يدي فالتقط تفاحة شرع الذبول يسري في قشرتها، موضوعة بين أنواع الفواكه الكثيرة في طبق كبير ،لا تجد من يأكلها، ولا يلتفت إليها . أخذني الخيال إلى تلك اللحظات التي كان فيها أبي يطلب من أمي طبقا من العنب مما احضر ذاك النهار، فترد عليه أمي ( لم يبق شيء . أكله الأولاد ). فيتبسم ابتسامة الحيرة ، ابتسامة مخنوقة تتأرجح مابين فرحته بأننا أكلنا ،وأسفه انه لم ينل منها ما يرد به ما تشتهيه نفسه . ، ولكن أمي كانت تشعر بتلك الرغبة الهاربة من النفس فتأسف أنها لم تبق له شيئا، فتحاول في المرة التالية أن تخفي عنا جزءا يسيرا مما احضر، عله ينال منه نصيب ، ولكننا كنا نتسلل إليه ونبحث عنه بين زوايا بيتنا الصغير، حيث لا شيء يمكن أن يختفي فيه . فنغنم به لتبقى ابتسامة أبي مخنوقة دائما.
في هذ1ا البيت الواسع اشعر بالضيق والأرق . كل شيء سهل المنال وسريع الاستجابة . فالحداثة لم تبقي لنا ما نبذله من جهد وكد حتى نحصل على ما نريد.هناك كنا ننتظر الأشياء فتهديك الحياة هدية مفرحة، وهنا صارت تنتظرنا الأشياء فتنتزع منا نوعا من البعد لم نألفه، فالوقت أصبح طويلا وكل شيء صار يغدق الملل فيزرع في النفس الخمول على مقاعد الوقت المهدور . كان للصمت ضجيج يؤنس الروح رغم الشح والعجز فيقتنص اللحظات الهاربة لتحفر في الذاكرة البريئة أخا ديد يتعثر بها الشقاء فتشعر بكل لذة من اللذ ائذ
وقفت بباب غرفتي الكبيرة بأثاثها الجميل فتذكرت مكان فرشتي في غرفتنا الصغيرة بين إخوتي الستة .كنت استيقظ على رفسة من علي أو لكمة من احمد آو رائحة قدمي سليم حين تستقر على انفي .
أين أنا من هذا الرياش الماتع ورائحة العطور تفوح من الستائر والزهور تكلل المرايا!! ، ولكن أي مرايا! أنها لا تشبه مرآة أبي المكسورة ،التي لا تعدو كسرتها حجم علبة الكبريت ،كان يحلق ذقنه يمر على وجهه الكبير جزءا جزءا ،لأنها لا تظهر كامل صورته، فان أظهرت شاربه الأيسر يختفي الأيمن، وإذا مسكتها أمي لتزيل بعض شعيرات نبتت على وجهها يهرب نصفها فلا تصطادهن المرآة ,فيكبرن حتى إذا هبت النسائم ودغدغت ما تحت انفها، تتراقص شمالا تارة ويمينا أخرى فتنزعج فتضطر لتمرر المرآة على الشعيرات المتمردة فتنسلها وتستريح .
توجهت للحمام لانفض عني غبار الذكريات وأنسى بيتنا القديم ، وكنت عبثا أحاول، فكل زاوية هنا، تجعلني امرر الذاكرة بين جدرانه الدافئة . هنا الهدوء والانزواء والخصوصية والارتقاء وهناك الصخب و العبث واللهو والبساطة ولا شيء لك ...
هناك كان صوت هدير البابور يصدح طوال اليوم ما بين الطبخ أو تسخين المياه للاستحمام أو غسيل الملابس الذي كان يترك أمي تتألم من يديها، فيحنو عليها أبي فيدلكها ليخفف عنها بعض الألم..
عند الاستحمام كنا نتجرد من ملابسنا يوم الجمعة لنستحم استعدادا للمدرسة في اليوم التالي. ندخل جميعا ونخرج فرادى بعد أن تفرغ أمي من فركنا بالليف والصابون ، وإزالة ما علق على أجسادنا فيما مضى من أيام، فيتولى أبي تجفيفنا وتلبيسنا ونحن نرتجف من البرد . حتى أن أخي عليا، كان يهرب من البيت لا يريد الاستحمام لخوفه من الماء حين ينساب على وجهه فيشهق ويشعر بالاختناق وضيق النفس . ولكنه اليوم يغفو بالمغطس .
هذه غرفة الضيوف. أرائك فاخرة وستائر باهرة ومناظر ساحرة ، وحوض السمك يتربع على منضدة تسلب الأسماك متعة النظر وتحصد من العيون سحر البصر، .في وقت كنا لا نملك غرفة للضيوف إنما حصير حقير يفترش الأرض فيغطي ثقوبا حفرتها الفئران ومسالكا تسلكها الصراصير التي تصدر أصوات الصفير الذي طالما توعدناه فاحدث تلك الموسيقى العجيبة التي تشبه اليوم أنغام أخي عامر وهو لا يروق له المقام إلا بسماع الروك أند رول وكأنه نبت غربي المزاج فاستعذب الضجيج وألف الصخب .
خالي فراس. حل ضيفا في بيتنا القديم بعد طول غربة في ليلة لا نسيم فيها ولا عليل، ينساب العرق فيها بين الأكتاف, انسياب الشلال في النهر . منزلنا كان غرفتين متجاورتين حين تنتقل من غرفة إلى أخرى لا يرحمك المطر، ولا ينزاح الثلج عن العتبات فتزور بالخطى ازورارا تخشى السقوط والانزلاق على مصطبة إسمنتية ملساء تزخر بالثقوب العامرة بقوارض الأرض في نهايتها مطبخ صغير يجاوره حمام حقير يضيق بالواقف ولا يريح القاعد .
وحين كانت الغرف ملتهبة، لا بد لنا من النوم في فناء البيت الضيق، فافترشنا الأرض نتقلب ،نلتحف السماء، نتناجى بالأحاديث حتى إذا أخذتنا الغفوة . استيقظنا على صوت خالي يتساءل عن الذي يمر على رقبته أو يعبث بأذنيه . فترد أمي ببسمة خجلة وبصوت يهون الأمر على أخيها ليحتمل مصاعب ليله بائسة ( هذه عسس صغيرة لا تؤذي نم واسترح ولا تهتم ) فيرد خالي مستغربا وكأنه أصابه الوجل من كلمة عسس . ما هي العسس ؟؟؟ آوه لا تقلق إنها فئران صغيرة قالت أمي مستهترة بتلك المخلوقات التي ما عادت تراها اليوم.
ماذا قلت ؟ فئران ؟؟؟ يا ويلي .. وعلى رقبتي وتقبل أذني . والله لن أبقى هنا ساعة واحدة.... فصار ينتفض ويتعالى وكأنه هبط من السماء على من صعدوا من بين حنايا الأرض . فأخذت أمي تهدئ من روعه وتخفف عليه الأمر ليحتمل الليلة فقط . وبقيت تسهر معه طوال الليل لا تنام وفمها يفتح متثائبا ،ويغلق بارتداد طرفها المتواصل ورأسها الذي يهوي إلى صدرها كل حين، ثم ترفعه لتنظر إلى الساعة المعلقة في جوف المنزل، تتمنى أن يطرد النور عتمة الليل ليذهب أخوها فتستريح من عناء السهر بعد يوم عمل شاق. وذهب خالي ولم يعد حتى بالأعياد .
مللت هذا الحي وأهله فلم اعد العب الكرة بالشوارع مع أترابي وحين أمل المنزل اجلس على عتبة البيت لأرقب صاحبات الذوات وبنات الحي الراقي وهن يرافقن الكلاب والقطط في ساعات ما قبل الغروب، وإخوتي يعكفون على حواسيب لهم لا يبالون برغبتي لقربهم وأبي يلبس الجوخ والديباج الفاخر، يجلس على شرفة فخمة يتصنع قراءة الجريدة، يقلد رجالات الحي من المثقفين والأطباء وأصحاب السياسة، يعقد حاجبيه كلما رأى جليسا من جلسائه السابقين ، يتعلم الشكليات وأسس التعامل مع الواقع الجديد حتى لا يكاد أسبوعا يخلو من دعوة غداء لناس لم نألف لهم شكلا ولم نستحسن لقدومهم خطوة .وأمي تسكب فنجان قهوة بآنية فاخرة تتصنع التمدن المضحك فتسلك الأساليب الارستقراطية بأناقتها المفتعلة ولكنها تفشل حين تكشف عن ساعديها لتبدي أساور الذهب اللامعة مفتخرة بما حازت، فتظهر الفرحة في قسمات المحروم فاضحة . استصغرت في عينيها أهل حينا القديم وناسه الطيبين الذين تأسوا على وفاة عمي المغترب منذ سنين والذي لم يتزوج . وفرحوا حين ترك لنا ثروة كانت اكبر من تفكيرنا وأعظم من أحلامنا وأضخم من أن يديرها والدي البسيط، فالمال بلا رأس لا شك ذاهب ..