بطاقة صفراء / آسيا رحاحليه /

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    بطاقة صفراء / آسيا رحاحليه /

    بطاقة صفراء

    عشر دقائق و تبدأ متعتي ...
    لكن .. من يطرق بابي في هذا الوقت ؟ من يجرؤ ؟
    أسرعت كي أفتح ، محاذرا أن أرتطم بالطاولة فيندلق كوب الشاي الساخن .
    كنت ، كالعادة ، قد هيّأت للمتعة طقوسها . الشاي . علبة السجائر. / الموبايل .. تأكّدت من أنّه مغلق / . الوسائد . وسادتان عند رأسي ، و ثالثة عند قدمي /أحتاجها لأرفسها أو أضرب بها الحائط تعبيرا عن سخطي أو استيائي /
    مضى وقت طويل مذ توقفت عن السفر و متابعة المباريات مباشرة من على المدرّجات . سنّي لم يعد يسمح و لا الوقت يسعفني . و ما عدت أحتمل الضّوضاء و الهرج و الزّحام .
    أحنيت قامتي فارتطمت عيناي بوجهه المستدير ، شعره أسود كثيف متجمّع أكثره فوق جبهته الضيّقة . عيناه سوداوان واسعتان ، تبرقان بوميض لا نبصره سوى في عيون الأطفال .
    - أهلا صابر .
    - مساء الخير عمي . القناة عندنا لا تعمل . قالت لي أمي اذهب و شاهد المباراة عند عمك سليم .
    تضايقت قليلا ، لكني أجبرت نفسي على الابتسام . أشرت له برأسي أن يدخل . أمرٌ غير متوقّع حقا . أكره الأمور المباغتة . لا أعرف كيف أتصرّف حيالها . اعتدت أن أكون وحيدا في بيتي . و عكس غيري لا أحب أن يشاركني أحد مشاهدة مباراة . لكن تخييب أمل طفل صغير يعدّ جريمة . ثم هو صابر الجميل ، المؤدب . يقيم مع والدته الأرملة الشابة و جدّته المسنّة في الشقة التي فوق شقّتي تماما .
    كثيرا ما تجمعني الصدفة ، على السلالم ، بوالدته .. و كم كنت أخجل من التحديق فيها . أسرع خطاي مكتفيا برد التحية ، لكنها لا تدري بأني ما أن أدخل شقّتي حتى أجري صوب النافذة ، أراقبها منها و هي تعبر الشارع ، و شيء أحاول تجاهله يهز كياني لكل خطوة تخطوها . و مع ذلك لم أحاول الدنوّ منها . لم أفكر في ملاحقتها أو مغازلتها أو التواصل معها بأي شكل كان . لم تكن تلك عادتي حيال الجنس اللطيف . لكن ذلك كان و أنا شاب . تغيّرتُ مع الزمن . زواجي ثم تجربتي مع الطلاق غيّراني .
    أدركني التعّقل أخيرا و أصبحت رجلا ناضجا يحسب للمغامرة ألف حساب .في الحقيقة لم أرد أن أتغير لكنه حصل . النضج أيضا نحن لا نصله بإرادتنا ، بل رغما عنا . لم يكن سهلا أن التزم و ألزم جانب العفة . كثيرا ما قلت لصديق لي ، أعزب ، بأنّ المطلّق أتعس من الأعزب و من المتزوّج . صعبٌ أن تعيش الجحيم و لكن الأصعب أن تتذوّق نعيم الجنة ثم تجبر على الهبوط منها .
    مؤكد أنّ آدم كان أتعسنا جميعا .
    في ما بين الشوطين ، قمت لكي أسخّن الشاي . حين عدت انتبهت إلى أنّ الصغير قد ذهب في نوم عميق . تدحرج رأسه فوق كتفه و ارتخت أطرافه . لم أدر ماذا أفعل . عدّلت من وضعه . نظرت إليه و ابتسمت . أجمل ما في الكون طفلٌ نائم . في مثل سنه تقريبا / عشر سنوات / كان ابني حليم حين دقّت بيني و بين والدته نواقيس الطلاق . لم نتفق . حاولنا لكننا لم نفلح . قرّرنا الانفصال . انفصلنا بهدوء غير مألوف . لم يحدث طلاقنا تلك الزوبعة المعهودة داخل الأسر . و الغريب أننا بعد انفصالنا اتفقنا بشكل عجيب ! اليوم نكاد نكون أصدقاء . تتصل بي باستمرار . تستشيرني في أمر حليم . أهاتفها أيضا . أسأل عنها و عن الولد . أذكر أنها مرة دعتني للعشاء بمناسبة عيد ميلاده .
    ربما يجب أن ينفصل كل الأزواج الذين لا يتّفقون كي يدركوا أنه بإمكانهم الاتفاق !
    يا لغرابة الفكرة .
    اللعب يسير بوتيرة بطيئة ، مملة . لم أستطع أن أصمت و رحت أعطي رأيي ، بصوت مسموع ، في ما كان يجب أن يكون عليه اللعب .
    تذكرت والدتي ... " كل من هو خارج الملعب لعّاب " ، كانت تقول .
    طرق آخر على الباب .
    مباغتة أخرى .
    الفتنة أمامي ..تقف على قدميها .
    - أتيت لأصطحب صابر . أخشى أنّه أزعجك .
    الذي يزعجني هو هذه المحرقة في صدري يا سيدتي .
    أخبرتها أنه لم يفعل ... أنّه خلد للنوم و من الأفضل تركه ينام إلى الغد .
    لا أدري كيف قلت ذلك و لا لماذا . كأنما أردت أن أحتفظ ببعضٍ منها عندي لمدّة أطول .
    - حسنا . شكرا .. معذرة على الإزعاج . تصبح على خير .
    ابتسمت . صعدت السلم و هي تحكم لفّ شالها على رأسها و نحرها .
    كدت أقول لها "لا .. لا تذهبي . ابقي قليلا . " لكنني تماسكت .
    شيّعتها بقلبي بينما عطرها يسافر في العمارة و في بيتي ... و في دمائي .
    لم تغتسل مساحة بيتي بعطر أنثويّ منذ سبعة قرون .
    عدت لأتابع المباراة . أخفضت صوت التلفاز كي لا يوقظ صابر . كأنّي صرت أحبه فجأة هذا الصغير . ماذا ؟ بطاقة حمراء ؟ لا .. لا .. صفراء . يا لثوبها ! مزيج من اللون الأصفر و الأخضر . لأول مرة أنتبه أنّ الأخضر و الأصفر يمكن أن ينسجما و بشكل جميل ...يا لشعرها و عينيها و قوامها و نهدها .. يا لرائحة الأنوثة حين تغشاك فتخدّر وعيك ،و تخلّفك مشدوه الروح ، مشوّش الذات ، مستلب الإرادة .
    رأيتها بوضوح رغم الإنارة الضعيفة في سلالم العمارة . جميلة . تفاصيل أنوثتها صارخة . شفتاها ممتلئتان ، شهيتان ، كأنهما ما خلقتا سوى للتقبيل . بضع ثوان و هي تقف قبالتي عند عتبة الباب كانت كافية لقلب كياني ...لكني استغربت جرأتها .. ماذا لو رآها أحد الجيران ؟ أكره جرأتها . بل ..أخشاها .. لا لا .. الآن أنا أحبها أكثر ... لأنها جريئة . لمن البطاقة ؟ آه .. لاعب متهوّر هذا. لو كنت مكان المدرب لما ضممته للفريق .
    لو أني طلبت منها أن تدخل لتحمل طفلها بين ذراعيها و تصعد به إلى الشقّة ؟ ترى هل كانت ستفعل ؟
    و ما كنت فاعلا أنا لو أنّها أصبحت في قلب الغرفة ؟ و لكن ما الذي منعك عنها كل ذلك الوقت أيها الأبله ؟ لاشيء . لا أحد سواى . أنا تعمّدت أن أنشغل عنها و عن سواها .
    نعتب على الحياة كونها لا تمنحنا الظروف الملائمة لاحتضان اللذات ، و حين تتوفر الظروف نتفنّن نحن في خلق ظروف أخرى / غير ملائمة / .
    كنت أتعمد أن أشغل وقتي بأمور كثيرة ..لا يهم ما تكون . المهم أن لا أجد وقتا لأركب بحر الشهوات . حتى أنّني جرّبت السياسة . انخرطت في جمعية تنشط محليا . العمل السياسي يجعلك تتوهّم و توهم غيرك بأنك مهمّ جدا ، و مشغولٌ على الدّوام ، و أنّك لا تملك لنفسك ثانية واحدة ، و أنّ ما تقوم به خارقا للعادة ، مع أنّك في حقيقة الأمر لا تفعل شيئا ذا قيمة ، مطلقا ..كل الأشياء / غير ذات القيمة أيضا / تأتي من فوق !
    تصبح على خير ، قالت . أي خير يا فاتنتي و قد أضرمت عيناك في دمي حرائق الحب و الرغبة ؟ أنا الذي حشرت جسدي في جلباب قديس و ألزمت شهواتي بحمية قاسية ..خشية أن يجرفني التيار إلى حيث لا رجوع .
    و لم أستطع النوم . بدا الليل طويلا جدا . أطول من كل الليالي . لابد أنّ أوسكار وايلد قد واجه ما واجهته لكي يخلص إلى قوله " أستطيع أن أقاوم كل شيء عدا الإغواء " .. و كانت مغرية حقا . حدّ الجنون ، و كل ما حولنا مغر .. المساء الربيعي ، صمت العمارة ، طفلها النائم ، رغبتي المستيقظة ، جوع السبع العجاف ، سريري الذي ملّ احتضاني منفردا كحصان موبوء أبعدوه عن القطيع ..
    و ذلك الرجاء في عينيها و خلف ابتسامتها .
    لا يحتاج الرجل لأن يكون عبقريا لكي يفكّ شفرة النداء أو يترجم لغة الرغبة في عيون أنثى .
    نمت مع أواخر الليل ، بعد أن تكفّلت ريشة خيالي برسم كل معالم اللذة . نمت و هي في حضني ، غير أني لمحت ظل كفٍ تلوّح ببطاقة صفراء ..داخل رأسي .
    في الصباح حضّرت لصابر كوب حليب . كانت هناك علبة بسكويت في الخزانة . وضعتها أمامه . لم يبد مستاءً من مبيته خارج حضن والدته . بالعكس . بدا مرتاحا جدا كأنه معتاد على المبيت عندي . قد يكون مردّ ذلك إلى حاجته للإحساس بوجود الأب . مسكين صابر .
    في طريقي إلى العمل اتصلت بابني " ألو .. صباح الخير . كيف حالك .أتصل لأقول لك أنّه يمكنك أن تأتي للعيش معي ..أمازلت ترغب في ذلك ؟ حسنا .. أخبر والدتك و أجمع أغراضك . سأنتظرك " .
    و قبل أن أنهي المكالمة " نسيت أن أقول لك .. لابد أن تكون هنا قبل يوم الأحد . "
    الأحد مساءً هو موعد مباراة أخرى مهمة . أشعر بالقلق . لا أريد أن أكون لوحدي .
    أكيد سوف يأتي صابر ليشاهد المباراة عندي ، و أكيد سوف يغرق في النوم ..
    و أكيد سوف ...


    مارس 2013 / آسيا رحاحليه /
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي
  • حارس الصغير
    أديب وكاتب
    • 13-01-2013
    • 681

    #2
    قرأت هنا نصا سخيا بالوصف الدقيق لحالة انسان يعيش وحيدا بعد الطلاق.
    برع القلم في نقل كل ما يختلج صدره من ألم وحب في ذات الوقت.
    كتب النص بلا تكلف، فكان منسابا رقراقا.
    أرفع قبعتي وأمضي
    تحيتي وتقديري
    التعديل الأخير تم بواسطة حارس الصغير; الساعة 04-11-2013, 18:16.

    تعليق

    • بسباس عبدالرزاق
      أديب وكاتب
      • 01-09-2012
      • 2008

      #3
      أجمل ما في الكون طفلٌ نائم


      إحساس عال بالكلمة و باللحظة
      رائع ما حملته قصته

      متعة كبيرة بين سطور القصة

      سرد جميل و تشويق استولى علي كلية من البداية لآخر حرف


      أستاذة آسيا رحاحلية

      سعدت بقراءة هذه القصة الممتعة

      تقديري و احتراماتي
      السؤال مصباح عنيد
      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

      تعليق

      • كريم قاسم
        أديب وكاتب
        • 03-04-2012
        • 732

        #4
        لقطات انسانية .. ممتعة
        تحية طيبة

        تعليق

        • وسام دبليز
          همس الياسمين
          • 03-07-2010
          • 687

          #5
          لا ادري لما احس أن قصصك تلامسني احبها اعشق لغتك أعشق سردك فأكون كمن ينتظر اللقاء لحظة يرا اسمك يبرق جوار نص جديد نص جميل للحظة تسألت ماذا تخبئ آسيا وراء رجل يحضر مبارات لكرة القدم .......آسيا كوني دوما رائعة
          التعديل الأخير تم بواسطة وسام دبليز; الساعة 05-11-2013, 11:52.

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة حارس الصغير مشاهدة المشاركة
            قرأت هنا نصا سخيا بالوصف الدقيق لحالة انسان يعيش وحيدا بعد الطلاق.
            برع القلم في نقل كل ما يختلج صدره من ألم وحب في ذات الوقت.
            كتب النص بلا تكلف، فكان منسابا رقراقا.
            أرفع قبعتي وأمضي
            تحيتي وتقديري
            كل الشكر و الامتنان لك
            تزغرد الفرحة في قلبي لأن النص أعجبك ..
            مودّتي و تقديري ..
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • آسيا رحاحليه
              أديب وكاتب
              • 08-09-2009
              • 7182

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
              أجمل ما في الكون طفلٌ نائم


              إحساس عال بالكلمة و باللحظة
              رائع ما حملته قصته

              متعة كبيرة بين سطور القصة

              سرد جميل و تشويق استولى علي كلية من البداية لآخر حرف


              أستاذة آسيا رحاحلية

              سعدت بقراءة هذه القصة الممتعة

              تقديري و احتراماتي
              الأخ الأديب بسباس عبد الرزاق
              ألف شكر و كل تقديري و مودّتي .
              يظن الناس بي خيرا و إنّي
              لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

              تعليق

              • آسيا رحاحليه
                أديب وكاتب
                • 08-09-2009
                • 7182

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة كريم قاسم مشاهدة المشاركة
                لقطات انسانية .. ممتعة
                تحية طيبة

                تحياتي و تقديري و كل الشكر ..
                يظن الناس بي خيرا و إنّي
                لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  نص جميل .. بل رائع

                  سلمت أستاذة آسيا

                  للتثبيت
                  sigpic

                  تعليق

                  • حسن لختام
                    أديب وكاتب
                    • 26-08-2011
                    • 2603

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
                    بطاقة صفراء

                    عشر دقائق و تبدأ متعتي ...
                    لكن .. من يطرق بابي في هذا الوقت ؟ من يجرؤ ؟
                    أسرعت كي أفتح ، محاذرا أن أرتطم بالطاولة فيندلق كوب الشاي الساخن .
                    كنت ، كالعادة ، قد هيّأت للمتعة طقوسها . الشاي . علبة السجائر. / الموبايل .. تأكّدت من أنّه مغلق / . الوسائد . وسادتان عند رأسي ، و ثالثة عند قدمي /أحتاجها لأرفسها أو أضرب بها الحائط تعبيرا عن سخطي أو استيائي /
                    مضى وقت طويل مذ توقفت عن السفر و متابعة المباريات مباشرة من على المدرّجات . سنّي لم يعد يسمح و لا الوقت يسعفني . و ما عدت أحتمل الضّوضاء و الهرج و الزّحام .
                    أحنيت قامتي فارتطمت عيناي بوجهه المستدير ، شعره أسود كثيف متجمّع أكثره فوق جبهته الضيّقة . عيناه سوداوان واسعتان ، تبرقان بوميض لا نبصره سوى في عيون الأطفال .
                    - أهلا صابر .
                    - مساء الخير عمي . القناة عندنا لا تعمل . قالت لي أمي اذهب و شاهد المباراة عند عمك سليم .
                    تضايقت قليلا ، لكني أجبرت نفسي على الابتسام . أشرت له برأسي أن يدخل . أمرٌ غير متوقّع حقا . أكره الأمور المباغتة . لا أعرف كيف أتصرّف حيالها . اعتدت أن أكون وحيدا في بيتي . و عكس غيري لا أحب أن يشاركني أحد مشاهدة مباراة . لكن تخييب أمل طفل صغير يعدّ جريمة . ثم هو صابر الجميل ، المؤدب . يقيم مع والدته الأرملة الشابة و جدّته المسنّة في الشقة التي فوق شقّتي تماما .
                    كثيرا ما تجمعني الصدفة ، على السلالم ، بوالدته .. و كم كنت أخجل من التحديق فيها . أسرع خطاي مكتفيا برد التحية ، لكنها لا تدري بأني ما أن أدخل شقّتي حتى أجري صوب النافذة ، أراقبها منها و هي تعبر الشارع ، و شيء أحاول تجاهله يهز كياني لكل خطوة تخطوها . و مع ذلك لم أحاول الدنوّ منها . لم أفكر في ملاحقتها أو مغازلتها أو التواصل معها بأي شكل كان . لم تكن تلك عادتي حيال الجنس اللطيف . لكن ذلك كان و أنا شاب . تغيّرتُ مع الزمن . زواجي ثم تجربتي مع الطلاق غيّراني .
                    أدركني التعّقل أخيرا و أصبحت رجلا ناضجا يحسب للمغامرة ألف حساب .في الحقيقة لم أرد أن أتغير لكنه حصل . النضج أيضا نحن لا نصله بإرادتنا ، بل رغما عنا . لم يكن سهلا أن التزم و ألزم جانب العفة . كثيرا ما قلت لصديق لي ، أعزب ، بأنّ المطلّق أتعس من الأعزب و من المتزوّج . صعبٌ أن تعيش الجحيم و لكن الأصعب أن تتذوّق نعيم الجنة ثم تجبر على الهبوط منها .
                    مؤكد أنّ آدم كان أتعسنا جميعا .
                    في ما بين الشوطين ، قمت لكي أسخّن الشاي . حين عدت انتبهت إلى أنّ الصغير قد ذهب في نوم عميق . تدحرج رأسه فوق كتفه و ارتخت أطرافه . لم أدر ماذا أفعل . عدّلت من وضعه . نظرت إليه و ابتسمت . أجمل ما في الكون طفلٌ نائم . في مثل سنه تقريبا / عشر سنوات / كان ابني حليم حين دقّت بيني و بين والدته نواقيس الطلاق . لم نتفق . حاولنا لكننا لم نفلح . قرّرنا الانفصال . انفصلنا بهدوء غير مألوف . لم يحدث طلاقنا تلك الزوبعة المعهودة داخل الأسر . و الغريب أننا بعد انفصالنا اتفقنا بشكل عجيب ! اليوم نكاد نكون أصدقاء . تتصل بي باستمرار . تستشيرني في أمر حليم . أهاتفها أيضا . أسأل عنها و عن الولد . أذكر أنها مرة دعتني للعشاء بمناسبة عيد ميلاده .
                    ربما يجب أن ينفصل كل الأزواج الذين لا يتّفقون كي يدركوا أنه بإمكانهم الاتفاق !
                    يا لغرابة الفكرة .
                    اللعب يسير بوتيرة بطيئة ، مملة . لم أستطع أن أصمت و رحت أعطي رأيي ، بصوت مسموع ، في ما كان يجب أن يكون عليه اللعب .
                    تذكرت والدتي ... " كل من هو خارج الملعب لعّاب " ، كانت تقول .
                    طرق آخر على الباب .
                    مباغتة أخرى .
                    الفتنة أمامي ..تقف على قدميها .
                    - أتيت لأصطحب صابر . أخشى أنّه أزعجك .
                    الذي يزعجني هو هذه المحرقة في صدري يا سيدتي .
                    أخبرتها أنه لم يفعل ... أنّه خلد للنوم و من الأفضل تركه ينام إلى الغد .
                    لا أدري كيف قلت ذلك و لا لماذا . كأنما أردت أن أحتفظ ببعضٍ منها عندي لمدّة أطول .
                    - حسنا . شكرا .. معذرة على الإزعاج . تصبح على خير .
                    ابتسمت . صعدت السلم و هي تحكم لفّ شالها على رأسها و نحرها .
                    كدت أقول لها "لا .. لا تذهبي . ابقي قليلا . " لكنني تماسكت .
                    شيّعتها بقلبي بينما عطرها يسافر في العمارة و في بيتي ... و في دمائي .
                    لم تغتسل مساحة بيتي بعطر أنثويّ منذ سبعة قرون .
                    عدت لأتابع المباراة . أخفضت صوت التلفاز كي لا يوقظ صابر . كأنّي صرت أحبه فجأة هذا الصغير . ماذا ؟ بطاقة حمراء ؟ لا .. لا .. صفراء . يا لثوبها ! مزيج من اللون الأصفر و الأخضر . لأول مرة أنتبه أنّ الأخضر و الأصفر يمكن أن ينسجما و بشكل جميل ...يا لشعرها و عينيها و قوامها و نهدها .. يا لرائحة الأنوثة حين تغشاك فتخدّر وعيك ،و تخلّفك مشدوه الروح ، مشوّش الذات ، مستلب الإرادة .
                    رأيتها بوضوح رغم الإنارة الضعيفة في سلالم العمارة . جميلة . تفاصيل أنوثتها صارخة . شفتاها ممتلئتان ، شهيتان ، كأنهما ما خلقتا سوى للتقبيل . بضع ثوان و هي تقف قبالتي عند عتبة الباب كانت كافية لقلب كياني ...لكني استغربت جرأتها .. ماذا لو رآها أحد الجيران ؟ أكره جرأتها . بل ..أخشاها .. لا لا .. الآن أنا أحبها أكثر ... لأنها جريئة . لمن البطاقة ؟ آه .. لاعب متهوّر هذا. لو كنت مكان المدرب لما ضممته للفريق .
                    لو أني طلبت منها أن تدخل لتحمل طفلها بين ذراعيها و تصعد به إلى الشقّة ؟ ترى هل كانت ستفعل ؟
                    و ما كنت فاعلا أنا لو أنّها أصبحت في قلب الغرفة ؟ و لكن ما الذي منعك عنها كل ذلك الوقت أيها الأبله ؟ لاشيء . لا أحد سواى . أنا تعمّدت أن أنشغل عنها و عن سواها .
                    نعتب على الحياة كونها لا تمنحنا الظروف الملائمة لاحتضان اللذات ، و حين تتوفر الظروف نتفنّن نحن في خلق ظروف أخرى / غير ملائمة / .
                    كنت أتعمد أن أشغل وقتي بأمور كثيرة ..لا يهم ما تكون . المهم أن لا أجد وقتا لأركب بحر الشهوات . حتى أنّني جرّبت السياسة . انخرطت في جمعية تنشط محليا . العمل السياسي يجعلك تتوهّم و توهم غيرك بأنك مهمّ جدا ، و مشغولٌ على الدّوام ، و أنّك لا تملك لنفسك ثانية واحدة ، و أنّ ما تقوم به خارقا للعادة ، مع أنّك في حقيقة الأمر لا تفعل شيئا ذا قيمة ، مطلقا ..كل الأشياء / غير ذات القيمة أيضا / تأتي من فوق !
                    تصبح على خير ، قالت . أي خير يا فاتنتي و قد أضرمت عيناك في دمي حرائق الحب و الرغبة ؟ أنا الذي حشرت جسدي في جلباب قديس و ألزمت شهواتي بحمية قاسية ..خشية أن يجرفني التيار إلى حيث لا رجوع .
                    و لم أستطع النوم . بدا الليل طويلا جدا . أطول من كل الليالي . لابد أنّ أوسكار وايلد قد واجه ما واجهته لكي يخلص إلى قوله " أستطيع أن أقاوم كل شيء عدا الإغواء " .. و كانت مغرية حقا . حدّ الجنون ، و كل ما حولنا مغر .. المساء الربيعي ، صمت العمارة ، طفلها النائم ، رغبتي المستيقظة ، جوع السبع العجاف ، سريري الذي ملّ احتضاني منفردا كحصان موبوء أبعدوه عن القطيع ..
                    و ذلك الرجاء في عينيها و خلف ابتسامتها .
                    لا يحتاج الرجل لأن يكون عبقريا لكي يفكّ شفرة النداء أو يترجم لغة الرغبة في عيون أنثى .
                    نمت مع أواخر الليل ، بعد أن تكفّلت ريشة خيالي برسم كل معالم اللذة . نمت و هي في حضني ، غير أني لمحت ظل كفٍ تلوّح ببطاقة صفراء ..داخل رأسي .
                    في الصباح حضّرت لصابر كوب حليب . كانت هناك علبة بسكويت في الخزانة . وضعتها أمامه . لم يبد مستاءً من مبيته خارج حضن والدته . بالعكس . بدا مرتاحا جدا كأنه معتاد على المبيت عندي . قد يكون مردّ ذلك إلى حاجته للإحساس بوجود الأب . مسكين صابر .
                    في طريقي إلى العمل اتصلت بابني " ألو .. صباح الخير . كيف حالك .أتصل لأقول لك أنّه يمكنك أن تأتي للعيش معي ..أمازلت ترغب في ذلك ؟ حسنا .. أخبر والدتك و أجمع أغراضك . سأنتظرك " .
                    و قبل أن أنهي المكالمة " نسيت أن أقول لك .. لابد أن تكون هنا قبل يوم الأحد . "
                    الأحد مساءً هو موعد مباراة أخرى مهمة . أشعر بالقلق . لا أريد أن أكون لوحدي .
                    أكيد سوف يأتي صابر ليشاهد المباراة عندي ، و أكيد سوف يغرق في النوم ..
                    و أكيد سوف ...


                    مارس 2013 / آسيا رحاحليه /
                    ياالله، على هذا القص الممتع والشيّق والمثير..أنحني متواضعا أمام هذا النص المغري..
                    شكرا لك، أيتها الراقية على لذة القراءة..راقت لي جدا نهاية النص الذكية والاحترافية
                    محبتي وكل التقدير، أيتها المبدعة الأنيقة آسيا رحاحليه

                    تعليق

                    • آسيا رحاحليه
                      أديب وكاتب
                      • 08-09-2009
                      • 7182

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة وسام دبليز مشاهدة المشاركة
                      لا ادري لما احس أن قصصك تلامسني احبها اعشق لغتك أعشق سردك فأكون كمن ينتظر اللقاء لحظة يرا اسمك يبرق جوار نص جديد نص جميل للحظة تسألت ماذا تخبئ آسيا وراء رجل يحضر مبارات لكرة القدم .......آسيا كوني دوما رائعة
                      كوني بقرب قصصي أيتها الرائعة ..
                      و سأكون بخير أنا و قلمي ..
                      ألف شكر لك .
                      يظن الناس بي خيرا و إنّي
                      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                      تعليق

                      • آسيا رحاحليه
                        أديب وكاتب
                        • 08-09-2009
                        • 7182

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                        نص جميل .. بل رائع

                        سلمت أستاذة آسيا


                        للتثبيت
                        مرورك تثبيت أستاذ ربيع ..
                        شكرا أيها الغالي .
                        يظن الناس بي خيرا و إنّي
                        لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                        تعليق

                        • اماني مهدية الرغاي
                          عضو الملتقى
                          • 15-10-2012
                          • 610

                          #13
                          المبدعة المقتدرة آسيا
                          استمتعت حقا بالقراءة سردك بديع سلس مشوق
                          ومنسدل في احترافية لا تخطئها العين ولا الحس
                          أجدت أخيتي جام لك الإبداع والإمتاع
                          مودتي وباقة ورد لصفاء روحك
                          اماني

                          تعليق

                          • آسيا رحاحليه
                            أديب وكاتب
                            • 08-09-2009
                            • 7182

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة اماني مهدية الرغاي مشاهدة المشاركة
                            المبدعة المقتدرة آسيا
                            استمتعت حقا بالقراءة سردك بديع سلس مشوق
                            ومنسدل في احترافية لا تخطئها العين ولا الحس
                            أجدت أخيتي جام لك الإبداع والإمتاع
                            مودتي وباقة ورد لصفاء روحك
                            اماني

                            الأخت الغالية أماني
                            سرّني جدا أنّ النص نال إعجابك
                            ألف شكر لك و مودّتي .
                            يظن الناس بي خيرا و إنّي
                            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                            تعليق

                            • فوزي سليم بيترو
                              مستشار أدبي
                              • 03-06-2009
                              • 10949

                              #15
                              أكيد سوف يأتي صابر ليشاهد المباراة عندي ، و أكيد سوف يغرق في النوم ..
                              و أكيد سوف ...


                              وأكيد أنني استمتعت بمشاهدة وقراءة هذا النص الكروي الإنساني فائق الجمال
                              أرفع له كرتا
                              أخضر دليل إعجابي به .

                              تحياتي أختنا آسيا رحاحلية
                              فوزي بيترو

                              تعليق

                              يعمل...
                              X