البخيل ؛؛؛والعدس
للكاتب سيد يوسف مرسى
مالت الشمس للغروب ؛وبدأ النهار يعصر نفسه ؛يفض الفلاحين أيديهم من عناء ومشقة العمل ويتأهب كل واحدا للرجوع إلى بيته
تكتظ بهم الطريق ؛يحملون فوق أكتافهم ؛أثقالا عجز الكثير عن حملها ؛تساعدهم دوابهم فى المساعدة والرجوع؛تنظر النساء الآتى قبعن فى ديارهن الطريق لاستقبال أزواجهن وأولادهن بعد يوم من كفاح وشدة ؛ إحداهن فتحت باب بيتها وأسفرت وجهها للشارع والطريق ؛كأنها تستنشق هواء المغيب ؛قبل أن ترى ما بالطريق ؛
مجهدة تلون وجهها باللون الأصفر ؛تحمل بين يديها طفل ؛ضامر أصابه الجاف وأكتسى بلون وجه أمه ؛وإن كان عمرها تعدى الثلاثين بقليل ؛
يسرقها المدى وتطول نظراتها ؛ورجلان يقتربان منها ؛ولا يبدو عليهما أثر العمل فى الحقول ؛دققت النظر فيهما قبل القدوم عليها والإقتراب منها أكثر ؛لم تتعرف عليهما ؛فهى لم تراهما من قبل ؛ ,قليلة الخروج من البيت
لقد مر أمامها وهما ينظران إليها ؛ سرعان ما ارتدا للوراء وهما يتأملانها ؛إعتلاها الخوف وهمت بالدخول منزلها وغلق الباب ؛لكنهما أدركاها بالنداء
وتحسبا من حدوث فعل أمرا غير مرغوب فيه لهما ؛لاحظ أحدهما الأمر فنادى عليها مظهرا أدبا وقال ؛دون مقدمات منه أو من صاحبه
هل أنتى مريضة ؟ وتحتاجى للدواء وأين زوجك ؛إرتبكت وتعلثم الكلام عل لسانها وزاد عندها الرعب ؛ لكنها تكلمت غاضبة فقالت
ما الذى يعنيك من مرضى ؛أو من زوجى ؛تفضل بالإنصراف من هنا وإلا أثرت عليك الناس أنت وصاحبك فيضربوك ؛قال الرجل متبسما ؛نحن لما رأيناك أشفقنا عليك وهالنا كساء وجهك وابنك بالإصفرار ؛وخصوصا لواحدة فى مثل سنك ؛قد نكون سببا فى شفائك أنت وابنك ؛قالت وهل أنت حكيم تعالج المرضى ؛اذهب إلى حال سبيلك من هنا وخذ صاحبك معك ؛
لكن الرجل وصاحبه أصرا على الإستمرار ومعرفة ما بها ؛وذلك ليس عملا للخير منهما وإنما هى الحاجة والسعى للحصول على ثمن الشراب المحرم والكيف الذى يذهب بالعقل والثروة ؛فخرجا يطلبان مالا من إى طريق يأتون به لإرضاء نزواتهم من الشراب والسكر
كان ذلك سببا فى الإلحاح عليها ومضايقتها ؛وأخذا يلطفان من القول معها حتى بدأت تخر عما فى جوفها وعما يسئلان عنه ؛قالت ؛
رزقنى الله بزوج بخيل جدا أعطاه الله
وحرمنى وابنه من كل هذا الخيرالذى يملكه من المال والأطيان
والمواشى فهو ثرى لكنه بخيل علينا فلا يطعمنا إلا شيئ واحدا فقط
عشاءا وغداءا وفطورا وخبزا وعصيرا ؛فصرنا بلون ما نأكل
كما ترايننا أنا وابنى ؛ دهش الرجلان من قولها وتعجبا
عجبا شديدا ؛ وقال أحدهم قولى شيئا يصدق ؛قد نكون سببا فى
شفائك ؛قالت :لقد قلت لكما الحقيقة وليس عندى ما أقوله بعد ذلك ؛
قال أحدهم وقد داهمته قسوة الكيف وألحاهها عليه ؛فماذا يكون أجرنا لو جعلناه يقلع عن هذه العادة ؛وعن هذ ا الإدمان ؛قالت كيف يا سيدى يكون ؟ قال لا عليك وسنجعله يقلع نهائيا عن إدمانه هذا
قالت :الف جنيه فقط مؤخر منها خمسمائة ومنها خمسمائة حالا
قالوا على بركة الله لكن بشرط ؛ان تكونى كتومة صبورة ؛مهما حدث وأن تنفذى ما نقوله وإلا ؟ حدث مالم يحمد عقباه ؛
قالت لكما ما تريدان ؛وأبلغاها تعليماتهما وأنصرفا إلى تنفيد ما أتفقا عليه معها ؛ وأختارا إحدى المقاهى التى تتطرف الطريق الداخلة للقرية ؛وجلسا يتحسيان مشروبهما يتفحصان الطريق ووجوه المارة ؛ولم يمضى وقت طويل حتى هل رجل يركب دابته ؛ ويقترب منهما رويدا رويدا ؛فلما تبينا أنه هو المراد ؛ تظاهرا بعدم الإهتمام به ؛حتى أصبح فى مقابل جلسوهما ؛وكعادة أهل
الريف إذا مر إنسان على جمع جالس أو أحد يجلس ؛يلقى الراكب تحية السلام على الجالسين ؛وألقى الرجل بالسلام ؛وكان هذا مدخلا لهما لجذبه وإيقاعه فى الفخ الذى نصب له ؛فردوا عليه السلام ووقف واحدا متظاهرا ومتعللا بكرم الواجب وحب الجلوس معه والتعرف به عن قرب ؛وما كانت إلا لحظة بسيطة حتى كان فى المصيدة يرتع من أبواق المخدر الذى إعد له ؛وجرى الأمر كما خططا له ؛أن راح الرجل فى سكره وبدأ يغيب وعيه ؛فأركبوه حمارته وسارو خلفه مبتعدين بعض الشيئ حتى لا يلفتا أعين الناس عليهما ؛وهى تقف أمام البيت يساورها القلق والخوف من إفتضاح أمرها ؛ أو
حدوث شيئا للرجل ليس فى الحسبان ؛ حتى إذا وصل قريبا من باب بيته فإذاهو يسقط من فوق حمارته على الأرض غائب الوعى ؛
فيسرعان فى شده داخل منزله ويقبعان بجواره زمن يسيرا حتى ينقطع المارة عن الطريق ويسدل الليل خيمته ؛
ويحملانه إلى مقبرة فتحت له خصيصا ؛وقد لف بكفن وأدخل القبر
وما هى إلا لحظات حتى أفاق من غيبوبته وهما يجلسان بجانبه؛
فلما رآيا صحوته وسمعا صوته ورعبه وفزعه وقد عرف موقعه
جعلا من نفسيهما ملكين ؛ أحدهما منكر والآخر نكير ؛وقد أمسك أحدهما سوطا فى يده ؛ ودارالحساب للأموات وهو يقبع ويتقوقع فى داخله من الخوف والرعب ؛فقال أحدهما للآخر كأنهما يحسبان ميت بجانبه؛ قم يا عبد الله ؛ رد الأخر وهويظهر الخوف والرعب ؛خيرا إن شاء الله ؛ قال ماذا فعلت فى دنياك ؟؛قال ؛الآخر كل شيئ حسن
قال فماذا كان طعامك ؟ قال الآخر ؛كان طعامى طيب ومن كل شيئ حلال ؛ قال:هل أكلت يوما عدسا ؟ نعم أكلته مرة واحدة فى حياتى؛
قال الآخر ؛وهو يظهر غضبه عليه أكلت مرة واحدة عدسا ؛ قال نعم ؛ قال ؛ستذوق عذاب غليظ قد يطول ويمتد ولم نعرف له نهاية؛
وهوى على الأرض بالسوط بقوة مظهرا شدة وقسوة الحساب للجانى الذى أكل مرة واحدة عدسا ؛وزميله يتلوى ويصرخ ويتآوه
وكأنه هو الذى يحاسب ويقع عليه العذاب ؛
وصاحبهما فى كفنه وتسمع أذناه ما يدور حوله ؛وأشتد خوفه وحزنه
وبدأ الندم عليه وهو يقول فى سريرته ؛يالتنى لم أطعم يوما عدسا ،
أو أنظر شكله كليا ؛فماذا يكون عقباى ؟ إذا كان هذا عقاب من أكل مرة واحدة عدسا ؛فماذا يكون عقاب وجزاء من مضى عمره فى أكل العدس ؛
لقد مضى وقت تعدى الساعة وهما يحاسبان جاره المفتعل ؛حتى كلت يد المحاسب وتوقفت ؛ثم مال قليلا إلى صاحبهما ؛قال أحدهما
وهو يخاطب صاحبه ؛إنتظر حتى نرى ضيفنا القادم الجديد
وانحنى إليه يسأله ؛قم يا عبد الله ؛قال خيرا إن شاء الله
قال ماذا فعلت فى دنياك ؟ ؛قال:كل شيئ حسن ؛فماذا كان طعامك ؟
سكت الرجل ولم ينطق وانهمر فى البكاء والتوسل ؛قال الرجل الذى يحاسبه ؛قل وتكلم ليس هنا وقت للتهته ؛قال يا سيدى ؛كانت حياتى وعيشى عدسا ؛قال محاسبه ؛حياتك كلها عدسا ؟ قال نعم
قال محاسبه يبدوا أن عذابك وعقابك مستمر إلى أبد الآبدين
ستنال عقابا شديدا جزاء ما اقترفت يداك من هذا العمل وأكلك
العدس ؛وأنهال عليه بالسوط يقلبه كيف يشاء والرجل يتلوى من شدة العذاب وقسوة العقاب ؛حتى أجهد الرجل وكاد يموت بالفعل ؛
فتوقف محاسبه عن عقابه وقال ، أن بك خيرا بالرغم من أقترافك
وأكلك العدس مدى حياتك ؛ماذا يكون من أمرك لو جعلتك ترجع لدنياك
وابنك وزوجتك ؟ هل تفعل ذلك مرة أخرى ؟قال الرجل ؛أقسم بالله العظيم ؛لن أجعل عينى تنظره ولا لسانى ينطق إسمه مادمت على ظهر الأرض ؛ قال الرجل له لك ما أردت سنجعلك تعود للدنيا ؛
وإياك العودة مرة أخرى ؛سيكون عذابك شديدا وقد رآيت
ثم قال له ؛أنطلق فقد جاء الأمر بتركك فامضى من حيث جئت إلى زوجتك وولدك ودنياك ؛ وخرج وهو لا يصدق أنه عاد للحياة مرة أخرى ودخل بيته فقد كانت زوجته تنتظر وتقف على جمر من جهنم
خوفا من مكروه له يصيبه ؛فلما رآته تظاهرت له بعدم علمها بشيئ
والخوف عليه نظرا لغيابه عن البيت وهى ترى وجهه يعفره التراب
وجسده قد عبأه السوط فصار مثل قطعة قماش تلونت وتهلهلت بفعل السياط
والأزرق الداكن نسخ بمسقطه فى جميع الجوانب ؛وقالت أين كنت ؟وما سبب تأخرك عنا لقد شغلنا بك ؟ وما هذا الذى نراه فى جسدك ؟ قال الرجل ؛لقد أوقعتنى الحمارة فى حفرة فى الطريق وكدت أموت وأغمى علي ولولا فضل الله لكنت فى عداد الأموات ؛
كانت هى قد أعدت ماء ساخنا يغتسل به وأدخلته الحمام وراحت تغسل عنه التراب وتمحو بعض من أثر السوط الذى ركض فى جسده طويلا ؛فلما قضى غسله وبدل ملا بسه نام حتى طلعت عليه شمس الغد وهو متعب ولا يستطيع مفارقة الفراش ؛
ولم تكن عادته أن يتأخر حتى تطلع الشمس عليه فى البيت دون
أن يكون قد سبق الطير فى صحوه ؛
واستيقظ الرجل وهيأت له زوجته فطورا ليس عدسا كما كان
بل أتت إليه بدجاجة ومرقا وفطيرا ؛ فمد يده وبدأ يأكل ولم ينبس بكلمة واحدة إعتراضا على الأكل ؛ حتى شبع وهى تنظر إليه تراقبه
ثم قال لها فجأة ؛ أرغب فى البيع والتخلص من محصول الحنطة الصفراء هذه ؛تظاهرت الزوجه بعدم المعرفة بما يقول ؛فقالت تقصد محصول الفول ؛قال لا؛
قالت:القمح قال : لا
قالت :الحمص
قال : لا
قالت :الذرة الرفيعة
قال : لا
قالت :الذرة الشامية
قال :لا
قالت ؛وهزت رأسها وقالت : أتقصد العدس ؛
وهب من قعوده واقفا نافرا فازعا خائفا وهو يقول ؛أنا لم أذكر إسمه
أنا لم أنظره ؛
أنا لم أذكر إسمه
أنا لم أنظره
سيكون عذابك شديد
سيكون عقابك أليم تحملى عذاب فعلك
بذكرك لإسمه
وكأنه ينادى ويشهد الملائكة الذين حاسبوه فى قبره
أنه لم ينطق إسمه على لسانه
تمت والحمد الله
مع قصائص أخرى
سيد يوسف مرسى
للكاتب سيد يوسف مرسى
مالت الشمس للغروب ؛وبدأ النهار يعصر نفسه ؛يفض الفلاحين أيديهم من عناء ومشقة العمل ويتأهب كل واحدا للرجوع إلى بيته
تكتظ بهم الطريق ؛يحملون فوق أكتافهم ؛أثقالا عجز الكثير عن حملها ؛تساعدهم دوابهم فى المساعدة والرجوع؛تنظر النساء الآتى قبعن فى ديارهن الطريق لاستقبال أزواجهن وأولادهن بعد يوم من كفاح وشدة ؛ إحداهن فتحت باب بيتها وأسفرت وجهها للشارع والطريق ؛كأنها تستنشق هواء المغيب ؛قبل أن ترى ما بالطريق ؛
مجهدة تلون وجهها باللون الأصفر ؛تحمل بين يديها طفل ؛ضامر أصابه الجاف وأكتسى بلون وجه أمه ؛وإن كان عمرها تعدى الثلاثين بقليل ؛
يسرقها المدى وتطول نظراتها ؛ورجلان يقتربان منها ؛ولا يبدو عليهما أثر العمل فى الحقول ؛دققت النظر فيهما قبل القدوم عليها والإقتراب منها أكثر ؛لم تتعرف عليهما ؛فهى لم تراهما من قبل ؛ ,قليلة الخروج من البيت
لقد مر أمامها وهما ينظران إليها ؛ سرعان ما ارتدا للوراء وهما يتأملانها ؛إعتلاها الخوف وهمت بالدخول منزلها وغلق الباب ؛لكنهما أدركاها بالنداء
وتحسبا من حدوث فعل أمرا غير مرغوب فيه لهما ؛لاحظ أحدهما الأمر فنادى عليها مظهرا أدبا وقال ؛دون مقدمات منه أو من صاحبه
هل أنتى مريضة ؟ وتحتاجى للدواء وأين زوجك ؛إرتبكت وتعلثم الكلام عل لسانها وزاد عندها الرعب ؛ لكنها تكلمت غاضبة فقالت
ما الذى يعنيك من مرضى ؛أو من زوجى ؛تفضل بالإنصراف من هنا وإلا أثرت عليك الناس أنت وصاحبك فيضربوك ؛قال الرجل متبسما ؛نحن لما رأيناك أشفقنا عليك وهالنا كساء وجهك وابنك بالإصفرار ؛وخصوصا لواحدة فى مثل سنك ؛قد نكون سببا فى شفائك أنت وابنك ؛قالت وهل أنت حكيم تعالج المرضى ؛اذهب إلى حال سبيلك من هنا وخذ صاحبك معك ؛
لكن الرجل وصاحبه أصرا على الإستمرار ومعرفة ما بها ؛وذلك ليس عملا للخير منهما وإنما هى الحاجة والسعى للحصول على ثمن الشراب المحرم والكيف الذى يذهب بالعقل والثروة ؛فخرجا يطلبان مالا من إى طريق يأتون به لإرضاء نزواتهم من الشراب والسكر
كان ذلك سببا فى الإلحاح عليها ومضايقتها ؛وأخذا يلطفان من القول معها حتى بدأت تخر عما فى جوفها وعما يسئلان عنه ؛قالت ؛
رزقنى الله بزوج بخيل جدا أعطاه الله
وحرمنى وابنه من كل هذا الخيرالذى يملكه من المال والأطيان
والمواشى فهو ثرى لكنه بخيل علينا فلا يطعمنا إلا شيئ واحدا فقط
عشاءا وغداءا وفطورا وخبزا وعصيرا ؛فصرنا بلون ما نأكل
كما ترايننا أنا وابنى ؛ دهش الرجلان من قولها وتعجبا
عجبا شديدا ؛ وقال أحدهم قولى شيئا يصدق ؛قد نكون سببا فى
شفائك ؛قالت :لقد قلت لكما الحقيقة وليس عندى ما أقوله بعد ذلك ؛
قال أحدهم وقد داهمته قسوة الكيف وألحاهها عليه ؛فماذا يكون أجرنا لو جعلناه يقلع عن هذه العادة ؛وعن هذ ا الإدمان ؛قالت كيف يا سيدى يكون ؟ قال لا عليك وسنجعله يقلع نهائيا عن إدمانه هذا
قالت :الف جنيه فقط مؤخر منها خمسمائة ومنها خمسمائة حالا
قالوا على بركة الله لكن بشرط ؛ان تكونى كتومة صبورة ؛مهما حدث وأن تنفذى ما نقوله وإلا ؟ حدث مالم يحمد عقباه ؛
قالت لكما ما تريدان ؛وأبلغاها تعليماتهما وأنصرفا إلى تنفيد ما أتفقا عليه معها ؛ وأختارا إحدى المقاهى التى تتطرف الطريق الداخلة للقرية ؛وجلسا يتحسيان مشروبهما يتفحصان الطريق ووجوه المارة ؛ولم يمضى وقت طويل حتى هل رجل يركب دابته ؛ ويقترب منهما رويدا رويدا ؛فلما تبينا أنه هو المراد ؛ تظاهرا بعدم الإهتمام به ؛حتى أصبح فى مقابل جلسوهما ؛وكعادة أهل
الريف إذا مر إنسان على جمع جالس أو أحد يجلس ؛يلقى الراكب تحية السلام على الجالسين ؛وألقى الرجل بالسلام ؛وكان هذا مدخلا لهما لجذبه وإيقاعه فى الفخ الذى نصب له ؛فردوا عليه السلام ووقف واحدا متظاهرا ومتعللا بكرم الواجب وحب الجلوس معه والتعرف به عن قرب ؛وما كانت إلا لحظة بسيطة حتى كان فى المصيدة يرتع من أبواق المخدر الذى إعد له ؛وجرى الأمر كما خططا له ؛أن راح الرجل فى سكره وبدأ يغيب وعيه ؛فأركبوه حمارته وسارو خلفه مبتعدين بعض الشيئ حتى لا يلفتا أعين الناس عليهما ؛وهى تقف أمام البيت يساورها القلق والخوف من إفتضاح أمرها ؛ أو
حدوث شيئا للرجل ليس فى الحسبان ؛ حتى إذا وصل قريبا من باب بيته فإذاهو يسقط من فوق حمارته على الأرض غائب الوعى ؛
فيسرعان فى شده داخل منزله ويقبعان بجواره زمن يسيرا حتى ينقطع المارة عن الطريق ويسدل الليل خيمته ؛
ويحملانه إلى مقبرة فتحت له خصيصا ؛وقد لف بكفن وأدخل القبر
وما هى إلا لحظات حتى أفاق من غيبوبته وهما يجلسان بجانبه؛
فلما رآيا صحوته وسمعا صوته ورعبه وفزعه وقد عرف موقعه
جعلا من نفسيهما ملكين ؛ أحدهما منكر والآخر نكير ؛وقد أمسك أحدهما سوطا فى يده ؛ ودارالحساب للأموات وهو يقبع ويتقوقع فى داخله من الخوف والرعب ؛فقال أحدهما للآخر كأنهما يحسبان ميت بجانبه؛ قم يا عبد الله ؛ رد الأخر وهويظهر الخوف والرعب ؛خيرا إن شاء الله ؛ قال ماذا فعلت فى دنياك ؟؛قال ؛الآخر كل شيئ حسن
قال فماذا كان طعامك ؟ قال الآخر ؛كان طعامى طيب ومن كل شيئ حلال ؛ قال:هل أكلت يوما عدسا ؟ نعم أكلته مرة واحدة فى حياتى؛
قال الآخر ؛وهو يظهر غضبه عليه أكلت مرة واحدة عدسا ؛ قال نعم ؛ قال ؛ستذوق عذاب غليظ قد يطول ويمتد ولم نعرف له نهاية؛
وهوى على الأرض بالسوط بقوة مظهرا شدة وقسوة الحساب للجانى الذى أكل مرة واحدة عدسا ؛وزميله يتلوى ويصرخ ويتآوه
وكأنه هو الذى يحاسب ويقع عليه العذاب ؛
وصاحبهما فى كفنه وتسمع أذناه ما يدور حوله ؛وأشتد خوفه وحزنه
وبدأ الندم عليه وهو يقول فى سريرته ؛يالتنى لم أطعم يوما عدسا ،
أو أنظر شكله كليا ؛فماذا يكون عقباى ؟ إذا كان هذا عقاب من أكل مرة واحدة عدسا ؛فماذا يكون عقاب وجزاء من مضى عمره فى أكل العدس ؛
لقد مضى وقت تعدى الساعة وهما يحاسبان جاره المفتعل ؛حتى كلت يد المحاسب وتوقفت ؛ثم مال قليلا إلى صاحبهما ؛قال أحدهما
وهو يخاطب صاحبه ؛إنتظر حتى نرى ضيفنا القادم الجديد
وانحنى إليه يسأله ؛قم يا عبد الله ؛قال خيرا إن شاء الله
قال ماذا فعلت فى دنياك ؟ ؛قال:كل شيئ حسن ؛فماذا كان طعامك ؟
سكت الرجل ولم ينطق وانهمر فى البكاء والتوسل ؛قال الرجل الذى يحاسبه ؛قل وتكلم ليس هنا وقت للتهته ؛قال يا سيدى ؛كانت حياتى وعيشى عدسا ؛قال محاسبه ؛حياتك كلها عدسا ؟ قال نعم
قال محاسبه يبدوا أن عذابك وعقابك مستمر إلى أبد الآبدين
ستنال عقابا شديدا جزاء ما اقترفت يداك من هذا العمل وأكلك
العدس ؛وأنهال عليه بالسوط يقلبه كيف يشاء والرجل يتلوى من شدة العذاب وقسوة العقاب ؛حتى أجهد الرجل وكاد يموت بالفعل ؛
فتوقف محاسبه عن عقابه وقال ، أن بك خيرا بالرغم من أقترافك
وأكلك العدس مدى حياتك ؛ماذا يكون من أمرك لو جعلتك ترجع لدنياك
وابنك وزوجتك ؟ هل تفعل ذلك مرة أخرى ؟قال الرجل ؛أقسم بالله العظيم ؛لن أجعل عينى تنظره ولا لسانى ينطق إسمه مادمت على ظهر الأرض ؛ قال الرجل له لك ما أردت سنجعلك تعود للدنيا ؛
وإياك العودة مرة أخرى ؛سيكون عذابك شديدا وقد رآيت
ثم قال له ؛أنطلق فقد جاء الأمر بتركك فامضى من حيث جئت إلى زوجتك وولدك ودنياك ؛ وخرج وهو لا يصدق أنه عاد للحياة مرة أخرى ودخل بيته فقد كانت زوجته تنتظر وتقف على جمر من جهنم
خوفا من مكروه له يصيبه ؛فلما رآته تظاهرت له بعدم علمها بشيئ
والخوف عليه نظرا لغيابه عن البيت وهى ترى وجهه يعفره التراب
وجسده قد عبأه السوط فصار مثل قطعة قماش تلونت وتهلهلت بفعل السياط
والأزرق الداكن نسخ بمسقطه فى جميع الجوانب ؛وقالت أين كنت ؟وما سبب تأخرك عنا لقد شغلنا بك ؟ وما هذا الذى نراه فى جسدك ؟ قال الرجل ؛لقد أوقعتنى الحمارة فى حفرة فى الطريق وكدت أموت وأغمى علي ولولا فضل الله لكنت فى عداد الأموات ؛
كانت هى قد أعدت ماء ساخنا يغتسل به وأدخلته الحمام وراحت تغسل عنه التراب وتمحو بعض من أثر السوط الذى ركض فى جسده طويلا ؛فلما قضى غسله وبدل ملا بسه نام حتى طلعت عليه شمس الغد وهو متعب ولا يستطيع مفارقة الفراش ؛
ولم تكن عادته أن يتأخر حتى تطلع الشمس عليه فى البيت دون
أن يكون قد سبق الطير فى صحوه ؛
واستيقظ الرجل وهيأت له زوجته فطورا ليس عدسا كما كان
بل أتت إليه بدجاجة ومرقا وفطيرا ؛ فمد يده وبدأ يأكل ولم ينبس بكلمة واحدة إعتراضا على الأكل ؛ حتى شبع وهى تنظر إليه تراقبه
ثم قال لها فجأة ؛ أرغب فى البيع والتخلص من محصول الحنطة الصفراء هذه ؛تظاهرت الزوجه بعدم المعرفة بما يقول ؛فقالت تقصد محصول الفول ؛قال لا؛
قالت:القمح قال : لا
قالت :الحمص
قال : لا
قالت :الذرة الرفيعة
قال : لا
قالت :الذرة الشامية
قال :لا
قالت ؛وهزت رأسها وقالت : أتقصد العدس ؛
وهب من قعوده واقفا نافرا فازعا خائفا وهو يقول ؛أنا لم أذكر إسمه
أنا لم أنظره ؛
أنا لم أذكر إسمه
أنا لم أنظره
سيكون عذابك شديد
سيكون عقابك أليم تحملى عذاب فعلك
بذكرك لإسمه
وكأنه ينادى ويشهد الملائكة الذين حاسبوه فى قبره
أنه لم ينطق إسمه على لسانه
تمت والحمد الله
مع قصائص أخرى
سيد يوسف مرسى
تعليق