الكاتبة: حين تواجهنا قسوة الحياة نمر بلحظات ضعف، نتساءل فيها عن معناها..
حبة صنوبر
قصة حنين حمودة
كنت بذرة لا أزال حين كنت أسكن رحم ثمرة الصنوبر الجميلة.كنت أنعم بالدفء والراحة، وكان طعامي يأتيني حيث كنت، دون أي تعب أو مشقة.
كانت الصنوبرة تضم عدة غرف، وكانت البذور تتوزع على هذه الغرف بحيث تشغل كل بذرة غرفة. وكان حظي غرفة كبيرة برحة في أوسطها.
.. كبرت، فقد كان ثوبي رقيقا لينا يسمح لي بالنمو دون أن يتذمر أو يهدد بالكشف عن عورتي، لكنه مع الأيام ودون مقدمات صار يقسو ويقيد حريتي !
قررت أن أصارحه بمضايقته، فهو رفيق العمر الذي لم يرد لي طلبا يوما.
قال لي: آسف يا صديقتي. الأمر ليس بيدي، لقد وصلت سن الشيخوخة_ أدام الله شبابك_ وصرت أعاني التصلب في مفاصلي.
قلت بتخوف وأنا أطرق عليه بقوة: ولكنك تحبسني هكذا. افتح لي بابا هنا على الأقل!!
أحسست قسوته وأنا أطرق عليه وهو لا يتزحزح. طرقت أقوى وأقوى، لكنه قال: آسف يا صديقتي.
صرخت وصرخت، لكن شيخوخته أثرت على سمعه كما يبدو، فلم يستجب، ولا حتى تأسف !!
عشت أيام سجن مرة. ما عدت أتلذذ بطعام أو شراب ..
إلى أن فتحت غرف ثمرة الصنوبر أبوابها. عندها أشرقت الدنيا في ناظري!
رحت أتطلع من خلال فتحات التهوئة الصغيرة في الغلاف. كانت الدنيا في الخارج غاية في الروعة!
ألوان.. ألوان. أخضر، بني، أزرق.. وعطرٌ ساحر يعبق بجوها!
تغيرت الحال وصرت أتمتع بحياتي التي اعتادت الحبس والمنع، وصارت كل نسمة هواء تحمل لي رسائل حبٍ معطرة من كل الأرجاء والأجواء.
ذات يوم وبينما كنت أفك خط نسيم الصباح، اشتدت قوة الريح بشكل لم يسبق له أن كان. صارت ثمرة الصنوبر تهتز وتميل بقوة. نظرت إلى الخارج أستفهم الحدث، لأرى أن الشجر كله كان يرقص بجنون !
حاولت أن أتمسك بثمرة الصنوبر، لكنني كمعظم اخوتي.. سقطت.
وهكذا بدأت رحلة مخيفة على بساط الريح.
كانت الريح تصفر وهي تلف بي الدنيا بحركة متواصلة، فلا تكاد ترميني حتى تحملني ثانية. عاملتني بطريقة همجية لا شأن لها برقتها التي عهدت.
كانت مجنونة .. تعاني حالة هيجان!
كانت صفعاتها قوية، تطوحني.. وتضرب بي كل ما يصادفها، مما أفقدني وعيي.
حين فتحت عيني، كانت العاصفة قد هدأت، وكنت قد وصلت إلى عالم آخر!
نظرت حولي كنت غارقة في دموعي التي اختلطت بدموع السماء.
شعرت بالثبات على الأرض. شكرت قشرتي( سجني الذي أكره) لأنها حمتني من الضربات الموجعة. تلفت حولي، أتعرف على منفاي الذي دفعتني الأقدار إليه. كنت هناك وحدي، أتمدد على مساحة بنية شاسعة لا أرى لها أولا من آخر.
بكيت حالي. بكيت غربتي ومنفاي.
فجأة ، أحسست هزة في موطئي. جففت دموعي ونظرت إلى الأرض. كانت التربة قد أوحلت من كثرة الدموع، وكمن داس على دوامة رملية، صرت أهبط وأهبط.. وكل محاولة للخروج تدفعني بقوة أكبر إلى أسفل!
مرت .. لا أعرف كم مضى، فقد كنت أتمدد في قبري!!
لا أرى فيه شيئا، لا أسمع شيئا .. فقدت السمع والبصر! الشيء الوحيد الذي لم أفقده هو ذاكرتي، وغلافي الذي كان يثبت لي صدق صداقته في كل موقف. أولا حين حماني خلال العاصفة ، ثانيا حين لم يفارقني ويتخل عني في هذه الظروف الحالكة.
لكني مع الأيام صرت أخاف عليه، وعلي بالتالي، فقد شعرت ضعفا في جداره!
حين تحسست الجدار ووجدت أنه طري، لمست فيه التحلل والموت !!
عندها قررت أن أحترم الموت، وأن أصمت .. حتى عن الرجاء!
تفكرت في ظلم هذه الدنيا. مر شريط حياتي في بالي، ولم يزدني هذا الشريط الا احساسا بالظلم والمرارة. تذكرت حبسي وصبري وألمي ..
أنا حقا طيبة جدا، فلماذا أعاني وحشة القبر ؟!!
لم أوذِ أحدا قط. لماذا أموت ؟!!
بقيت فترة لا أتزحزح وأنا أترقب الموت، حتى خطر لي أن أطرق طرقا بسيطا على الغلاف، من باب الفضول. ومع أول طرقة، انفتح الباب.
اختلطت عليَّ المشاعر، خوف وأمل، وحزن وفرح .
لأول مرة في حياتي أصادف باب الحرية مفتوحاً. غلبتني الرغبة في الخروج، فرميت الخوف جانبا ودفعت. دفعت جزءا صغيرا إلى أسفل، أما الجزء الأكبر فكان يتماشى مع الرغبة العارمة في الصعود نحو السماء.
دفعت القشرة، وبقوة أكبر دفعت التربة.. وصعدت.
صعدت وصعدت .. ومع الشمس والهواء، تفتحت ورقة !
عندها علمت أن رحلتي نحو الموت، هي في الحقيقة رحلتي نحو الحياة !
وهكذا كبرت وكبرت وكبرت ، حتى صرت شجرة صنوبر باسقة، أحمل الكثير من أعشاش العصافير، والكثير الكثير من بذور الحياة.
***
حبة صنوبر
قصة حنين حمودة
كنت بذرة لا أزال حين كنت أسكن رحم ثمرة الصنوبر الجميلة.كنت أنعم بالدفء والراحة، وكان طعامي يأتيني حيث كنت، دون أي تعب أو مشقة.
كانت الصنوبرة تضم عدة غرف، وكانت البذور تتوزع على هذه الغرف بحيث تشغل كل بذرة غرفة. وكان حظي غرفة كبيرة برحة في أوسطها.
.. كبرت، فقد كان ثوبي رقيقا لينا يسمح لي بالنمو دون أن يتذمر أو يهدد بالكشف عن عورتي، لكنه مع الأيام ودون مقدمات صار يقسو ويقيد حريتي !
قررت أن أصارحه بمضايقته، فهو رفيق العمر الذي لم يرد لي طلبا يوما.
قال لي: آسف يا صديقتي. الأمر ليس بيدي، لقد وصلت سن الشيخوخة_ أدام الله شبابك_ وصرت أعاني التصلب في مفاصلي.
قلت بتخوف وأنا أطرق عليه بقوة: ولكنك تحبسني هكذا. افتح لي بابا هنا على الأقل!!
أحسست قسوته وأنا أطرق عليه وهو لا يتزحزح. طرقت أقوى وأقوى، لكنه قال: آسف يا صديقتي.
صرخت وصرخت، لكن شيخوخته أثرت على سمعه كما يبدو، فلم يستجب، ولا حتى تأسف !!
عشت أيام سجن مرة. ما عدت أتلذذ بطعام أو شراب ..
إلى أن فتحت غرف ثمرة الصنوبر أبوابها. عندها أشرقت الدنيا في ناظري!
رحت أتطلع من خلال فتحات التهوئة الصغيرة في الغلاف. كانت الدنيا في الخارج غاية في الروعة!
ألوان.. ألوان. أخضر، بني، أزرق.. وعطرٌ ساحر يعبق بجوها!
تغيرت الحال وصرت أتمتع بحياتي التي اعتادت الحبس والمنع، وصارت كل نسمة هواء تحمل لي رسائل حبٍ معطرة من كل الأرجاء والأجواء.
ذات يوم وبينما كنت أفك خط نسيم الصباح، اشتدت قوة الريح بشكل لم يسبق له أن كان. صارت ثمرة الصنوبر تهتز وتميل بقوة. نظرت إلى الخارج أستفهم الحدث، لأرى أن الشجر كله كان يرقص بجنون !
حاولت أن أتمسك بثمرة الصنوبر، لكنني كمعظم اخوتي.. سقطت.
وهكذا بدأت رحلة مخيفة على بساط الريح.
كانت الريح تصفر وهي تلف بي الدنيا بحركة متواصلة، فلا تكاد ترميني حتى تحملني ثانية. عاملتني بطريقة همجية لا شأن لها برقتها التي عهدت.
كانت مجنونة .. تعاني حالة هيجان!
كانت صفعاتها قوية، تطوحني.. وتضرب بي كل ما يصادفها، مما أفقدني وعيي.
حين فتحت عيني، كانت العاصفة قد هدأت، وكنت قد وصلت إلى عالم آخر!
نظرت حولي كنت غارقة في دموعي التي اختلطت بدموع السماء.
شعرت بالثبات على الأرض. شكرت قشرتي( سجني الذي أكره) لأنها حمتني من الضربات الموجعة. تلفت حولي، أتعرف على منفاي الذي دفعتني الأقدار إليه. كنت هناك وحدي، أتمدد على مساحة بنية شاسعة لا أرى لها أولا من آخر.
بكيت حالي. بكيت غربتي ومنفاي.
فجأة ، أحسست هزة في موطئي. جففت دموعي ونظرت إلى الأرض. كانت التربة قد أوحلت من كثرة الدموع، وكمن داس على دوامة رملية، صرت أهبط وأهبط.. وكل محاولة للخروج تدفعني بقوة أكبر إلى أسفل!
مرت .. لا أعرف كم مضى، فقد كنت أتمدد في قبري!!
لا أرى فيه شيئا، لا أسمع شيئا .. فقدت السمع والبصر! الشيء الوحيد الذي لم أفقده هو ذاكرتي، وغلافي الذي كان يثبت لي صدق صداقته في كل موقف. أولا حين حماني خلال العاصفة ، ثانيا حين لم يفارقني ويتخل عني في هذه الظروف الحالكة.
لكني مع الأيام صرت أخاف عليه، وعلي بالتالي، فقد شعرت ضعفا في جداره!
حين تحسست الجدار ووجدت أنه طري، لمست فيه التحلل والموت !!
عندها قررت أن أحترم الموت، وأن أصمت .. حتى عن الرجاء!
تفكرت في ظلم هذه الدنيا. مر شريط حياتي في بالي، ولم يزدني هذا الشريط الا احساسا بالظلم والمرارة. تذكرت حبسي وصبري وألمي ..
أنا حقا طيبة جدا، فلماذا أعاني وحشة القبر ؟!!
لم أوذِ أحدا قط. لماذا أموت ؟!!
بقيت فترة لا أتزحزح وأنا أترقب الموت، حتى خطر لي أن أطرق طرقا بسيطا على الغلاف، من باب الفضول. ومع أول طرقة، انفتح الباب.
اختلطت عليَّ المشاعر، خوف وأمل، وحزن وفرح .
لأول مرة في حياتي أصادف باب الحرية مفتوحاً. غلبتني الرغبة في الخروج، فرميت الخوف جانبا ودفعت. دفعت جزءا صغيرا إلى أسفل، أما الجزء الأكبر فكان يتماشى مع الرغبة العارمة في الصعود نحو السماء.
دفعت القشرة، وبقوة أكبر دفعت التربة.. وصعدت.
صعدت وصعدت .. ومع الشمس والهواء، تفتحت ورقة !
عندها علمت أن رحلتي نحو الموت، هي في الحقيقة رحلتي نحو الحياة !
وهكذا كبرت وكبرت وكبرت ، حتى صرت شجرة صنوبر باسقة، أحمل الكثير من أعشاش العصافير، والكثير الكثير من بذور الحياة.
***
تعليق