لملمنا الأغراض من ملابس ومخداتٍ وأواني الطبخ الضرورية، لم ننس الحليب المجفّف ومصباح الجيب ومبيدات الحشرات وأيضا مصيدة للفئران.. ثم ودعنا الأهل والصحاب منطلقين كقوس زفْيان نحو المجهول المعروف، مقتفين أثر بلاد غامضة واضحة المعالم ... لأننا نعي جيدا وجهتنا وندري إلى أين نحن سائرون، فالمكان مجهول أي نعم، لكنه معروف على وجه الخريطة الذهنية للكثير منّا، والمدرسة التي ستكون أول لقاء فيزيقي بيننا وبين التلامذة غامضة في مخيلتنا، لكنها واضحة المعالم في شكلها كما صوروها لنا أساتذتنا، والطريق السالكة إليها صارت محفوظة عن ظهر قلب كما شرحها لنا "أصحاب الحسنات"، واسمها المبثوث في قرار التعيين الذي وقعه نائب وزارة التربية الوطنية بات جزءا من تاريخنا...
كنا أربعة طلابٍ؛ أنا وعمر ابن بلْدتي أما عبد العزيز وسعيد فينحدران من مدينة الرياح؛ لن تكون إلا "الصويرة".. شاءت الأقدار أن نتقاسم نفس الفصل الدراسي أيام التكوين، وها نحن نتقاسم ذات الطريق الطويلة والشديدة الانعراج الذي يشْرَم حقول قمحٍ تتراءى رؤوس سنابلها وهي في قمة الخجل تحرسها نبات عمّة القاضي كأم رؤوم. كنا ندري أن الرحلة ليست كباقي الرحلات التي استمتعنا بها أيام الصبا، نعلم جيدا أن القادم أصعب بكل تأكيد، وأنّ العمل في المدارس المغروسة في قمم الجبال أو تلك المدفونة غصبا في حضن الفيافي القاحلة والمتوارية عن الأنظار هناك خارج المدينة، مختلفٌ تماما عن العمل في حجرات دراسية ملونة بألوان قوس قزح، ومزينة بصور الأطفال ذوي الشعر الأشقر والابتسامة العريضة السرمدية، حجرات مجهزة بالوسائل التعليمية منها القديم والذي يؤرخ لمرحلة يفتخر بها رجال التعليم، ومنها الجديد الملفوف في بلاستيكات بيضاء لا يحرك ساكنا، ومتحف عامر بأشياء جميلة من صنع الصّغار، وسبورة عريضة يجتاحها البياض من كل جانب تتوسطها آثار النقر بالمسطرة الحديدية المدرجة، وثقوب الدبابيس النحاسية تملؤها كبيوت النملات النشيطات.. هي حجرات تعج بالتلاميذ والتلميذات وتفتخر المدرسة العجوز بهذا الاكتظاظ الذي يحيلك على أنشطة "السويقة" الممزوجة بصياحات الباعة المتجولين... وحين تطلق العنان لبصرك من خلال النوافذ المشرعة على الدوام، ترى الحافلات، وهي تنفث دخانها بسخاء حاملةً كومة أجسادٍ بشرية منهكة نال منها التعب، وترى بني آدم في عجلة من أمره ذاهبا آيبا في حركة دائمة يلفها الروتين القاتل، لكنه صار من الضروريات تماما كشرب الشاي المنعنع عند الأصيل، وترى أيضا تلك العمارات الملثمة بأثواب الغسيل المنشور بحرفية وهندسة رائعتين فلا تخطئه الأبصار، وعندما توجه نظرك إلى أسفل العمارة تجد المقهى وقد مدّتْ ذراعيها لتواسي العاطلين عن العمل وعشاق المستديرة ومن لفظتهم شقاوة الحياة الزوجية.. لتأتيكَ رائحة القهوة السمراء ودخان السجائر، أما النرجيلة فترقص بين الأيادي المشقّقة على نغمات الدقة المراكشية.. ولا تستيقظ من جولتك إلا عندما تسمع صيحات التلاميذ والتلميذات منبعثة من قلب المدرسة، ولا تدري إنْ كانت صيحات لهو ومرح جنوني أم عربون عقاب يُنفّذ بدون رحمة..
لكلّ مكان زمانه ولكل زمان مكانه.. هكذا كان يقول لنا أستاذ علوم التربية السيد "عبد الرحيم لعرسية"، "الله يذكره بالخير" ،حين كنا بالمركز. والحقيقة، أننا بتنا نحن الأربعة نعرف ونعترف بأنّ مهمة التدريس صعبة سواء بالمدينة أو القرية، لكن التجربة الأولى تكون دائما قاسية، تماما كأول جرعة دواء مرّ يخترق حنجرة العليل. وهي نفس الحكاية الممزوجة بالدراما التي يحكيها لنا من سبقونا إلى الميدان، إذ يقولون:
_ " ارم وراء ظهرك كل ما تعلمته من بيداغوجيات وميتولوجيات ودروس التطبيق .. وشمّر على ذراعك واعتمد على نفسك، والوزرة الناصع البياض التي تتحسسها فتجدها اليوم ملساء ستصير حرشاء مهترئة مستسلمة لنقع الطبشورة البيضاء تجتاحها بلا رحمة.. "
هكذا كانوا يعبّرون بكثير من الثقة في النفس أحيانا وكثير من الاستفزاز والسخرية أحايين أخرى. مع ذلك مددنا أيدينا تضرعا للخالق طمعا في تحقيق المراد، وبسطنا أرجلنا طاردين خفافيش الخوف من كهف قلوبنا الحيارى، واستلقينا على بساط ريح من صنع هواجسنا، وأمرناه سرّا لا جهرا أنْ يسير بنا بعيون مغمضة حالمة، كما قدّر لنا من ذرأنا وأنشأنا في أحسن صورة..
هي طبيعة الشباب التي تتحدث عن صناعة الأمل، والغد بالنسبة لهم شيء أجمل من لوحة الجوكاندا أو شلالات نيفادا، هو شيء رائع يفوق روعة حدائق بابل وبرج إيفل، هو شيء أمتن من تمثال رودس أو زوس في أولمبيا... هذا الغد القريب بالنسبة لهم خارق للعادة، يستعمر كيانهم ويتملّك إرهاصاتهم، قد يشبه في عظمته هرم الجيزة أو منارة الإسكندرية ويمتدّ إلى السماء شامخا كشموخ جبال الأطلس المغربية، فلا يهتزّ ولا يتصدع.. هي الثقة الكبيرة إذن، بل إنه الطموح الجارف حقّا ! وحين يكون زائدا بقدر قليل يراه الآخر تعنتا وتمردا.
مع الأسف هي الحقيقة !
كنا أربعة طلابٍ؛ أنا وعمر ابن بلْدتي أما عبد العزيز وسعيد فينحدران من مدينة الرياح؛ لن تكون إلا "الصويرة".. شاءت الأقدار أن نتقاسم نفس الفصل الدراسي أيام التكوين، وها نحن نتقاسم ذات الطريق الطويلة والشديدة الانعراج الذي يشْرَم حقول قمحٍ تتراءى رؤوس سنابلها وهي في قمة الخجل تحرسها نبات عمّة القاضي كأم رؤوم. كنا ندري أن الرحلة ليست كباقي الرحلات التي استمتعنا بها أيام الصبا، نعلم جيدا أن القادم أصعب بكل تأكيد، وأنّ العمل في المدارس المغروسة في قمم الجبال أو تلك المدفونة غصبا في حضن الفيافي القاحلة والمتوارية عن الأنظار هناك خارج المدينة، مختلفٌ تماما عن العمل في حجرات دراسية ملونة بألوان قوس قزح، ومزينة بصور الأطفال ذوي الشعر الأشقر والابتسامة العريضة السرمدية، حجرات مجهزة بالوسائل التعليمية منها القديم والذي يؤرخ لمرحلة يفتخر بها رجال التعليم، ومنها الجديد الملفوف في بلاستيكات بيضاء لا يحرك ساكنا، ومتحف عامر بأشياء جميلة من صنع الصّغار، وسبورة عريضة يجتاحها البياض من كل جانب تتوسطها آثار النقر بالمسطرة الحديدية المدرجة، وثقوب الدبابيس النحاسية تملؤها كبيوت النملات النشيطات.. هي حجرات تعج بالتلاميذ والتلميذات وتفتخر المدرسة العجوز بهذا الاكتظاظ الذي يحيلك على أنشطة "السويقة" الممزوجة بصياحات الباعة المتجولين... وحين تطلق العنان لبصرك من خلال النوافذ المشرعة على الدوام، ترى الحافلات، وهي تنفث دخانها بسخاء حاملةً كومة أجسادٍ بشرية منهكة نال منها التعب، وترى بني آدم في عجلة من أمره ذاهبا آيبا في حركة دائمة يلفها الروتين القاتل، لكنه صار من الضروريات تماما كشرب الشاي المنعنع عند الأصيل، وترى أيضا تلك العمارات الملثمة بأثواب الغسيل المنشور بحرفية وهندسة رائعتين فلا تخطئه الأبصار، وعندما توجه نظرك إلى أسفل العمارة تجد المقهى وقد مدّتْ ذراعيها لتواسي العاطلين عن العمل وعشاق المستديرة ومن لفظتهم شقاوة الحياة الزوجية.. لتأتيكَ رائحة القهوة السمراء ودخان السجائر، أما النرجيلة فترقص بين الأيادي المشقّقة على نغمات الدقة المراكشية.. ولا تستيقظ من جولتك إلا عندما تسمع صيحات التلاميذ والتلميذات منبعثة من قلب المدرسة، ولا تدري إنْ كانت صيحات لهو ومرح جنوني أم عربون عقاب يُنفّذ بدون رحمة..
لكلّ مكان زمانه ولكل زمان مكانه.. هكذا كان يقول لنا أستاذ علوم التربية السيد "عبد الرحيم لعرسية"، "الله يذكره بالخير" ،حين كنا بالمركز. والحقيقة، أننا بتنا نحن الأربعة نعرف ونعترف بأنّ مهمة التدريس صعبة سواء بالمدينة أو القرية، لكن التجربة الأولى تكون دائما قاسية، تماما كأول جرعة دواء مرّ يخترق حنجرة العليل. وهي نفس الحكاية الممزوجة بالدراما التي يحكيها لنا من سبقونا إلى الميدان، إذ يقولون:
_ " ارم وراء ظهرك كل ما تعلمته من بيداغوجيات وميتولوجيات ودروس التطبيق .. وشمّر على ذراعك واعتمد على نفسك، والوزرة الناصع البياض التي تتحسسها فتجدها اليوم ملساء ستصير حرشاء مهترئة مستسلمة لنقع الطبشورة البيضاء تجتاحها بلا رحمة.. "
هكذا كانوا يعبّرون بكثير من الثقة في النفس أحيانا وكثير من الاستفزاز والسخرية أحايين أخرى. مع ذلك مددنا أيدينا تضرعا للخالق طمعا في تحقيق المراد، وبسطنا أرجلنا طاردين خفافيش الخوف من كهف قلوبنا الحيارى، واستلقينا على بساط ريح من صنع هواجسنا، وأمرناه سرّا لا جهرا أنْ يسير بنا بعيون مغمضة حالمة، كما قدّر لنا من ذرأنا وأنشأنا في أحسن صورة..
هي طبيعة الشباب التي تتحدث عن صناعة الأمل، والغد بالنسبة لهم شيء أجمل من لوحة الجوكاندا أو شلالات نيفادا، هو شيء رائع يفوق روعة حدائق بابل وبرج إيفل، هو شيء أمتن من تمثال رودس أو زوس في أولمبيا... هذا الغد القريب بالنسبة لهم خارق للعادة، يستعمر كيانهم ويتملّك إرهاصاتهم، قد يشبه في عظمته هرم الجيزة أو منارة الإسكندرية ويمتدّ إلى السماء شامخا كشموخ جبال الأطلس المغربية، فلا يهتزّ ولا يتصدع.. هي الثقة الكبيرة إذن، بل إنه الطموح الجارف حقّا ! وحين يكون زائدا بقدر قليل يراه الآخر تعنتا وتمردا.
مع الأسف هي الحقيقة !
تعليق