أبو الفلافل وصندوق التوفير
..... تلك كانت كنيته التي هضمت بشهية اسمه حرفا حرفا , كما كان يلتهم بهوس أقراص الفلافل السخنة , فغاب اسمه الذي ولد معه , وصار الكل يناديه ( أبو الفلافل ) لكن هوسه وحبه الشديد والغريب للفلافل كان له ما يبرره , فهو يرى تلك الأقراص كانت ذات ليلة أشبه بحبات المطر تساقطت بهدوء , ثم اشتدت كثافة وغزارة لتروي أرض أحلامه العطشى , فتخضر عروق الشباب , وتزهر ثمار الأمل .
يقول : أبو الفلافل في قصته مع الفلافل :
كغيري من أبناء المخيم , في كل صباح مشرق جديد , حيث كل شيء جديد إلا فطور العائلة , ووحده صحن الألمنيوم يتوسد اليد اليمنى للجميع أطفالا صغارا , شبابا , نساء , شيوخا , فيما تقبض اليسرى على كيس ورقي يتعرق بزيت الفلافل . إنه سيد الوجبات صحن الفول أو الحمص أو كلاهما وحولهما جنودهما الأوفياء من أقراص الفلافل , وجبة إجبارية , لمعظم سكان المخيم , أمست محببة ومعشوقة , لأنها رخيصة الثمن . تملأ البطن ,وتختصر أو تلغي باقي الوجبات , ويتساوى فيها الميسور , والمستور وال ........
يقول أبو الفلافل : ذات يوم خرجت لجلب فطور العائلة , من المطعم الوحيد في المخيم . كنت قريبا من صاج الفلافل , أتأمل أقراص الفلافل حين تلقى في الزيت المغلي , ويستهويني منظر لونها يتغير شيئا فشيئا والزيت من تحتها يصنع بركانا سرعان ما ينخمد , وتلوح في ذاكرتي صور مشابهة , لا أستفيق منها , إلا حين ينخزني صاحب المطعم :
تفضل ( فيش سارح )عدت للبيت مسرعا وأعددت وجبة الفطور , بدلا عن أمي المريضة, وجلسنا نتناول الفطور أنا وأمي ووالدي الفقير المتعب من كل شيء. وأجهزنا على المائدة المفضلة , وأرخيت بجسدي وبطني المتخم بالفول على الحصيرة , وفي يدي جزء من صحيفة لف بها صاحب المطعم الفلافل ,بدأت أقرأ بثقل وخمول , ثم انتفضت كما لو كنت في كابوس رهيب , وجلست على ركبتي والورقة بين يدي تعلو وتهبط , ولساني يردد ترنيمة لا زلت أذكرها :
( هيو اسمي يمه, زغردي يمه , طلعلي تعيين ) :( هيو اسمي يمه, زغردي يمه , طلعلي تعيين ) .
أصبح أبو الفلافل موظفا في وكالة الغوث , بمسمى وظيفي ( معلم ) وكتاب تعيين موقع , ورقم توظيف وهوية باعتباره موظفا في وكالة الغوث الدولية . واحتراما لهذا المسمى دعونا نسدل الستار على كنيته ونبعث الحياة في اسمه من جديد .
يستيقظ عبد الشكور كل صباح لصلاة الفجر , يوقظ والديه يقبل يديهما , وينطلق إلى المسجد لصلاة الفجر. يعود للبيت ليجد والدته سلقت له بيضتين ( البديل الجديد لأقراص الفلالفل ) يفطر وينطلق إلى مدرسته .
ولا يزال عبد الشكور كعادته يحتفظ بأوراق الراتب , ولا زال يذكر ورقة الراتب الأولى , وقد تجمع المعلمون في غرفة المعلمين منهمكين في حسابات وأرقام لا يدري عنها شيئا , حتى شرح له أحد المعلمين القدامى عن صندوق التوفير والأرباح ووو.....فيما عبد الشكور يتأمل توفيره المحدود والمعدود كأقراص الفلافل بتحسر فيداعبه زميله قائلا: ( بكرة بتصير مثلنا وبتلعب بالألوف وبتصير تحسب مثلنا لساتك جديد ) .
تمضي السنون , وتلح أم عبد الشكور على ولدها بالزواج قبل أن تموت , فقد جاوز عمره الثلاثين وتخطب له فتاة من المخيم , يحرم عبد الشكور من الخلفة سنوات وكأن رحم زوجته مثل صندوق التوفير يجمع النطف ويضاعفها ليتخير لها غلاما زكيا , ثم يرزق عبد الشكور ببكره الأول محمود يليه بعد عام زينب ... بعد عشرة سنوات كان لعبد الشكور عائلة من ثلاثة أولاد وثلاث بنات .
صار لعبد الشكور في الخدمة كمعلم (15 ) عاما وذلك الرصيد الذي كان يوما مثار استهزاء من غيره وحسرة منه شخصيا صار له معنى وصار رقما يحترم , وصار بإمكان عبد الشكور أن يمسك بورقة صغيرة يحسب بها الأرباح للعام القادم تقديريا , والعام الذي يليه , والذي يليه , وعندما لايعجبه الرقم النهائي ,( أي لا يعجبه توفيره عندما ينهي الخدمة ) يعود فيضاعف نسبة الأرباح لكل عام حتى يشفي غليله برقم جبار يشتري من خلاله بيتا جميلا , يعلم الأولاد , يعلم البنات , يزوج الأولاد , يعينهم ويساعدهم إن جانبهم الحظ أو تعذرت فرص العمل في أيامهم فالقادم قد يكون صعبا , وهم أبناؤه وهو ملزم بهم .
تمضي السنون . وعبد الشكور مثال المعلم الملتزم بدوامه وإخلاصه لمهنته , وحبه للطلاب وحبهم له , وعلاقته المميزة بزملائه , ورضا مديره عنه . حتى حياته العائلية كانت مستقرة , : ( يكبر الأبناء وتزداد مسؤوليتهم , لا ضير فكما يكبرون يكبر الرصيد ويتضاعف ‘إذن لا خوف من القادم .. )هكذا كان حديثه كلما تسلم ورقة الراتب وتفحص الرصيد بعين الرضا والرغبة في المزيد قبل أن يدسها في جيبته وينطلق إلى حصته.
صار لعبد الشكور في الخدمة (26 ) عاما وصار عمره (56) عاما وأولاده : محمود سنة ثانية جامعة , استنزفت دراسته جزء من الرصيد , وزينب أنهت الثانوية العامة . ضغط عليها رغم معدلها العالي لتدرس في كلية العلوم التربوية التابعة للوكالة , ليوقف النزيف في شريان توفيره . وعلي في الصف العاشر , وأيمن في السابع , وهند في الخامس , والمدللة ليلى لم تدخل المدرسة بعد . ( يكبر الأبناء وتزداد مسؤوليتهم .. لا ضير فكما يكبرون يكبر الرصيد ويتضاعف .. لا خوف من القادم .. ) هكذا كان حديثه كلما تسلم ورقة الراتب وتفحص الرصيد بعين الرضا والرغبة في المزيد قبل أن يدسها في جيبته وينطلق إلى حصته .
لم يكن يدري عبد الشكور أن البركان الذي كان يراه تحت أقراص الفلافل , وهو يحدق في صاج الفلافل . بركان قادم من جديد بعد ( 30 ) عاما هو ذات البركان , ولكنه اليوم يحدق في صاج التوفير , وزيت السوق المالية يغلي تحت دولارات العمر , يخطف بريقها , ويهز قيمتها . كانت تلك الليلة التي رافق الحديث عن خسائر صندوق التوفير أشبه بالشهب تساقطت بهدوء ثم اشتدت كثافة وغزارة لتحرق أرض أحلامه العطشى, فتيبس عروق الشباب, وتجهض ثمار الأمل.
خسر عبد الشكور مبلغا ليس بسيطا من رصيد شقي في متابعة تكاثره , ورسم طريق له في قادم الأيام .
وتغير حال عبد الشكور , ففقد بعض الشيء من حماسه للمهنة والتزامه , وصار التوتر والقلق حالة مرضية تنتابه , مطلع كل شهر , ( قديش الخسارة ... بتطلع.. بتنزل .. استقيل .. أظل .. شو أعمل ...... )
وعاد من جديد يمسك بورقة صغيرة يحسب بها الأرباح ..عفوا الخسارة للعام القادم تقديريا , والعام الذي يليه , والذي يليه , وعندما لايعجبه الرقم النهائي ,( أي لا يعجبه توفيره عندما ينهي الخدمة ) يعود فيقلل نسبة الخسارة لكل عام حتى يمني النفس برقم لا بأس به يهرب به وقد قارب على الستين من العمر قبل أن تحل الطامة لعله ينجو بمبلغ يرمم به بيت العائلة القديم , ويعلم إن استطاع من لم يتعلم من الأولاد والبنات , ويترك للظروف زواج الأولاد , يعينهم ويساعدهم بقدر المستطاع إن جانبهم الحظ أو تعذرت فرص العمل في أيامهم فالقادم حتما سيكون صعبا , وهم أبناؤه ملزم بهم .
لا زال عبد الشكور كعادته يحتفظ بأوراق الراتب , ولا زال يذكر ورقة الراتب الأولى , وقد تجمع المعلمون في غرفة المعلمين منهمكين في حسابات وأرقام لا يدري عنها شيئا , حتى شرح له أحد المعلمين القدامى عن صندوق التوفير والأرباح ووو.....فيما عبد الشكور يتأمل توفيره المحدود والمعدود كأقراص الفلافل بتحسر فيداعبه زميله قائلا: ( بكرة بتصير مثلنا وبتلعب بالألوف وبتصير تحسب مثلنا لساتك جديد )
وها هو اليوم يداعب زميلا له ( تعيين جديد ) قائلا : ( نيالك لا عين تشوف ولا قلب يحزن )
يتمنى عبد الشكور أن تمضي السنون الأربع الأخيرة في خدمته على خير , ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن , فتتوالى خسائر الصندوق , ويتطاير معها حصاد العمر شيئا فشيئا , وغيره من المعلمين القدامى على اختلاف سنوات الخدمة , قد استقال قبل أن يأتي جراد الأزمة المالية على بيدر العمر فيفنيه فيصير حالهم مثل (مصيفة الغور لا صيف صيفت ولا عرض نابها ) لكن عبد الشكور يزداد توترا وقلقا وثباتا في ميدان معركة شطرنج قذرة بانتظار أن يقال له : عبد الشكور كش ملك ....مات
أنهى عبد الشكور الخدمة , وخرج بخفي حنين , ومرض , واكتئاب , ولازم البيت شهورا لا يتصل بأحد , تغيرت أحواله , وبد ا مهملا لنفسه عاد كغيره من أبناء المخيم , في كل صباح مشرق جديد , حيث كل شيء جديد إلا فطور العائلة , ووحده صحن الألمنيوم يتوسد يده اليمنى فيما تقبض اليسرى على كيس ورقي يتعرق بزيت الفلافل .
يخرج كل يوم لجلب فطور العائلة , من المطعم الجديد في المخيم يقف قريبا من صاج الفلافل ,يتأمل أقراص الفلافل حين تلقى في الزيت المغلي , ويستهويه منظر لونها يتغير شيئا فشيئا والزيت من تحتها يصنع بركانا سرعان ما ينخمد
يعود للبيت متثاقلا فتعد زوجته وابنته وجبة الفطور , ويجلس الجميع لتناول الفطور وتجهز العائلة على المائدة القديمة الجديدة فيما هو يرخي بجسده المريض وبطنه المتخم بالهم والفول على الفرشة , وفي يده أخر ورقة راتب تسلمها . يتفحص بحرقة وغيظ وكبت وضيق وحسرة وألم وشعور بالغبن رصيد بقية العمر, ثم ينتفض كما لو كان في كابوس رهيب , ويجلس على ركبتيه والورقة بين يدي تعلو وتهبط ولسانه يردد ترنيمة الماضي الجديد:( هيو الرصيد هيو )
( هيو الرصيد هيو ) ( زغردي يامرى ) زغردن يا بنات ) ( كيف يابا يا محمود ... )
يضحك عبد الشكور بشكل غريب يضحك ويخربش ببعض الكلمات على ظهر ورقة الراتب , كانت تلك أول وآخر ضحكات القهر في حياة عبد الشكور , شهق مع ضحكاته شهقة غريبة وأضحى جسدا باردا لا يتحرك , مات عبد الشكور .. مات عبد الشكور. مات عبد الشكور ...أنهى الخدمة مع الوكالة والحياة , وما زالت يديه تقبض على ورقة الراتب الأخيرة وقد كتب فيها : زوجتي , أولادي , بناتي :
( دبروا حالكم في ال ( 10000 ) دولار توفيري وألف تحية لوكالة الغوث لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وجلطهم
أنهى محمود الإبن الأكبر لعبد الشكور دراسته الجامعية , وأمضى سنوات عدة بانتظار الوظيفة دون جدوى , فيما أصبحت زينب معلمة في وكالة الغوث لكنها لم تكن تهتم بورق الراتب ولا الحسابات كما كان حال والدها رحمه الله . (أصلا لم يكن طموحها أن تكون معلمة ) .
اتفقت الأم والابن الأكبر وزينب على استثمار توفير المرحوم عبد الشكور , وشراء مطعم فلافل وفول حمص يديره محمود ( العاطل عن العمل ) كما اتفقوا على إنشاء صندوق توفير لتعليم بقية العائلة – صندوق المطعم - فهو في نظرهم أجدى وأكثر أمانا من صندوق والدهم رحمه الله, فيما تتولى زينب براتبها من الوكالة مصروف العائلة الشهري .
كانت العائلة كل صباح وقبل البدء بالفطور تدعو لعبد الشكور وتقرأ على روحه الفاتحة , بينما تغيب عن المائدة أقراص الفلافل , معشوقة عبد الشكور
تعليق