[align=justify]
سألني الشيخ متبرماً
_ أهو لطفل ؟
قلت : ربما !.. فقط, أريده ناصع البياض لا يشوبه شيء .
حدجني بنظرة مريبة بينما يعطيني الكفن القصير.. قبل أن أخرج
مشيت كثيراً في شوارع بلا نهاية , يدثّرني الظلام والألم والتشريد ..
أشعلت سيجارتي ومعها بعض مني , بعدما سحقت البعض الأخر ودفنته تحت قدمي,تماماً كما دُفنت أنا هناك لسنوات طويلة .
تأبطت حقيبتي , بعد أن تحسست الكفن والفرشاة .. ومضيت منتشيا, معبأ رئتيَّ من هواء أشمه لأول مرة منذ عدة أيام , محتضناً الصغيرة التي لا تكف عن الغناء !.
هذا فقط ما يؤكد لي أنني أنتمي لهذا المكان !... شارعي ..
الذي يبدأ بمسجد , وينتهي بمقابر لم تعد تكفي للموت في الماضي, ومازلت . المسافة لم تكن طويلة كي أحمل صغيري وأذهب به إلى هناك لأدفنه,
كان ذلك منذ سنوات , منذ أن لاحت في الأفق بشائر الحرب والضياع , واختلط الحق بالحق كما يدّعون !.
عندما جاءني خبر صغيري فانطلقت مفجوعاً ,أبحث عنه بين الضحايا كالمجنون ,حتى وجدت بقاياه , بقايا حلم لعاجز مثلي, كان كل أمله في لحظة أن يجمع أجزاء صغيره ويذهب ليدفنها, لكن بماذا أذهب ولم يعد يحتفظ من جسده إلا بقلب نابض؟
وبعض أجزاء , تلك التي حملوها في سيارة كبيرة وسط ذهول الجميع ,وانطلقوا يهتفون لصاحب الكرسي , وكنت أنا أشكو لرب صاحب الكرسي ,
وأصرخ... وأصرخ ...
_ بني ياقرة عيني , بني.. لا تتركني
وكان يشاطرني طفل صغير , أخذ يغنيها وهو يهز رأسه في آسى
" بني ياقرة عيني , بني لا تتركني "
وحده الطفل من سمعني ولم يسمعني أحد سواه , إذ لا صوت يعلو صوت المدافع .
سيدخل بني الفردوس بدمائه .. ستنمو له أطرافا ورأسا ..وسيغتسل بماء طاهر, سيُقلع بطائرته التي أحبها , وسيشم ياسمينه من بين كُتبه ,سيظل في العاشرة أبدا ولن يكبر , سيمشي بصحبة النبيين والرسل وسأكون معهم , بين يدي الله , سأرفع شعاراً للمرة الأولى , سأطالب بحقه ودمه , سأحمل ذلك الطفل وسيغنى فرحاً هذه المرة , إذ لم يعد يتركني صدّيق مرة أخرى!.
مات صدّيق ولم أفتح النار .. مات ولم يمت الألم داخلي مهما حاولت وأده, مات ولم أنضم للمحتجين ,ولم أرفع شعاراً ولا مطلبا
رفعوا هم وقابلوني بالمسيرة بعد شهر في نفس المكان ..
كنت في المنتصف , وكانت الفئة الأخرى في الجهة المقابلة , وجدتني محاصراً , حاولت الهرب من هؤلاء ومن هؤلاء , لم أستطع .. الفوضى قد عمت المكان بالفعل , ولم أشعر بنفسي إلا مُسلسلاً في غرفة لا يمل ساكنيها من الهتاف , ولا يمل زبانيتها من الجلد والتعذيب
كنت أصرخ تارة في الطرف الأول
_ كفوا عن هذا .. كفوا عن الهتاف , سنموت هنا
وتارة في الفئة الأخرى
_ لست محتجاً .. أقسم بولدي .. صدقوني ,لقد قابلت المسيرة صدفة
كانوا جميعاً يصبون عليّ لعناتهم , وكثيرٌ من الاتهامات الجاهزة بالعمالة للطرف الأخر , والخيانة لمعتقد كل طرف منهم .
كلنا عملاء .. كلنا .. . وجميعنا خونة ,
والفروقات بيننا طفيفة جداً . الكل يهدم الوطن ويشارك في تشريده,
سكتم عندما اختطفت الفتاة , واغتصبت عشرات المرات على مرآي منكم ولم يتحرك أحد . والآن وبعد سنوات طالت كثيراً جئتم تحتجون على اغتصابها , وهاهو المغتصب يلقي بها أليكم بعدما شبع منها وملّها ,
أتحسبون أنكم بالضغط على صدرها ستعيدون الحياة إليها ؟
أنتم فقط تتمو الجريمة وتزيدوا من نزف القلب المصاب ,بينما يضحك هو وتهدر منه القهقهات, حين يري الأعداء الغريبين يتدخلون لسحق ماتبقي منها.
قلت هذا لرفيقي في المعتقل , اتهمني بتهمة جديدة هذه المرة , بالجنون , بينما اهتم أخر بضرب رأسي في الحائط ,سال الدم وشممت فيه رائحة صدّيق, بكيتك يا ولدي وخالفت رجاءك القديم "سنموت يا أبي لا تبكني", وبكيت وطني الذي قتلت أنت لأجله .
كبَُرت ياصديق سريعا ولم أدرك أنا ذلك, إلا حين قلت لك وأنت أبن العاشرة
_ أتتركني ياصديق ؟ لا تفعل بابني , لا تخرج مع الأطفال في المظاهرات ؟
فقلت أنت
_ لن أتركك يا أبي , ستجيء معنا
_ أأحمل السلاح ياولدي ؟
_ لا يا أبي نحن لا نحمل السلاح , نحن فقط نطالب بحقنا,
_ لا ياصدّيق, ألزم البيت أرجوك , لا شيء يستحق الموت لأجله يابني
_ الوطن يا أبي
صَمتُ وقتها ,اعتبرت الأمر مجرد عبارات رنانة سمعتها هنا أو هناك , لم أعِ أن الحياة دون شيء نموت لأجله لا تستحق , كما وعيتم أنتم في سن مبكرة , كنتم تطالبون بالحياة .. بالوطن .. بالحق الفطري المغروس بداخلكم , ولم أفهمه أنا إلا بعد اعتقال ,وتشريد , وضحايا تصرخ دماءهم على الحوائط , وفوق شواهد القبور .
سمع مني أحدهم هذا فربّت على كتفي , وقال إنه مثل صديق , وأنه لا يرفع سلاحاً ولا يقتل أحدا , ولا يشارك في العبث الجماعي الذي يجري , وأن صدّيق لم يمت .. وافقته, ووعدته أن يشفع له صدّيق
بينما كانت طائرات الأعداء الغربيين تحلق من فوقي , والطرف الأول يقتل في الثاني , والثاني يتهم الثالث
وكنت أنا الرابع أصرخ بها
" أريد وطني " .[/align]
سألني الشيخ متبرماً
_ أهو لطفل ؟
قلت : ربما !.. فقط, أريده ناصع البياض لا يشوبه شيء .
حدجني بنظرة مريبة بينما يعطيني الكفن القصير.. قبل أن أخرج
مشيت كثيراً في شوارع بلا نهاية , يدثّرني الظلام والألم والتشريد ..
أشعلت سيجارتي ومعها بعض مني , بعدما سحقت البعض الأخر ودفنته تحت قدمي,تماماً كما دُفنت أنا هناك لسنوات طويلة .
تأبطت حقيبتي , بعد أن تحسست الكفن والفرشاة .. ومضيت منتشيا, معبأ رئتيَّ من هواء أشمه لأول مرة منذ عدة أيام , محتضناً الصغيرة التي لا تكف عن الغناء !.
*****
مر ما يقرب من أسبوع كامل على خروجي من هناك .. كانت المرة الأولى التي أمشي فيها في شوارع كانت لمدينتي ولم تعد كذلك , تبدّل الحال وتغيّرت الملامح , وجوه مبصومة بالحر والضجر , أجساد تهتز في زى أنيق , وأخرى تترنح من شدة الجوع , وبيوت تنعي وحدتها وتترحم على ساكنيها , الذين منهم من هرب , ومنهم من قتل , والبعض الأخر مثلي.هذا فقط ما يؤكد لي أنني أنتمي لهذا المكان !... شارعي ..
الذي يبدأ بمسجد , وينتهي بمقابر لم تعد تكفي للموت في الماضي, ومازلت . المسافة لم تكن طويلة كي أحمل صغيري وأذهب به إلى هناك لأدفنه,
كان ذلك منذ سنوات , منذ أن لاحت في الأفق بشائر الحرب والضياع , واختلط الحق بالحق كما يدّعون !.
عندما جاءني خبر صغيري فانطلقت مفجوعاً ,أبحث عنه بين الضحايا كالمجنون ,حتى وجدت بقاياه , بقايا حلم لعاجز مثلي, كان كل أمله في لحظة أن يجمع أجزاء صغيره ويذهب ليدفنها, لكن بماذا أذهب ولم يعد يحتفظ من جسده إلا بقلب نابض؟
وبعض أجزاء , تلك التي حملوها في سيارة كبيرة وسط ذهول الجميع ,وانطلقوا يهتفون لصاحب الكرسي , وكنت أنا أشكو لرب صاحب الكرسي ,
وأصرخ... وأصرخ ...
_ بني ياقرة عيني , بني.. لا تتركني
وكان يشاطرني طفل صغير , أخذ يغنيها وهو يهز رأسه في آسى
" بني ياقرة عيني , بني لا تتركني "
وحده الطفل من سمعني ولم يسمعني أحد سواه , إذ لا صوت يعلو صوت المدافع .
سيدخل بني الفردوس بدمائه .. ستنمو له أطرافا ورأسا ..وسيغتسل بماء طاهر, سيُقلع بطائرته التي أحبها , وسيشم ياسمينه من بين كُتبه ,سيظل في العاشرة أبدا ولن يكبر , سيمشي بصحبة النبيين والرسل وسأكون معهم , بين يدي الله , سأرفع شعاراً للمرة الأولى , سأطالب بحقه ودمه , سأحمل ذلك الطفل وسيغنى فرحاً هذه المرة , إذ لم يعد يتركني صدّيق مرة أخرى!.
مات صدّيق ولم أفتح النار .. مات ولم يمت الألم داخلي مهما حاولت وأده, مات ولم أنضم للمحتجين ,ولم أرفع شعاراً ولا مطلبا
رفعوا هم وقابلوني بالمسيرة بعد شهر في نفس المكان ..
كنت في المنتصف , وكانت الفئة الأخرى في الجهة المقابلة , وجدتني محاصراً , حاولت الهرب من هؤلاء ومن هؤلاء , لم أستطع .. الفوضى قد عمت المكان بالفعل , ولم أشعر بنفسي إلا مُسلسلاً في غرفة لا يمل ساكنيها من الهتاف , ولا يمل زبانيتها من الجلد والتعذيب
كنت أصرخ تارة في الطرف الأول
_ كفوا عن هذا .. كفوا عن الهتاف , سنموت هنا
وتارة في الفئة الأخرى
_ لست محتجاً .. أقسم بولدي .. صدقوني ,لقد قابلت المسيرة صدفة
كانوا جميعاً يصبون عليّ لعناتهم , وكثيرٌ من الاتهامات الجاهزة بالعمالة للطرف الأخر , والخيانة لمعتقد كل طرف منهم .
كلنا عملاء .. كلنا .. . وجميعنا خونة ,
والفروقات بيننا طفيفة جداً . الكل يهدم الوطن ويشارك في تشريده,
سكتم عندما اختطفت الفتاة , واغتصبت عشرات المرات على مرآي منكم ولم يتحرك أحد . والآن وبعد سنوات طالت كثيراً جئتم تحتجون على اغتصابها , وهاهو المغتصب يلقي بها أليكم بعدما شبع منها وملّها ,
أتحسبون أنكم بالضغط على صدرها ستعيدون الحياة إليها ؟
أنتم فقط تتمو الجريمة وتزيدوا من نزف القلب المصاب ,بينما يضحك هو وتهدر منه القهقهات, حين يري الأعداء الغريبين يتدخلون لسحق ماتبقي منها.
قلت هذا لرفيقي في المعتقل , اتهمني بتهمة جديدة هذه المرة , بالجنون , بينما اهتم أخر بضرب رأسي في الحائط ,سال الدم وشممت فيه رائحة صدّيق, بكيتك يا ولدي وخالفت رجاءك القديم "سنموت يا أبي لا تبكني", وبكيت وطني الذي قتلت أنت لأجله .
كبَُرت ياصديق سريعا ولم أدرك أنا ذلك, إلا حين قلت لك وأنت أبن العاشرة
_ أتتركني ياصديق ؟ لا تفعل بابني , لا تخرج مع الأطفال في المظاهرات ؟
فقلت أنت
_ لن أتركك يا أبي , ستجيء معنا
_ أأحمل السلاح ياولدي ؟
_ لا يا أبي نحن لا نحمل السلاح , نحن فقط نطالب بحقنا,
_ لا ياصدّيق, ألزم البيت أرجوك , لا شيء يستحق الموت لأجله يابني
_ الوطن يا أبي
صَمتُ وقتها ,اعتبرت الأمر مجرد عبارات رنانة سمعتها هنا أو هناك , لم أعِ أن الحياة دون شيء نموت لأجله لا تستحق , كما وعيتم أنتم في سن مبكرة , كنتم تطالبون بالحياة .. بالوطن .. بالحق الفطري المغروس بداخلكم , ولم أفهمه أنا إلا بعد اعتقال ,وتشريد , وضحايا تصرخ دماءهم على الحوائط , وفوق شواهد القبور .
سمع مني أحدهم هذا فربّت على كتفي , وقال إنه مثل صديق , وأنه لا يرفع سلاحاً ولا يقتل أحدا , ولا يشارك في العبث الجماعي الذي يجري , وأن صدّيق لم يمت .. وافقته, ووعدته أن يشفع له صدّيق
*****
انتظرت حتى طلوع الشمس, والناس والمدافع والرصاص , أخرجت من حقيبتي الكفن القصير الأبيض الناصع .. وضعته أمامي على أرض احتضنته للوهلة الأولى ... أخرجت من حقيبتي الفرشاة , ورسمت في منتصفه حمامة تُظلل بجناحيها صغاراً .. علقته في خشبة طويلة . وأمسكت بيد صدّيقة كما أسميتها! ,تلك الطفلة التي عثرت عليا تائهة في طرقات العمر والوطن, وحفظتها كلماتي " بني ياقرة عيني .. بني لا تتركني "وقفتُ فوق الصخرة بمحاذاة المسجد , أخذت نفساً عميقاً وزفرته مع جملة واحدة كنت أرددها داخلي , وحان وقت إعلانها مدوية صريحة .. بينما كانت طائرات الأعداء الغربيين تحلق من فوقي , والطرف الأول يقتل في الثاني , والثاني يتهم الثالث
وكنت أنا الرابع أصرخ بها
" أريد وطني " .[/align]
تعليق