تويت
نزلنا جميعا من رحاب الخيال إلى ضيق الواقع .استبدّ العطش بالحيوانات البرية وجدّت في البحث عن أنهار كانت تستحضرها فتجدها في متناولها .وتضوّرت جوعا وهجمت عليها صور كانت في الجنة في مرمى الطّلب فأذكت عدوانية أوشكت أن تموت .جمعتُها في سهل تغمره الحلفاء قرب مستنقع آسن ونظّمتها كتائب وفرقا وسوّيت صفوفها وسِرت بينها أتفقّد المخالب والأنياب وأحدّق في العيون أشحنها حقدا على "جلجامش" الزّنديق ,سرت بيتها أدفع أسدا إلى خطّ الصفّ وأنهر ذئبا لم يستو في وقفته وأدوس على ساق نسر طأطأ رأسه فيفزع ويصيح وينضبط .
- "أيها الخلق ,لقد جمعتكم العناية المقدّسة وسلّحتكم بالأظافر والمخالب والأنياب والبصر الثّاقب والسّمع المرهف والسرعة في الانقضاض وزرعت في نفوسكم شهوة الدّم والقرم إلى اللحم وحبّبت إليكم التغلب والانتصار ودفعت بكم إلى معركة لا محيص عنها وباركتكم ...إنّ "جلجامش "قد طغى وتكبّر وأفسد في الأرض وسعى جادا في البحث عن إكسير الحياة وإنّه إن يدركه يصب مملكة الربة عشتارت في مقتل ...أيها الخلق ,إن تتهاونوا اليوم في أمر هذا الآبق يعظم شأنه ويمتدّ به الأمل إلى أن يرحل بجنّتكم جملة من علياء السماء إلى سهوب الأرض .وإن يحدث ذلك تسودّ الآفاق وتحزن السماء وتدلهمّ البروج وتصيبكم شواظ النار تسّاقطون على الأرض أشلاء ,,,هبوا جميعا لحماية مملكتكم المقدّسة واحموا ربّتكم عشتارت العظيمة .
...سمعت صريف الأنياب والأضراس وسَرَت في الجند موجة من التذمّر تنمّ عن الغيظ والتحفّز للقتال وخبط النّسر والغراب والصّقر وكلّ طائر بجناحيه وضرب الفيل والكركدنّ وفرس النّهر بالأقدام ونفش الضربان شوكه ورفعت الزرافة والجمل رأسيهما وكذلك فعل حمار الوحش والثور وزفروا جميعا ...لم يسألني أحد ولم بعترض معترض وكانوا جميعا على أتمّ الاستعداد للقتال .
- إنّ "أنكيدو" ذلك المحارب الخائن الجبان قد أوتي من القوّة ما يعادل جيوشا منكم ولكنّ عشتارت بثت فيه الوهن والخوف والرعب من جندها فخذوا حذركم إذا لاقيتموه ولا تولّوه الظّهور هاربين وإنّ سيّده جلجامش ليملك ناصية الريح والعواصف وليقدر على تصريفها كيفما شاء فانتبهوا إلى ما أوتيتم من قوّة البصيرة تقهرون به عدوّ ربّتكم عشتارت ,إنّ "أنكيدوا خان البهيمة كلّها وعصى أمر الربة واتبع شهوات العقل وسال لعابه لضحكة امرأة نصبت له شباك الصّيد فصادته وعقرت قوّته العارمة وحبست موجه الزّاخر وصرفته عن نفسه فباع القرم للحم إلى الوله بالصّورة وهجر شهوة الدّم التي قدّستها الآلهة إلى خيانة الحكاية وخان الأمانة ونسي ما استودع فكان لسيّده جلجامش ذليلا يتوهّم صفاء الصحبة والصّداقة وليس له من ذلك إلاّ العبوديّة
ازداد غضب الجند واستعرت النّار في صدورهم وغدا الواحد منهم بقوّة أنكيدو وجلجامش مجتمعين واضطربوا وهرجوا وفسد نظامهم ووجدتني مجبرا على ضبطهم وزجرهم وإلى مزيد شحتهم بالنقمة والكره والبغض والسّورة .
- أنت أيها الأسد ماذا عساك تفعل بأنيابك الممزّقة إذا لم تصرفها اليوم لخدمة ربّة أنبتتك في الجنّة ووهبتك الخلود وأنبتت لك فيها ما تحبّ ؟وأنت أيها النّمر ماذا تفعل بمخلب جرّاح ؟ويا جمل ماذا تفعل بالخفّ وماذا تفعل أيها الفيل بذلك الخرطوم الطّويل وتلك الجثة العظيمة ؟ وأنت يا سيّد الأجواء ورسول الأنواء أيها النّسر المحلّق في الأجواء إلاّم تصلح المناقير المعقّوفة والمخالب الحادّة ؟إلاّم تصلح إذا خانتك اليوم وفات أوان الانتفاع بها ؟غدا تجد نفسك خارج أسوار الجنّة التي سيهدم أركانها جلجامش .أيها الرفاق الطيبون أخاف أن تتخاذلوا حتى يبلغ بكم الأمر إلى أن تستجدوا بقية جيفة هجرها شراذم جلجامش .لعشتارت أب يحميها ولن تصيب الطامة إلاّ أمثالكم من المتخاذلين .فهبوا جميعا لفصل رأس جلجامش عن جسده ,
سرت بهم في الغسق وما كان الفجر إلاّ ونحن نحيط بأور العظيمة ونحاصر قصور جلجامش وأشرت إلى الجند من الحيوان فهبوا إلى المعركة :النسر والغراب والهدهد كلّ كانوا يرمون القصر وساكنيه بحجارة من نار جاؤوا بها في مناقيرهم من تخوم الجحيم .وجعلت التماسيح تمزّق الأجساد الطّريّة وتحوّلُ أحواض الحديقة إلى برك من الدّماء القانية وحطّم الفيل والكركدن وفرس النهر الأسوار والجدران والحصون وكسروا الأبواب وجميع ما يعترض سبيل المهاجمين .وأطلق الضربان سهامه العشوائيّة وانطلق النمر والأسد والفهد والضبع والذّئب وابن آوى في كتيبة ليخرجوا الشقيّ جلجامس وأنكيدو من مخبأيهما .عادت الكتيبة تحرق جلود أفرادها النيران وتلهب أفئدتها الخيبة وكروا وعادوا وكروا وعادوا ثمّ أيقن الجميع أن ليس في القصر إلاّ خدم من الانس والجنّ الذين كانوا نائمين .
سرنا في المدينة كلّها وأهلكنا تسلها وأفسدنا أسواقها وقتلنا الحياة فيها وأمتنا الأمل واستراح كلّ حيوان مما كان يحمل في صدره من شهوة الإبادة وقرم القتل ..ها المدينة خراب في خراب ...ها مدينتك يا جلجامش يعشّش فيها السواد ...ابك أيها الضال جلجامش ...ها هي أشلاء الأطفال وقد اختلطت بأحشاء النّسوة وها طفل من أبناء الجنّ وقد اشتعل بالكامل وتفحّم ...انظروا إلى قلوب النساء والشيوخ من الإنس والجنّ وقد بدت راقصة رقصتها الأخيرة على أرصفة المدينة وفي زرائب البهائم .لتلعبي أيتها الضباع بالرؤوس المفصولة .
حينما أتذكّر تلك الواقعة يستبدّ بي الحزن لأنّنا لم نكن نقاتل في مدينة جلجامش ...كنا نفسد جنة الملائكة لذلك غصبت الربة عشتارت وبصقت على الأرض ولعنتنا ومن يومها وغضب الآلهة يصيب الجميع ,فقد نبتت للأسد لحية كثة أخفت وسامته وفقد النمر بياض جلده وأصابه السواد وفقد الفيل أغلب ذيله ونبت للجمل سنام وطال عنقه وفقد الثور أسنان فكه العلوي ولازمت الضّبع خمعة أصابته ليلة المعركة وجرذّت الآلهة عنق النسر من الريش وجعلت الذّئب يرتعب من رؤية النار ليلا وأثقلت ألسنة هذه المخلوقات فألقمتها العجمة لأننا جميعا كذبنا على السماء أما أنا فمُسخت وصرت إلى ما ترون
04ديسمبر 2013
تعليق