خيال
كان جالساً امام مكتبه الصغير, الساعة تشير الى الثانية صباحاً, ضوء ساحر خافت يغطي غرفته, افكار مشوشة وشخصيات مشوهة تجول في عقله, أخذت تتبلور, تبرز معالمها الاولية, تتوضح معانيها اكثر, تخلق في المخ للأعصاب فيخط القلم, خطوط سوداء مدنساً بها عذرية الورق الأبيض.
فز أنسكب فنجان القهوة من يده, اخذ يحدق ببياض الورقة من بعيد, يقلب أوراق الدفتر يبحث عن شيء مفقود......!!
بعد ساعات من الكتابة المستمرة, رمى القلم من جديد أبتعد عن دفتره, وقف مذهولاً مرتبكاً يدعك عينيه بكلتا يديه, ينظر بخوف من بعيد, ووجه ينزف عرقاً. اقترب اكثر...فأكثر.
بخطوات حذرة خائفة مرتعشة...!
بان له وجهها من بعيد تنظر له من بين الخطوط, بعد ان رفعتها للأعلى والاسفل بكلتا يديها, تجمعت الكلمات على اطراف الخطوط, مثل ملابس منشورة على حبل الغسيل بعد عاصفة هوجاء....!
نفس الشكل والملامح, بالعيون الواسعة بملامح طفولية, هي ذاتها تسريحة شعرها الطويل يغطي نصف عينها اليسرى, التي شكلها بعقله قبل قليل.
ابتسمت فضحكت وسع فمها الصغير المرسوم بعناية, كأنها تعرفه من قبل....! لم تخف ولم تتفاجأ مثلما فعل...؟
اومأت له بيدها مستدعية, شبكت اصابعها الصغيرة بأصابعه وسحبته بلطف وهدوء, حتى تلاشى من الوجود.
دخل لعالمها عالم الخطوط, أبيض شفاف بخطوط سوداء وزرقاء بلا بقية الألوان...!
بدأت تحدثه بلا همس دون كلمات, ينظر لوجهها يسألها فتجيبه, تتخاطر معه عن بعد.
كان عالماً متكاملا من الخطوط ...! الشمس, القمر, الاطفال, المدن, الغيوم, كلها خطوط زرقاء وسوداء.
سحبته من يدهِ لحدائق زهور سوداء واسعة بأشكال مختلفة متنوعة, تسقيها جداول تنحدر من الجبال البعيدة, تتناثر عليها فراشات زرقاء, تعلوها أشجار عالية من السرو والسنديان, تتناقل فوق أغصانها العصافير وطيور الحب زرقاء دون بقية الالوان, كان عالم جميل من خطوط.
حملته للبحر القريب, بحر واسع بأمواج مرتفعة ومنخفضة, تأتي من بعيد بقوة هائجة, اعتقد أنها ستدمر المكان, ما أن وصلت للشاطئ اضمحلت وتلاشت, وهي تداعب أصابع أرجلهم بلطف وحنان, أخذ البحر يحتضن قرص الشمس بهدوء, التحف حبيبته برفق كأنه مفارقها منذ قرون.
سحبته من يده طارت به لمدينة قريبة, عرفته على شاب توقع أنه يعرفه, ملامحه ليست غريبة عليه, كان خالد الشاب العامل الذي كتب عنه في قصة سابقة.
رد عليه بلا كلام, تخاطر معه.......! أجابه بأنه بخير لازال يعمل يومياً وشكره على سؤاله.
التقى بجيفارا وسعاد, وجدهم يعيشون بسعادة بعد زواجهما قبل سنوات مضت دون علمه, رفعوا له ابنهم قبلهُ من جبينه.
حلقت معه من جديد بين الغيوم الزرقاء, أخذته لمكان آخر لعالم آخر, مكان مرعب اشبه بالمقبرة, افزعه وارهبه بحق, كانوا اناساً مشوهي الوجوه, عيون بدل الاذان وبالعكس, بعضهم بلا ايدي, اخرون دون ارجل, بعضهم بلا اطراف, وهناك رؤوس فقط بعين واحدة وآخرين بثلاث عيون.
لاذ خلفها سألها بخوف من هؤلاء؟ خاطرته ..هم مخلفات كتاباتك.
تكتبهم بلا شخصيات بلا كيان وتتركهم نصف أحياء بين الموت والحياة, تعذبهم تدمر حياتهم وكيانهم, انت وقلمك من أوجدهم, عقلك خلقهم للوجود, عليك أن تعطيهم حقهم في الحياة, تصف أساريرهم كما هي بلا نقص, أو تتركهم بلا وجود...! ها هم معوقون عاجزون يدفعون ثمن فعلتك الشنعاء.
لم تنهِ تخاطرها معه بعد... اجتمع حوله الجميع حجزوه بالوسط, يحيطون به من كل جانب, متجهمو الوجوه بعضهم يمشي والآخر يزحف, تجمعوا عليه, طرحوه أرضاً وتكدسوا فوقه بالعشرات.
ضاق صدره لم يستطع التنفس, اختنق, يصرخ بلا صوت, عالمهم بلا اصوات....! حاول دفعهم عدة مرات لم يستطع, يأتون بالعشرات والمئات , بدأوا يظهرون من اماكن مختلفة, من شوارع المدينة وازقة الحارات, يتجمعون فوقه ينهشون بلحمه, وهو مطروح على الارض..
صرخ بصوت بكل طاقته بلا صوت بلا همس, عالمهم بلا اصوات....!
أصبح تحت جبل اسود من البشر, من الكلمات.
صرخ بأعلى صوته بكل طاقته...
بعد لحظات بوووووووم, ركض للشباك نظر غيمة دخان سوداء كبيرة, تشبه فطر الغابات... صحا من الخيال عاد لعالمه.. عالمهم بلا انفجارات.
تعليق