طَرْق .. طَرْق ..
ولأنّ الباب أذن دامعة ... شاهد ضعيف الحيلة .... وقلب مكسور ... يخرج عن صمته أمام الليل ...كل ليل .... ليشهق بالحكاية .......
جلست القُرْفُصاء فوق بلاط المطبخ البارد، تدندن بصمت موّالاً من زمن الحزن، اعتادت المرأة أن تواسي به نفسها بعد كلّ موت، يسمّونه موال السلام ... وللحرب في نفوس الأبرياء كلّ السلام ... وربّما كانت مازوشيّة خاصة اعتادت أن تلطم بها جراحها، لتضيف إلى الأحمر لون الأنوثة، مثلما اعتادت أن تغنّي للصغير الذي لم يكبر أغنيةً عند النوم .. أغنية من كلامٍ وحبّ ...
«سوف يُدقّ الباب ... حتماً سوف يُدقّ .. » وترفع صمتها ليكبر الصوت في أعماقها أكثر .. لئلاّ يدقّ الباب حين يدقّ ...
واحد .. اثنان .. كم مرّة على الزمن أن يمارس لعبة الأرقام .. كم طلقة موجعة على الانتظار أن يتحمّلها كي تولد الفاجعة!
واحد .. اثنان .. أقراص الكبّة لا تشبه نفسها ... عددها نقص، عدنان كان يحبّها كثيراً، كان يأكل في كلّ مرة الحصّة الكبرى ... أقراص الكبّة لا تشبه نفسها أيضاً، تتكوّم في الصينيّة، كأنّها تراب يردم جثّة ... بل سبع جثث .... تنتفض مذعورة من شيطان الفكرة الذي مسّها .. «بعد الشرّ .. بعد الشرّ
....... سلام قولا من ربّ رحيم».
«لا مكان لحصّتك يا عدنان ... ».
قرار أصدرته بحرقة ... تردّد وكأنّه أمامها: «لا مكان لك يا حبيبي اليوم إلاّ في قلبي ... لا تكرهني يا حبيبي ....».
وتتحقّق النبوءة، ساخرة من اعتذارها، من أمومتها. يُدّق الباب ... يُدقّ الباب .. بل يكاد يُكسر، نسيَت غطاء رأسها وفردة الحذاء، صرخت بأبنائها «ابتعدوا... أنا أفتح .. أنا أفتح ....».
مِفصل الباب يحتاج إلى زيت، ثقيل و صوته مزعج فوق الاحتمال، عنيد ومنكسر حدّ الانفصام، وصراخ رجال المخابرات مركّب، ممزوج بصدى بعيد، وبخشونة ليست بمصطنعة، المسدّسات مطمئنّة لأيدي الفولاذ، والرصاص يحتاج إلى ذخيرة، إلى جسد ضحيّة، أو إلى قلب أمّ يقتله دون بارود، يقتله بعرق بارد ..
- أين هو؟؟ أين ابنك عدنان؟
- ليس هنا .. ليس هنا سيدي ...
- فتّشوا المنزل ....
حاولت أن تُفهمه، أبعدها بقسوة ألقت بها أرضاً.....
فوق الأرض خطى منقوشة بكلّ الأحجام، سبعة قياسات، سبع أكباد ... الأرض صَلبة، والقلب هشّ ولكن ...... !
عاد الرجال خائبين، منتصرين فقط بما حقّقوه من فوضى وتخريب: «سيّدي لم نجده» ...
السيّد يرتدي بنطالا أسودَ، وقميصاً أسود، وقلباً بشريّاً أسود، اقترب منها كثعلب يحوم حول مالك حزين يتحصّن بشيء من الحكمة:
- أقراص الكبّة في الفرن، أكثرتِ من البرغل هذه المرّة، قرص ناقص، وستّة أقراص تكاد تحترق ... هل تريدينها أن تحترق ؟
ذُعرت وبدأت ترتجف، تحاول استيعاب الأمر بينها وبين نفسها، كيف عرف ؟
ردّ عليها : «نحن نعرف كلّ شيء ... ونسمع كلّ شيء .... عدنان لن يأكل حصّته ... أمّا الباقون..؟
عدنان ولدك البكر، لم تربيه جيّداً، حقير يظنّ نفسه مثقّفاً، يتحدّث في السياسة، سمعوه يلعن الرئيس، ومشى في مظاهرة مع المشاغبين... قولي أين خبّأتِهِ...».
قاطعته دون أن تشعر: «أعوذ بالله سيّدي ... إلاّ الرئيس ... إلاّ الرئيس ... نحن نحبّه سيّدي ... ذلك الخائن هو الملعون. ذلك الخائن ليس ولدي، أتبرّأ منه أمامكم وأمام الله ... أقسم لك سيّدي نحن لا نعرف عنه شيئاً .. ولا نريد أن نعرف ...».
«سيناريو مكرّر» .. لم يعجبه كلامها، رفع حاجبه ليحاصر كذبتها، تنهّد ثمّ هدّد:
- لو شممنا خبراً أنّكم التقيتم به ... أو عرفتم عنه شيئاً ... سنأخذهم جميعاً .. الشباب الخمسة وابنتك الصبيّة ... سنأخذهم كلّهم هل تفهمين ...!!!
- نعم نعم سيّدي ... بل نسلّمه لكم بأيدينا .. إلاّ الرئيس سيدي ... إلاّ الرئيس ...
وغادروا من الباب نفسه... ويا لوجع الباب،
حين حلّ ظلام اليوم التالي وقف عنده ملثّماً، خائفاً، لاجئاً، متوسّلاً ...
- أمّي حبيبتي وأخيراً استطعت العودة ... خبّئيني ... خبّئيني يا أمّي ... يبحثون عنّي ...
لم تعرف بمَ تردّ عليه، لطمت خديّها، شهقت، اختنقت بكلماتها :
- لا أستطيع ... سيأتون .. كيف أخاطر بإخوتك أيضاً..؟
- سأختبئ جيّداً .. في بيت المونة مثلاً ... وربّما لن يسألوا عنّي مرّة أخرى ..
تظاهرت بالقسوة، عاتبته بشدّة: لماذا يا عدنان .. ألم أحذرك طويلاً ...؟
- لم أفعل شيئاً .. لم أنتمِ إلى أحد .. ألا تصدّقين ؟!... ولكن ألم تسمعي ماذا فعلوا بأبي صالح ؟.. وعائلة الزيتونيّ ... ظلموهم يا أمي، غدروا بالمختار أيضاً، وألقوا عِمامة الشيخ أرضاً وسط السوق. حاولنا فقط مساعدتهم .. ضمّ صوتنا إليهم ... لم تكن مظاهرة كان تجمّعاً سلميّاً تضامناً مع المظلومين ... أمّي إنّه القرن العشرون يا أمّي .... إلى متى سيظلّون يقمعون أصواتنا ؟؟ إلى متى ؟!
عبثاً حاولت التجرّد من أمومتها، حضنته بغصّة قاتلة، بلّلته بالدموع:
- سامحني ... سامحني يا ولدي ... أنت لا دخل لك ... أنت طفلي .. كان عليك فقط أن تفكّر في أمّك .. إخوتك .. أختك سهام ... هل تريد أن ......!
- "لا تكملي......"
لم يحتمل أكثر .. قبّل يدها ورحل هارباً من المأساة المحتملة، ملثّماً بالليل ..
كما الريح رحل .. إلى الريح رحل ...
كان قحطان يستمع إلى الحديث، لم يستطع أن يقابله، كيف يُريه وجهه وهو تخلّى عنه؟
كتم أنينه وهرب إلى المطبخ، حاول أن يُقنع ضميره: «هو ورّط نفسه ... أنا مازلت في الجامعة ... لن أتحمّل تعذيبهم .. لن أتحمّل السجن .. لا أريد أن أموت».
فتح باب البرّاد وضع في فمه شيئاً، راح يلوكه والملح ينسكب فوق شفتيه، لقمة تلو اللقمة ... «كُل يا قحطان لابدّ أنّك جائع». أرغم نفسه على ابتلاع ذلك الشيء كلّه، ثمّ فكر بحلّ آخر ... جسد حبيبته راضية الذي لم يره قط، شدّ على عينه كي تُغمض:
«راضية جميلة، راضية فاتنة بل شهيّة، لا بدّ أنّها كذلك ... تعالي راضية ... اقتربي .... اقتربي».
أحسّ برعشة الانهزام، بالعار، بالعجز، صفعها، لعنها، ضربها بعنف، حطّم أضلاعها، صرخ بها:
«أنا رجل رغماً عنك ... رجل ... رغماً عنك أنا رجل ... أنا ... أنا ... أنا لم أخن أخي .. لم أخن أخي».
ثم وقع منهاراً فوق حطام الطبق الزجاجيّ .....
وفي الدار أمّ عادت تدندن ألحانها، تجلد نفسها وتغني لينام عدنان، عدنان عاد رضيعاً « كيف تخلّيت عنك يا ولدي ؟ أيّ أمّ أنا ؟ عدنان يا طفلي الصغير ... يا كلمة "ماما" الأولى ... كيف وصلت أيديهم إلى أمومتي ؟»
مرّت أيام طويلة وعدنان لم يكبر، عدنان جنين ما زالت حبلى به ... تطلق كلّ مساء ... تمزّق أوردة الكون ....... ولادة صعبة .... ولادة شبه مستحيلة....
قدر أن تبقى أمومتها عالقة حتّى تأتي طلقة الخلاص، ربّما كانت عقيماً، نعم عقيم، الجارة شهدت أنّهم استأصلوا رحِمها مرّاتٍ عديدة، وأقسمت أخرى في السوق أنّه حَمْلٌ كاذب، وأنّ أبا عدنان لم يكن ... وأسكتتها أخرى « دعينا من سيرتهم، لا نريد مشاكل».
مرّت سنون والباب يستيقظ كلّ ليلة .. ينادي أصحاب البيت، لا يريد زيتاً، ولا أياديَ تفتح .. بل يحتاج منديلاً يكفكف الدمع ...
سنون والطرق يزيد، طرق على الباب، على السقف، على الجدار، على الصدر، في القلب، في الذاكرة، في صميم العجز، على يد أمّ شلّها الذعر...
.
.
بسمة الصّيادي
01.06.2013
تعليق