أرواح تأبى الرحيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد الشرادي
    أديب وكاتب
    • 24-04-2013
    • 651

    أرواح تأبى الرحيل

    - حبنا الكبير ارتباط وثيق بين روحين...و الروح مهما حلقت بعيدا لابد أن تعود إلى توأمها.
    كانت الكلمات تخرج من بين شفتيه الشاحبتين كطيور مهيضة الجناح سرعان ما تساقط على صدره،و هو ممدد على الفراش. وضعت سبابتها على ثغره المتعب.كلامه يفقدها السيطرة على شؤون عينيها.أحس بالوهن يهيمن على كامل جسده. برودة غريبة تصعد من مخمص قدميه ، و عند كل مفصل تحدث ألما حادا. لحظات وجع قاسية حفرت في أعماقها أخاديد ألم لن تنمحي أبدا. تأملها بعيون سقيمة. رسم على شفتيه بسمة متعبة. ضغط على يدها بقوة. شهق شهقة حارة، ثم أغمض مقلتيه إلى الأبد. فارقها و هو في ميعة شبابه. لم يتعد عقده الثاني إلا بثلاث سنوات. جلست في شرفة بيتها الجميل تحت ضوء القمر الذي يحمم بنوره جسدها الماسي،و بأنامل ضوئه يداعب جدائلها الناعمة. جلست كقديسة حزينة تردد تراتيل ذكرياتها المؤلمة ، و تعيد شريط اللحظات الأخيرة من حياة زوجها. رغم مرور أكثر من ستة أعوام ، لم تنس شيئا من تفاصيل ذلك الحوار الذي دار بينهما قبل وفاته بقليل:
    - الجسد تراب يحن إلى ترابه ، أما الروح فجوهر خالد تغادر الجسد ، و تعود إلى باريها.
    - كلا يا حبيبتي. الروح تذهب من جسد إلى آخر، لتبدأ رحلة جديدة.
    تحت التأثير الفائق للدهشة من كلامه ردت بقلق:
    - الله قادر على خلق ما لا يحصى من الأرواح، فلماذا يحتاج الناس للعيش بأرواح مستعملة؟ّ
    أمسك بيدها بكل ما تبقى لديه من قوة. و رفع وجهه المتعب نحوها:
    - أعلم أن الموت قد أنشبت براثنها في جسدي.لكني أومن بقوة أن المنية لن تبعدني عنك إلا مؤقتا. أعدك أن روحي ستعود إليك في ثوب جديد...انتظريها... !
    تنهدت تنهيدة حارة لفحت خديها الأسيلين. مسحت عينيها المخضلتين بالدموع، وهي تردد:
    - إنني أصدق كلامك. لكن روحك ستبدأ صغيرة في جسد صغير. كم سنة سأنتظر يا عائد؟

    الأحد 20يوليوز العاشرة صباحا.

    أراحت جسدها على كرسي وثير،تحت ظلة بألوان قزح.وضع النادل أمامها فنجان شاي،و كوب ماء. انتصب أمامها بوجهه الوضيء.رفعت قبعتها الوردية لترى صاحب الظل الذي يزاحم الظلال الأخرى على جسدها. وضع يده على قلبه،كأنه تلقى سهم حب أطلقه كيوبيد من قوس شفتها العليا المنحوتة بشكل لا يضاهى.وضع
    زهرة أضاليا بيضاء في كأس الماء.من دون استئذان جلس أمامها.ندت من ثغره البديع الشكل كلمات عذبة:
    هل يمكنني الجلوس؟ يراودني شعور بأنني أعرفك حق المعرفة!

    الأحد 20يوليوز الثانية عشرة زوالا

    تقف بكامل ملابسها تحت رشاش الماء البارد.لتطفئ الحرائق التي أشعلها في جسدها،و تلطف من غليان أعصابها.ما عاشته اليوم لقطة من الماضي السحيق أعادها مخرج مجهول بالعرض البطيء.نفس المكان و الزمان...نفس المشروبات و الزهرة...أقل وسامة منه، لكن روحه المرحة...ذوقه النبيل...حركاته المثيرة كانت استنساخا دقيقا للمرحوم.

    الأحد 27 يوليوز

    انفتح باب شقته الشاطئية على دنيا ساحرة.تسمرت في مكانها ترزح تحت التأثير الشديد للمفاجأة القوية. لا شيء غريب عنها في هذا الفضاء البهيج: أزهار الأضاليا البيضاء...طائر الكناري الأصفر...عناوين الكتب في خزانته...راحت تركز النظر بحثا عن شيء يخالف عالم زوجها، لم يقع نظرها إلا على ما يضارعه في أدق تفاصيله. أحست بالألفة.لكنها لم تستطع أن تمنع قلبها من الخفقان بقوة، و هي تردد كلامه:
    - بعض الأرواح تتكيف مع أجسادها الجديدة، و بعضها يحافظ على ذاكرته. فيسعى لاستنساخ حياته السابقة في كثير من تفاصيلها. ناداها باسمها كما كان يفعل زوجها.أحست بأقدامها تغوص في الأرض.إن لم تهرول خارج البيت سينصهر جسمها الطري كتمثال ثلج اكتسحت الحرارة أوصاله.
    الاثنين 28 يوليوز
    كان ضوء المصباح ينعكس على ذراعيها الرشيقتين، و قلبها مضمخ بعبق حب لا يمكن نسيانه، تعمل دائما على استعادة طقوسه الشاعرية التي تهيمن على كيانها برمته.
    سمعت الجرس يرن. خفق قلبها.فتحت الباب بسرعة. وجدته أمامها بكامل أناقته.غرس في شعرها البهيم زهرة أضاليا.ارتعشت (هكذا كان يفعل زوجها دائما)ابتسم، و قال:
    - لن تبقيني على الباب طبعا؟
    هزه جسدها المشع هزا عنيفا.ندت من بين شفتيه كلمات من دون إرادته:
    - يا له من جسد شفيف ينساب كجدول ماء رقراق! امنحني يا رب القدرة على تحمل روعته.
    ضمها بين ذراعيه المشتعلتين. و ضع رأسه على صدرها الصافن كجواد عربي أصيل.طفرت من عينيه دموع ساخنة.تدحرجت كحبات لؤلؤ على أديم صدرها الصقيل.أحست بمزلاج قلبها ينفتح من تلقاء نفسه،و بأجراس نبضها تصدح بنبوءة زوجها الراحل:
    - مهما تاهت روحي،ستعود إليك، و هي أكثر كمالا.ستعود لتذرف الدمع على صدرك المترع بالحنان.

    بعينين غارقتين في الدموع، و ضعت الرواية بجانبها. تأملت سريرها الموحش. بات باردا، بعد أن هجرته أنفاس زوجها، التي كانت تدفئه. إلى متى ستظل تطارد في ثنايا القصص و الأساطير الأمل في عودة زوجها. لم يعِدها بشيء، مضى في صمت. لكن الأبطال الذين قرأت رواياتهم كلهم عادوا. حتى الذين لم يقطعوا وعدا بذلك.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد الشرادي; الساعة 27-12-2013, 18:04.
  • حسن لختام
    أديب وكاتب
    • 26-08-2011
    • 2603

    #2
    راقت لي طريقة عرض الأحداث، وراقت لي النهاية المفاجئة غير المنتظرة.
    نص ممتع بلغة شعرية راقية.عالم الأرواح غامض ومجهول..وكل شىء جائز. "كأني أعرفك منذ زمن بعيد " عبارة يردّدها العشاق فيما بينهم..ربما هذا دليل على تناسخ الأرواح. وعنوان النص "أرواح مستعملة" يدافع عن فلسفة تناسخ الأرواح..فهي رؤية وفلسفة للحياة والموت..فلسفة لم تقدّم لها الأديان السماوية إجابات شافية ومقنعة..
    راق لي النص، وراقت لي عمق الفكرة والرؤية
    محبتي وتقديري، أيها العزيز

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      الزميل القدير
      محمد الشرادي
      أروع نص قرأته منذ فترة ولحد اللحظة لك
      أرجوك أرجوك أرجوك
      إحذف هذه
      أرسلت تنهيدة حرى، وهمست:
      - إلى متى سأنتظر؟
      ماذا أنتظر؟

      أرجوك احذفها النص رائع بل مذهل بدونها
      تعملقت فيه وتفوقت على قلمك
      الله كم أحببتها
      لن أنسى العنوان
      هذا نص يحتاج عنوان بحجمه
      فكر بهذا أرواح مستعمله وكأنها ( حاجة أو سلعة ) لنفكر بعنوان ( للأرواح عودة ) ( أرواح عائده) ( أرواح تسكنهم) ( أرواح تأبى الرحيل) ( للأرواح رجوع) أو اتركه ( أوراح ) فقط بدون ( مستعملة ) أظنها أقل من النص الرائع هذا
      كل الورد لك
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • حسن لختام
        أديب وكاتب
        • 26-08-2011
        • 2603

        #4
        راق لي النص، أختي عائده..ونال إعجابك أيضا. انتظرت قليلا، كي أرفعه إلى فوق
        محبتي الخالصة لكما

        تعليق

        • حارس الصغير
          أديب وكاتب
          • 13-01-2013
          • 681

          #5
          وبما أن النص نال إعجابكم وإعجابي ؛ فأرشحه للقديرة عائدة لتجعله نص الشهر للغرفة الصوتية
          تحيتي وتقديري

          تعليق

          • محمد الشرادي
            أديب وكاتب
            • 24-04-2013
            • 651

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
            راقت لي طريقة عرض الأحداث، وراقت لي النهاية المفاجئة غير المنتظرة.
            نص ممتع بلغة شعرية راقية.عالم الأرواح غامض ومجهول..وكل شىء جائز. "كأني أعرفك منذ زمن بعيد " عبارة يردّدها العشاق فيما بينهم..ربما هذا دليل على تناسخ الأرواح. وعنوان النص "أرواح مستعملة" يدافع عن فلسفة تناسخ الأرواح..فهي رؤية وفلسفة للحياة والموت..فلسفة لم تقدّم لها الأديان السماوية إجابات شافية ومقنعة..
            راق لي النص، وراقت لي عمق الفكرة والرؤية
            محبتي وتقديري، أيها العزيز
            أهلا أخي حسن
            أشكرك أخي على مواكبة ما اكتب و الاكتفاء بنصوصي.
            تناسخ الأرواح قضية شغلت مساحة واسعة من الثقافات. و عند الدروز الموحدين الأمر مرتبط بعقيدتهم، و كذلك في الهند عند الكثير من الفئات
            حاولت مقاربة المشكل.
            أتمنى ان أكون نجحت في مقاربتي
            تحياتي

            تعليق

            • محمد الشرادي
              أديب وكاتب
              • 24-04-2013
              • 651

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
              الزميل القدير
              محمد الشرادي
              أروع نص قرأته منذ فترة ولحد اللحظة لك
              أرجوك أرجوك أرجوك
              إحذف هذه
              أرسلت تنهيدة حرى، وهمست:
              - إلى متى سأنتظر؟
              ماذا أنتظر؟

              أرجوك احذفها النص رائع بل مذهل بدونها
              تعملقت فيه وتفوقت على قلمك
              الله كم أحببتها
              لن أنسى العنوان
              هذا نص يحتاج عنوان بحجمه
              فكر بهذا أرواح مستعمله وكأنها ( حاجة أو سلعة ) لنفكر بعنوان ( للأرواح عودة ) ( أرواح عائده) ( أرواح تسكنهم) ( أرواح تأبى الرحيل) ( للأرواح رجوع) أو اتركه ( أوراح ) فقط بدون ( مستعملة ) أظنها أقل من النص الرائع هذا
              كل الورد لك
              أهلا أختي عائدة
              سعيد لأن النص راقك، و سعيد باهتمامك بالنص ليصير أجمل مما هو عليه.
              و أنا متفق معك، و مع الاقتراحات التي اقترحت في تعليقك.
              و اترك لكحرية اختيار العنوان الذي ترينه مناسنا للنص.
              تحياتي أختي

              تعليق

              • وسام دبليز
                همس الياسمين
                • 03-07-2010
                • 687

                #8
                نص جميل وراقي
                يعيد الكاتب خلق الأرواح من جديد على بياض اوراقه ويرسم له عالما من ورق يطير إليه كلما هبت رياح الراحلين الباردة وهاج الشوق عل هذه الروح التي ألفها على الورق تهبه بعضا من الدفء بعضا من الطمأنينة

                تعليق

                • محمد الشرادي
                  أديب وكاتب
                  • 24-04-2013
                  • 651

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
                  راق لي النص، أختي عائده..ونال إعجابك أيضا. انتظرت قليلا، كي أرفعه إلى فوق
                  محبتي الخالصة لكما
                  أهلا أخي حسن
                  شكرا على مواكبة ما أكتب و على الاحتفاء بقصيصاتي المتواضعة.
                  أبق بالقرب
                  مودتي

                  تعليق

                  • محمد الشرادي
                    أديب وكاتب
                    • 24-04-2013
                    • 651

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة حارس الصغير مشاهدة المشاركة
                    وبما أن النص نال إعجابكم وإعجابي ؛ فأرشحه للقديرة عائدة لتجعله نص الشهر للغرفة الصوتية
                    تحيتي وتقديري
                    أهلا اخي حارس
                    شكرا أخي حارس على اهتمامك الجميل بهذا النص.
                    تحياتي

                    تعليق

                    • صالح صلاح سلمي
                      أديب وكاتب
                      • 12-03-2011
                      • 563

                      #11
                      أخي الأستاذ محمد الشرادي
                      أعجبني وتمتلك مقدرة رائعة في سبك العبارات في بنائية يعتد بها
                      مع ملاحظة زيغ بسيط في تشبيهات ومدلولها بعينه..
                      أرجوا لك دوام التقدم
                      تحية وتقدير

                      تعليق

                      • محمد الشرادي
                        أديب وكاتب
                        • 24-04-2013
                        • 651

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة وسام دبليز مشاهدة المشاركة
                        نص جميل وراقي
                        يعيد الكاتب خلق الأرواح من جديد على بياض اوراقه ويرسم له عالما من ورق يطير إليه كلما هبت رياح الراحلين الباردة وهاج الشوق عل هذه الروح التي ألفها على الورق تهبه بعضا من الدفء بعضا من الطمأنينة
                        شكرا على هذا المرور الشاعري.
                        تحياتي

                        تعليق

                        • عبد الاله اغتامي
                          نسيم غربي
                          • 12-05-2013
                          • 1191

                          #13
                          نهاية صادمة غير متوقعة ، لكن القصة جميلة جدا كتبت بأسلوب ولغة متينة وراقية. شكرا أستاذ محمد الشرادي على هذا الإبداع المتميز...تحياتي...
                          sigpic
                          طرب الصبا وأطل صبح أجمل*** بصفائه وزها الشباب الأكمل
                          متلهفا لقطاف ورد عاطر ***عشق الندى وسقاه ماء سلسل
                          عزف الهوى لربيعه فاستسلمت*** لعبيره قطرات طل تهطل
                          سعد اليمام بقربه مستلهما ****لنشيده نغمات وجد تهدل

                          تعليق

                          • ريما ريماوي
                            عضو الملتقى
                            • 07-05-2011
                            • 8501

                            #14
                            دائما مبدع في نصوصك ولغتك الاستاذ محمد...
                            واعجبتني القفلة الصادمة.. تمنيت لو تناسخت روحه حقا
                            كما في الروايات التي تقراها...

                            شكرا على نص ممتع..

                            تحيتي وتقديري.


                            أنين ناي
                            يبث الحنين لأصله
                            غصن مورّق صغير.

                            تعليق

                            • ويس كروان
                              محظور
                              • 29-12-2013
                              • 37

                              #15
                              أخي محمد الشرادي نص رائع ورؤيا عميقة ,وفكرة تناسخ الأرواح هي فكرة يبدوفيها الإيمان بالتجدد والبعث, للارواح الطاهرة طبعا لانها تسمو الى الملكوت فتزداد طهارة وتبعث من جديــد, فما دخل النادل في روح تتحرى عودة الروح الطاهرة ,ألم يعدها الزوج بذلك؟-كلا ياحبــيبتي.....-, -أعدك ان روحي ستعود إليك - فلما أنهيت ب(لم يعدها بشئء)؟ ; أنت رائع والنص رائع ; تحيات ويـــس كروان
                              التعديل الأخير تم بواسطة ويس كروان; الساعة 10-01-2014, 02:08.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X