أجمل ماقرأت لكم/ من نصوصكم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #16
    رفع القبعة
    ذات مساء بارد و الشمس تلفظ آخر أنفاسها، أدخلني حنيني إلى مقهى فندق فاخر، كان الجو دافئا، يسبح في نعيم العطر و الابتسام.في الأمام، و فوق منصة مرتفعة قليلا، ظهر ساحر أبهر الناس، و قد تابعوا حركاته باهتمام و اندهاش، بمهاراته العجيبة، و ما يأتيه من أفعال مدهشة..فوق الجميع تتراقص الأضواء لتزيد المشهد قوة و تهبه الساحرية..
    لفتت انتباهي حسناء وحيدة.. ترتدي فستان سهرة أسود ، ممتلئة الجسم، مدورة الوجه، ذات عينين عسليتين قلت : هي من ستكسر وحدتي..
    وقفت أمامها وقفة ممثل، لم تعرني انتباها..
    في تلك اللحظة، كان الساحر قد انتهى من تقديم وصلته، اقترب مني..وضع قبعته على رأسي، و سلمني عصاه،و زودني بخفين عجيبين، بمنقارين حادين رأيتهما ضاحكين ؛ ثم قال : ستكون ناجحا..
    جلست إلى جوارها بكل ثقة،و اعتداد بالنفس لم أحس بهما منذ زمان، فضحكت من قلبها..شجعني الموقف و حمسني..فأدرت العصا فوق رأسها ثلاثا، ثم لمست كتفها. بنعومة فائقة و كأني أخاف أن يلحق بها مكروه. و أمام استغرابي، اختفت..نط قلبي من صدري و انتابتني الهواجس و أحاط بي الندم.
    بقيت حائرا أقلب نظري، و قد ظهرت لي المقهى خاوية على عروشها، لأجدها في أقصى المقهى صحبة شاب وسيم و قد انخرطا في حديث حميمي..تحيط بهما غلالة ضوء كما لو كانت تمنع الفضول عنهما و تحمي سريتهما ، و تحرسهما من أذى العيون.
    بقيت أتابع المشهد بعينين فارغتين و وجه بارد،
    متسمرا في مكاني للحظات ، جامدا كمن صب عليه سطل ماء بارد.. بعدها أحسست بيد حنين تسلمني للشارع..



    نص للزميل القدير
    عبد الرحيم التدلاوي
    رفع القبعة
    نص جميل ومرهف
    مرهف وفيه ومضة مذهلة

    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • عبدالرحيم التدلاوي
      أديب وكاتب
      • 18-09-2010
      • 8473

      #17
      شكرا لك، أختي البهية، عائدة، على التفاتتك، هذا تكريم طيب، من أخت طيبة
      بوركت
      مودتي

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #18
        تربة مخضبة

        ارتفعت الأصوات مردّدة :"مازالت الحياة تنبض بين جوانحها الصّغيرة".
        سرى الخبر في شراييني ففاض ماء الحياة في جسدي بعد ما نضب لهول ما حدث.
        تحاملت على أوجاعي.كنت قد فقدت القدرة على الحركة لكنّ الأمل خرج من بين أنقاض نفسي المتهالكة ليلملم كلومها.
        زهرتي الجميلة على قيد الحياة.خلت أنّني فقدتها للأبد فندبت مصابها وعشت مرارة فراقها.
        اقتربت منهم والشّوق إلى احتضانها يهزّ كياني ،نظرت إليها،غام الأفق أمامي أصابني دوار...

        "صغيرتي الحلوة،يا جميلة الرّوح لطالما حلمنا برحلة عبر ربوع بلادنا نهيم في حقولها ومزارعها فندفن فيها بؤسنا وشقاءنا.طالما تمنّينا لقاء أقربائنا هناك وراء الأسلاك الشّائكة والجدران الفاصلة.
        فلنحلم قبل أن تصبح أحلامنا باهضة الثّمن فلا نقدر على شرائها ولنحلم ماداموا لم يقرّروا بعد حظرها ومصادرتها.ماذا بقي غير الحلم نملأ به رئتينا وقد تلوّث هواء بلادنا بما نفثوا فيها من سموم؟
        أدميت قلبك الصّغيرالذي يتفتّح للحياة كزهرة بريّة.
        لا عليك أمّي الغالية،إنّني أعيش في أعماق أحزانك وأحلامك.أستيقظ كلّ صباح على رائحة الأرض وهي تطهّر أنفاسي من براثن ما علق بها.
        يعصف بي الشّوق إلى أن أزور قبر أبي وأتمرّغ في ثرى التّربة التّي تحمل في أحشائها بقاياه.لم يكتب لي أن أعيش بين أحضانه وقد اغتالته أيديهم القذرة"

        -أريد رؤيتها.أريد الاطمئنان عليها.تبّا لهم لقد مزّقوا بالأرزاء صدري لكنّني الآن أكثر قوّة من أيّ وقت مضى .أريد رؤيتها.
        -حرارتك تنخفض تدريجيّا. سأسمح لك بزيارتها حالما تتعافين.
        -قدرنا واحد أنا وصغيرتي وكلّ من صودرت أحلامه لذلك كنّا نغنم الحلم لأنّنا قد نفقده يوما.
        سكنت في فراشي لكنّ نفسي لم تنم فقد اتّقدت أوجاعي داخلي تئنّ تحت وطأة عذاب ابنتي التي تجاورني في هذا المستشفى.نهضت وتسلّلت في حذر..
        -توقّفي . ماذا تفعلين؟ عودي إلى الفراش.لا يمكنك المجازفة بصحّتك. سأرافقك إليها عندما تتماثلين للشّفاء...

        "كان عليّ الخروج لأؤمّن لنا الطّعام في تلك الأيّام العصيبة.تسللّت في حذر بعد أن تركتها في البيت وفي اعتقادي أنّي ضمنت لها الأمان.
        صوّب رشّاشه نحوي:
        مكانك.إلى أين تتّجهين؟أين بطاقتك الشّخصيّة؟
        غمغمت:هل كان عليّ أن أحملها لأبتاع خبزا؟
        اخترقت الحصاربعد جهد كبيرفي إقناعه بضرورة المضيّ قدما.
        تخطّيت بقعا حمراء حتّى لا أنتهكها بقدميّ.جليلة تلك الحمرة التّي تخضّب تربة وطني.كنت أحذر انتهاك قداستها وقداسة أصحابها.
        تقدّمت قليلا:
        -احذري سيّدتي.الطّريق غير آمن.كان عليك ألاّ تجازفي.احذري
        تقّدمت.الدّكاكين مغلقة.بالكاد وجدت أحدها شبه مفتوح.حصلت فقط على ما يسدّ الرّمق.
        أصابت إحدى الشّضايا كتفي وأنا في طريق العودة.نزفت دما ووجعا.
        -لا تتقدّمي أختاه لا يمكننك العبور.لقد أغاروا بطائراتهم على المنازل.يريدون تدمير كلّ شيء.
        تحاملت على نفسي ووصلت بمشقّة..المنازل تئنّ تحت وطأة الخراب.الأنين يسمع بين الأنقاذ،أنين العباد والتّراب.
        نزفت دما ودموعا.نزف جرح الماضي وأنا أحسّ وجعه في حاضر مأساتي.
        يا ربّ جرحي مازال لم يندمل بعد"

        -كيف حالك سيّدتي؟تبدين اليوم أفضل.سأرافقك مساء إلى صغيرتك.إنّها تنتظرك.
        -كيف حالها؟اشتاقت إليها كلّ ذرّة في كياني.
        -بخير بخير والحمد لله...

        "إنّها تئنّ. هيّا أسرعوا مازال فيها نبض حياة.
        خرجت من تحت الرّكام عروسا مخضّبة بالدّم.لم أميّز وجهها.كانت مزيجا من الدّم والتّراب.ارتعدت،أصابني دوّار"

        -هيّا سيّدتي إنّها في انتظارك.
        تجمّدت الدّموع في عينيّ.وأدت وجعي وحرقتي .كتمت أنيني.
        تبدومتماسكة طفلتي التّي تختزن أوجاعها داخلها.
        بتروا يدها اليمنى لكن لم يبتروا ثباتها ورباطة جأشها.
        لن يبتروا حلمها في أن تزور قبر والدها هناك في الضّفة الأخرى.



        وهذا نص للرائعة الغالية
        نادية البريني
        تربة مخضبة
        نص مهول
        فيه فسحة للوجع كبيرة
        نص رائع بكل المقاييس
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • عائده محمد نادر
          عضو الملتقى
          • 18-10-2008
          • 12843

          #19
          أمنية من ورق

          ريما ..يا صغيرتي الحلوة ...هل وصلتِ ...طيري إليّ حبيبتي ..جدّفي الموج، اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان ، أغمضي عينيك برفقٍ ، واقطعي الحديقة بسلامٍ ، وإيّاك أن تتعثّري بالسياج، أنا بانتظارك ..
          هاقد أتيتك أمي ..دثّريني ..الطقس شديد البرودة، والريح تصفر، وأمواج البحر تعلو ..تعلو ..ترطم الشاطئ بلا هوادة ، خذي أمي، قطفت لك طاقة من الزهور البريّة هديّة العام الجديد، لملمتها من بوادي أشواقي .
          رأيت في طريقي إليك الكثير من الأطفال بثيابهم الجديدة ،يغنون، يرقصون ، يشعلون شموع العيد ،يتزلّجون فوق ثلج الروابي، ويزيّنون الأشجار بأضواء أحلامهم، رأيت الكثير من علب الهدايا ، الملفوفة بأشرطة ملوّنةٍ ، يلتفّون حولها بلهفةٍ، ليفضّوها بدهشةٍ وفرحٍ.
          شدّتها إلى صدرها ، أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لاتصل إليه يد تنزعها من جديد، مسحتْ عن جبينها القطرات الفضيّة الباردة، أدفأت نبضها المتسارع كعصفور دوريّ مضطرب، وتغلغلتْ بأناملها تلامس نجوم الليل العالقة بشعرها ، تقبّلها ، تشمّها، تهدهدها..
          أرختْ عينيها الناعستين، كبحّار يشتهي النوم بعد أن تاه في مدن البحار،وصدى أغنيتها القديمة يداعب جوارحها...ياللا تنام ريما..
          التفتتْ إليها..أمي طالتْ غيبتك ..لمَ تركتني وحدي؟
          ــ ليت الأمر بيدي يا حبيبتي ..سهم حارق فرقني عنك ، لم أستطع صدّه ـ أخبريني كيف أتيتِ إليّ والدرب طويل ؟؟
          غافلتهم أمي، كان أبي كعادته، قد أطفأ ضوء مخدعه ، وأسدل الستائر متعباً، دون أن يدري بأنّي سوف ألاصق يديّ برجليّ ، أتكوّر كجنينٍ، أحنّ إلى نبضك في الحشايا، وأنام وحدي على طيفك ، بلا غطاء، بلا دواء، مرتعدةً من العتمة، من أشباحٍ تركض أمامي، ولا أقوى على الصراخ.
          تحملها إلى سرير حضنها...هيييه ...ياللا تنام ريما ..ياللا يجيها النوم..ياللا تحب الصلاة ...ياللا تحبّ الصوم..
          ترفع عنها الغطاء،لم تعد تحتاجه، تعانق جيدها، ذراعاها موقد حنان، تخترق أناملها فيض النور، تفرك عينيها، تطلب أن تغوص في قارب التوحّد، ألاّ .تبعدها عنها بعد اليوم..
          طمأنتها: لن يأخذك أحدٌ من حضني،ولكن ياصغيرتي كيف غادرتِ البيت حبيبتي؟؟؟أما خشيتِ الطريقَ الخاوي من البشر في هذه الليلة العاصفة؟وأنت تقطعين الدروب وحدك؟؟
          لم يشعر بي أحدٌ أمي، نسَوني، كانت المرأة ذات الألوان المرعبة ، تعدّ سهرة رأس السنة،تكدّس الأطباق على الطاولة ،تزدحم أصناف الطعام أمام ناظري، وأنا جائعة.
          غافلتها وهي ملهيّة عني بالانصراف إلى ولديها، وقفت على رأس أصابعي ، أمطّ جسمي، أبتغي زاداً قليلاً بحجم يدي ، تعثّرتُ بمفرش الطاولة، اندلق الوعاء، رأتني ، ركضت نحوي، لمحتُ عينيها، أخاف من عينيها حينما تغضبان، ألمح ناراً، تتطاير شررا،ً من جفني وحشٍ، يريد أن يلتهمني،لملمت أطراف ثيابي ، وأنا أحسّ بللاً ينسرب منها ،أسفل فستاني.اقتربت مني، كم أكره رائحة صدرها..!!!؟؟إنه لا يشبه أريجك..؟؟!!وشذى عطرك
          اقتربتْ أكثر، رنّة كعبها العالي أوشكت أن تطرق رأسي ، ولهاثها يفحّ في وجهي، انفلتّ من أمامها إلى الحديقة، لحقتْ بي ، حاولتْ أن تمطّ رأسها من باب الصّالة تتعقّبني بنظرها، ولكني راوغتها خلف الشجرة.
          وانشغلتْ عنّي بضيوفها، علا الضجيج في أرجاء المنزل،وشقّت الضحكات سكون الليل، كنت أسمع ارتطام الأطباق، والأكواب، ممتزجةً بالموسيقا والأغاني، والرقص الصّاخب، وألمح الشرائط المكويّة في جدائل أختي الجميلة، كدميةٍ تتخاطفها الأيدي، من وراء الشبّاك شاهدتهم.
          لهفي عليك يا صغيرتي وماذا بعد؟
          نعستُ ..طال انتظاري لندائهم، لافتقادهم لي ، ما تذكّرني أحد، خفتُ أن أدخل ، فثيابي متّسخة مبلّلة، وشعري منفوش، ووجهي يحتاج إلى رشقة ماءٍ ، تنظّفه ، وتعيد إليه ابيضاضه..
          نعستُ وما من فراشٍ يؤويني، أصطكّ برداً.
          وغادر الضيوف الصالة، وما تذكّرني أحد.
          لمحتها وهي تلمّ الأطباق، تنظّفها، تصفّفها، وصوت المكنسة الكهربائيّة، غطّتْ على صوت بكائي،وأنا أرتجف ، أخبّئ أصابعي المتيبّسة من البرد تحت إبطيّ ، ولم أعد أشعر بقدميّ كأنّ عطباً أصابهما بالخدر والموات، كنت أعانق الشجرة كلما هزّتني الريح العاصفة أتوارى خلفها..
          تعبتِ في طريقك إليّ يا قرّة عيني...أعرف كم تعبت حتى وصلتِ.!!!
          ـــ طال الانتظار ...وخدر النعاس يأخذني إليك ، كان الصقيع يلتهم كلّ قطعة من جسمي ببطءٍ، يزحف بدبيبٍ أبيضَ يقرّبني منك؟؟؟آاااه ما أصعب الوصول! كم دفعتُ عن كاهلي المطر الغزير، المختلط بندف الثلج ! كم أرعبتني شقوق السماء، والأرض ، حتى كادت تبتلعني! ولم تهدأ الريح إلاّ بعد أن صرت في مملكتك..ضميني إليك ، متعبة أنا..يا لطول رحلتي إليك.!!!
          ـــ وكيف عرفت الطريق إليّ يا عمري ..؟؟!!!
          لمّا أُطفئتْ أنوار الغرف واحدة، تلو أخرى، أيقنت بأني محرومة منسيّة، حاولت النهوض أتلمّس قبضة من أمل، خانتني قدماي ، وانطمر صدى صوتي مع هبّات الثلج ، حينذاك تذكّرت رمال البحرالذهبيّة ..حين افترشناها معاً ...وصنعتِ لي زورقاً من ورق، أنسيتِ أمي ؟؟؟أما علّمتني كيف أطلقه على صفحات الماء بعد أن أوشوشه بحلو الأمنيات كي تتحقّق ..!!؟؟
          وهذا ماكان...زحفت إلى حوض السباحة في الحديقة، أطلقتُ زورقي ، أرأيتِ هاقد أوصلني إليك، وها أنا أعبّ من حنانك ما يعوّضني وأكثر،ضمّيني ..السموم استوطنت جسدي النحيل ، أنشد السكينة والسلام بين يديك.
          ـ لن ينتزعك من صدري أحد يا حلوتي ...هييييييه ..ياللا تنام ..ياللا تنام ..غيبي بين ضلوعي، سريرك حضني، وذراعي وسادتك، أمشط عليها شعرك الناعم بأصابعي، حتى تنامي.
          وساد سكونٌ مطلقٌ ..وتبعثرتْ حقائب السفر ..تنثر ما عبّأته من هدايا اللقاء.
          وعند الصباح ..استفاق الضوء على أصوات مذعورةٍ ، تتبادل بجنونٍ: الاتهامات ، واللعنات.
          أصواتٌ تتباكى على جسد طفلة ، ما عاد يعنيها ما تسمع، تنظر إلى السماء بعينين بريئتين، على وجهها طيف ابتسامة نورانيّة ، ويدٍ تقبض على زورقٍ ورقيّ، حقّق الأمنيات، قبل أن يلامس الماء.


          هذا نص للأديبة الرائعة
          إيمان محمد الدرع
          نص فيه من السرد والحبكة الدرامية
          وضع اصبعا على جروح لن تندمل
          نص كما كاتبته رائع وحسب
          الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

          تعليق

          • عائده محمد نادر
            عضو الملتقى
            • 18-10-2008
            • 12843

            #20
            دموع الآخرين

            بعد َ ليلةٍ مشوّشة الصور ، متأرجحة بين يأسٍ ورجاء ..،خيّم الصمت على المشفى ..تزامُناً مع بابٍ أطبق على قلبٍ
            ما خذلني يوماً ساعة حاجتي إليه في ليلٍ أو نهار ،
            مع فريقٍ من الآطباء باحثين عن مخرجٍ لآلامٍ حاول المُضيّ معها على وتر المعاناة إلى أقصى طاقاتِ إحتماله .
            الجو خانق..والأصواتُ فوضى خافتة الخطوات ..،عيون باهتةٌ ...نظراتٌ مُتعبةٌ ، إبتساماتٌ باردةٌ ما تكاد تعلو الوجوه
            حتى تسقطُ في غموض طقسٍ إختلطت فيه العفويّة بالتخطيط المُرَكَّز .
            بياضٌ يكتسحُ كل ما تقع عليه العين في المكان ، والأسِرّةُ كأنها أكُفّ مرفوعة تنتظر الرحمة من السماء ...
            والأجساد الهزيلة فوقها ، ثمارٌ عصرتها يدُ الزمن فلم تترك فيها إلاّ القشور .
            عمال النظافة يروحون ويجيئون في نشاطٍ دؤوب معظمهم من القرى المجاورة للقدس ، كأنهم جاءوا لينسوا الفأس والمحراث ..ومصارعة العصافير على الثمار ، ليكابدوا أخطار طريقٍ تكمنُ في منعطفاتهِ عيون العذاب ..!
            خارج الغرفة يقف حراس الأمن قرب مدخل المشفى يتصفحون الوجوه العابرة ...ويتفحّصون بعضها إذا لزِم الآمر ..
            في محاولة لتضييق مساحة الخطر الكامن بين تلك الوجوه المختلفة الجنسيات ..!

            شعور بالحزن واحتباس الدمع في عيني ..دفعني للتجول في ردهات المشفى ..
            وأمام شباكٍ عريض إقتحمتهُ الشمسُ ناشرة أشعتها في وسع المكان ، وقفتُ أرقبُ منطقة سكنية راقيةً
            على سفوحٍ ربوةٍ كانت لنا ذات زمان ..!!
            الشوارعُ ناعمة ..الأشجار مهرجانُ إزهارٍ وألوان ...،وبين الآغصان طيورٌ تردد ترنيمتها الصباحية .
            البيوت حجارتها نظيفة بيضاء ، في نوافذها ورودٌ ..وفي حدائقها يلعبُ أطفالٌ تملؤهم الحياة ويحيط بهم
            الأمن والأمان من كل الأنحاء ..، هدوء وراحة بالٍ واطمئنانٌ يلف المكان .
            وفجأة ...كأن يدٌ شدّتني من عنقي فاعتدَلتُ ، ورأيتُ صورة عريضة امامي تغطي المكان ...غرف اسمنتية
            متلاصقة، أزقة موحلة ..، وجوهٌ شاحبةٌ ملَّها الإنتظار ،
            عربات خضار بائسة ..هي الأرض والمحصولُ والفيضان .متسولون على ارصفة المنافي يسألون الزمان :
            متى بالإمكان .........................؟؟؟
            هناك حيث إمتداد الجذور عذاب ..، وذلك الطفل الذي وُلِد كبيراً يقبع في عتمة الزقاق ..،حيث الحياةُ رزمة
            من السياط ..تمزّقُ ..تحرق ..تستبيحُ دون مسائلةٍ أو إحتجاج ..!
            تُعذبني قتامة الصورة ....تمحو جمالية الصورة التي كانت قبل لحظات .
            أحد ضباط الأمن يلفت نظري إلى الإبتعاد عن النافذة ، كان الكُره منقوشاً على وجههِ بالثُّلُث وهو يحدثني ..
            حدّثْتُهُ بلغتهِ العبرية ..فرَد عليّ بالعربية أن ألزم حجرة والدتي ، أو انضم إلى افراد اسرتي في الحديقة .
            تحسستُ من لَغط العاملين أن حالةً حرجة في الطريق ..، ما لبث أن دخل بها طاقم الإسعاف إلى قسم الطواريء .
            سيدة على ما تبدو في الخمسينات ، أصيبت بنوبة قلبيّة بعد تلقيها نبأ مقتل إبنها الضابط في اشتباكٍ
            مع مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في مكان ما على الساحل .
            العائلة كلها تحيط بالأم على سريرها ..فاقدة الوعي شاحبة اللون ، يتصبب العرق من كل كيانها
            كأنه دموع القلب والأعضاء ، الأبُ ذاهلُ يحدّق في صورة إبنه الشاب لحظات ..ثم يضمها الى صدرة
            مجهشاً في بكاءٍ مُمِضٍّ أليم ، دموع ..واهات ..صراخٌ وعويلُ يملأ المكان ،وقد تناثر الآقارب على المقاعد
            وقرب الجدران .
            مشهدٌ مأساويّ يدمي القلوب لعائلةٍ ثكلتْ ابنها الشاب ،اللحظات حاسمةٌ ، مُدبَّبةٌ ..مشحونةٌ بالإحتمالات ...
            ألمشهد الذي يهزّ أقسى القلوب ...، يهزني لِحظات ..غصّة تتجمع في حلقي ، تكاد تمزق حنجرتي ...
            فأنا إنسان رغم كل التناقضات ..،فاجعةٌ بكل المقاييس تقف منّي على بُعْد خطوات .. ولكني لا أشعر أني جزء
            من ذلك المشهد ..ولو على سبيل المواساة ..أو السؤال ..!
            ..هوَّة بلا قرارٍ تفصلُ بيننا ، هوّةٌ يقبعُ في اعماقها أنهارٌ من الدماء ..مئات أعرفهم من الشهداء والجرحى
            والثكالى والأرامل والأيتام ...
            فجأة يُطلّ وجه ابراهيم ..ذلك العريس الذي اغتالت القوات الخاصة فرحته قبل زفافه بيومين ،
            من الناحية الاخرى يُطل وجا وفاء ، ابنة العشرين ربيعا ..والرصاص يسقط العلم من يدها ..فترتقي
            شهيدة نحو السماء .
            ألتفتُ يُطل وجه أمين ...وجه مها ..وجه ملاكٍ يحملُ في غلالة نورٍ جنيناُ مزق الرصاص رحم امه .
            يُطلّ بيتُ تجتاحهُ الجرافات .
            تُطِلّ تعريشةُ يا سمين من بين الركام ، تُطلُّ أحلامٌ ذابت تحت التراب . يُطِلّ شبابٌ ذوى بين الزنازين ..
            خلف القضبان ، وجهُ أخي وتوأم روحي يُطلّ من خلف عشرةِ أعوام ...!!
            تُحاصرني الأطياف من كل الجهات ..مُعفّرة بتراب الغربة ..مُضرّجةً بالدماء ،يختفي المشهد الآخر من المكان
            ولا يتبقى إلا أنا وتلك الأطياف ..، تنفجر عيوني شلالاتُ دموعٍ ودماء ...
            أركض ...أغادر المكان المزدحم بالمأساة ...أصطدم بطاقم التمريض يسحب سرير أمي خارج غرفة العمليات ،
            أتسمّرُ في مكاني مذهولة ..عيوني الدامعة تستنطق الجَرّاح ..
            يربتُ الجراح الإيرلنديّ على كتفي هامساُ : لا تقلقي ...كل شيءٍ على ما يُرام .


            وهذا نص للزميلة الرائعة
            نجاح عيسى
            دموع الآخرين
            صراع تاريخي بين النفس البشرية
            إنسانية وفيها صور رائعة من مونولوج داخلي
            نص رائع فيه وجع كبير لأصحاب الأرض أصحاب الحق

            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

            تعليق

            • عائده محمد نادر
              عضو الملتقى
              • 18-10-2008
              • 12843

              #21

              ديجافو
              كان نهاراً يلتهب شوقاً لأشياءَ لم تبدُ بعد ..

              الفرح والحزن متلازمان ، واللهفة والشوق يتعانقان ، يجرانه جراً لذات الشارع الذي خفق قلبه فيه ذات انتشاء ..
              يعدل من هندامه يريد أن يكون أجمل ، أن يبدو أطول ليصل إلى السماء ،كي يراها من هناك، فيرسل بعضاً من غيمةٍ تمطر عليها حباً ..
              ها هي ذي ، تماماً كما تصورها..
              سمرتها ، شفتيها ، عينيها الواسعتين ، حركة جفنيها حين ترتبك ، احمرار وجنتيها حين يغزوهما الحياء ، هي ذي بكل ما فيها من مكونات ، كما يحب أن يراها ..
              الواحدة والربع وبضع ارتعاشات
              الآن تماماً ، حين تظهر من طرف الشارع ، تتهادى فوق الأرض بكعبين تظن إذ رأيتهما كم هما سعيدان إذ يحملانها ، يغيظان من يراهما ..
              نعم هي فرصته الذهبية ..
              ستقترب منه ، حتى تصبح بمحاذاته تماماً ، ثم تسقط حقيبتها أرضاً ، ولسوف تظهر صورتها مع (أيمن) ..
              ستشعر بالخجل ، ولسوف تحمر وجنتاها ، ليس لأنها تبدو متبرجة بالصورة وكأنها في يوم خطبتها ، بل لأن الصورة مع ( أيمن ) بالذات . هو ذاته ولا أحدٌ سواه ..
              الآن وهي تقترب منه ، بدأ يدرك في رعب هائل ، أن كل ما تخيله يحدث بالضبط
              وعندما كان يساعدها لتلملم بعض ما تناثر منها ، ليعيد شعورها إلى حقيبتها البنية ، وخجلها إلى وجنتيها ، كانت حدقتاه تتسعان بهلع ، كيف أمكنه رؤية ما حدث قبل حدوثه .. أي رؤيا ساعدته بذلك ؟؟
              قالت له قبل أن تنصرف :
              - أشكرك .. لقد ساعدتني مرة أخرى .
              ستلتفت إليه ، قبل أن تبلغ نهاية الشارع ، سترمقه بنظرة غامضة ، ثم تمضي ..
              الأشياء كلها تبدو واضحة جداً ، الشوارع والأبنية فقدت كينونتها ، صارت شفافة ، الجدران تظهر ما خلفها ، الأبواب كلها مفتوحة ، العقول كلها أمامه كتاب أبيض مفتوح يقرأ ما خلفه بوضوح ..
              يرمق الأفق ، الذي كان صافياً ، يتمتم :
              - ستمطر الآن ..
              يفتح مظلته ويمضي في الشارع المشمس ، يراقبه الناس في دهشة ، يبتسم بعضهم في شفقة ، بينما يواصل هو طريقه ، دون أن يلتفت خلفه ولو مرة واحدة ، ثم يطوي مظلته ، ويمسح ما بها من مياه ، ويداري ابتسامته خلف باب منزل قديم ، يدخله ليلقي نظرة على الموجودات ، يتأمل شاشة التلفاز الفضية ، يقلب المحطات ، يجرب أن يقرأ نشرة الأخبار كأنه رآها ، وأن يخبر نفسه بنهاية المسلسل وهو في حلقاته الأولى ، ذاتها متكررة متعرية يعرفها جيدا ..
              (ديجافو)... انطباع الرؤية المسبق ، أو ربما ... أكثر .
              يفكر حتى يضني عقله ، ثم يغمره النعاس ، ينتفض جسده مرات ، في نومٍ غطى جسده ولم يقترب من روحه وعقله .
              ****
              كيف يحذرها ؟؟
              ينهض عصراً ، يشعل سيجارة ، ينفث دخانها في سماء الغرفة ، يوماً ما سيدخل المشفى بسبب هذه السموم ، يرفع سماعة الهاتف ، يطلب رقمها الذي انطبع أمام ذاكرته دون أن يتذكر أين عرفه ومتى ؟ ترد بصوتها الناعم الوادع ، كأنه محض همس ، يتحشرج صوته ، من بين ما يقول :
              - سارة ، سيخدعك أيمن ، سوف يتزوج أخرى ..
              ويغلق سماعة الهاتف ، ولهاثه أضحى مسموعاً كدقات قلبه التي اخترقت صدره ، يرتمي على الأريكة ، ترى كيف ستكون ردة فعلها ، هل ستصدق ؟
              كيف سيقنعها ؟
              ستكون في المشفى ليلاً ، عملها يقتضي أن تقضي ليلتها مناوبة ، سيكون هو هناك ، بأية حجة
              ساعات تمضي ، في الليل البارد كان يتحرك خلف المشفى ، في شارع دخله بالذات ، الشوارع الخلفية لمدينة الصمت التي لا تتغير إلا ليلا ، حين يصبح للمقموعين صوتٌ تسمعه بعد انتصاف الليل ، حين تخرج الخفافيش لا تخشى أجهزة الأمن ولا تملك أن تتراجع ..
              هناك كان شابٌ صغيرٌ يحاول المرور فيعترض طريقه لص تعس ، يتحرك هو حتى يتوسط المسافة بينهما ..
              يخرج اللص سلاحه الأبيض ، يهرب الفتى بينما يرفع هو قبضته نحو اللص ، يضرب وجهه بكل عنف ، كأنه يرى فيه كل ما يبغضه ، صورة المحتل ، ووجه أيمن وملامح مدرس التربية البدنية ، رأى فيه الشر ذاته ، ينهال عليه ضرباً ، ثم يسقط أرضاً حين يرى سكين اللص تخترق بطنه ، فترتسم ملامحها أمام عينيه ، ذاتها كما ظهرت في الصورة ، بشعرها الأسود الثائر ، وقميصها الأخضر الداكن ، والشال الذي لفها فغطى كتفيها ولم يغط حسنها ..
              هناك ، كان على سريرٍ مرتفع ، حوله الجدران بيضاء شفافة ، والسماء تبدو واضحة ، النجوم فيها متلألئة رغم سقف الغرفة ، صدره ملتف بالشاش الأبيض ، لكنه لا يشعر بالألم في صدره ، لكأنها كانت طعنة من الخلف ، الممرضات حوله ، والصورة مشوشة كما الصوت والإحساس ..
              صوت خافت يقول :
              - لقد عاد
              ممرضة تقول في حسرة :
              - ليتني مكانِك .
              - كم أشفق عليه
              يتأوه ، فتهرع إليه (سارة) ..
              يبتسم ، يطلب أن تساعده بالنهوض قليلاً ، تمسك به من يده اليمنى ، تلمس كتفه براحتيها ، يشعر بأناملها حوله ، في كل مكان ، يشعر بها تملأ عالمه كله ، تقول له :
              - أنت الآن بخير
              يبتسم ، وهل كان في عمره كله أفضل حالاً من الآن .. ؟
              - هل تذكر ... ؟
              لم تكمل ، ابتلعت باقي حروفها ، رمقته بنظرة غريبة ، وانصرفت ..
              نعم هو يذكر ، لقاءه معها ، حين ساعدها في التقاط حقيبتها وما تناثر منها ، حين لمح صورة أيمن ، حين رأى جريمتها ، تلك الغافلة ..
              يتذكر طيفاً من ذكرى ، تمر أمامه يحاول أن يمسك خيطاً ، يفشل ويحاول حتى يغلبه تعبه فينام ..
              يرى نفسه وحيداً ، الضباب يحيط بكل شيء ، قال له أحدهم :
              "المعرفة تقتل ، إن الضباب هو ما يجعل الأشياء تبدو ساحرة " *
              حاول أن يتذكر أين سمع العبارة من قبل ففشل ؟ ظل يفتش عن نفسه بين الضباب ، وصورته تتجلى أمامه من بين السحب ، غريبة قبيحة ، كأنه صار محض مسخ
              هو كابوس ولا شيء غير ذلك ، الحقائق أكثر وضوحاً من هذا الحلم ، الحقائق فيها وجهٌ يعشقه وشعورٌ لا يبارحه ، فمتى يستفيق ؟ ليتناول كأساً من الماء ، تناوله إياه (سارة) .
              ****
              " لا زلت مريضاً بها ، مصاباً بولعٍ اسمه : هي ، لا زلت أدمنها ، أعشق ملامحها ، صورتها وصوتها وهمسها وكل شيء لمسته بيديها فحولته ذهبا ..
              أعشقها ، أقتات صوتها وتوقظني كل صباح همسةٌ صادرة منها ، كيف تمتلك القدرة على أن تكون رائعةً هكذا ؟ كيف تحيط بها هالةٌ من البنفسج تجعلها رقيقةً هكذا .؟
              ليتني اكتشفتها منذ زمن ، ليتني عثرت عليها في إحدى رحلاتي قبل اكتشاف أمريكا ، وقبل سقوط التفاحة على وجهي ، قبل اكتشافي نظريتي في الحمام ، وقبل أن يفكر قابيل في طريقة يداري بها جريمته ، ليتني اكتشفتها قبل أن أراها .. "
              يعتدل قليلاً ليبدو الحزن جلياً خلف الصورة ، حين تصبح الساعات المتبقية لخروجه قليلة ،
              عقرب الساعات الماكر يصبح أكثر سرعة ، يقصد هذا ، يريد أن ينتهي الأمر فجأة ..
              هل يجرب الموت ؟
              كيف تتنبه سارة ، وكيف ستختلف الأشياء بغتةً ؟
              يفكر أن يفعل ، هل تلحظه سارة ؟ أم سيكون كما زوربا ، مجرد شيء بلا قيمة لا يعني أكثر من متعلقات ، تعطى كالغنائم لمن يبقى ، أو من يسأل عنه ، أو لممرضي المشفى المناوبين لحظة إعلان الوفاة ..
              فكرة الموت ليست سيئة ، فقط لو امتلك القدرة ليعرف ، كم سيحزنها هذا ؟ وكيف ستفكر وهي ترى دماءه تنساب أرضاً لتكتب اسمها ، وحين ترى رسالة أخيرة يخبرها فيها كم يعشقها ..
              أخيراً تدخل الغرفة ، بيدها محقنٌ صغيرٌ ، وفي جوفها خفايا وأسرار ..
              يمسك يدها قبل أن تقترب من ذراعه ، يجب أن يخبرها ..
              تدفعه عنها ، تتراجع للوراء :
              - كفى ..
              المشهد يتوقف فجأة ، في يدها محقنا وفي إصبعها دبلةٌ ذهبيةٌ ، أيمن لم يخنها أو يتزوج عليها
              هي من تركته، هي اختارت غيره ، تركته يصارع حيرته وحبه ..
              - يا
              " كنا هناك ، عاشقين في رفقة المطر ، حين جاءت كأنها عروس ، قلت لها :
              - كم أنت فاتنة ، لماذا تتزينين وأنت بكل هذا الجمال ؟
              فتبتسم / وتحوطني بذراعها ، وتلتقط صورة تظهرنا معاً بمؤقت الكاميرا الفورية ،
              تضع الصورة في حقيبتها ، تقول وهي تعانقني :
              - لن تفارق حقيبتي أبدا ..
              متى تبدو الأشياء مفتعلة ، متكررة ، كأنها محض ذكريات ..؟ "
              - أيمن .
              حين ينقشع الضباب ، لترى بنفسك أن الحقيقة أكثر بشاعةً من مجرد كابوسْ .



              هذا نص للزميل الرائع
              أحمد عيسى
              ديجافو
              نص جميل
              فيه روحانية مشوقة تشد القاريء
              كم أنت جميل حين تكتب بروحك أحمد

              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

              تعليق

              • عائده محمد نادر
                عضو الملتقى
                • 18-10-2008
                • 12843

                #22
                عوسجة
                ماماً في سرة السماء.. تعبس بوجهها الملتهب ،تنفخ من جوفها حمما قائظة تلسع الجباه ، تحرق انسجة الملابس البترولية ،تكوى اللحم الذى اوهم أن للملابس دورا آخر غير "الستر" ، تتفصد مسام الجسد ملحا مبللاً بالماء ، أو هكذا خالته أمينه ، تسير محتمية بالبنايات التى تحجب عنها الشمس ولا تقيها حرها ... تشوى جلدها ، مناطق ما فى جسدها خالتها علامة تفرد خاصية تخول لها تيها ودلالاً تكاد الآن تلعنهما ، تتوقف أمانيها و أسمى طموحاتها عند حمام شقتهم... تحت الدش الصدئ تحديداً.
                تزداد ضيقا بالإيشارب ، يحجز العرق
                الذي يطوق الرقبة فيصبح حسكا ينغز منابت الشعر تتمنى لو خففت قليلا من ملابسها هذه الأيام ، آلتي لم تكن أبدا كباقي أيامها ، ناراً أُبدلت من قلق شهورا تعانيه ،
                خالته سينتهي ، فإذا به يتحول آتونا مشتعلا ، ينهش صدرها ببخة تنين متعملق يحمل في أحشائه كل من عرفتهم إلا ماجدة
                أينك الآن ؟

                وحدها فكرت و...و حدها حاولت أن تطفئ النار
                .
                - لكن ... بالنار يا ماجدة ؟

                كنا نعتقد أن بالحقيبة أدوات الماكياج

                - أو ساندوتشات

                - أو رسائل الغزل

                - فإذا بها مسدسات

                - كيدهن عظيم
                "
                لو كانت معها الآن لردت للمتحذلقين الصاع صيعان ، غصة تخنق بداخلها الريق المزدرد
                .
                - لستم بأقل منه استحقاقا ًللردع
                .
                تهمس بخاطرها
                ...
                يجيبها صوت ماجدة من قاع رأسها المترع بالذكريات
                :
                " كائنات ضارة , أشبه بالذباب الذي لا يفرق بين العسل والدم المتخثر
                "
                هكذا
                بصقتها ماجدة كرة من القرف ... حينها كان يقف أمامهما محتميا بفرع مائل ظلل الرصيف تاركا الأم فى مدخل أحد البنايات الحكومية ، يبتسم البلل على شفتيه ، يهش الذبابة من على الأنف الأفطس ، يتسامق طوله بحدبه تقى شعرًا حالكا لامعا مصفوفا للوراء بعناية وقد شوش بضعه الأمامى وتدلى حتى الحاجبين المزججيين ، يلقى بظله على ايهن ، لا تردعه تأففات الإزدراء ، لا يعنيه كره يطفح على العينين... نار، لا تشعره بذرة ارق ... لا تقلقل ثبات خطواته ، تصطك ركبتا أمينه ، تلتصق بصاحبتها التى ترمقها بعتاب غاضب ، تحدجه بنظرتين يشتعل التقزز فيهما ، تسحب رفيقتها ، تفضل نار الشمس على زمهريره اللزج ؛
                تنفخ أمينة في ضيق توجعها الذكرى ، تهتف
                :
                - ليتها ما جرأت
                .
                تسير وكأنها لا تنقل قدميها ، تمل الرنو إلى معلم ، تحفظه ... الزحام يخنقها ، يعرقل خطواتها

                الشمس لا تتركها بدون أن تدعس قوامها بيد ملتهبة ، تنحني ، تغرق في عرقها ، خجلها المميت ، تصل موقف السيارات ،

                أخيراً ... تزفر في ارتياح سرعان ما يتحول إلى ألم يعتصر قلبها
                .
                هنا
                كانت تصافح " ماجدة " تتباعدان واليدان متشبثتان ، تتراجعان والأصابع متكالبة ، والأنامل بعد هنيهات الملامسة الأخيرة ... تفترق على وعد باللقاء بعد يوم دراسى لم يتركا للهواء منفذا يحتله أو يعيره بينهما ،
                هنا
                رأتها للمرة الأخيرة ، محاطة بعشرات الأيدي ... تخبط كفا بكف ، تشوّح ، ترتفع للسماء تشير إلى بقعة ما في الأرض ، بمئات الأعين... يندفع منها سائل لزج نحوها ، يعترى جسدها المحطوط في البؤرة ، يأكل أمينة سؤال ، يضعضع حواسها مبهم ، خوف خفي يظلل محيطها ، هلع حقيقي يزلزل كيانها ... يرعش فرائصها يترك فقط في الحلق غصة ، يبسان يحجر فمها ، ترفع يدها ، وصوت متحشرج ، مخنوق :
                - " ماجدة
                "
                على عينيها ثبات عجيب ، في وجهها إصرار
                قوى ، لا ترى صاحبتها آلتي تسأل من حولها بينما تأتيها الإجابة كلمات متناثرة تخرج من أفواه عدة :
                - قتيل

                - البنت قتلته ... مسكين

                - كانت تحمل مسدسا في حقيبة يدها

                - معركة انتهت بإطلاق الرصاص

                - الشرطة تعاملت مع الموقف

                تساءلت و.." مستحيل " تلون كل حروف سؤالها برفض رمادي
                :
                - هكذا تنتهي ماجدة ... ؟؟

                - " هكذا ابدأ
                "
                قالتها" ماجدة " للمذيع التليفزيوني ، نصب من نفسه وضيوفه قضاة ، كانت تراها من خلف سرسوب دمع يحرق مآقيها ،

                قال أخوها
                :
                - لم يتركن شئ لنا ، حتى الحياة يسلبنها منا ، يقضين علينا بالفتنة وبالموت
                .
                رمقته
                " أمينة " بغضب مرير منكسر وهرولت إلى غرفتها وتركت للوسادة احتضان ما تبقى لديها من دموع ، في نفس الليلة جاءتها في مدرج خالي من سواهما ، هبطت من أعلى أم انشقت عنها الأرض ؟ لا تدرى
                بيدها مسدس تضعه على كفها وتبتسم نفس ابتسامتها العذبة ، في عينيها سؤال سمعته

                " أمينة " ولم تفه به " ماجدة
                ":
                - أترينني قاتلة ؟

                - لا
                ...
                - لماذا تخليت عنى ؟

                - ناديت عليك ولم تسمعينني

                - سمعتك
                ..
                - لم تردى

                - كانوا يقيدونني ...سلاسل بعدد عيونهم وقوة رفضهم ، طوقتني ، تخللت جسدي ، فكوا ايشاربي ، سلسلوا خصلات شعرى

                - رأيتهم

                - لم تمنعيهم

                - خجلت

                - هكذا أرادوني

                - أنت افضل منى

                - تريدين علاقتنا تستمر ؟

                - نعم
                ..
                - ألا تخجلين منى ؟

                - انا ...ا ....ا
                ...
                تتعثر الحروف على لسانها بينما تتباعد ماجدة ، تتراجع وكأن شيئا ما يدفعها للخلف حتى تختفي، تصرخ " ماجدة " ..." ماجدة "... , و
                ...
                - "أمينة" ... " أمينة
                "
                يصلها صوت هامس حاني ، يسحبها خلال ممر رمادي تفتح عينيها لتجد أمها تضع يدا على صدرها والأخرى تمسح على شعرها

                - حلمت ؟

                - ماجدة يا أمي

                - لها الله

                - لم تذنب

                - القتل جرم بشع

                تعتدل في سرعة خاطفة ، تراه فوق الدولاب يخرج لسانه لها

                - كان يستحق

                - ليس لنا الحكم ، وإن كان ...فلا نملك الفعل ، لا يأخذ الروح إلا من خلقها

                - لم يكن آدميا

                - لايجوز عليه الآن إلا الرحمة

                - لن يرحمه الله

                - استغفرى الله

                - انه شيطان ، شيطان يا أمي

                تلقى
                بنفسها تحت الدش ، تحتضن حلمها بالماء البارد ، تسبل جفنيها ، تثق في الجدران تترك لجسد ها حريته ، يبوح ويتنفس ، ولكن اللحظة تأبى تركها والحلم يهنئان بلا ذكرى يجفل لها قلبها وتتأجج في الجسد نار تؤرقه ، تجرحه ...ولا تفلح المياه في تبريد الجراح فتبقى لترى فيها دموع " ماجدة " التي تبلل خمارها
                -" لم اعد أطيق لقد وصلت إلى هنا بصعوبة ، يطاردني أينما ذهبت ،
                لم يدع لي منفذا ، رنين الهاتف لا ينقطع ، لا يترك أبى وأخي لحالهما ، يطاردهما أيضا ، بات رواد المقهى يعرفونني ، صوري يتناقلها الطائشون ."
                - منها لله " مديحة " أسلمتك للشيطان

                - بعد أن أسلمت نفسها

                - يفرد شباكه القذرة أينما راح

                - ولا يعدم وسيله

                - فرصة لا تضيعها الساقطات

                - على أشكالها تقع الطيور

                - خنازير

                - أنتِ الصيد الذي تمرد

                - يهدد آبي بنشر صوري ولا يترك أمي لحالها ، يطلب مالا ليسكت

                - أعطوه إذا ما يريد

                - يقول أبي أن في ذلك اعتراف بثمة علاقة

                - والعمل ؟

                - سأصبر
                ...
                و.... تنظر للسماء بعين دامعة وقلب مكلوم ، تشاركها " أمينة " الصلاة صمتاً
                .....،
                لا تدرى أن أرقها جثم على قلب صاحبتها ، بات همها ولما فعلتها انشطرت أمينه نصفين ،

                نصف مستريح ونصف يقتله الألم ، نصف يبكى صاحبتها ونصف ينشد فيها الأغانى ، نصف قلق على مستقبلها ، ونصف قرير بنجاتها

                - اهو حب ؟

                قالتها
                امينه من داخل أحد المدرجات وهى تنظر من نافذته إلى فناء الكلية ، تتابع الثنائيات المتناثرة تحت ظلال الأشجار والمظلات الخشبية و... همس محيط
                نظرت ماجدة نظرة سريعة ثم تراجعت قائلة
                :
                - مودة ... كهذا الحذاء
                ...
                تشير إلى قدميها وتكمل
                :
                - ... أليس مستورداً ؟

                تنظر" أمينة " في عينيها لحظات ... ثم تنفرج الشفاه عن ابتسامتين ضالتين ، أكسبتا وجهيهما ملاحة غبرها الحزن
                .
                من
                شق ضيق في النافذة ينساب شعاع الشمس ، عمود مائل بتراقص الغبار في محيطه الضيق ، يضئ العتمة ، يمنع انكساره عند المرآة أمينه أن ترى وجهها ... لا تهتم ... تتأمل الأسطوانة المفعمة بالغبار ، تمتلئ حجرتها به إذن ، بل الشارع ، الدنيا ، لا يتضح إلا بمفارقة كهذه ، فى قلب العتمة ، يروح شهيقا ، ولا يجئ مع الزفير ، يحط على الأثاث ، الملابس ، العيون ، لا نبالى ..........ونعيش
                تقلقنا الحقيقة ، نكره من يكشف عرانا ، والعرى ذاته اختيار ،

                كانت تبحث في" شنطة يدها" عن منديل ورقى حينما رأته ، جفلت
                ....
                - ما هذا ؟

                ابتسمت " ماجد ة" في ارتباك و أغلقت " شنطتها
                "
                - مسدس ؟ ماذا ستفعلين به ؟

                - أدافع عن نفسي

                - أخشى عليك منه

                - المسدس أم هو

                - الاثنان و... مستقبلك

                - الذئب لم يترك في الحاضر فرجة أتطلع منها إلى الغد ، أخرج من جرابه اللعبة
                الجديدة ، حيلة شياطين ... وثيقة زواج عرفي ، طالب بالمال وإلا سيفضح أمري ، لم ينتظر الرد ، نشر الوثيقة بين المعارف ،
                بات الكل يرونها لوحته
                التى تمردت أعلنت أنها لم تزل ورقة بيضاء ، عبثت أصابعه على أوتار السكون فأجج فى محيطها ناراً عبثا ً حاولت إطفائها و...
                ليلة حمراء لو قضاها
                معها سيستريح ، ويستكين الشيطان داخله .
                الشرطة
                لا تقنعها الاتهامات المرسلة ، والشرف لا يستحق الحراسة ،أغلقت بابها وأسلمت نفسها للحبس الاختياري ، عيون الزملاء والجيران والأقارب تهتك رجولة أبيها وأخيها ،تعرى الستائر الكثيفة بينما يستلقي أصحابها على الأرائك يتفرجون ، يتندرون ، يمصمصون الشفاه وهم يرشفون المثلجات في ارتياح وسكينه إلا هي ، وحدها تشعر بصديقتها ، تعانى معاناتها ، تخشى عليها منه وعلى نفسها ، لا تدرى ما يخبئه الغد ، لا تأمن هجمة الذئاب المفاجئة ،تكتظ الصحف بأخبار الاغتصاب ، والطوفان لا يبقى على أحد تعتصرها المخاوف ، تشلها الهواجس الكئيبة ، يلدغها خاطر ... لو صادفها في إحدى الطرق ، لو تخيرها صيدا ، تتوخى السلامة...!! ؟ وتبدل الوداعة بثوب الحيات مثل من توخينها ؟
                وتحلق
                ... فوق هيكل الأب المنكسر والأخ الملتاث ، والأم حين تقرأ الفاتحة فى ساعة لا تكاد تعى ما تنطقه ؟ لا تردع شقيقتها حين تنفلت ... تقطف بين يدى الإثم ورودها الحمراء وتقدمها قرباناً لأمنها ؟

                تقرأ في الجرائد...(اصبحت ترى أخبارها بين المغتصبين والقتلة ).........تفرج عنها النيابة بكفالة
                .
                يراودها
                سؤال ، هل تزورها ؟ تحتضنها كما الأيام الخوالى ؟... ترتعد ، يخفق قلبها بشدة ، تعييها الإجابة ، تلقى رأسها على الوسادة وتروح في إ إغفاءة ...لا تسقطها فى هوة كرى مستقر.


                هذا نص للزميل القدير
                فتحي اسماعيل
                نص مهول كتب بيد أدبية ماهرة
                نص عوسجة من النصوص التي أتصور أنها لو شاركت بمسابقة فستأخذ المركز الأول
                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                تعليق

                • عائده محمد نادر
                  عضو الملتقى
                  • 18-10-2008
                  • 12843

                  #23
                  حكاية الظل .. الذي لم يكن ظلا !
                  يا ربى . كيف تاهت عيني ، و كامل جوارحي .. عن صاحبتي ؟ كيف ، و أي درب عبرت ، وخلفتني ألف حول نفسي . العتمة قاسية .. أتفتت ، أتحلل . أتلمس طريقي ، خلفها مرة ، أمامها مرة ، إلى جانبها أخرى ، أعانقها مرة ، و معها أتوحد ، أتلاشى فيها . على امتداد الطريق أشاكسها ، أحتضنها على ضوء قمر ، أذوب بين شفتيها مثل قطعة سكر. و مثلي تذوب ، تتلاشى في . يا لصوتها الحلم .. حين يخترق هيكلي ، يعبر أوردتي ؛ أتهاطل مطرا ، و في دوامات جنوني أنط ، أتشقلب ، كطائر مغرد أطلقوا سراحه بغتة . كم أحبها ، أعشقها ، لولاها ما كنت ، ولا كانت لي حياة ! منذ أيام .. و أنا تائه : أين اختفت ، أي طريق تسللت ؟ أتراها ضاقت بي .. أنا .. أنا ظلها ؟! هل أصابها مكروه ؟!! أصرخ . لا من مجيب . أترجى ، أتوسل هذه الظلال المعربدة والهائمة من حولي . لا من مجيب .. لا ...! أصنع دائرة كبيرة . متسعة هي ، بشموع ممتدة أحيطها ، أغرسها ظلالا ، ثم بعود ثقاب أشعلها جميعا ، أدبدب . بين فراشات و هوام تدنو ، تحول المكان لمدينة خرافية . زفيف ورفيف ، طنين و هسيس . تلون الكون ، تنسل خيوطا من زبرجد وعقيق . أرقص بين دموع نوازف ، أكون ماردا مصبوبا . ومن الدائرة أغادر ، أراقب الظلال . كثيرة هي ، متطاولة كغابة استوائية ، ربما كانت بينها . لا أجد لها شبيها ، أطفئ خطا مستقيما ، أعبره ، أتمدد فيه ، أراقب اللهب ؛ وهو يتهالك ضحكا منى ، و قد نهشت هيكلي خيوط الضوء ، عبرتني ؛ كأني مشدود على صليبها .. أين أنت ؟! أطيح بالدائرة ، بكل الظلال ، أعبرها ، ثم أسويها ، أحتضن تراب الأرض ، مشحون بطاقة سحرية ، من نور يتوهج ، أضاء عتمات أوردتي ، أشم فيه رائحة أنفاسها ! أتراها تحللت منى ، و اصطفت ظلا غيري . مستحيل تفعل ، لن تستطيع لو أرادت ..نعم . لو أرادت ، كيف تصطنع ظلا غير ظلها ؛ إلا أن كانت هي الأخرى ظلا ؟! أمامي تعرت . قاسمتها الرقص و الفرح ، الحزن ، والركض . ضرب من محال ، أن تتخلى عني ؛ ليست ممن يعبرون ظلهم ، و عن بدائل يبحثون! كم أحبها ، أعشق كل شيء فيها : وجهها ، عينيها ، شعرها المسترسل ، شفتيها ، عودها ، حديثها ، غضبها ، فرحها .. كل ما هي و ما هو ! تعبت من اللف ، تعبت من الموت .ما عادت لي عينان لتريا . كثيرا بكيت . هاهو ظل يقترب مني ، يحتك بي ، صارخا يلطمنى ، يغيظني ، بله يركلني .. وهو يتبع سيدته :" يا أبله ..كيف ضيعت صاحبتك ..أكيد أنت .... ! ". :" حقا .. كيف .. كيف ؟!! آن معاودة الموت . كثيرا اشتقتها. غير قادر على الحركة ، عاجز تماما ، فلأتحامل على نفسي .. هيا ، الآن . ممعن أنت في وجعك ، كلعنة تتحرك . لابد تعرف ، تتأكد أولا ، أنها بغزلها تحيك أسوارك . نعم .. هيا أيها الظل الكسول . كان يجب أن تكون مثلها جميلا. هيا وفض هذا النواح ، فتش كل الدروب عنها ، في أوجه العابرات حدق.. واحدة .. واحدة . حتى تدركها ، و تصل إليها . اسأل الطير ، الوحش ، الشجر ، البحر ، لا تبتعد ، لا تتوقف ! مرّ بي ظل يرتجف :" هل أدلك على طريق أصوب للوصول ؟!" :" ليتك تفعل .. ليتك سيدي ". :" من نقطة الابتداء ، من أين تخلقت ، وكان لكما وجود ؟!". :" هناك ..نعم . على مشارف حبوها ، كانت بدايتي ". :" هيه . مالك تنسى بسرعة ، هيا أيها المأفون ". :"يا ربي .لكن الطريق طويلة ، طويلة ومضنية ..مضنية ! ". :" لو كنت مكانك محبوبا ومطلوبا ؛ لركبت الريح ، و الموج ، و الطير ، كنت هناك ". وجدتني أخلفه ، وقد اشتط عقلي ، تعملق ، أصبح في حجم كرة أرضية ، تدور فيه رحى تواريخ قديمة . كان الفراعين ملوكا وسحرة ، يرفعون صولجاناتهم في بأس . هاهو أحدهم ، يلقيه ، يرتطم بالأرض ، فإذا هو رخ . صوته يهز أركان المعمورة ، و هو يزفزف بجناحيه . يعتليه الفرعون ، يحلق به . شعرت أنى لم أكن يوما خائرا ، و لا متخاذلا . تسحبت في الهواء ، حلقت .. حلقت عاليا ، ركبت ريحا و بحرا . صوتها يناديني . تصك أذني خفقات قلبها ، حنانها يدفئني . أصبحت هناك ، قرب أقطارها .. لن أستطيع عبورا إلا بسلطانها . صرخت ، دبدبت ، تهاطلت . من الداخل صوتها يأتي قطرات ، رذاذا طريا . يا ربى .. إنها بلا أجنحة ، تعاني . آه .. آه . أنا و ما أملك فدى آهتك .. أبص من فتحات الغيم الضيقة . يا الله . ها هي تتوسد فراشها . صوت أنفاسها يمزقني ، يقتلني . نار يعلو سعيرها ، تمتد ، تسحقني : ما العمل إذن .. ؟ هل أظل معلقا هنا ، دون أن تشعر ، أني هنا ، على نفس خط وجعها ، في ذات السماء و السحاب ؟ أصاعد صوب سماء تالية ، أتوسلها . تحت عرشه أركع : يارب . خذني مني ، أقل عثرتها . أتهاطل كدمع العين . ما يملك ظل ، ما يملك ؟! لا أريد أن أظل ظلا . أنا حقيقة . نعم . لن أكون ظلا ، لن أظل عبدا لتقلبات الوقت والريح . أنا . هاهي تصحو ، ترفع وجها شاحبا . أكاد أتحلل ، أتفكك نتفا . تعالي ، انهضي سيدتي . كأنها تسمعني ، تبارح فراشها ، تستشعر اختناقا ، تتأرجح ، تكاد تقعى ، تنهار ، تتماسك ، تأخذ رأسها بين كفيها ، تصرخ كوجع يتلوى ، تدنو من الريح .. مني . أنا هنا ، معك أينما كنت ، اقتربي ، لا تتوقفي سيدتي . تشرع جناحي فورتها بيد ضعيفة ، نصبح وجها لوجه ، كمرايا تسكن مرايا ، سحابا يلوك سحابا . :" من .. أنت .. متى وصلت هنا .. متى ؟!!". :" أنا .. هنا منذ قديم ، ولدت معك ، كبرت معك ، لعبت معك ، شربت ، أكلت معك ، و حين يأتي الليل ، أذوب بين أحضانك ، كم ذبت في أصائل النهارات ، تقزمت أمام روعتك ، تعملقت مع استدارة شمسك ، من ظل أنفاسك ، تطيرت ، هربت منك إليك ! :" أنت .. كم ناديت عليك ، و دائما ما كنت تردد : مسافات ، سفر ، و ترسم اعتلالك بحيلولة ما ". :" ها أنا سيدتي ، معك هنا ". لم أستطع صبرا ، تجاوزت ديمة نابحة ، بين ذراعي لملمتها بحنان ، أنبتها أريجا . و هي تكاد تصرخ ألما .. يا ربى .. لن أتوه عنك .. لن . :" أخيرا .. أخيرا . أكان لا بد أن أشكو الريح والشجر كطائر جريح ، أكان عليك ......؟!!". :" لا .. كنت دائما معك ، لم أفارقك ، كنت ظلك .. كنت ظلك . ألم تشعري بي سيدتي ، ألم..... ؟!!". :" مستحيل .. مستحيل ؟!!". :" المستحيل ألا أكون هنا ، أن أظل ظلا و أنا مصدر الظل فيك". فجأة أكتشف ، لست وحدي . كانت القلعة بالظلال تختلج . يا ربى .. من هؤلاء ، من أين أتت ، من أين هي ؟!! دارت بي الأرض ، طرقت بعضي ببعضي ، فاحترقت كورقة في رحابة الهواء . الظلال تطاردني ، تسعى لبلوغ رمادي . أنيابها مشهرة ، قاسية ، قاتل لهاثها .. قاتل . له رائحة يود قابضة . صرخت بسقطة الفرعون . في لمح البصر أتى ، يخترق أحشائي ، يخرج من بين ضلوعي . حملني على ظهر ارتباك ، طرق رأسي بعصاه . تهت عن نفسي ، ما عدت أرى .. ما عدت . هزني بقوة ، أز جسدي ، هتف بصوت رخامي :" لست ظلا من الآن ، أنت أنا ، سحابا و غيثا تكون ، قويا ، فيك ما أحمل من نيل . هيا .. إياك و هذه الترهات .. لست ظلا ". أوقعني ، فانبسطت أديما ، و نهرا ، و هو يقهقه بغطرسة . في دوامة ، ألف عبر مغاليق الصحاري ، داخلي قوة لم أحسها من قبل ، جذرت بها اتجاهي .. نعم . صغت وجهتي ، مابين أسفاري و هطولي ، كنت هناك ، موجا يعلو موجا ، أزيح كل الظلال ، أكنسها كأوراق خريفية ، ممزقا كل أشباحها ، وئيدا أتهادى في قيعانها ، جفافها ، حنينها . كانت ما تزال تتوجع . انحنيت فانتهيت إليها ، بيدي تلمست السحر ، فغدوت ساحرا . صحت ، تأملتني ، فتهالكت كجنين . قشرت بطن عجزه ، فذاب في لجتي ، و ذبت . استبقني لدي أوبتي ، بعد سبع نوازف :" هكذا أردتك ، هكذا دائما .. ضمني بقوة ".


                  ( أوراق نيلية )


                  هذا نص للكبير
                  معلمنا وحبيبنا وأديبنا الجميل
                  الأديب الذي علمني كيف أكون حريصة على كل حرف أكتبه
                  علمني كيف أكتب دون أن أترك ثغرة وإن وجدت فأصحح
                  ويسمي أعمالي ( زرعك ) فيصيح هيا عودي لزرعك عائدة
                  كم أنت كبير
                  ربيع عقب الباب
                  ونص حكاية الظل الذي لم يكن ظلا
                  نص مدهش يشعرك بالحيرة والدهشة
                  كم أنت جميل أيها الربيع
                  الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                  تعليق

                  • عائده محمد نادر
                    عضو الملتقى
                    • 18-10-2008
                    • 12843

                    #24
                    كف تركي
                    كالأشجار مزروعون بلا فراغات على أرض فوق عجلات تدور..تمسك أغصاننا المنهكة ورغما عنها بحبال مشانق منتشرة على قضبان تسير مع السقف الظالم أينما ذهب ..

                    أليس عندك رحمة ؟
                    لماذا لا تكون شفافا لنستمتع بزرقة سماء تغتال كآبتنا بدل النظر إلى هذا الوجوم؟ أونلهو بخيوط شمس تلاعبنا ، تغمزنا من هنا وهناك، فنطرد السكون الملتصق بنا التصاق الذباب بالحلوى
                    ما هذا؟ يا إلهي؟
                    أطراف ورؤوس ترمقني..!
                    كل العيون تريد أن تخترق جسدي.. لتلهو بمشاعري، وتفتش فيها عما يسرها ، أشعر أن بعضها عراني من ألبستي حتى، وينظر إلي بسرور..
                    تقهقه عيون بعضهم في داخلي ، أشعر بنظراتهم تسير مع الدم في شراييني..
                    يحملق أحدهم عارضا استبدال بعضا من تعاسته بشيء من تعب جسدي..
                    وما زال الصندوق يهزنا.. فترانا كهواة يتعلمون رقص الباليه على موسيقى ناشزة ..العازف الوحيد فيها السائق وآلته الوحيدة المحرك، يتلذذان بإيذائنا بدنيا ونفسيا
                    ومع كل انطلاقة تتغلغل أجسادنا في بعضها وندعوا ربنا ألا نخرج من خلف الصندوق ، يدلق أحدهم مشاعره الرديئة على جسدي فاغرا عينيه نحو ما قد يظهر من زينتي، فأزدريه بنظرة ترجعه.. وتبقى هلوساته تلوث روحي
                    تلك السيدة تعرض وجومها بسخاء لمن يشتري
                    وتلك الفتاة تستمتع بنخز حمار شهوة الصعاليك المتجمعين حولها كالقطط في آذار بمهماز وقاحة أُنوثتها..
                    وذاك العجوز لا يستبدل سكونه بكل متع الدنيا
                    الكل يبحث في الكل عن شيء يسعده أو يمتعه ولو إلى حين مقابل نقل شيء من تعاسته إليه
                    ولكن إذا اجتمع الكل على واحد شفطوا أفراحه وصفاءه وتركوه جثة هامدة
                    وأنا أنظر إلى الداخل منعا لتسرب سهم أحدهم من خلال عيوني


                    والشارع الخبيث المتلوي كالأفعى ، ينصب افخاخا لنا ولصندوقنا ، هنا وهناك، فكلما أصابه الملل أوقعنا في حفرة تبقى فيها بعض أحلامنا، أو قوّس ظهره فتقفز أفراحنا منا وتطير، ونلتقط بدلا منها تعبا يدمي أقدامنا
                    وما زلت لم أصل..
                    معظم الأشجار تكسرت جذوعها في الطريق فألقاها السائق حطبا للأيام بلا هوادة ولا أسف
                    متى وصلتُ المنزل سأنفض عني كل ما علق بي ، سأزيل كل العيون التي ما زالت تعبث بداخلي رغم أنها فارقت الصندوق، سأغسل كل الأوهام التي اندلقت على جسدي ، سأقبض على روحي ونفسي واضعهما تحت الصنبور وأعصر منهما كل التلوثات إلى أن يعودا كما كانا قبل أن أصعد الحافلة
                    وفجأة، إرتعدت فرائصي لإيقاف الحافلة بشكل جنوني ولمّا نصل بعد ! بقيت مسافة قليلة على موقفي.. لكن السائق انطلق كالعُقاب على فريسته القابعة في زاوية في آخر الحافلة ، كان شاب قد لاك من الوقت حتى شبع وأتخمه الضجر ، واشتعل حنينه إلى لفافة تبغ يواسي بها نفسه ، فكان ينفث دخانها على استحياء من أحد الفراغات حتى أني لم أُلاحظه ، لكن السائق ذا العيون العُقابية لمحه وألقى عليه بكف تركي جعله يتبعثر ويبحث عن بقايا نفسه على أرض الحافلة، وقبل أن يعثر عليها ألحقه بركلة قذفته كالرصاصة خارج الحافلة يتلوى من الألم
                    وقبل أن يغلق الباب قذفت بنفسي كالشهاب الغاضب إلى الخارج..
                    لقد اكتفيت اليوم..إذا بقيت أكثر لن أستطيع الحراك من كثرة الأحمال من آثامهم وآلامهم وأحزانهم وغضبهم..

                    علي أن أغسل كل هذا..

                    علي أن أزيل كل ذلك..


                    هذا نص للزميل الرائع
                    مصطفى الصالح
                    كف تركي

                    نص حاز على الذهبية وبجدارة لأنه يستحق
                    كل الورد

                    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                    تعليق

                    • عائده محمد نادر
                      عضو الملتقى
                      • 18-10-2008
                      • 12843

                      #25
                      الحصار

                      كان ذلك يوم الجمعة، يوم عطلتي، خرجت من الدار بِذهن خليٍّ، لا يشغلني إلا الحصول على خبزنا اليومي،
                      انحدرت في الشارع المفضي إلى السوق، لما بدأت تتناهى إليَّ أصوات الباعة، أحسست على نحو مبهم أنّ ثمّة عيوناً تراقبني.. تتبعني، انقبضت لهذا الخاطر، تسارعت خطاي، جاهدت في دفع هذا الهاجس دون جدوى، كانت نظرات مطاردي تنغرس بين كتفيّ باردة يقشعرّ لها بدني، حتى تشكلت بين كتفي بركة من الثلج، التفتّ خلفي بغتة لأنفض هذا الكابوس عن كاهلي، فرأيته.. يسير إثري مباشرة، يضع قدمه حيث أرفع قدمي، تجمّدت الدماء في عروقي، اجتاحتني موجةُ بردٍ مؤلم، كان مطاردي هيكلاً عظمياً.. تقرقع عظامه وهو يتحرك، عظام كفّيه نحيلة طويلة، ومحجراه غائران مثل فُوّهتي بندقيّة، وقف يتأملني– كما خيّل إليّ- بجمود وبرود، فندّت عني آهة يبدو أن أحداً لم يسمعها، لم أدر ماذا أفعل، ولّيْتُه ظهري متجاهلاً، رحت أحثّ خطاي.

                      ارتفعت إثري قرقعة عظام مطاردي، كانت بركة الثلج بين منكبيّ توشك أن تجمّد أوصالي، لم أعد أجسر على الالتفات، كثرت القرقعة ورائي، حتى طغت على جلبة الباعة، استجمعت شجاعتي والتفتّ .. خلفي هيكلان عظميان، وقفا قبالتي ..راحت أيديهما تتأرجح.. تقرقع، صرختُ باشمئزاز وغضب:
                      -لماذا؟!.
                      تماوج صوتي ممطوطاً مرعوباً، لم تفعل صرختي شيئاً، الهيكلان العظميان جامدان مكانهما، الناس في شأنهم، لم يلتفت إليّ منهم أحدٌ، وانضمّ هيكل عظميّ ثالث إليهما صرختُ: مجرمون.
                      عقدت العزم على الهرب، ركضت، وضجّت في رأسي قرقعة العظام، لم أستطع الفكاك من مطاردتها، بركة الثلج ذابت عرقاً يسيل خطوطاً على ظهري حتّى يصل إلى أليتي، بدأ جسمي يلتهب، تسارعت خطواتي لكن عبثاً، كانت العيون الغائرة لاتزال تنغرس بين منكبي، وقرقعة العظام تتعاظم كالمرض الخبيث، حتى طغت على الأصوات كلّها، لا شيء في هذا العالم سوى قرقعةِ العظام التي تطلبني بلا هوادة، حانت منّي التفاتة وَجِلة فإذا بالهياكل العظميّة قد صارت عشرات، وصل بعضها إلى جواري، أنا الآن مطوّق فأرسلتها بكل ما بي من قوّة وهلع وحَنَق، صرخة استغاثة:
                      - أنجدوني أيّها الناس، القتلة يحاصرونني.
                      صرخةٌ في وادٍ ..لم يلتفت إليّ أحد، كلٌّ ماضٍ في شأنه كأنّه لا يرى ولا يسمع، هل غدوت مع هذه الهياكل العظميّة المتزايدة أشباحاً غير مرئيّة ؟.
                      تدفقت الهياكل أمامي نهراً مشؤوماً لزجاً، وطفقَتْ تتباطأ.. تدفعني للوراء، كان الحصارقد أحكم حولي، واضطرّني للتوقف.
                      جزيرة العظام تلفّني، الناس يمرّون بنا لا يعيروننا التفاتاً، كأننا منظر مألوف سئمه المارّة، هل نحن أشباح؟!.
                      كوّرْتُ كلّ ما بقي بي من قوّة ورشقتهم بها:
                      -اللعنة عليكم، قَتَلَة مجرمون، إليكم عني.
                      ضيّقوا الحلقة حولي ..ما عدت قادراً على الحركة، خارت قواي، فوقفت لاهثاً أنتظر، أنقل نظري في الجماجم المُحْدِ‎قَةِ بي.
                      - ماذا تريدون مني؟!.
                      الحلقة تضيق والهياكل تنثال نحوي، سدّت حولي الآفاق، حالت الآن بيني وبين الناس في السوق، أين كانت كلّ هذه الهياكل؟ أُسقط في يدي، قلت باستسلام وقنوط:
                      - أنا إنسان فقير.. بسيط ..لا أريد أكثر من (ربطة خبز) لأطفالي، نحن لا نحبّ (الكباب الحلبي)، حتى ولا الحمصي، ولا نحبّ لحم السمك، لا نحب الذهاب إلى البحر و(الشاليهات) في الصيف، ولا في الشتاء، لا نحبه، لا نرتاد (الميرندا)، حمّامنا قِدْرٌ نحاسية كبيرة ورثتها عن أمّي رحمها الله، فماذا تريدون مني؟ تنحّوا عن طريقي.
                      الحلقة حولي تضيق أكثر، شعرت بالاختناق.
                      - أحلامي وخيالاتي كسيحة، لا أطمح إلى السياحة في لندن أو باريس.. لا أسمح لخيالي بالجموح والتفكير بـ (فيلاّ) يُفتح بابها بضغطة زرّ، ويحوي حمّامُها مسبحاً و(تلفزيون) ملوّناً، وأدوات رياضة لتخفيف البدانة، الدُّوار يلفّني.. يكاد يغمى عليّ، دعوني أتنفّس.
                      الهياكل جامدة مكانها لا تتكلّم.. لا تتحرّك، فقط تقرقع بعظامها، مطارق تصدع رأسي، جفّ حلقي، يبس لساني ..سكتّ، رحت أقلّب الطرف في غابة العظام الشوهاء المغروسة حولي ،كم مضى على ذلك؟ لا أدري، أُلغي الزمنُ ..توقّف، كان يمكن أن يدوم ذلك إلى يوم القيامة، لكن بغتة.. دون أن أعي ما يجري، طأطأتِ الهياكلُ العظميّة كلّها رؤوسَها باحترام جليّ، ثمّ.. انحنت ببطء، حتى ركعت على ركبتيها.
                      - أهذا لي؟! تساءلت في سرّي، وقد أخذت بي الحيرة كلّ مأخذ: هل هذا احترام أم أنهم يبيِّتون لي شيئاً؟ لم يطل تساؤلي، إذ انشق الجمع عن يميني.. تقدّم ثمانية هياكل عظميّة يحملون على أكتافهم عرشاً عظيماً مغطى بملاءة سوداء، وقفوا إلى مقربة مني، أُميط الستار جانباً فبدا لي "هيكل عظمي" يتربع العرش بترفّع مقزّز، تأملته مليّاً لا أعرف ما يراد بي.
                      -أهذا السجود المهيب إذن لك؟ من أنت أيّها المشوّه؟!.
                      وددت لو أسأله، وطقطق فكُّهُ، هوى عليّ صوته جافّاً حازماً:
                      -أهذا أنت إذن؟.
                      -نعم هذا أنا، لكن ما معنى هذا كله؟.
                      -معناه أن المجرم الكبير سقط أخيراً في يد العدالة.
                      -هل تعنيني بـ (المجرم الكبير)؟
                      -هل ثمّة أعظم منك إجراماً ؟.
                      -والعدالة أين هي؟ أ أنتم تمثّلون العدالة؟.
                      -نحن لا نمثّل العدالة، نحن العدالة نفسها.
                      -أنا (المجرم الكبير)، وأنتم (العدالة نفسها)؟!.
                      جعلت أتأمل الجماجم حولي، اجتاحتني موجة ضحك هستيري، أخفقْتُ في دفعها، فأطلقتها قويّة مجنونة أُفْلِتَ زمامُها.
                      أومأ الجالس على عرشه فوق الثمانية:
                      - أيّها الطبيب جرّعْه البلسم الشافي.
                      تقدّم أحد الهياكل مني وصفعني بعنف قاس، فوجمْتُ.
                      - لا تضحك إلا إذا أَمَرَكَ (كبيرُنا).
                      التهب خدّي وغلى رأسي، أدركت أنه يتوجّب عليَّ المزيد من الجدّ. من الاهتمام، بل ربما يحتاج الأمر إلى كثير من الحذر أيضاً.
                      تابع (كبيرهم):
                      - نحن نجهد في سيادة الحق، وأنت تفسد كل شيء.
                      -أنا لست مجرماً، الحقيقة أني لا أعرف كيف تُرتكب الجرائم، أنا (عبدو) ابن (أم عبدو) بائعة الثياب البالية، أمّي كانت معروفة في السوق، تحتلّ مساحة محدّدة من الرصيف، صاحب المحلّ المجاور لها كم مرّة قذف برِجله.. بضاعةَ أمي إلى الشارع، فدهستها عجلات السيارات المسرعة، أو لطختها بالطين في شوارع الشتاء الموحلة، فهو يتأذّى من عرض بضاعتها الرثّة أمام محلّه الأنيق، ثم توسّط لها أهل الخير:
                      -أرملة فقيرة يتصدّق عليها المحسنون بما رثّ من ثيابهم فتبيعها لتعيش مع ابنها الصغير، لا تطردْها من أمام محلّك، يأجرك الله.
                      سمح لها بعرض بضاعتها على الرّصيف أمام محلّه من الصباح إلى الظهر فقط، مقابل أن تكنس له المحلّ.. تمسح بلاطه.. ترشّ أمامه بالماء صباح كل يوم.

                      أخيراً مرضت، سعلت أيّاماً ثم بصقت دماً، و..ماتت، نُمي إليَّ أن صاحب المحل كان يكلّفها أحياناً بتلبية رغبات زوجته في بيته، قاسيْتُ بعدها، ثم عملت أجيراً في محل لإصلاح السيارات، تزوجت من بنت فقيرة، رزقت منها ثلاثة أطفال. هذا أنا، (عبدو ابن أم عبدو) بائعة الثياب البالية، لم أسرق يوماً..لم أكذب، لم أخالف أنظمة السير أبداً، نفد المازوت عندنا منذ أكثر من أربعة أشهر، نسخن الماء للحمّام ب"بابور الكاز" فهل أنا مجرم؟.
                      انبرى أحد الواقفين حولي: أقرّ بإجرامه يا سيّدي، أربعة أشهر يسخّن الحمّام بوابور الكاز؟! أي مجرم هذا الرّجل ؟! رأس العصابة، أم عبدو –رحمها الله– كانت مخبرة مخلصة لنا يا سيّدي، وابنها هذا -كما سمعتَ يا سيّدي- قليل وطنيّة.
                      - لا أذكر أني تقاعست في خدمة أمتي، أو تخاذلت عن التضحية من أجل وطني.
                      أومأ الكبير الجالس فوق:
                      - أَيّها المعلّم ! اشرح له مزايا الصدق.
                      و تلقيتها من أحدهم على خدّي الثاني.. لاهبة قاسية، لم يغل رأسي، فقد وطّنت نفسي على تلقّي المزيد من الصفعات:
                      -كل ما يُسمح لك بقوله إذا قال لك كبيرنا شيئاً هو [آمين]، لا تزد عليها حرفاً، أفهمتَ ؟.
                      - كيف لي ألاّ أفهم ؟! غمغمت لنفسي،قال كبيرهم:
                      - أنت قاتل، متّهم بقتل أحد رجالاتنا العلماء الأجلاّء، كان في مخبره فداهَمْتَه.. اقتدْتَه جرّاً من شعر رأسه إلى مجزرتك.. بَقَرْتَ بطنه حتى اندلقت أحشاؤه على الأرض ،.. تركْتَه ينزف حتى مات، قل لي: أليس هذا أقصى درجات الإجرام؟.
                      أوّل مرّة أكتشف أن الضّحك بمقدوره أن يكون مصيبة، فقد راودتني من جديد موجة الضحك الهستيري.
                      - جررْتُ عالِماً منكم من شعر رأسه و.. بقرت بطنه.. نزف حتّى مات؟! هل كان العالِم منكم؟! أقصد.. أريد أن أقول.. أنتم.. أنتم هياكل عظميّة يا سيّدي، لا شعر.. لا قلب.. لا دماء لكم، فكيف..
                      لم يدعني أكمل، أومأ الجالس فوق:
                      - أيّها المؤدِّب أدّبه.
                      التهب خدّي من جديد.. فكّرت: إنّ الضرب لن يؤلمني بعد الآن، أحمد الله، فقط أرجو أن أستمرّ قادراً على الكلام لأدافع عن نفسي؟ عاودتني هستيريا الضحك من جديد.
                      - يمكنك أن ترتاب بنفسك أو بالشمس الطالعة أو بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يمكن أن ترتاب بما يقول (كبيرنا) أسمعت؟.
                      -تمتمت (مثل هذا يسمعه من به صمم)، رفعت رأسي أنتظر الجالس فوق:
                      - أنت لصّ، سرقت هذا العرش العظيم، عرش هذا الجمهور الطيّب.
                      ضرب على خشب الكرسي الجالس عليه، فَسُمِع لذلك قرقعة عالية، عقد الدهش لساني فقلت متلعثماً:
                      -كيف كان ذلك يا سيّدي ؟! .
                      - كان هذا العرش وسط البحور السبعة، تحفظه الأمواج العاتية، في أحد الأصباح استيقظتُ فلم أجد العرش تحتي، وأكّد لنا كثيرون أنهم رأوك تسرقه وتسبح مبتعداً به.
                      -و كيف استعدتموه منّي يا سيّدي؟!.
                      -أتنكر أنّه لا يزال عندك أيّها اللص؟!.
                      - كيف ذاك يا سيّدي وأنت تجلس عليه الآن ؟ ثمّ إنني لا أعرف السِّباحة، كم كنت أتألم وأتحسّر وأنا أراقب السابحين في نهر العاصي ولا أجرؤ على النزول إلى الماء، أنا أغرق في فنجان ماء، فكيف أعبر بحوراً سبعة؟!.
                      استشاط الجالس فوق غضباً، أومأ بيده:
                      -أيّها الحكيم عقِّله.
                      كانت صفعة الحكيم أقسى من لسعة السوط:
                      - العاقل ينتفع بتجارب الماضي.
                      فقدت السيطرة على نفسي فاندفعت بيأس أصرخ محاولاً الهرب:
                      - مجرمون.. معتدون.. حبستموني عن بيتي.. أولادي ينتظرون أوبتي إليهم بالخبز، أنا لا أقتل ..لا أسرق، تنحّوا عن سبيلي.
                      حاولت شقّ طريق لي دون جدوى، جدار العظام متراصٌّ متداخل.. لما أعياني الصراخ والقفز همدت مقهوراً، تميّز الجالس فوق غضباً:
                      - أيّها المجرم! لقد قلتَ ما لا يقال، يجب أن يقطع لسانك، ولم تعمل بما قاله لك طبيبنا ومعلّمنا ومؤدبنا وحكيمنا كأنّك لم تسمع ما قالوه لك، ما نفع أذنيك إذن؟ يجب أن تصلم أذناك، أيّها المصلح! أصلحْه.
                      تقدّم أحدهم مني.. انتزع لساني عنوة و.. اقتطعه، ثم صلم أذنيّ غير عابئ بكل مقاومتي وعويلي.
                      اندفعت إليه بشجاعة اليائس وقوّته، ورحت أضربه، أعضّه، أركله، ودمائي تسيل عليه، تلطّخت عظامه وجمجمته حتى سقطَ أرضاً
                      هدر كبيرهم متوعّداً:
                      - مات مصلحنا ..قتلتَه أيّها السفاح، خذوه إلى السجن، قدّموه غداً للمحاكمة، كونوا عادلين معه، نصّبوا له محامياً حاذقاً يدافع عنه.
                      أمعنت النظر في الهيكل العظمي المستلقي على الأرض بلا حركة، كان مضرّجاً بدمائي، لكنْ.. أنّى لي أن أعرف إن كان حيّاً أم ميّتاً؟! .
                      حملوه على أكتافهم، ساروا به خلف (كبيرهم) في موكب جنائزي، واقتادوني مسلوب الإرادة.
                      قضيت ليلتي في السجن أحضّر ما سأقوله للقاضي في قاعة المحكمة غداً، آه.. لساني مقطوع.. فكيف أنقل للقاضي ما أريد؟! لا ضير.. سأفهمه بالإشارات بالحركات.. بالكتابة إذا سمحوا لي، ..لن أعدم الوسيلة، سيساعدني المحامي، لقد أوصى كبير الهياكل أن تكون محاكمتي عادلة، لساني المقطوعُ، أذناي المصلومتان والدماء السائلة خير شاهد على براءتي، على أني الضحيّة، فقط رجوت أن يكون المحامي رحيماً متفهّماً والقاضي عادلاً.
                      لا أزال أذكر ما حدث منذ بضع سنين، كأنما حدث يوم أمس، تلك المساحة من الذاكرة نابضة لا يخبو بريقها على الرغم من زحف الأعوام، وتراكم الأحداث، تلك المساحة من الذاكرة يكتنفها الكثير من الأسى والقهر، أَهَلْتُ عليها منذ أمد بعيد ستائر الإعراض والتناسي، حاولت طمسها، دون جدوى، كنت حينها فتى يافعاً.. غرّاً، ملء إهابه الحماسة والاندفاع، أُومن مطلقاً أني مَلِكُ هذا الكون، كل شيء ملكي: الأرض، الربيع، الشمس، الزهر، الفراشات، البيادر في مواسم الحصاد، بهذا امتلأ رأسي في تلك المدرسة، وعلى ذلك المقعد الخشبي المحفّر، قرب تلك النافذة المكسور زجاجها، التي يتسرب الهواء اللاسع في أيام الشتاء القارسة منها إلى عظامي الطرية، كنت أنتشي وأنا أسمع أستاذنا (أحمد) رحمه الله يهتف رافعاً سبّابته اليمنى:
                      -أنتم رجال الغد، أنتم ستملكون مطالع الشموس، وشلالات العطاء، ألستم أحفاد خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح؟.
                      كان يستحثنا على أن نتبوّأ مكاناً علياً تحت الشمس،آه يا أحداثاً مرّت منذ عديد من السنين، تطفو الآن من ركنها المظلم إلى النور، غداً محاكمتي، لساني مقطوع، يومها كان صوتي عالياً حاداً قوياً، بلا حدود، الآن لساني مقطوع وغداً سأحاكم.
                      أبي رحمه الله موظف بسيط في مؤسسة الكهرباء، يملأ بيوت الآخرين بالنور، ويملأ بيته بكثير من الأماني والأحلام، وبقليل من الأمتعة والطعام، اقتنع أخيراً أني -أنا الصغير -أستحق كرة جديدة من ذاك النوع الكبير الجميل، ومنحني ثمنَها، وحقَّ الحريّة في انتقائها وشرائها، فقد نلت في مدرستي درجة متقدّمة بين أترابي.
                      بعد أن دسست النقود في جيبي طارت بي أجنحة الجذل إلى السوق، لكن.. ماذا أرى ؟ السوق شبه مقفر، المحالّ كلها مغلقة، تلبّثت هنيهة، أتأمّل، ثم.. أطلقت ساقيّ للريح على الرصيف معولاً:
                      - لماذا أغلقتم محلاّتكم؟ النقود في جيبي، أين الكرة الرقطاء اللامعة الشهيّة التي أراها كلّ يوم تتأرجح متدلّية على باب المحل؟ بعد شهور من العذاب والأحلام صار بإمكاني شراؤها، لماذا تغتالون حلمي ؟! لماذا تَحُولون بيني وبين كرتي؟.
                      لمّا أويت مساء إلى فراشي دامع المقلتين، مسح والدي شعري بيده الحانية، قال:
                      - الناس يا بني يطالبون بحقّهم ..حرّيتهم.. كرامتهم..
                      حين غلبني النوم تراءى لي الأستاذ (أحمد) في حلمي رافعاً سبابته اليمنى يهدر صوته: أنتم ملوك الأرض ..لكم الشمس والربيع..
                      في اليوم التالي، بَرَزَتْ إلى الشوارع التي أقفلت محالُّها، جموعٌ هادرة تهتف، العيون تبرق بتمرّد، والقبضات مشدودة تلوح بتحدٍّ، كان صوتي -على نعومته وطفوليّته- عالياً مفعماً بالإصرار والإرادة، ردّدْتُ ما حفظْتُه عن أستاذي (أحمد) جعلت مقولاته شعارات ساطعة سامية هتفت بها:
                      - نحن الغد– نحن الشموس الطوالع – شلالات العطاء .
                      ثمّ.. نَهضَتْ أمام الجموع، سيّاراتٌ مصفحة، تزحف ببطء راعب نحو المتقدّمين، السيارات تتقدّم والجموع تتقدّم، التقيا.. وجهاً لوجه، دِيكَيْنِ عنيدين، كبشين أقرنين، بعد حين.. تقدّمت الآليات تناطح الجمع، بطيئة حازمة، تقهقرت الجموع قليلاً، الآليات تزحف، انكفأ الجمع رويداً رويداً، غيّرَ اتجاهَهُ، عكَسَهُ، الهتافات تعالت من جديد نشيطة ملتهبة، والآليات تابعت ضغطها ومطاردتها.
                      وجدَتِ الجموعُ نفسَها مدفوعة بلا هوادة إلى أزقة ضيّقة جداً، خفتت الأصوات، تفرّق الناس، ابتلعت أبوابُ الدورِ معظمَهم، سار الباقون فرادى، مطأطئين، يلفهم شعور بالإحباط والاختناق.
                      في طريقي إلى الدار مررت بالحانوت.. الكرة الرقطاء في شبكتها تنوس معلّقة، تأملتها، هالني أنها فقدت الكثير من بريقها الذي كان يأخذ من قبل بمجامع قلبي، النقود لا تزال في جيبي، لكن.. لم أرغب فيها، باخت شهوة امتلاكها، كان وقت اللعب بالكرة وعهد الطفولة… قد ولّيا معاً.
                      صدمت أبي سيّارة مجهولة ومات، اضطرّت أمي إلى بيع الثياب البالية على الأرصفة لنأكل خبزنا، كان البرد القارس والحرّ اللاهب قد أنضجاني، ثم تركتني أمي وآثرت اللحاق بأبي، قويت بعدها أواصر الوفاق بيني وبين الجماهير، فما تبدر منها صرخة أو نأمة إلا كنت بين أوائل الهارعين إليها و.. معها.
                      في يوم.. وفي منعطف الشارع المفضي إلى دارنا، نجم أمامي رجل سدَّ عليّ طريقي، تفرّس في وجهي، ثمّ وضع أصابعه تحت ذقني ورفع نظري إليه وقال مكشِّراً:
                      - تعال غداً إلى مقرِّنا.. كبيرنا يطلبك.
                      انداحت تكشيرته، برزت أنيابه صفراء قبيحة، خيّل إليّ أنّ وجهه ورأسه تحولا إلى جمجمة، أطلق ذقني واستأنف سيره، ابتلعه منعطف الشارع التالي.
                      في اليوم التالي كنت على باب كبيرهم أستأذن للدخول عليه، قيل لي: عُدْ بعد ساعة.
                      تسكعت في الشوارع ساعة، ثم عدت أستأذن ؛ قيل لي: عُدْ بعد ساعة. ضعت في الشوارع حتى الإرهاق، و..عدت، قيل لي: عد بعد ساعة.. حَبَوْتُ على الأرصفة، ثمّ.. تماسكت على الباب موجوع الرأس والقلب والقدمين ،قيل لي: عُد غداً. في اليوم التالي؛ عدتُ.. و تسكعت على الأرصفة ساعات وزحفت ساعات، ثمّ.. أمسك بي أحدهم من ياقة قميصي من وراء، وسار بي، عُصِّبَتْ عيناي ووُضِعَ في أذني القطنُ.. عبرت ممرات طويلة.. صعدت درجات عالية.. هبطتها، اجتزت ردهات رحبة، ثم.. أوقفت أمام كبيرهم، لم أرفع بصري إليه، وصلني صوته:
                      - اخترناك من بين الجميع، صوتك قويّ مدوّ، نريدك أن تتعاون معنا.
                      -فيم أتعاون معكم يا سيّدي؟.
                      -تشيع بين الناس أن هؤلاء الذين ينادون بالحقوق، بالحرّيات، بالعدل، مدّعون مخادعون مجرمون.
                      -و إذا رفضت ؟.
                      - تلقى المصير الذي لاقاه أبوك.
                      انتفضت بعنف مرعوباً ؛أبي؟! إذن أنتم قاتلوه؟!.
                      رفعت رأسي، حدجت محدّثي بنظرة متفحصة، تكشيرته باردة، رأسه جمجمة.
                      -ما قولك الآن ؟!.
                      - قولي هو: لا.
                      - خذوه.
                      رُمِيت في الشارع أعمى أصمّ، نزعت العصابة.. فتحت أذنيّ.. سرت مشلول العقل والروح.
                      خلال عقد من السنين أو أكثر، مثلت بين يدي كبيرهم مرّات عدّة، صُفع وجهي، وقفاي، وألهبت العصا ظهري وقدميّ، وإثر كلّ زيارة كنت أرمى في الشارع أعمى أصمّ.
                      مرّت أعوام.. وَهَن في أثنائها صوتي، وباخت الحماسة في صدري، انقضى ذاك العهد، عهد الحماسة، احتفر لنفسه في الذاكرة مكمناً انزوى فيه، صارت زوجتي وأطفالي منتهى همّي، وانكفأت إلى مكتبتي البيتيّة أدفن بين دفّات كتبها جلّ أوقاتي، والآن هأنذا سجين ينتظر محاكمته.

                      هذا نص للزميل القدير
                      أحمد عكاش
                      الحصار

                      نص مهول
                      رائع
                      بالرغم من طوله لكنكم لن تندموا على قراءته
                      نص كبير بالوجع تمنيت فعلا لو أني كاتبته

                      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                      تعليق

                      • حارس الصغير
                        أديب وكاتب
                        • 13-01-2013
                        • 681

                        #26
                        الممسوس!

                        أي ريح صرصر عصفت اليوم
                        الشمس مبتورة الخيوط, وشبح القادم ينسل خفية, يغطي وجهه غروب أصهب.
                        لم أكد أعرفه, لولا وشم أنزله على كفه, في ليلة دهماء غاب عنها القمر, أريق فيها الكثير من دمه, وحبر صبه فوق الجرح, يدمغ يده فيه, ويئن مبتلعا وجعه.
                        لم تك ملامحه تشبه ذاك الشاب الجسور, الذي ملأ حيطان الشارع برسومه, وأنا صبي ألاحقه مثل ظله, مفتونا بما تخط أنامله العجائبية على الجدران, لتلك الصبية التي عشقها, فصارت داءه الذي ضرب أوتار فؤاده, فأعطبها, ليوصم بالممسوس, ويهجر البلدة, بعد أن عصفت بجسمه ركلات الرجال وهراواتهم, وهرس أحدهم بحنق يده اليمنى, بقدمه.
                        شقوق باب حجرته, تتيح لي فسحة ضيقة كي أرقبه وهو يناجيها دامعا, تنفلت منه الآهة حرى, وهو يبثها لوعته, وحرقة قلبه في غيابها! وفرشاته, كفراشة تنتقل بين الألوان ودمعه بسرعة عجيبة, ترسم عينين كحيلتين, وفما مكتنزا, يكاد ينطق, لتصيبني لوثته بفضول غريب لم أفهمه حد اللحظة.!
                        وتطاردني تينك العينان كأني أعرفهما.!
                        رنا إلي كأنه مغيب, حين اقتربت منه أحييه, وعيناه المحمرتان كالجمر, أرعدتني وأنا أستشعر خيفة منهما, ثم أشاح بوجهه عني متمتما, بلهجة معاتبة:
                        - أهذا أنت!؟ أ بعد كل تلك ...!
                        لم تُعنّي بسمتي البلهاء الحذرة, وخانني صوتي يتعثر بحنجرتي, فأطرقت رأسي خجلا.
                        دس يده الموشومة بين كومة أوراقه, ورمى بإحداها أمامي, لأجدني أمام صورة الفتاة ذي العينين الكحيلتين, والفم المكتنز!
                        زاحمتني الملامح, تصارعت أمامي, وتكومت كل الصور في لحظة بهذا الوجه, والريح تتلاعب بالورقة وأنا أركض خلفها لاهثا, يدفعني شغفي القديم, أن أعرف صاحبة الصورة.!
                        ذات صباح شقشقي العصافير, كان يقف قرب شجرة التفاح المزهرة, يحادثها, يبثها عشقه الموسوم بالمس, يغرف من جمرات الشوق, ويعاتبها أنها تتأخر كل مرة عليه, فيغلي دمه ليتفجر ينابيع من أوردته, ويكشف لها عن رسغه الذي ينزف بدفق وشدة, لتمتد يدها البيضاء الناصعة نحوه, تجمع الدماء المنتفضة في كفها, تذروها إلى السماء, وتمسح كفه بكمها, وتقبل الجرح, فهربت مذعورا, أصرخ:
                        - الممسوس قطع رسغه, الممسوس شربها من دمه.
                        تلقفتني أمي من أول الشارع, وأقسمت أغلظ الإيمان أن الممسوس لن يبقى بيننا بعد اليوم, فقد بات خطرا على الأبناء.
                        توسلت إليها ألا تفعل, لأنه مسكين, لم يؤذ أحدا غير رسغه, لكن إصرار أمي كان أقوى, وحيرة عينيها وهي تبحث في أرجاء المنزل تفتح بابا, وتغلق آخر, لتعود وتلطمني صفعة على وجهي, أخرستني.
                        رسمها ذاك اليوم على جدران المدرسة, فمًا وعينين, وشجرة تفاح مزهرة, تغفو مبتسمة قرب الساقية, وقمرا ثلجيا, يتراقص دوائر مهتزة, قربها.
                        نسجت الحكايات عنه, وعن مس الشيطان الذي تلبسه, فأغلقت أبواب الدور على بناتها, والممسوس يرسمها بغلالة شفافة, تظهر جسدها الضبابي متوهجا بالنور المتسرب من مسامات القماش, وألبسها النجوم تيجاناً فضية, كأنها شعاع يبهر العيون, وعلق اللوحة على غصن شجرة التفاح الموردة!
                        تبعت أبي ليلتها والرجال معه, محملين بوقود الغضب الجحيمي, تقدح العيون شررا يتطاير , ومشاعل النار تضيء وجهه القانع وهم يواجهونه, أنه لطخ سمعة الفتيات!
                        تمتم بيتم, راكعا:
                        - ليس بيدي, عشقي لها يدفعني, زوجوني إياها.
                        انهالت الأيدي, تصب جام الجحيم عليه, تمزق الجسد والرسوم, وهو يحتضن إحداها فوق صدره, يحميها منهم, غير عابئ بسواها, حتى أغمي عليه فغادروه, وورقة مكتوبة بدمه ألصقوها على الجدار مواجهته, غادر وإلا...!
                        لم أتزحزح من مخبئي, أتابعه بشغف محموم, وهو يزحف واللوحة بيده, يصب فوق كفه المهروس حبرا, يدمغها.
                        بعدها, لم يره أحد, حتى اليوم..
                        ولم تعرف البلدة سره وصاحبة العينين والفم, وأجنحة الريح مازالت تدفع بالرسمة أمامي, تطير وتحط, وقلبي يكاد ينخلع خوفا من رذاذ المطر المنهمر, أن يمحو الأثر.
                        دفعت جسمي بأقصى ما أستطيع كي ألتقطها, وأكتشف الوجه الذي طال زمن سره.
                        غيرت الريح وجهتها تدفع بالصورة نحوي, لتطعنني ألف سكين عمياء, وصورة أختي التي أغمضت عينيها منذ سنين, تتشبث يدها البيضاء المتخشبة, فرشاة بلون الزهر, تحت شجرة التفاح..
                        قبل أن تثمر!

                        نص للأديبة الكبيرة/عائدة محمد نادر
                        من القصص التي أذهلتني. شعرت بكل خلجة في جسدي تتحرك معه.


                        التعديل الأخير تم بواسطة حارس الصغير; الساعة 19-01-2014, 09:35.

                        تعليق

                        • عائده محمد نادر
                          عضو الملتقى
                          • 18-10-2008
                          • 12843

                          #27
                          الزميل القدير
                          حارس الصغير
                          لفتة كريمة منك
                          اخترت أجمل نص بالنسبة وأكثرها تأثيرا علي
                          هذا النص كان يجب أن أعنونه ب عذابي هاهاها
                          أتعبني وجرجرني وراءه أيام
                          خطف النوم من عيني يومين متتاليين فانتفخت أجفاني وجفاني نومي
                          كان وجه الممسوس يطاردني وصدقا حارس كنت أدير رأسي عنه لأجده ينتظرني في الناحية الأخرى
                          كتبته والكهرباء مقطوعة مازلت أذكر ذاك اليوم وكأنه بالأمس
                          فأخذت ورقة ابنتي وكتبت على الحواف وعلى كل مكان فارغ وعلى ضوء ضعيف يخرج من مصباح بطارية هاهاها
                          ولم يتركني حتى بعد أن أنهيته
                          ظل ظل يطاردني وكأنه تلبسني أو تقمصتني روحه
                          مجنونة أنا بنصوصي وكل نص لي معه ألف حكاية
                          هل كنت أهذي.. واو
                          أشكرك
                          أنتظر جديدك ونصا آخر لأحد الزملاء أو الزميلات
                          كل الورد المحبة لك
                          الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                          تعليق

                          • حارس الصغير
                            أديب وكاتب
                            • 13-01-2013
                            • 681

                            #28
                            فـُـتحة



                            لا تخرج من بيتها لقضاء شأن بالحيّ إلاّ و ابنتها ذات السّنوات الثّلاث برفقتها اليد في اليد. لا يذكر متى رآها لأوّل مرّة. كانت كلّما مرّت بمحاذاته أولته اهتماما لا اسم له، خاصّا و كفى، خاصّا.. في جرأة تلميح خجول. تحيّيه أحيانا بنبرة دافئة. أحيانا أخرى كانت تمرّ دون أن تنبس بكلمة. تفتنه سمرتها و ملامحها الرّيفيّة الحزينة. ترمقه بنظرات مفعمة بالخواطر، تترك في نفسه وقعا لم يتقدّم في ذهنه قيد خطوة نحو تأويل أعمق، أثرا واحد لا يتغيّر، رغم زخم الصّدف التي يتقاطع فيها مسيرهما في الطّريق؛ هي تنصفه..هكذا قرّر. شعور يبعث فيه القوّة، تصاحبه صورة من وحي خياله يظهر له فيها عالم نفس يتحدّث بثقة في مضيّها نحو سخرية بلا شوائب، عن ميل المرء الغريزيّ لتصميم كلّ إحساس يفتقد إليه بشدّة، من العدم غالبا.
                            اعتاد الجلوس على إحدى درجات سلّمه المُفضي إلى الشّارع مباشرة، ليدخّن. بالتّحديد الدّرجة التي تسمح له بمراقبة المارّة عبر فتحة فوق الباب. شريط ضوئيّ طويل و عريض، لا يبدو له كشاشة أو كعينين كبيرتين، كانت الفتحة في نظره حاجبين عفويّين من ضوء.

                            كان إذا انتهى من سيجارته صعد بقيّة السلّم و دخل بيته، مُصفّقا الباب برفق. يخالجه شعور بأنّه ملاكم انقضت فترة استراحته و أنّ عليه الآن خوض جولة أخرى مع الضّجر.

                            اتّخذ مكانه. أشعل سيجارة. يسلّيه أنّ أحدا من المارّة لا ينتبه إلى وجوده. عند منتصف السّيجارة مرّت من أمامه. التفتت ناحيته. اصطدمت عيناهما وسط غمرة دخانه. حوّلت بصرها بطريقتها التي تسحره و تجعل منها في نظره أكثر نساء العالم أحقّيّة بصفة أنثى؛ أن تُقطِّع استدارة بصرها قبل أن تحطّ أخيرا فوق موطىء قدميها، إلى لمحات خاطفة كالوثب دون الإمعان في شيء مُحدّد.
                            يصدّق يقينا أنّ الصّدفة هي التي غرّرت بها و جعلتها ترمقه بتلك النّظرات المرتبكة غير الجاهزة.

                            فكّر: " سأرقبها حتّى تعود، إن عاودت الالتفات ، فهذا يعني أنّها تُحسّ بي كما تُحسّ امرأة برجل يعنيها."
                            فكّرت : " أتراه إن أتمّ سيجارته ظلّ ينتظر عودتي. مؤكّد أنّ دخانه هو الذي يجبره على الجلوس هناك. لا شيء يستحقّ.. إن فعل فهذا يعني أنّه يحسّ بي كما ينبغي أن يعتني رجل بامرأة."

                            زوجته لا تكترث لغيابه. في صورة الزّفاف المُخبّأة في خزانة الملابس يبدو سعيدا، أمّا هي فباستطاعة أيّ كان أن يقرأ على ملامحها علامات الرّضوخ إلى سنّة الحياة. اجتماعهما في الفراش أصبح في نظرها قرفا موسميّا. ما من إحساس جانبيّ يتخلّله. دعاباته التي يلقيها على مسامعها كلّما تقاطعا في أحد أروقة البيت الضيّقة، على سبيل شحن الجوّ العائليّ بالحرارة الضّروريّة لنشأة نفسيّة متّزنة للأولاد، تقابلها هي بعبارات جادّة من قبيل : " لا أحد بإمكانه أن يدفع الموت إذا حضره.." أو " الواجب هو الواجب"...

                            انتهت المرأة من مُشترياتها..
                            زوجها في المقهى. يعشق الكلام في السّياسة مع أصحابه. كلام فيه مواقف و حلول يتبارون في تعديدها. خطب صغيرة، ساخنة، مُفعمة بالغيرة على مصلحة الوطن. غالبا ما تجعلُ المُستجِدّاتُ الواحدَ منهم يتمنّى لو أنّ الآخرين قد نسوا ما قاله بالأمس في استباقها..ألغى كلّ ما يمكن أن يُؤاخذ عليه الرّجال: الخبز و التّخلّص من القمامة..بقي أن تسيل الحياة بهدوء..و ذاك دورها.

                            شارفت الشّعلة على التهام كلّ التّبغ الذي في اللّفافة.

                            فكّر: " لا أجهل...أيّ مأزق!"
                            فكّرت :" أعرف...أيّ مأزق!"

                            لنا الثّرثرة و للدّنيا الخلاصة..موسيقى عذبة تملأ الهواء، يشعر أنّه يتنفّسها..لامست مكانا سرّيا في قرارتها..

                            لن تمرّ المرأة من أمام الرّجل الذي لن يكون بانتظارها.



                            ***
                            نص للمبدع الكبير/محمد فطومي
                            نص هو مثال لفن القصة القصيرة
                            يستحق الكثير والكثير

                            تعليق

                            • عائده محمد نادر
                              عضو الملتقى
                              • 18-10-2008
                              • 12843

                              #29


                              ألف .. باء... وحروف أخرى مهزوزة

                              ليلة ظلماء ونور زائف، أبواق وزخارف، رسومات وطلاسم وكهوف تسكنها الغيلان...الكل يبيع الوهم.
                              فى زمن الصمت كان اللقاء، فى وادى الغدر كانوا على موعد، لبسوا رداء البراءة وعزموا على ذبحها، أراهم هناك، فوق أسقف المنازل القديمة، فى الرمال الصفراء، بين ثنايا جلبابها ، تحت التراب، خلف الاشجار قابعين، على شفايف الأطفال، فى عيون الشيوخ اللذين فطموا على صدرها، فى قلوب الرجال الذين تمرغوا فوق فراشها ومزقوا جسدها، بين ثناياها، أراهم فى كل الأمكنة حولها.
                              كل نساء القرية يغرن منها، يحقدن عليها، يحببننها وسيشتركن فى ذبحها، الشباب سدّوا كل طريق للعودة، وبنات القرية سيقمن عزائها بعد أن غرسن أول وتد فى سقف سريرتها، سيعقروها كالبعير. الكل تجمع وسط الميدان وكان الرقص على نفس النغمة، نغمة حزينة تحمل ترنيمة مهترئة والعازف هرم، عصاه كما لو كانت عصا موسى، حين يشير يمينا.. يميل الكل يمينا، ويسارا.... فيميل الكل يسارا، فهو العازف والقائد فى هذا الوقت، الكل يهرطق... ألف ... باء ... وحروف أخرى مهزوزة ومن يدخل يصبح ضمن المصفوفة، الكل يحدق فى الضوء القادم خلف الأسوار والشيخ القابع خلف السور ينتظر اللحظة بلهفة، النور القادم من لحيته البيضاء ينتشر فى كل نتوء، حاول أكثر من مرة أن يتسلق هذا السور، فى آخر مرة وصل إلى الباب منعته الدببة وهذا اليوم بلا دببة، قليل منها دخل المصفوفة والباقى رابض خلف الأشجار..... يترقب!! من بين خيوط النور المنبعثة خيط يصل إلى باب الغرفة، وضع الشيخ يمنى قدميه على الخيط وتزيح الأخرى جماجم مكسورة وقلوبا نهشتها غربان القصر المهجور، تبعته كل خيوط النور وخيوط أخرى مهزوزة، فتح الباب وسط عواء ذئاب ونعيق البوم من السور إلى الغرفة، الترتيل الممزوج بصوت الترنيمات تلاشى، انهارت كل الجدران وتصلبت يدا العازف لما التقتا ونور الشيخ، إحداها تشير يمينا صوب النهر- نهر الدم المار أمام البيت - والأخرى يسارا فى قلب الكهف، إنقسم الحشد إلى قسمين...الأول تبع النهر، والثانى يتربص خلف الكهف، وقف العازف والشيخ فى بطن الحجرة، العازف ثقلت يده اليسرى، أنزلها، فتمايل معها الشيخ، أطلقها، فارتفع الشيخ، أنزلها......، واليمنى مازالت منصوبه صوب النهر - نهرالدم المار أمام البيت - انطلق العازف يتبعه الشيخ ووراءه باقى الحشد، تركوا البيت ..... سكنته الدببة.



                              وهذا نص للزميل القدير
                              فارس رمضان
                              ألف باء
                              نص جميل بكل معنى الكلمة
                              فيه فلسفة عميقة
                              كتب بعناية ومابين السطور
                              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                              تعليق

                              • عائده محمد نادر
                                عضو الملتقى
                                • 18-10-2008
                                • 12843

                                #30
                                [line]-[/line]
                                بدأت أشعر أنني الوجه الآخر.. أنني الظل لأختي "سُميا" ولادتها كانت تسبقني بدقائق.. لكنني كنت اسبقها بمعرفة ما تفكر به قبل أن تعرف هي بماذا أفكر .. "سُميا" وأنا توحدنا الرغبات والميول، وتفصلنا الأجساد، الألم يملأ نفسي، أشعر أنني مكشوفة لها على مدار اللحظة.. إذا مرضت "سُميا" أمرض بعدها بساعات وإذا جاعت أجوع بعدها أيضا.. حتى عندما كانت تبادل احدى اقربائي نظرات الاعجاب، أصبحت انظر إليه بإعجاب.. كانت تأتي لتوبيخي .. حتى بدأت حرب بيني وبينها في سن المراهقة واستمرت لمرحلة الجامعة .. كنت أعلم أن الحب إذا تحول إلى حرب أسوأ من الهزيمة الفوز.. لم أسمع بمحاكمة كل من قبض عليهم بجرم الشهوة!..


                                عندما تقرب صديقنا المشترك (عدي) في الجامعة منها وحدثها عن أن الحب يجعلنا أرقى، أعظم، أسمى، أطهر، وكذلك أصفى، أصدق، أوفى.. حاولت أن اخبرها أن الحب لا وجود له!.. الحب كما الحرب .. خدعة!..وأنه في حال الحب ذاكرة القلب تعاني من حساسية نبضه الأبيض.. سمعتها بفكري تقول له بوحا رقيقا، فذهبت إليه ليسمعني ما اسمعها!.. فمن الصعب أن يبقى ساكنا هذا الوجع والنقاء بينهما سماوي السحر!.. قلت له: أنا أراك جميلا وقلبي يراك أجمل، افترشني واستلقي على بساط روحي الأخضر حتى أعلى قمة البياض!؟..كان يظنني "سُميا" لا يعرف أنني "ثريا" وكنت أشرب من نهر عينيه ولم يكن يعرف اسم النهر الذي يشرب من شفتيه!.. لكنني بمجرد أن التقيت وعيني أختي صرخت بي .. للجسد رغبات يعرفها القلب وللروح رغبة واحدة!.. متى ستدركين أن لكل منا رغبات مختلفة!..
                                _قد تختلف الغيوم لكن المطر كله ماء, والغيوم تخلع جسدها عندما تخلع الأمطار الماء.. سمعتها بفكري: لن يجعلني الحزن أكثر حذرا وأقل ثقة بأحد ويسعدني أنك وجدت سعادتك في تناول طبقي.. فأنا كنت ومازلت أخجل أن أسحب طبق سعادتي بدون أن اكترث لجائع!.. فكيف إذا كان جائع حب!.. أعرف أنك تسمعين!.. وتلاحقين صمت اللحظة!.. دعيني وهمس عشيقي الصمت!.. تستحقين تمثالا لتفانيك في تمثيل الحب.. سأنحته لك بنفسي وأضعه أمام الحقيقة!.. فأنا ابحث عن الحقيقة حتى لا يعثر علي أحد!..


                                _ من الطبيعي أن تغرب الشمس كل يوم عن القمة.. صحيح يا ثريا لكن الغير طبيعي السقوط مع الغروب الذكي في لهيب الرغبات الغبي!..
                                سمعتها بفكري: لا أعرف متى سيغلف المطر الواقع بالضوء ويغسل الماضي بالسلام يطوق أنفاسنا بعبق الراحة الجميل
                                قلت لنفسي مبتسمة: عندما لثم المطر ورق العشق الساهر على غصون الشجر، سال بين الفروع رحيق النشوة، شرب الضوء وداخ القمر!..
                                ابتعدت أختي عن حبيبها تركته لي.. وأنا بدوري ابتعدت عنه تبعتها في خطوات الهجر .. ذهبت مع ذاكرتها إلى النسيان.. برفقة الم يقع بين التذكر والنسيان.. فالنسيان وجه نرسيس الآخر.. غرق التذكر، يتناسل من رحم الماء، هو قطيع يرعاه غيم شديد الحرارة
                                أشعر بنفورها لأني اصبحت لا أرغب في رؤيتها.. أسمعها بفكري: كيف فعلت هذا بي يا "ثريا" وأنت الجزء الأهم في حياتي.. غيرتها، جعلتها كما يريد أن يراها الناس!.. وأنا أعرف كيف ينبغي أن أعيش أكثر مني، وأنا أجهلها أكثر منكِ، لا أمتلك شيئا منها ومني!..
                                كان صوت المطر.. يقطع صوتها.. وكنت أشعر أن صوت المطر يمنحنها شيئا من الطمأنينة، يواسي، دقات روحها المرتبكة, سمعتها تقول: مسرعة نحو النور.. حيث قبلة قلبي.. رددت عليها بفكري: لم تقوليني؟ ما قلت أبدا أن كل العشاق كلاب، أنا قلت ليت كل العشاق كما الكلاب!؟.. لأغراض جنسيه تتمدد الأجساد عارية تحت شمس الحب.. لتتشمس بالخيوط الذهبية.. الحياة أرقام والإنسان يجب أن يكون فوق الصفر قبل أن يكون تحتها!..
                                بدأت " سُميا" تمارس في أوقات فراغها هواية الرسم.. فبدأت أمارس ذات الهواية.. وعندما رسمت رجلا له عشرون عضوا ذكريا .. رسمت أنا امرأة لها عشرون عضوا جنسيا!..
                                سمعتها بفكري تقول: كنت اعتقد أن للوحة أوراق وأرض ستشكرنا على التسلل إليها خلسه والخروج منها بعد زرعها، لكن ما اعتقدت لم يكن الصواب للألوان أنياب وللبياض أظافر تغطي بقعا كثيرة من الدماء
                                رددت بفكري: الحب عقاب الخطيئة لم افعل غير إغراء المحاولة بعدك!..
                                سمعتها بفكري تقول بحدة: ما هذا .. هي النيات إذاً!.. ولا فرق بين ما تفعلين وما أتمنى ؟..لن أوجه إليك لوماً، في الحلم تقمصني روحك.. وعندما أصحو أحمد الله على أنني لست صورتك، فجسدي لا يجري وراء الرجال.. سمعتها تقول: أما أنا فأجري ولو كنت بغرفه مع رجل لقمت بمراودته وإن امتنع اغتصبته!..
                                طوال الليل وأنا أفكر واكتشفت أن ذاكره الكراهية أكبر من ذاكره الحب هذا المجنون الأهوج بحزنه الرهيب ووجعه المختلف
                                عشت مع توئمي وروحي بقوة الدهاء وروحها بقوة الوفاء، حتى تخرجنا وطلب أحدهم الزواج من "سُميا" ركبني ألف عفريت.. لكنني كنت أبارك وأبتسم .. أشعر أنني جرحت .. سمعتها بفكري قبل ساعة من بدء الزفاف: هذا المساء شعر الريح بين أحساس يمتد من جنائن اللهفة حتى رحيق النشوة!..وقبل ساعة من بدأ حفل الزفاف كنت بين يديه!.. اعتقدني هي تركت له نفسي!.. اعجبه هذا التلهف ومن أنها سابقه وستبقى ذكرى جميلة.. تركته على عجل وانا أحدث نفسي: تاريخ الحب زائل والخيانة حماقه خالدة
                                أبتسم وهمس لي: ارتشفنا نبيذ الروح يا بنت اللذة كم احب فتنتها نارك
                                عدت إلى المنزل مسرعة فقد كان الزفاف عائلي مقتصراً على حضور بعض الأقارب
                                جمعت في حقيبة كل لوازم السفر .. كأنني طائر غريب يرغب في الرحيل بعيدا عن انياب الرياح الشرسة .. سمعتها بفكري تقول: الطائر المجروح.. يتوقف عن الزقزقة تتعطل مواعيده الضوئية، لا ينحت على صفحة الفضاء نبضا، فالحب سماء، والقلوب طيور.. تعلق على وجه الحياة ترانيم غيم تعزفه الأمطار، تلمع له النجوم.. تعتقدين أن السفر إلى الحلم لا يحتاج أكثر من ثمن تذكرة.. وأن بائع التذاكر لن يسأل، ولن يواسيك بأن الأحلام كما الأيام تتشابه، وأن التذاكر نفذت كما الأشياء الجميلة، وأن تذكرة السفر إلى الحلم الحقيقي لا تُشرى!.. لا تحلق الطيور حين حزن.. تمكث خلف الصمت العميق كثيرا.. وكثيرا لا ترغب في أي مكان ، وقليلا في كل مكان.. فقلوبها أقل من مواجهة برق الذكريات , من دوي رعدها, سمعت ضجيجا في الخارج وعندما ذهبت لأرى ماذا يحدث وجدت "سُميا" تسير بين الأقارب بطبيعية كما لو أنها ترتدي ثوب الزفاف.. وهي بكامل عريها!.. رفعت رأسها وابتسمت ................................. يا إلهي
                                _ أهذه أنا!..



                                هذا نص قرأته للتو
                                الزميل/ه القدير/ه وفاء الدولة
                                التوءمان

                                نص مهول لشدة قوته
                                نص محبوك حد الدهشة
                                نص لن تندموا لو قرأتموه صدقا
                                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                                تعليق

                                يعمل...
                                X