ككل مساء،عندما تقف الشاحنة الخضراء،يقفز منها ببذلته العسكرية،متجها إلى مسكنه. خطاه ثابتة ،رأسه مرفوعة إلى السماء، ووجهه عبوس ،لا يلتفت ولا يكلم أحدا. فقط تسمع وقع حذاءه المتين في إيقاع منظم كدقات الساعة. ما إن يراه الصغار حتى يهرعوا في كل اتجاه صارخين : - العسكري - العسكري . لا يأبه لصياحهم، يفتح الباب، ولا يظهر ثانية إلا في اليوم التالي .
في هذه المرة ،تعثر أحد الصبية وسقط في حفرة ،حيث بقي معلقا يطلب النجدة . امتدت إليه يد قوية أخرجته في صمت ،ليحمل فوق ذراعين متينتين إلى المنزل رقم : (6). فتحت الباب شابة جميلة ، خاطبها قائلا : - نظفي هذا الولد وضمدي جراحه . قبلته قائلة : - يا له من ولد جميل ! - ما اسمك؟ - من هي أمك؟
لم يجب من فرط دهشته،فقط تركهما يعتنيان به لينتشي بلحظات غالية لم تكن لتخطر بباله . أخيرا أخرجت المرأة قارورة جميلة ، رشت رذاذها على جسمه الصغير ،تنعشه برائحة طيبة . صوت من وراء الباب عكر جمال المشهد : - كريم - كريم!
- الولد : إنها أمي ! انحنت عليه الشابة الجميلة تقبله ،وهي تدس في جيبه بعض قطع الحلوى. وبابتسامة عريضة فتح العسكري له الباب قائلا : -عد غدا يا كريم لنغير لك الضمادة ...
نشأت علاقة وطيدة بين أطفال الحي والعسكري، خصوصا كريم الذي لم تعد ترهبه تلك البذلة ولا ذلك الوجه العبوس.تحول الخوف إلى حب حقيقي ،وأصبح الأطفال ينتظرون العربة الخضراء كل مساء بلهفة وشوق ، يتطلعون إلى ما سيحمله إليهم العسكري من سكاكر وقطع حلوى لذيذة .
تساؤل كبير بدأ يطرح نفسه على سكان الحي : - هل فعلا تغير الرجل ؟ ولم كل هذا العطف المفاجيء على الأطفال ، وهو الذي لا يجرؤ بائع متجول من شدة الخوف ،على رفع صوته في الزقاق لئلا يفسد عليه قيلولته؟ هدوء مفروض تعوده الجميع دون اعتراض. فكيف يخالفه أطفال أبرياء لا يكفون عن الصراخ ولعب الكرة؟
مرت الأيام سريعة، ولم تعد العربة الخضراء تأتي إلى الحي.ولم يعد العسكري يرتدي بذلته المهيبة . أصبح رجلا عاديا بملابس مدنية ، يلقي التحية على الجيران فلا يردونها عليه . يبتسم لهم فلا يأبهون له.الكل يخشى الإقتراب منه رغم تقاعده المبكر. انتهت الحرب العالمية ، وتكللت جهود المقاومة بالحصول على الحرية والإستقلال . وهاهو يجد نفسه قد أفنى ما تبقى من شبابه في خدمة الوطن، ليتأخر زواجه دون إنجاب ذرية تملأ عليه حياته . جعلته البذلة العسكرية يفرض الإحترام على الآخرين ، لكن الجميع نفروا من قسوته المفرطة. باءت كل محاولاته للإندماج مع الناس بالفشل ، فانزوى في البيت مهموما يائسا ،لعله يجد الأنس بقرب زوجته الشابة .
وعند منتصف إحدى الليالي يشاء القدر إلا أن يقول كلمته. سمع صراخ وجلبة بالمنزل رقم (6) لم يكترث لها الجيران . لكن الأمر زاد عن حده، فقد خرج العسكري من بيته مهرولا وبدأ يطرق الأبواب طالبا المساعدة. تحلق حوله الجميع مستفسرين : - رد عليهم : - أغيثوني ! - أغيثوني ! زوجتي مغمى عليها. ترددوا في البداية ، لكن سيدة وقورا تقدمت إليه قائلة : - استمع ياعسكري! سندخل بيتك شريطة أن تتركنا لوحدنا ؟ فماذا تقول؟ رد الرجل : - لن أدخل البيت حتى تأذنوا لي .
دخل نسوة الحي المنزل رقم (6) لأول مرة . بدأن يوقظن الشابة المغمى عليها حتى استفاقت . وماهي إلا لحظات حتى خرجن مهللات مستبشرات، وقد ارتفعت أصواتهن بالزغاريد وهن يهنئن ويباركن للعسكري ظهور علامات الحمل على زوجته.
لم يصدق الرجل الخبر، فبدأ يعانق الجيران ويقبلهم واحدا واحدا ،معتذرا عن كل أخطائه ،في مشهد جد مؤثر لم يعد فيه لأهل الحي مجال لإخفاء دموعهم ،وهم يقاسمون جارهم المسكين فرحة عمره.
منذ ذلك اليوم طويت صفحة الماضي ، وامتلأ المنزل رقم (6) بهجة وسرورا بقدوم أولاد وبنات العسكري إلى الدنيا ، ليبقى هذا الإسم ملازما للحي كعلامة مميزة لكل من تاه أو ظل طريقه .
*************
ع / اغتامي
*************
في هذه المرة ،تعثر أحد الصبية وسقط في حفرة ،حيث بقي معلقا يطلب النجدة . امتدت إليه يد قوية أخرجته في صمت ،ليحمل فوق ذراعين متينتين إلى المنزل رقم : (6). فتحت الباب شابة جميلة ، خاطبها قائلا : - نظفي هذا الولد وضمدي جراحه . قبلته قائلة : - يا له من ولد جميل ! - ما اسمك؟ - من هي أمك؟
لم يجب من فرط دهشته،فقط تركهما يعتنيان به لينتشي بلحظات غالية لم تكن لتخطر بباله . أخيرا أخرجت المرأة قارورة جميلة ، رشت رذاذها على جسمه الصغير ،تنعشه برائحة طيبة . صوت من وراء الباب عكر جمال المشهد : - كريم - كريم!
- الولد : إنها أمي ! انحنت عليه الشابة الجميلة تقبله ،وهي تدس في جيبه بعض قطع الحلوى. وبابتسامة عريضة فتح العسكري له الباب قائلا : -عد غدا يا كريم لنغير لك الضمادة ...
نشأت علاقة وطيدة بين أطفال الحي والعسكري، خصوصا كريم الذي لم تعد ترهبه تلك البذلة ولا ذلك الوجه العبوس.تحول الخوف إلى حب حقيقي ،وأصبح الأطفال ينتظرون العربة الخضراء كل مساء بلهفة وشوق ، يتطلعون إلى ما سيحمله إليهم العسكري من سكاكر وقطع حلوى لذيذة .
تساؤل كبير بدأ يطرح نفسه على سكان الحي : - هل فعلا تغير الرجل ؟ ولم كل هذا العطف المفاجيء على الأطفال ، وهو الذي لا يجرؤ بائع متجول من شدة الخوف ،على رفع صوته في الزقاق لئلا يفسد عليه قيلولته؟ هدوء مفروض تعوده الجميع دون اعتراض. فكيف يخالفه أطفال أبرياء لا يكفون عن الصراخ ولعب الكرة؟
مرت الأيام سريعة، ولم تعد العربة الخضراء تأتي إلى الحي.ولم يعد العسكري يرتدي بذلته المهيبة . أصبح رجلا عاديا بملابس مدنية ، يلقي التحية على الجيران فلا يردونها عليه . يبتسم لهم فلا يأبهون له.الكل يخشى الإقتراب منه رغم تقاعده المبكر. انتهت الحرب العالمية ، وتكللت جهود المقاومة بالحصول على الحرية والإستقلال . وهاهو يجد نفسه قد أفنى ما تبقى من شبابه في خدمة الوطن، ليتأخر زواجه دون إنجاب ذرية تملأ عليه حياته . جعلته البذلة العسكرية يفرض الإحترام على الآخرين ، لكن الجميع نفروا من قسوته المفرطة. باءت كل محاولاته للإندماج مع الناس بالفشل ، فانزوى في البيت مهموما يائسا ،لعله يجد الأنس بقرب زوجته الشابة .
وعند منتصف إحدى الليالي يشاء القدر إلا أن يقول كلمته. سمع صراخ وجلبة بالمنزل رقم (6) لم يكترث لها الجيران . لكن الأمر زاد عن حده، فقد خرج العسكري من بيته مهرولا وبدأ يطرق الأبواب طالبا المساعدة. تحلق حوله الجميع مستفسرين : - رد عليهم : - أغيثوني ! - أغيثوني ! زوجتي مغمى عليها. ترددوا في البداية ، لكن سيدة وقورا تقدمت إليه قائلة : - استمع ياعسكري! سندخل بيتك شريطة أن تتركنا لوحدنا ؟ فماذا تقول؟ رد الرجل : - لن أدخل البيت حتى تأذنوا لي .
دخل نسوة الحي المنزل رقم (6) لأول مرة . بدأن يوقظن الشابة المغمى عليها حتى استفاقت . وماهي إلا لحظات حتى خرجن مهللات مستبشرات، وقد ارتفعت أصواتهن بالزغاريد وهن يهنئن ويباركن للعسكري ظهور علامات الحمل على زوجته.
لم يصدق الرجل الخبر، فبدأ يعانق الجيران ويقبلهم واحدا واحدا ،معتذرا عن كل أخطائه ،في مشهد جد مؤثر لم يعد فيه لأهل الحي مجال لإخفاء دموعهم ،وهم يقاسمون جارهم المسكين فرحة عمره.
منذ ذلك اليوم طويت صفحة الماضي ، وامتلأ المنزل رقم (6) بهجة وسرورا بقدوم أولاد وبنات العسكري إلى الدنيا ، ليبقى هذا الإسم ملازما للحي كعلامة مميزة لكل من تاه أو ظل طريقه .
*************
ع / اغتامي
*************
تعليق