" أسْرَارُالظِّلِ الأخِير "
شـعـر
للشاعرة المغربية مليكة معطاوي
قراءة محمد المهدي السقال
شـعـر
للشاعرة المغربية مليكة معطاوي
قراءة محمد المهدي السقال
توطئة:
أما بعد، فإن ما سيقال عن ديوان " أسرار الظل الأخير"، لا يعدو أن يكون انطباعات قارئ انحاز إلى فضول السؤال عن مسوغ تلك الانطباعات، فوجد نفسه بصدد استقصاء مكونات التجربة الإنسانية المعبر عنها في الديوان، وما يتصل بأدائها تعبيرا فنيا باللغة ضمن جنس الشعر الذي اختارته صاحبة " أسرار الظل الأخير".
لذلك، سيَرتبط سؤالُ الانطباع على التشارك معَ الشاعرة في الإحساس بالهزيمة والانكسار، بعد معاناة صراعها المرير مع أسبابِ السُّقوط ، انتصاراً لِذاتها المُحبَطة عاطفياً بالأساس، بسؤال التشكيل الفني لِلُغتِها التعبيرية، وما تحيل عليه أدبيا جنساً أو نوعاً، بعْد إعلان المؤَلَّفِ عن انتمائه للشعر تعميماً في الغلاف الخارجي للمؤلف.
- لعله من تحصيل الحاصل نفي النقدية عن هذه الورقة، باعتبار مرجعيتها في التلقي الانطباعي، وليس التلقي المنهجي المنضبط لقواعد صارمة في القراءة و التحليل والتأويل.
زعما بأن القراءة في النهاية، لم تتخلص من ترسبات ذائقة التلقي، بمختلف حمولات الوعي بالشعري في بنية القصيدة باللغة العربية، رغم تجدد المعرفة الأدبية بتحولاتها، بحثاً عن مرسىً فنّي قابل للتأصيل، يمكن معه الحديث عن قصيدة عربية مكتملة و قادرة على الصمود بهويتها الفنية والجمالية والدلالية.
العناوين:
لست بصدد تحليل العناوين باعتبارها عتبات مضيئة أو مختزلة لرؤية أو مضمون، فهذا مما يحتاج لوحده إلى دراسة مفصلة، لكني أود قراءة العناوين من زاوية المهيمن فيها ، اتصالا بما يمكن أن يحيل عليه انشغال أو اشتغال النصوص في ديوان الشاعرة مليكة معطاوي،" أسرار الظل الأخير".
ربما تسعف الوقفة مع العنوان الرئيس، في تقديم فكرة إجمالية عن انشغالات الديوان على مستوى الموضوعات، باعتبار قصدية اختياره في النهاية، ليكون علامة عليه و محددا لفضاءاته، إن لم يكن موجها للدلالة المحورية فيه.
أسرار الظل الأخير:
ثلاث كلمات تبدو مختزلة لمكونات الوجود، بإحالتها على السر الخفي في جوهر ذات الكائن على حقيقته الغائبة أو المدركة بالحس والعقل، اتصالا بما يتخايل للنظر من ظل للأشياء في المكان، وما يؤول إليه امتدادها على الانتهاء في الزمان .
- أسرار، جمع سر، و هو كل ما يَبقى في حيز الكتمان عن الآخر لاعتبارات شتى، عاطفية / اجتماعية / أخلاقية / دينية / سياسية / أو غيرها.
أما الإعلان عنها ضمن مكاشفة أو بوح أو حتى مصارحة، فإنه يلغي قدسية السر ومطلق ذاتيته في المنغلق على الداخل، ليصير من قبيل الخبر عن مسكوت عنه في الفكر والوجدان، ويندرج بالتالي ضمن الاعترافات التي تكسر حاجز الممنوع من الصدح، بكل ما يمكن أن تحيل عليه من قلق أو اضطراب أو صراع.
- الظل خيال الشيء المادي، الملازمُ لوجوده وشكله في حالتي الثبات و الحركة، منعكسا على التراب بحجم ليس مطابقا للأصل، و على الماء بصورة ذلك الشيء كله أو بعضه، وقد ظل الاشتغال على الظل بكونه تمظهر ذات الشيء منفصلا عن كيانه الحي، فتم التعلق به من زاوية تمثيله لحقيقة أكثر موضوعية من الشيء ذاته، فأحب الإنسان ظله وحاوره وتلمس فيه اصدق أنيس لوجوده خارج طقوس التواصل مع الأشياء في الوجود..
- أما الأخير فلفظ يرتبط بنهاية امتداد في الزمن، كما يرتبط بالحد الذي لا بعدية له في كل ما يتعامل معه الإنسان قيد حياته، وبالتالي فما سيكون لفظ الأخير صفة له، لا بد أن يكون قد استوفى نهايةً غيرَ قابلةٍ للاستدراك بما بعدها.
جاء العنوان بتركيبه الاسمي، جملة محذوفة الابتداء على تقدير الإشارة بهذه، وتكون بذلك لفظة "أسرار" خبرا معرفا بالإضافة،وقد تقرأ جملة العنوان، على افتراض وجود لاحق بشبه الجملة الخبر المقدم، كقولنا: أسرار الظل الأخير قبل الموت/ أسرار الظل الأخير في قصيدة.
و باعتبار ما قيل عن الشيء و ظله من تلازم على التطابق، فإن أسراره في الأصل، أسرار الذات التي امتد خيالها في الخارج، و ما نعت الظل بالأخير، سوى نعتٍ لنهاية تلك الأسرار المضافة للظل على لانزياح المجازي.
تبدو نسبة الأسرار إلى الظل أقوى دلالة و أبعد في التمثل للصدق المرتجى من طرف الشاعرة، في سياق بوحها أو مكاشفتها بما قصدت إشراك غيرها فيه، ما دام الظل في النهاية قابلا للوجود الحِياديّ غير المتأثر بانفعال أو انفلات.
وقد لا يودع القارئ العنوان، قبل السؤال عمّا إذا كانت طبيعة تلك الأسرار، من قبيل الشخصي المفرد في الرؤية للعالم من الداخل، أم أنها من قبيل ترسبات التفاعل مع الواقع المعيش في الوجود الجمعي، بحيث يكون تأجيل خروجها للعلن، مرهونا بحصار رقابة ذاتية أو موضوعية ؟
يصلنا العنوان الرئيس بعناوين النصوص المدرجة في الأضمومة كما وردت في الفهرس، بعد التقديم لها من طرف الدكتور مسلك ميمون، بكلمة تصدرها عنوان فرعي، " قبل الشعر"، ركزت على التجربة الذاتية و تشكيل عبارتها البلاغية، دون إثارة ما يمكن أن يطرح بخصوص شعرية النصوص إيقاعيا، اتصالا أو انفصالا بما يمكن أن تحيل عليه بنية الجملة الشعرية على المستوى الموسيقي.
1 عارية على حدود الظل الأخير / 2 غفوة على الشفتين / 3 من صحراء الذات / 4 وجه في المرآة / 5 عشق غريق / 6 ح / 7 ح / 8 متاهة الذات / 9 خذني... اليكَ / 10امراة في الظل / 11حوارية عشق / 12خمرة الحزن / 13منتهى حلم / 14سجينة قلقكَ / 15أصلي للهوى العذري / 16سلام عليكَ حبيبي / 17أحبكَ ولا أكابر / 18 لا مبالاة بلون السراب / 19 يوسف / 20 عينان و حلم.
تتكرر مفردات بعينها أكثر من مرة، مثل الظل و الذات و العشق والحلم، فتشكل حقلا دلاليا لمجال التعبير باللغة عن تجربة يمكن تحييز فعلها أو انفعالها ضمن دائرة المشاعر العاطفية الشخصية ذات الصلة بحضور أو غياب الآخر الذكوري في الوجود الأنثوي.
الذات / العشق / الحلم / الظل.
بالنظر للمفردات المؤثثة للديوان،(1)(صحبته جرد أفقي لتوظيفها)، يطرح سؤال الانتقال بها من ذات الشاعرة، باعتبارها وجودا إنسانيا، يتقاسم الكينونة الحياتية مع مختلف الذوات من جنسها أو مقابلها، إلى الذات الشاعرة، باعتبارها مُنتجةً للخطاب على نسق مخصوص، يرتهن في تعبيراته لاختيار الشعر وسيلة للخروج إلى الناس.
يبدو أن انتقال مليكة معطاوي، من ذات الشاعرة خارج القصيدة، إلى الذات الشاعرة داخلها،(2) لا يلغي التفكير و التأمل في بنينة قولها النابع من وجدانها وأحاسيسها، إذ تظل واعية بحاجات التعبير الفاعل في المتلقي، فتسعى لاختيار المناسب من الكلمات، سعيها لبناء الصورة بما يسعف به التركيب اللغوي والتشكيل الفني لجملتها الشعرية ، لكن دونما ولاء مطلق للتقيد بإيقاع محدد يحيل على العروض بمفهومه المدرسي، على الأقل من حيث تشكيلُ النصوص بصريا، اعتمادا على السطر الشعري المعاصر وليس على البيت القديم.
هل تكون هذه المغايرة وحدها مقدمة للسؤال العريض حول شعرية النصوص، و مرجع الحكم عليها وتقييمها بين الرؤيا والإيقاع، علما بأن الجدل مستمر حول هوية المتن المصنف شعريا تحت كثير من المسميات الواصفة لتجنسيه؟
النصوص:
بالعودة إلى العشرين نصا، قد لا يجد القارئ أبعد من انشغال الذات الشاعرة بالوجود النفسي و العاطفي لذات الشاعرة، في محيط يرفض الاعتراف لها بالحق في ممارسة حريتها، ليس من موقع قمعها بقوة الحصار، ولكن من موقع نفي الاعتبار لقيمة كينونتها استنادا للترسبات الذكورية في الوعي الرجالي بالمرأة، فتحتد المعاناة وتطفو كآبة الإحباط، لتتحول من بركان خامد يكتم فيضه، إلى بركان يتفجر بوحا ومكاشفة بما ترسب من تلك المعاناة.
بين كلمة "عارية"، المتصدرة لعنوان القصيدة الأولى من الديوان: "عارية على حدود الظل الأخير "، و كلمة " الفراغ"، التي تنتهي بها القصيدة الأخيرة منه، ضمن استفهام إنكاري:
أتُرَى يُفِيدُ الْحلُمُ،
وَالْعَيْنَانِ يَائِسَتَانِ،
تائِهَتَانِ فِي قَاعِ الْفَرَاغْ...؟
تمتد مسافة القول الشعري، لتلخص الكلمتان تجربة مأزومة للذات، بين ابتغائها ذلك العري الإرادي انسجاما مع اختيار الشفافية في التعامل والتفاعل مع الواقع، بعد نزوع قوي نحو رفض و الزيف و النفاق. و انتهائها إلى ذلك الفراغ في الداخل والخارج تحت الإكراه والاضطرار، بما يصاحبهما من فشل وسقوط وانكسار، يفضي إلى صراع الذات مع أناها المنزعجة من سقوط المثال في الحب و انكساره على صخرة انتظارات مستحيلة.
لاَشَيْءَ يُؤْوِي،
قَفْرَ هَذَا الْعُمْرِ،
مِنْ تِيهٍ كَئِيبْ.
رومانسية أم غنائية أم درامية ؟
على امتداد سعي الشاعرة لرسم ملامح معاناة الكينونة الجريحة " فِي لَيْلِ مَدِينَةٍ بَعِيدَةٍ،بِلا أَحْلامٍ،"، توهم النصوص بأنها تمتح من معجم تهيمن عليه مفردات الذات والطبيعة، فتكاد أن تفضي بالقارئ إلى انطباع يصل الديوان بفضاءات النفس الرومانسي، حيث التلازم على التوازي بين حالات الذات المحبطة، و تمظهرات الطبيعة الكئيبة، على سبيل الإسقاط بتبادل المواقع، من خلال التوظيف الفني للإسناد المجازي، و جعل الطبيعة رديفا للذات تشاركها أمل الانبثاق:
أَمْتَطِي صَهْوَةَ رَأْسِي/ كَأْسِي،
أَمْسَحُ الحزنَ عَلَى خَدِّ السماءِ،
أَشْتَهِي نُوراً يَشُقُّ الْقَلْبَ لما...
تَرْزَحُ الأضوَاءُ مِنْ تَحْتِ الظَّلاَمِ.
غير أن تأمل مساحات اللغة الشعرية في ديوان " أسرار الظل الأخير"، وتركيزها على الذات مبتدأ وخبرا، من خلال كثافة التمسح بالحنين والبكاء، و رهافة التدثر بالأنين والانكسار، سرعان ما تولد انطباعا أبعد من الارتباط بتلك الرومانسية الكلاسيكية إن صح التعبير، لتكشف عن حضور غنائية متجددة، قريبة مما تتحرك في فضائه قصيدة النثر الحديثة، حين يكون مرجعَ تشكيل معمارها الفني و الدلالي، تجربة ُ الشاعر (ة) انطلاقاً من حالة نفسية وشعورية شخصية.
و قد يجد القارئ ما يشِي بملْمح يسِمُ تجديدية نصوص الشاعرة مليكة معطاوي على المستوى الغنائي، من خلال تجاوزها ذلك التمحور حول الذات الفردانية بالمفهوم الغنائي التقليدي، للاقتراب من تمثلات الذات في محنتها الوجودية الإنسانية بأبعادها الكونية، رغم انسيابٍ مُغرق في العاطفي بمختلف مظاهره الآيلة إلى حزن شديد وانكسار مديد.
يضاف إلى ذلك، عدم ارتهان النصوص لتلك الغنائية القديمة، بمنطق المواءمة والتناسب بين مكونات الجملة الشعرية لغة وصورة وإيقاعا، اعتمادا على استحضار النموذج المثال بخلفياته البلاغية والعروضية، رغم إصرارها المسبق على التعلق بما يسم الشعر في كليته، حين تبحث لدفقتها الانفعالية شعريا، عما يكون موسيقى خارجية تنسجم مع إيقاعها الداخلي نفسيا، وقد نجد الشاعرة أحيانا تتمرد على حصار الارتهان لتلك الموسيقى الخارجية، في غياب أدنى انضباط لوحدة الروي بين وقفات السطر الشعري :
إِذَا مَا رَأَيْتُ وَجْهِي فِي المرْآةِ،،
رَأَيْتُ عُيُوناً مُنْكَسِرَةً،
تطْفُو عَلَىَ سَطْحِ انْتِظَارْ
وَجَبِيناً مَوْشُوماً
بِأَحْلاَمٍ مِنْ رَمَادْ..
وَوَجْهاً صَغِيراً، مُلْقَىً
عَلَىَ هَامِشِ الحياةِ.
لكن القارئ، لن يلبث أن يجد نفسه ثانية، منجذبا للتفكير في ملمح آخر يطبع بعض قصائد الديوان، ويتعلق الأمر هنا بالمستوى الدرامي في القصيدة المعطاوية، مع الحضور اللافت لمكون الصراع في بنينة معمارها الشعري، فلا تبدو منغلقة على صراع الذات في اتجاه واحد يقف عند حدود الحكي عن الانكسار الفردي، بل تنفتح على المشترك الوجودي، في الإحساس بالزمن حيث:
" لاَشَيْءَ يُؤْوِي،
قَفْرَ هَذَا الْعُمْرِ،
مِنْ تِيهٍ كَئِيبْ."
و في الشعور بمحنة الوجود مادام:
ثمَّةَ مَوْضِعٌ لِلتِّيهِ
فِي دُرُوبٍ مِنْ سَرَابْ.
ثمَّةَ انْكِسَارٌ لِلرِّيحِ
عَلَىَ صَخْرَةِ الضَّيَاعْ."
أو في الرؤية لتفاهة الحياة، على خلفية الاعتقاد بأنه:
مُنْذُ الْبَدْءِ،
كَانَتْ مَسَامِيرُ الْغُرْبَةِ تُدَقُّ فِي الدَّمِ،
وَآَهَاتُ الحزنِ تَلُوكُ رَبِيعَ الْعُمْرْ.
كَانَ الزِّحَامُ يَضُجُّ بِالَأنينِ
و كل اْلمسَاحَاتِ فَرَاغْ…
فِي لَيْلِ مَدِينَةٍ بَعِيدَةٍ، بِلاأَحْلامٍ،
و ذاك عبر مساحات تعبيرية تشتغل على السرد بحكاية مسار تجربة عاطفية يكون لها ابتداء يمتد إلى نهاية، بمحرك صراع خفي تارة، ومعلن تارة أخرى، بين الذات و الذات أو بين الذات و الآخر.
نستحضر هنا ذلك الغياب المطلق لِأنا الذات الفردية بمستواها الغنائي في نصين متتاليين هما:
( 1 عاريةعلى حدود الظل الأخير/ 2 غفوة على الشفتين )
لفائدة حضور نوعي للحوار في بعض النصوص، بعد تجاوزها للمونولوغ الذاتي، وأخذها بأطراف التفاعل الخارجية بين المتكلم و المخاطب والغائب، و اعتماد على الحكاية في بنائِها السَّرديَّ المتنامي بتطور أحداثها، مما يحيل على المستوى القصصي في النص الشعري المعطاوي، بما يستدعيه من تنوع أساليبه الخبرية والإنشائية بين السؤال و الاستفهام الإنكاري والنداء والتمني والطلب والنهي.
- اتصالا بما أثير أعلاه، حول الانتقال الواعي للشاعرة مليكة المعطاوي، من حالة المعيش الانفعالي (ذات الشاعرة قبل الوجود الشعري)، إلى (الذات الشاعرة بعد اختيار وجود شعري يعبر عن كينونتها) من صميم المتاح بممكنات الأداة الفنية في مرجعياتها اللغوية والبلاغية.
لا بأس من التذكير بالاستداف المسبق لدى الشاعرة، لصياغة مقول إبداعي يستوفي شروط القرابة من الشعريّ، في ضوء ما انتهت إليه تحولاته الكبرى، بدءاً من الخروج المحتشم عن قواعده العمودية، وانتهاءاً بمنجزات قصيدة النثر الجادة في بحثها عن مكان في مملكة الشعر باللغة العربية.
- لكن، عن أي قصيدة نثرٍ تحيلنا نصوص ديوان " أسرار الظل الأخير"؟
لم أنشغل بشكل أو تشكيل معمار النص على أساس السطر الشعري وامتدادات الجملة الشعرية، بالإحالة على موسيقاها و إيقاعها الداخلي، سواء بما تحقق لها من تناغم صوتي بالمجاورة على التناسب بين حروف الكلمة مفردة وتركيبا، خلق جرس موسيقي داخلي يستفيد منالتكرار والتوازي و المد الصوتي، أو بما اتفق لتلك الأسطر من اتصال بين (أضربها تجاوزا)، على مستوى وحدة الروي أو حتى القافية، اعتمادا على توزيع تقطيعي للجملة الشعرية، ينسجم فيه الإيقاع الخارجي مع الإيقاع النفسي الداخلي، فهذا مما يحتاح إلى تعميق بحث وتحليل تخصصي لا يجحف الديون حقه.
وإنما انشغلت بثيمات احتلت حيزا عريضا في قول النصوص الشعرية، وجدتها غير منفصلة عن الثيمات العامة لقصيدة النثر الحديثة، من خلال متابعة المعجم المهيمن و توزع حقوله الدلالية في قصائد ديوان " أسرار الظل الأخير"، وقد أسفر التعقب الدقيق للتداول اللفظي في نصوصه،عن ملاحظات يمكن صياغتها في شكل استنتاجات أولية، تحيل مباشرة على المتداول في ثيمات قصيدة النثر، من قبيل توالي الشعور بالانهزام والخيبة والانتكاس، بعد معاناة الفشل العميق في التجربة الشخصية العاطفية خاصة، مما ولد لدى الشاعرة إحساسا مريرا بالتهميش و الاغتراب، كاد أن يصل بها الحزن خلالهما إلى الجنون بعد العزلة والبحث عن رحيل للعمر في الزمان خارج الزمن الوجودي المأزوم، الانشغال بمحنة الجسد في غياب إمكانية الاستجابة لشروطه وحاجاته ضمن تفاعل متناغم مع هوى الروح في نشاطها الإنساني.
تتجلى تلك الثيمات في مفردات الذات المحبطة و المهشمة، حين تنكفئ على نفسها، لجس أحزانها وملامسة انهيارها في مواجهة سقوط أحلامها الصغيرة، ضمن أنساق تعبيرية تستثمر ما أمكن تلك اللغة التداولية في الخطاب التواصلي مع العالم، فتشعر وأنت تقرأ لمليكة المعطاوي، أنك بصدد قول شعري نابع من نبض حياة الذات و فيض أسئلة معاناتها اليومية.
لا شك أن المتتبع للمعجم المهيمن لفظيا، على نصوص ديوان "أسرار الظل الأخير"، سيلاحظ اتصال عناوينِ حقولٍ دلالية بعينها فيما بينها، كأن ثمة استدعاءات تقتضيها مقامات التوجدن مع الحالة النفسية لذات الشاعرة، قبل تحويلها إلى التعبير من موقع الذات الشاعرة.
و لتقريب الفكرة من خلال بسط اللغة المعجمية المتابَعة على امتداد النصوص في الديوان وفق تسلسلها، ستُرفق حاشية هذه القراءة، بجرد للألفاظ المنتمية إلى حقول دلالية بارزة، تربط بينها وحدة المعاناة الذاتية بعمقها العاطفي، و لعل أبرز عناوينها:
الغربة والاغتراب / الحزن والانكسار / الضياع والاشتياق / الصمت و الصراخ / الجنون والرحيل/ الحلم والانتظار /الليل و السديم / العشق و الارتحال / الخوف و الوجع / الجسد و الاحتراق / العمر والغياب / الحب والدمار / اليأس والفراغ /
- إن تلك الثيمات بأبعادها النفسية، وثيقة الصلة بالوجداني الانفعالي والتأملي في تجربة الشاعرة الوجودية، لذلك تبدو" أسرار الظل الأخير" في غياب الانشغال بالوجودي الجمعي، منغلقة على ما هو شخصي صرف، بمعزل عن تفاعل الذات في مستوى أزماتها العاطفية، مع تحولات محيطها الاجتماعي أو السياسي على سبيل التمثيل.
- من حق الشاعرة مليكة المعطاوي على نفسها، أن تراهن بالشعري لتقديم رؤيتها للعالم من موقع تجربتها الذاتية مع ذاتها المفردة، وبالصيغة التي تراها متناسبة مع حجم دفقتها الشعورية المفعمة بكل ألوان الإحباط والسقوط والانكسار، لكن من حق المتلقي عليها، ما دامت قد طلبت الاستماع إلى أسرار ظلها الأخير، أن يكون له صدى فيما يقرأ من صميم وجوده الموضوعي، باعتبار النص الإبداعي تواصلا مع الآخر باللغة الفنية، حول ما يشغل الذات المفردة بكل حمولاته النفسية، ضمن صيرورة وجودية كونية وإنسانية، ليس دائما الحب وانكساراته قضيتها الأولى.
*********************
تعليق