صمت الصحراء
الجزء الأول
"نورا" طبيبة كويتية تعمل في مشفى حكومي، وقد حباها المولى بجمال أخّاذ جمع بين سحر الصحراء وفتنة بلاد الشام، فالأب كويتيّ والأم دمشقيّة، للوطن في نفسها انتماء ملاصق للروح، الاحتلال أوجعها في الصميم وهوت إلى أعماقها السحيقة تبكي الوطن المحتل ورفضت الإذعان إلى قرار والدها بترك المشفى والاستعداد للرحيل إلى سوريا للإقامة في بيت جدّها حتى تنقشع تلك الغضبة العراقية، لاذت بالفرار إلى غرفتها من غضب أمها واستياء أبيها، ازدادت إصراراً أمام كلّ نداء، معلنة تحمّل مسؤولية قرارها، هرولت إلى سيارتها صامّة أذنيها عن كل نداء، وفي محاولة منها لإخراجها من المرآب تصدّر لها ضابط عراقي يومئ لها بالتوقف ملوحاً بورقة، أقبلت عليه وقسمات وجهها تتراوح بين التحدى والخوف، ناولها الورقة موحيّاً تنفيذ القرار الآمر بالصعود حافلة خاصة بالمشفى يرفرف بأعلاها علم عراقيّ، وبينما هي تقرأ رحل بنظراته بحنو بالغ فوق تضاريس وجهها الجميل ثم أغلق عينيه وكأنّ شحنة من السحر الكامن في العينين قد صعقه في أعماق قلبه فطأطأ رأسه خجلاً من ذلك القرار، رضخت لتغالب عبرات جرح مكبوت ليملأ العين بالدمع السخين، اضطربت المشاعر المخنوقة وتاه العقل عن الصواب، لم تدر ماذا تفعل، فأشار إلى الحافلة، دلفت إليها بخطىً جنائزيّة وارتمت على أول مقعد، لم يحتمل قسوة نظرتها فأشاح وجهه في اتجاه مغاير، واسترسلت في شبه إغفاءة وشتيت أنفاسها الجريحة ينوء بحمل الذل والهوان وأصداء نداءات أسرتها تطنّ في أذنيها، ترقرق الدمع في العينين الأخّاذتين وتألق الحزن مؤتلفاً الغضب في سيما الوجه الجميل.
انطلقت الحافلة إلى المشفى لتتوقف بين الفينة والأخرى آسرة العاملين فيه من منازلهم للمشفى، وكلّ يعبرعن مشاعره بطريقته الخاصة إزاء الهجمة الطاغية، تمركز بجانب السائق لم يعط عاملي المشفى أيّ اهتمام، إذ كان مساعده يقوم بالمهمة، وكأنّ مهامه توقفت عند الطبيبة نورا وبحركة لا إرادية ثبّت المرآة الأمامية في دائرة الوجه الجميل ونظراته الحرّى تهيم في تضاريسه، ليقرأ تعابير الأسى والرفض، متجاهلاً تذمر الركاب لكثرة الاهتزازات الناتجة عن الكابح، توقفت الحافلة أمام المشفى، أشاح وجهه بعيدا عن نظراتها، الأجواء المقيتة لفتها بدثار من غضب، أسرعت إلى الداخل لتقوم بعملها المعتاد واعتذرت عن إجراء العمليات الجراحية لوهن أعصابها ولشرود ذاتها، عند انتهاء الدوام وبحركة تلقائية امتدت يدها لتتناول مفتاح سيارتها إيذاناً بالعودة لكنّها تذكرت ما آل إليه حالها، ألقت نظرة فاحصة إلى باحة المشفى فوجدت الحافلة تنتظر، ارتسمت تعابير الغضب من جديد على الملامح الوجيعة، صعدت الحافلة تاركة في الأجواء كمّا من عطرها يعبق في دعة، فارتد نشواناً ترفّ في جنباته ومضة عشق تضيء حنايا قلبه فاستيقن الوله هامسا بالتحية ومئات الحروف تختلج على شفتيه، لكنّ مع الملامح القاسية اندثرت الحروف إلى أعماقه الكسيرة،عاد إلى مقعده ومن خلال المرآة السحريّة غاب في تيه عينيها فرأى عالماً من الخصب والغضب الذي يكاد يتفجر من الأعماق كطوفان يغرقه في متاهات الآفاق، أخذت التساؤلات تضج كبروق حارقة، هل هو مسؤول عما يحدث؟ إنّه عسكريّ مأمور ومدرك أنّ وطنيهما في المصيدة، فكّر هل يحكي لها عن مخطط شبكة العنكبوت السياسيّة الملقاة على الوطن العربي، أو عن الصراع الموغل في عمق التاريخ بين الشرق والغرب أو الهجمة المستهدفة على الإسلام، أو عن نواتج الفتنة القادمة في أتون الأمة العربية، أو يتناسى كلّ هذا ويقدم لها قلبه على طبق من ذهب، استهوته الفكرة الأخيرة، عند الوصول واجهها مبتسماً "سيدتي" لكنّ يدها المعترضة كسدٍ هائل أمامه وملامحها الرافضة لسماع صوته وتجاهله، جعل الحروف تجفّ على شفتيه وانتابه إحساس من دفن في كثبان جليدية.
عصرا اصطفت الحقائب إيذاناً بالرحيل، احتمت بجدران غرفتها من توسلات عيونهم، تردد صوت أبيها في جنبات البيت:" نورا، ترفضين مرافقتنا، ولكن ألا تبغين وداعنا! خرجت إليهم والدمع يغسل عينيها وأغرقتهم بقبلاتها الحميمة، انطلقوا مع آلاف الراحلين باتجاه الأراضي السعودية، تسمّرت تبكي فراق الأهل وأصداء نحيبها تتردد في جنبات البيت حتى استلبها نداء النوم.
في الصباح سمعت نداء الحافلة كصرخه نزقة، اتجهت إليها ونظراتها منفلتة إلى الأرض بتركيز مقصود، انتابها شعور بالحقد عليه وعلى جيش وطنه، لفّ المكان صمت متوتر، بعد قليل حملت الحافلة زميلتها وسمع حوارهما" نورا هل سافر أهلك؟ أومأت بالإيجاب"صباح اليوم" وانساب اسمها بألق في قلبه، ورنين صوتها يفيض حزناً رمادياً شاحباً، رنا إلى عينيها فرأى قنديلين تنبض فيهما رقصة الأضواء وأزهر العشق بنفسجا في قلبه، رغب النفاذ إلى قلبها ولكن لا يقابل إلا بالصمت والصدود.
الجزء الثاني
في الصباح، أطلق العنان لبوق الحافلة ليعلن بطريقة استفزازية عن وجوده، سارت إليها بخطى سريعة، تمهّلت عند الباب لتسمع تحية الصباح التي لم ترد عليها أبداً، التزم الصمت وأشاح بوجهه بعيداً، فانفلتت منها نظرة هاربة إلى الوجه المقهور وركنت إلى مقعدها المعهود، لاحظت عوده الممشوق الممتلىء شباباً ورجولة، عملاقاً يكاد يخرق سقف الحافلة لولا انحناءة منه، حدّثت نفسها إنه عدوّي العربي ولا ينبغي لأفكاري أن ترحل إليه وعادت إلى الوجه ملامحه الرافضة لوجوده في القلب والوطن معاً.
أخذت الأسئلة تضجّ في ذهنه، هل أعجبتها؟هل حضنتني في حنايا قلبها الدافق؟وانساب الأمل مشرقا في نفسه إزاء هذه النظرة، وبنى لنفسه قصوراً في الأحلام ليحاكي في أحلام يقظته ذاتا عصيّة على التواصل" أنا وأنت ننتمي إلى عرق العروبة النابض فينا، آمال الوحدة تجمعنا وأنين الفرقه يعصرنا، الألسن تلهج بلغة واحدة، وتجمعنا شرعة الدين الواحد، ومن أعماق التاريخ عدونا واحد، لمَ تبخلين عليّ بنظرة ولهى؟ آه يا نورتي، أتمنى أن أنسج لك أرجوحة نور تداعبها النسمات بين ضفتي دجلة وأغدق عليك من عبق عراقي ياسمينا يبهج روحك التائهة في عوالم الغضب، تعالي لأوسدك ذراعي الأسمر وأحميك من غضبة اللئام، وهاتفا من أعماقه "نورا حبيبتي، رحماك، أبصريني! ألاتعرفين من أنا؟ أنا من تلك الصحراء المترامية النابضة بكل عراقة العروبة وأصالتها، لست علجا رومياً أحمر الوجه خبيث النوايا، أنا من قلب العروبة النابض بأجلّ رسالة وأعظم حضارة، ويسري في عروقي دم صلاح الدين وطارق، ألم يحمل لك سعف النخيل أمجاد أمة صالت وجالت أقاصي الأرض!!
الأيام تمرّ ثقيلة، وبإرادة العشق الموغل في النفس الجريحة يقف على باب الحافلة كحمل وديع رافعاً قبعته مع شبه انحناءة تقديراً لمهاته الشاردة في مهاوي الخديعة السياسية البراقة مرحباً ومودعا في كل لقاء، ولقد عرف عنه في الجندية عنيفاً صارماً، لكنّ أمام سطوة العشق توهن القوى، فقررأن يسلّمها رسالة نقش فيها كل خلجات قلبه الولهان ورؤى فكره، ضمّخها بعطر أنفاسه وأودعها غلاف روحه الهائمة وقدّمها لهاعلى طبق من الأمل أثناء ترجلها من الحافلة، وبتلقائية لئيمة أطبقت على سطورها ملقية بها أرضاً مهرولة إلى منزلها تحتمي فيه من هواه، واحتواه دويّ انفجار آهاته الذبيحة التي هدّت أعمدة الضياء والأمل وزادت من اختناقات الدمع، وأوجعه حقدها، عاد إلى الحافلة المنطلقة بسرعة جنونية مستسلماً لنداء القهر فيحرق مع هديرها أنفاسه المشتعلة.
في ركن ببيتها انكفأت بالتياع تبكي وحدتها وعشقها العقيم، تحسّ في دمها كآبة، عار ما تشعر به لكنّه الهوى كالوباء يكتسح الخلايا، ويخضّها الحقد الدفين وتطأ على ومضات العشق في قلبها الكسير، وتسرح نظراتها في اللاشيء وترقب الرسالة تداعبها الرمال كتائه في مهب الريح، وبنداء قلبها هبت مسرعة تحتضنها وتلملم صدى سطورها المنكسرة لتنهل من دفقات قلبه حروفا تدفئ صقيع وحدتها.
حبيبتي ليلاي...
للحب سلطان قاهر استولى على نبضات قلبي فألفيته لا يدق إلا لك ولا يهتف إلا باسمك فأنت الحبيبة التائهة، ملامحك وصوتك ينزلقان مع الرؤى حتى يحتويني وسن الكرى، أنت المتوجة في أحلامي ويقظتي ملكة، عندما أراك أشعر بقلبي يتموج كطير تتلقفه الرياح وتنوء به الأنواء، أنا لن أنسى إبتسامتك اليتيمة التي أصدرت دوياً هائلاً في حنايا قلبي، لو تعلمين أن خيالي تمنى أن نتحول إلى يمامتين ترفرفان في أجواء الجزيرة العربية بلا أحقاد, تعالي إليّ حبيبتي سألقي سلاحي وأحمل قيثارتي لأغزل لك من ضوء الشمس قصائد حب أكثر لهيباً من قصائد قيس إلى ليلاه ،تعالي لأنصب لك خيمة تصمد في وجه الريح العالمية العاتية ونهجر قصور الرمل الواهية، أنا لا أملك تغيير الواقع لكني أرفضه وأتمنى الهروب معك وإليك، نحن نتخبط داخل شبكة العنكبوت والعدو ينتظرنا حتى توهن القوى ويلتهمنا ويستولي على ثرواتنا، غدا ندرك قذارة اللعبة وسترين عيوناً ترتجف من الذل، لا أريد منك شيئاً سوى نظرة تنعش الروح الكسيرة وألف آه من العذاب الذي يمتلكني عندما تتمايلين أمامي بلا مبالاة لوجودي ولا أستقطب لحظك الذي هو كصنارة تسلين بها خيوطاً من وشائج في الحنايا وقلب حزين يترقب صدى خطاك في غمرة السكون المهيب، حبذا لو ألقيت إليّ بنظرة من عيون تستحم الشموس في بريقها وتضمحل على السهوب لحاظها وتشرئب في سماء قلبي مستغيثة نداء الهوى فتحيي في قلبي كرنفالاً أضواؤه أثيرة زاهية تتلالأ في الحنايا وإليك دفقات من شعر السياب:
كالقمح لونك ياابنة العرب كالفجر بين عرائش العنب
وكالفرات على ملامحة دعة الثرى وضراوة الذهب
لاتتركوني فالضحى نسبي من فاتح ومجاهد ونبي
عربية أنا أمتي دمها خير الدماء كما يقول أبي
العاشق اليائس
قرأت الرسالة مرات، وازداد الفؤاد وهجا وطافت بالرؤى أحلام وتهلهلت الأسارير،وأيقظت في قلبها مرح الطفولة الغابرة ومضت تراقص أخيلة تسكرها آهات العشق الكائنة بين السطور، وغفت تهدهدها ضحكات الرؤى ويلفها دثار نسمات الليل العليلة .
الجزء الثالث
هبّت واقفة كمن لدغه عقرب وانفلت منها تأوهاً، اضطربت ملامحها وأخذت تهدئ من روع ذاتها حتى لا يُلاحظ اضطرابها، ألقت برأسها على المقعد مغمضة العينين وسرحت متمنية لو تتحول إلى طائر يجوب الآفاق بحثاً عن الحبيب العليل بهواها، التفت بدثارها بعد أن انتابتها قشعريرة الهوى، وانهمر دمعها باتجاه جوفها الملتهب حنيناً إليه، ونداء يستصرخ الأعماق الولهى، ليت لقاء قريبا يصهرهما في بوتقة الهوى وليتها الطبيب المداوي، ونداء آخر شرس يفترس مشاعر العشق ليستلب سيفاً معلنا"هذا عدوك إنّه لا يستحق الحياة، تمنّي الموت له، واستمر الصراع يؤلمها ويقضّ مضجعها والحنين إليه يزيدها صقيعا".
اقترب يوم الفصل شرساً على العالم العربي، الكلّ في ترقب لليوم الموعود، إما الانسحاب أو الضربة القاصمة، لو أنّ أحلام النصر على قوى العالم أخذت تداعب الأمل البعيد في استرجاع"الحق السليب" وبدت المدينة خاوية من أهلها إلا من أفواج العسكر المعادي، وحين دلفت الحافلة أذهلتها المفاجأة وتماوجت تعابير الفرح على وجهها حين رأته في مقعده، وقد شابته صفرة النقاهة التي زادته وسامة، عيناه ذابلتان شاكيتان ثمّ أشرقتا حين ارتسمت بشفافية مذهلة ابتسامة فرح على وجهها واختلجت على الشفاه المطبقة عبارة "حمدا لله على سلامتك".
جلست في مكانها كملكة توجت في تلك اللحظة بإكليل من ورود حمراء وفي يمينها صولجان الحبّ، ترقرقت رؤى اللقاء الحميم عبر الأثير بين العيون الواهنة، هذا الحنين حنين ألف عام وحبّ أغرقها حتى الثمالة، استحال الصمت المفعم بعبقهما سيد الموقف والمرآة رسول الهوى، واكتفى بالفرح المعربد في عروقه، وخال ابتسامتها تعانق غمزات النجوم في ليلة خليجيّة صافية، كعادتها آخر مغادري الحافلة, أسرع إليها رافعاً قبعته وابتسامة الطفل الذي عادت إليه أمّه افترشت سمات الوجه الحزين، ونظرت إليه مباشرة لأول مرة، وبلقاء العيون الحميم توهجت بسمات بثّت الدفء في صقيع قلبيهما، وأطياف ضوء لفتهما بشذا الخليج، ليحلّقا فوق الصحراء العربية على نغم أغنية خليجية"صوت السهارى يوم" يترنم بها مذياع الحافلة. لكنّ الشفاه حقود مطبقه لتقتل الحروف النادية، والنداء الخفي الشرس يصرخ في الأعماق، هذا عدوك اقتلعيه من قلبك وهمست شفتاها صمتا:" لن أسمح لآه واحده تخترق حدود القلب من أجلك يا وطني الحبيب" انسحبت كنسمة من أمامه لتكسر ألف قارورة عطر وتاه في أنهار عبقها الرائع وكأنّه بستان ليمون عراقيّ مزهر بنفحاته العطره، أرسلت نظراتها الحيرى إليه عبر نافذة المشفى ولمحته مهتوك القلب يغوص عذابات الوله كطوفان يفيض بالدمع، أحست بنشيجه يصل مسمعها، بكت معه واكتساها حزن عميق واستشعرت اللقاء الأخير فودعته بعينيها وهامت إلى عملها كطائر ذبيح، وسمعت نداء الإدارة "نرجو من العاملين عدم مغادرة المشفى"لحظتها أيقنت بدنوّ ساعة الصفر, أهي ساعة الحريّة التي سيتحرر بها الوطن من العدوّ؟ أم موعد كارثيّ لأمّة العرب.
الجزء الرابع
الحرب الطحون لا تميّز بين الناس وانتمائهم، الهجمة لئيمة تسحق كل شيء بلا رحمة وكأنّ حنينها العربي أيقظ في العقل ألف سؤال، لمَ هذه الهجمة المدمّرة لمدينة بغداد ألا يكتفون بإخراجهم من الكويت، إذن ليس الهدف تحرير الكويت، يبدو أنّ الهدف أكبر من ذلك، ولم تشأ الغوص في آفاق السياسة الغامضة، والذي يعنيها تحرر الكويت وعودة الأمان إليه، واستفاقت من إغراقها الفكري على صوت زميلها "دفعة جديدة من الجرحى"أسرعت إلى غرفة العمليات ورأت الأجساد تعلو فوق الآهات والآهات تنوء بثقل الآلام وبركة الدماء يرتفع منسوبها إلى حد الاختناق.
رأته بين الأكوام اللحمية المستترة داخل البزات العسكرية المحترقة، إنّه "ماجد"،لم تصدّق عينيها، انتابها ذهول وتطلعت إليه بتوسل المحتضر، لقد نالته قذائف السلام, في لحظات مرّ في الذاكرة كشريط سينمائي بكلّ آهاته وابتساماته وحركاته ورسائل العيون من خلال مرآته، الآن أمامها بلا حراك في غيبوبة الألم، وبتلقائية أومأت إلى ممرض أن ينتشله من بين الضحايا ليضعه على طاولة العمليات، اقتربت منه وشعرت بوميض أنفاسه ينزلق إليها بنعومة رمال الخليج, كادت تذوب ولها، وتمنت أن تتحول وإياه إلى خفقة ريح تعبر النافذة ليحلقا كنورسين فوق الخليج العربي اللاهب بخفايا المؤامرات الصهيونيّة، بدأت معركتها مع ذلك الجسد الذي يصارع الموت، وتعمل بصمتها الأبدي وبصبر يفوق قدرة الصابرين، ودمعها منفلت إليه ومدركة أنّ للجرح خطر الموت، وتمنت لو يصحو لحظة واحدة ليرى يديها الحانيتين، تداوي جراحه لعلها تلتئم ليقاوم الموت وتحتضنه الحياة، في تلك اللحظة لم تره عدوّا بل هو الحبيب، العربي الذي له في القلب دفء وفي الروح صدىَ، وبذلت أقصى الجهد لوقف النزف وكأنها تعيد الحياة لجسدها، ترقبه، لينفرج الجفن عن عينين تذوب فيهما آهات الألم والعشق والتي سكبت عليها أروع المعاني وأسمى النداءات، وكان لقاء العيون بلا رقيب وبلا مرآة، سعف النخيل يراقص أشعة الشمس في حنايا دجلة. كانت في تلك اللحظة هي الجريحة التي تغزو قلبها الأماني لتستبقي فيه رمق الحياة، وافترّ ثغره عن ابتسامة وضيئة كأنها الروح الفرحة تزفر بين الشفتين, هامسا"نورا"وانسال دمعه ولم تدر أهو دمع العشق أم دمع فرحة اللقاء أم دمع وداع اللحظات الأخيرة "نورا أحبك"، أطلقها مدوّية من جوفه مع زفرات الروح وانحدرت من عينيها دمعة عشق أشرق وجهه لها وأيقن في لحظاته الأخيرة أنها تحبّه، واحتضنت يده بين يديها وهمّت أن تترنم بالكلمة التي تمنى سماعها ولكن العيون تحجّرت محدقة في وجهها الجميل والأذن تتمنى سماع كلمة"أحبك"وهي صامتة ذاهلة، هوت على الجسد تبكيه بحرقة، رفعت رأسها ومسحت دمعها واستجمعت قواها وأومأت إلى أحد العاملين أن يدفن الجثة في مكان تعرفه، وشيّعت الجثمان بنظرات الأسى. واستمرت الصحراء العربيّة تضجّ بدوي السلاح والذلّ،وأسئلة تلهب ذهنها، هل قتلته بصمتها ولهيب العشق يضطرم في أتون قلبيهما، هل الصمت قتل حبا أم خلّده في حنايا النفس، هل كان صمتها شكلا من أشكال المقاومة والرفض، استفاقت من شرودها على هتاف جندي أمريكيّ فرحا "فكتوري" فردت عليه بحزن كئيب:"ملعون أبوكم وأبو نصركم المزيف، لقد مزقتمونا شراذم لأهدافكم اللئيمة" عادت إلى عملها من جديد تلملم جراح المصابين ولا تجد من يداوي جرحها، وقبيل الغروب اتجهت إلى المدافن القريبة من المشفى لتزور الحبيب الذي دوّى حبّه آفاقها وصمتت كصمت قاطني الصحراء العربية، لكنها ظلت تحكي له حكايا الذلّ العربي وحكايا الكرامة العربية التي استبيحت باسم السلام وما زالت ...
تعليق